أبحاث العدد:
 البحث في العدد ١٤:
 العدد ١٤/ ذو الحجة / ١٤٤٣ه

المقالات تحصين العقيدة المهدوية

القسم القسم: العدد ١٤/ ذو الحجة / ١٤٤٣هـ الشخص الكاتب: الشيخ جاسم الوائلي التاريخ التاريخ: ٢٠٢٢/٠٧/١١ المشاهدات المشاهدات: ١٥٥٧ التعليقات التعليقات: ٠

تحصين العقيدة المهدوية

الشيخ جاسم الوائلي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
إنّ الاعتقاد بوجود المهدي (عجّل الله فرجه) وبقائه حيّاً حتى يأذن الله تعالى له بالقيام هو كغيره من الاعتقادات الحقّة، من جهة أنّه عرضة للتزلزل والشّك، لسببٍ أو آخر.
وإلى هذه المسألة الخطيرة أشارت جملة من الروايات، من قبيل: ما رواه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)(١)، قال: «إذا فُقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم، لا يزيلكم عنها أحد، يا بنيّ؛ إنّه لابدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنّما هو محنة من الله (عزَّ وجلَّ) امتحن بها خلقه...»(٢).
ومن قبيل ما رواه المفضّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إيّاكم والتنويه، أما والله لَيغيبنّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتمحصنّ حتى يقال: مات، قُتل، هلك، بأيّ وادٍ سلك؟ ولتدمعنّ عليه عيون المؤمنين، ولتكفأنّ كما تكفأ السفن في أمواج البحر، فلا ينجو إلّا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان، وأيّده بروح منه، ولترفعنّ اثنتا عشرة رايةً مشتبهة، لا يُدرى أيٌّ من أيٍّ»، قال: فبكيت، ثم قلت: فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفّة فقال: «يا أبا عبد الله(٣)؛ ترى هذه الشمس؟»، قلت: نعم، فقال: «والله لأمرنا أَبينُ من هذه الشمس»(٤).
ولتحصين الاعتقادات الحقّة مرتكزات ثلاثة:
المرتكز الأول: عدم اغترار المؤمن بما هو عليه من الإيمان أو العلم والمعرفة، بل عليه أن يستجير بالله تعالى على الدوام، ويستعيذ به من الزيغ والانحراف(٥)، وكما علّمنا سبحانه في كتابه بقوله: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ﴾ (آل عمران: ٨).
والوجه في ذلك أنّ الإيمان والعلم وحدهما لا يعصمان الإنسان من الزيغ والضلال.
أمّا الإيمان فقد دلّت جملة من النصوص على إمكان زواله، كالنصّ الدالّ صريحاً على أنّ الإيمان منه مستقرٌّ، ومنه مستودع، وهذا الثاني قابل للزوال، وما دلّ على أنّ العبد ربما يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ومن الروايات الجامعة لكلا المعنيين ما رواه كليب بن معاوية الأسدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنّ العبد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً، وقومٌ يُعارون الإيمانَ، ثمّ يُسلبونه، ويُسمَّون المُعارين، وفلانٌ منهم»(٦).
وأمّا العلم فلا شكّ في عدم كفايته للعصمة من الضلال، وإلّا فكثير من أئمّة الضلال هم من العلماء بلا أدنى شكّ، بل لو قيل: إنّ إبليس من أعلم العلماء لم يكن مجانباً للواقع.
المرتكز الثاني: مراجعة الأدلّة، لأنّها هي العلّة الموجبة للعلم بحقّانية هذه العقيدة أو تلك، ومن البديهيّ أنّ العلم بثبوت العلّة يستتبع وبشكل قهريّ العلم بثبوت المعلول، والمعلول هنا كما أسلفنا هي الحقّانية، والعلم بحقّانية العقيدة يستتبع قهراً منع حصول الشك فيها، أو رفعه لو حصل بالفعل.
هذا وقد أشبع العلماء والباحثون العقيدة المهدوية شرحاً واستدلالاً وبرهنة وردّاً للإشكالات التي وُجهت إليها، بحيث لم يتركوا لجاهل أو شاكٍّ أو مشكّكٍ عذراً.
المرتكز الثالث: معرفة الأسباب الموجبة للشّك، لأجل الحذر من الوقوع في شراكها كما حصل لبعضهم والعياذ بالله تعالى.
ومن هنا يتّضح أنّ تحصين العقيدة المهدوية من الشك والتزلزل يرتكز على هذه المرتكزات الثلاثة كغيرها من الاعتقادات الحقّة.
والبحث الذي بين يديك - عزيزي القارئ - يسلّط الضوء على المرتكز الثالث بالخصوص، ويستعرض بعض الأسباب الموجبة للشك في حقّانية العقيدة المهدوية، ويبيّن كيفية التغلّب عليها من خلال التذكير ببعض أدلّة حقّانيتها، ومن الله (عزَّ وجلَّ) نستمدّ العون والتوفيق.
جملة من أسباب الشك:
وفي هذا المجال نذكر ما تيسّر استحضاره من أسباب للشّك، ونتعرّض لكيفية معالجتها، ومنه يعرف الطريق لمعالجة ما لم نستحضره منها ولو بشكل مجمل.
ولما لم نكن بصدد تمييز الأهمّ منها عن المهمّ، لم نلتزم بذلك في ترتيبها، وربما كان المتأخّر أهمّ من المتقدّم، فلتكن على بيّنة من ذلك.
السبب الأوّل: الوسوسة:
من نافلة القول إنّ للوسوسة ثلاثة مصادر:
الأوّل: شياطين الجنّ بزعامة إبليس.
الثاني: شياطين الإنس.
الثالث: النفس الأمّارة بالسّوء.
والمعركة بين المؤمن وهؤلاء الثلاثة على قدم وساق، وهي معركة شرسة لم تتوقّف يوماً منذ أن كان آدم (عليه السلام) في الجنة، وهي مستمرّة حتى يوم الناس هذا، ولن تتوقّف مادام عالم الابتلاء والتكليف باقياً، أعني الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ﴾ (الملك: ٢).
أمّا شياطين الجنّ فقد أخذ زعيمهم إبليس على نفسه أن يضلّ بني آدم (عليه السلام) مهما أمكنه ذلك حسداً منه وعداوة لآدم (عليه السلام) وبنيه، كما حكاه القرآن في مثل قوله تعالى: ﴿قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ﴾ (الأعراف: ١٦-١٧)، وقوله سبحانه: ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ (ص: ٨٢-٨٣).
ولذا جنّد جنوده من الجنّ، وأوكل إليهم مهمّة إضلال العباد كما بيّنته كلمات أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، من قبيل ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إنّ إبليس عليه لعائن الله يبثُّ جنود الليل من حيث تغيب الشمس وتطلع، فأكثروا ذكر الله (عزَّ وجلَّ) في هاتين الساعتين، وتعوّذوا بالله من شرّ إبليس وجنوده، وعوِّذوا صغاركم في تلك الساعتين، فإنّهما ساعتا غفلة»(٧).
وينبغي الالتفات إلى أنّ الشغل الشاغل لإبليس هو إضلال المؤمنين على وجه الخصوص كما جاء في رواية زرارة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾، قال: «يا زرارة؛ إنّما عَمَدَ لك ولأصحابك، وأمّا الآخرون فقد فرغ منهم»(٨).
وقد حذّر الله (عزَّ وجلَّ) ذرّية آدم (عليه السلام) من تسويل الشيطان وإضلاله، وسيأتي اليوم الذي يذكّر فيه سبحانه الذين لم يأخذوا بتحذيره تعالى، واتّبعوا أمر اللّعين، فيقول لهم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا اليَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ (يس: ٦٠-٦٤).
وأمّا شياطين الإنس فقد أشير إليهم في قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام: ١١٢).
وهؤلاء صنفان:
١ - المعادون للدين علناً من الملحدين والمشركين.
٢ - المعادون للدين في الخفاء والمتستّرون بغطاء الإسلام من المنافقين.
والصنف الأوّل كان ولا يزال يطعن في الدين بمختلف السبل، لا سيما في العصر الحديث، من قبيل ما يزعمونه من مخالفة تراث الإسلام للبحوث والدراسات العلمية والمكتشفات الحديثة، مع أنّ أكثرها مجرّد ظنون ونظريات لم يحسم أمرها بعد.
والصنف الثاني يلعب دور المساعد للأوّل، فهو يده التي تعبث بتعاليم الإسلام ومعارفه، من خلال التشكيك فيها بطرح التساؤلات التي من شأنها إثارة الشّك في نفوس عوامّ المسلمين، وأنّه لماذا جعل الله تعالى كذا كذا، ولم يجعله كذا؟ ولِمَ قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كذا أو فعل كذا، ولم يقل كذا أو يفعل كذا؟
وعموم الناس بطبيعتهم لا يلتفتون إلى الهدف الحقيقي من وراء طرح هذه الأسئلة، ظنّاً منهم أنّ الهدف من طرحها هو طلب العلم والتعلُّم.
وأمّا النفس الأمّارة بالسّوء فقد أشير إليها في قوله تعالى: ﴿وَما أُبَرِّئُ نَفْسِـي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (يوسف: ٥٣)، كما أشير إليها أيضاً في الروايات، من قبيل الحديث المعروف الذي رواه الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث سرية فلّما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله؛ وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»(٩)، وما رواه (قدِّس سرّه) عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: «أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(١٠).
وعلى المؤمن أن تكون مجسّاته في غاية التحسُّس لما تسوّل به نفسه، ويميّز بين المسائل التي تطرحها النفس عليه، فإنّ الغرض الأساسي من طرحها لبعض المسائل هو إيجاد المبرّر للتحلُّل من الأحكام الإلزامية - الواجبات والمحرّمات - التي تتضمّنها تلك المسائل، كما في تساؤل بعض النساء عن دليل وجوب التستّر، وتساؤل بعض الرجال - لا سيما الشباب منهم - عن دليل حرمة إقامة علاقة صداقة مع الأجنبية بدون عقد شرعي تحت عنوان الحب مثلاً.
وممّا تقدّم يتّضح أنّ هذه المصادر الثلاثة: شياطين الجنّ، وشياطين الإنس، والنفس الأمّارة بالسّوء، بمقدورها أن تثير الشك في العقيدة المهدوية، وبعدّة طرق:
الطريق الأوّل: التشكيك في مجمل أدلّتها:
ويمكن دفعه من خلال مراجعة تلك الأدلّة وإتقانها، ولو من خلال الاستعانة بالعلماء أو بعض تلامذتهم.
الطريق الثاني: التشكيك في إمكان بقاء الإنسان حيّاً كلّ هذه المدّة:
وهذا والذي بعده هو من التشكيك في بعض مسائل العقيدة المهدوية.
والتشكيك المذكور هو ما أشارت إليه الروايتان اللّتان صدّرنا بهما البحث، لاسيما قول الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية المفضّل بن عمر: «أما والله لَيغيبنّ إمامكم سنيناً من دهركم، ولتمحصنّ حتى يقال: مات، قُتل، هلك، بأيّ واد سلك؟».
ويمكن دفع التشكيك المذكور بعدّة وجوه:
١ - البديهة العقلية:
فإنّ إمكان التعمير لهذه المدّة - بل وأضعافها - هو من البديهيّات العقلية، لأنّ العقل لا يرى وجود أيّ استحالة في ذلك.
٢ - الضرورة الدينية:
فإنّ من ضروريّات ديننا الحنيف أنّ الله (عزَّ وجلَّ) قادر على كلّ شيء، وبالتالي فهو تعالى قادر على أن يعمّر بعض عباده ما شاء من التعمير ولو لآلافٍ من السنين، خصوصاً وأن ذلك أمر ممكن في حد نفسه.
٣ - الوقوع الخارجي:
فإنّ التعمير لهذه المدّة أو ما يقاربها أمر وقع في الخارج بالفعل لا أنّه ممكن فحسب، والوقوع خير دليل على الإمكان كما يقولون، فقد عمَّر نوح النبي (عليه السلام) ضعف العمر الحالي لإمامنا المهدي (عجّل الله فرجه)، وعمّر العبد الصالح - أعني الخضر (عليه السلام) - أضعاف عمر النبي نوح (عليه السلام).
أمّا تعمير النبي نوح (عليه السلام) فقد روي فيه عدّة أحاديث، ونذكر هنا حديثين رواهما الصدوق (قدِّس سرّه) وإن كانا مختلفين في مقدار عمره (عليه السلام)، إلّا أنّهما متّفقان على أنَّه عمَّر أكثر من ألفين وأربعمائة سنة.
الحديث الأول: أنّ عمره (عليه السلام) ألفان وخمسمائة (٢٥٠٠) سنةٍ، وهو ما جاء في صحيح هشام بن سالم، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: «عاش نوحٌ ألفي سنةٍ وخمسمائة سنة، منها: ثمانمائة وخمسون سنةٍ قبل أن يبعث، وألفُ سنةٍ إلّا خمسين عاماً وهو في قومه يدعوهم، وسبعمائة عامٍ بعد ما نزل من السفينة ونضب الماء، فمَصَّرَ الأمصار، وأسكن ولده البلدان»(١١).
الحديث الثاني: أنّ عمره (عليه السلام) ألفان وأربعمائة وخمسون (٢٤٥٠) سنةً، وهو خبر محمد بن يوسف التميمي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «عاش أبو البشر آدم تسعمائة وثلاثين سنّة، وعاش نوحٌ ألفي سنةٍ وأربعمائة سنةٍ وخمسين سنةٍ»(١٢).
ولا يهمّنا البحث في كيفية التوفيق بين الحديثين، أو ترجيح الأوّل لصحّة سنده وضعف سند الثاني(١٣)، لأنّهما متّفقان على أنّ عمر نوح (عليه السلام) لا يقلّ عن ألفي سنة وأربعمائة وخمسين سنة، وعلى كلا التقديرين يدلّان على أنّ عمر النبي نوح (عليه السلام) يزيد على عمر إمامنا الحجّة (عجّل الله فرجه) حتى عامنا هذا بألف سنة ومائتين واثنتين وستين (١٢٦٢) سنة تقريباً(١٤).
وأمّا تعمير العبد الصالح فهو أضعاف ذلك على ما تعتقده الإمامية تبعاً لأئمتهم (عليهم السلام)، ووافقهم في ذلك بعض أعلام المخالفين.
وبعض من ذهب منهم إلى موته روى أنّ اسمه خضرون بن قابيل بن آدم (عليه السلام)، فيكون عمره إلى حين وفاته المزعومة قد تجاوز الآلاف من السنين إذا قلنا بأنّ وفاته كانت بعد زمان نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بناءً على ما كذبه البخاري عليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِن أنّه قال: (لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد)!
بل جاء في صريح رواياتنا أنّ الحكمة من تعمير الخضر (عليه السلام) هو الاحتجاج بتعميره على منكري تعمير المهدي (عجّل الله فرجه)، فقد روى الصدوق (قدِّس سرّه) بسنده عن سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في حديث طويل حول غيبة المهدي (عجّل الله فرجه)، وجاء فيه: «وأمّا العبد الصالح أعني الخضر؛ فإنّ الله تبارك وتعالى ما طوّل عمره لنبوّةٍ قدّرها له، ولا لكتابٍ ينزله عليه، ولا لشريعةٍ ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامةٍ يُلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعةٍ يفرضها له، بلى(١٥) إنّ الله تبارك وتعالى لمّا كان في سابق علمه أن يقدّر من عمر القائم في أيّام غيبته ما يقدّر وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول طوَّل عمر العبد الصالح في غير سببٍ يوجب ذلك، إلّا لعلّة الاستدلال به على عمر القائم، وليقطع بذلك حجّة المعاندين، لئلّا يكون للنّاس على الله حجّة...»(١٦).
والخلاصة: أنّ التعمير ممكن عقلاً، بل ثابت وقوعه بالضرورة من الدين، ومنكرها يندرج في سلك الكافرين، ومعه فلا مانع من تعمير المهدي (عجّل الله فرجه) عقلاً ونقلاً، بل تواترت بذلك الأخبار، وإنكاره موجب للخروج من مذهب الإمامية الاثني عشرية.
الطريق الثالث: التشكيك في انتفاء الحاجة إلى شخص الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وذلك بحجّة أنّ إقامة دولة الحقّ في آخر الزمان لا تتوقّف عليه بالخصوص، لأنّ الله تعالى قادر على أن يخلق ويهيّئ من يقوم بهذه المهمّة، وهو معتقد جمهور المخالفين.
ويمكن دفعه باستحضار الروايات الدالة صريحاً على أنّ الذي أسندت إليه هذه المهمّة هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حصراً دون غيره، وهي روايات متواترة، بل تجاوزت حدّ التواتر.
وبعد القطع بكونه هو الذي أسندت إليه تلك المهمّة لا يضرّ الجهل بالحكمة من حصرها به.
هذا مضافاً إلى أنّ كلّ مسلم يعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ الله تعالى هو أعلم بالمصلحة، ولمن يوكل إليهم المهام، ومن لا يوكلها إليهم، كما هو الحال في جعله تعالى النبوَّة لهذا الشخص دون ذاك، وعلى كلّ من يعترضه الشكّ في ذلك أن يستحضر ما أشرنا إليه من الروايات المتواترة، كما عليه أن يستحضر قوله تعالى: ﴿وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ﴾ (الأنعام: ١٢٤)، وأن يحذروا أشدّ الحذر من أن يندرجوا في دائرة المعترضين على مشيئة الله تعالى وحكمته.
الطريق الرابع: التشكيك في أصل ولادة المهدي (عجّل الله فرجه):
ودفعه أهون من شربة ماء، فإنّ الروايات الدالة على تولّده (عجّل الله فرجه) من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مباشرة وبلا واسطة في منتصف القرن الثالث للهجرة (٢٥٥هـ تقريباً) قد تجاوزت حدّ التواتر بأضعاف مضاعفة، ومنها ما دلّ عليه بالمطابقة، ومنها ما دلّ بالالتزام.
ويمكن في هذا الصدد مراجعة مؤلّفات أصحابنا التي جمعت تلك الروايات، من قبيل كتب المحمدين الأربعة:
١ - الكافي، لثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (قدِّس سرّه).
٢ - الغيبة، لتلميذه الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني.
٣ - كمال الدين وتمام النعمة، للشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمّي (قدِّس سرّه).
٤ - الغيبة، لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (قدِّس سرّه).
وقد دفعنا - بتوفيق من الله تعالى - هذه الشبهة بما لا مزيد عليه في كتابنا المخطوط (إقامة الحجّة على من أنكر ولادة الحجة (عجّل الله فرجه))، فقد أحصينا فيه أكثر من (٢٥٠) مائتين وخمسين رواية في هذا المجال بحسب ما تيسّر لنا، وقد قامت مجلّة الموعود مشكورةً بنشر مقالة مختصرة من الكتاب المذكور(١٧).
هذه جملة من الطرق التي يمكن لأعداء الدين أن يسلكوها بهدف تشكيك المؤمنين في عقيدتهم المهدوية، وقد عرفت كيفية دفعها بحمد الله.
السبب الثاني: التقزُّم والشعور بالدونية:
إنّ التقزُّم والشعور بالدونية أمام الآخر هو أحد الأسباب التي تجعل الفرد يتراجع عن بعض العادات والتقاليد التي جرت عليها سيرة محيطه من العائلة أو القبيلة أو الشعب، سواء في ملبسه أم مأكله أم مشربه أم مركبه أم مسكنه أم حتى في مشيته وجلسته، وربما وصل به الحال إلى التراجع عن بعض أفكاره ومعتقداته ومبادئه.
ولهذا الشعور مناشئ عديدة:
منها: الانبهار بالآخر الناشئ من الوهم، كالانبهار بتقدّم المجتمعات الغربية على المجتمعات الشرقية، لاسيما البلدان الإسلامية والعربية منها، حتى ظنّ بعض الجهلة أنّ السبب وراء ذلك هو الدين، وكأنّ الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وأنبيائه مدعاة للجهل والتخلّف، فيما يكون الكفر والإلحاد مدعاةً للتقدّم والتحضُّر.
وقد فات هؤلاء أنّ الغرب لم يتقدّم إلّا في الجانب المادّي، وأنّه لم يتقدّم فيه خطوة إلّا وتأخّر خطوة بل خطوات في الجانب المعنوي، سواء في بُعده الديني أم بعده الأخلاقي والإنساني.
أمّا في البُعد الديني فهو من أوضح الواضحات، إذ بات أقصى هدفهم في الوجود أن يعيشوا حياتهم الدنيا برغد ورفاهية وراحة بال وسلامة جسد، ولم يعطوا لآخرتهم أدنى اهتمام، هذا لو بقي عند بعضهم شيء من الإيمان بالآخرة، لكنّهم خسروا آخرتهم، ولم يصلوا إلى هدفهم في الدنيا، فلا رغد ولا رفاهية في العيش، ولا راحة بالٍ، ولا سلامة جسد، وها هو الواقع ببابك.
وما يصدّره إعلامهم للناس فهو يشتمل على أكاذيب كثيرة وتزييف للحقائق، لكن مشكلة العرب والمسلمين أنّ أكثرهم لا يقرأون ولا يتابعون، بل ربما يصير بعضهم ملكاً أكثر من الملك، فتجده يبالغ في مدحهم، بل يستميت في الدفاع عنهم، بل يجرح في انتقاده من ينتقدهم من أبناء جلدته!
وأمّا في البُعد الإنساني والأخلاقي فحدِّث ولا حرج، إذ ما من شعار يرفعونه في ميدانٍ إلّا وينقضونه في ميدان آخر، ففي الوقت الذي يرفعون عقيدتهم بالدعوة إلى مراعاة حقوق الإنسان تجدهم أوّل من ينتهكها انتهاكاً صارخاً بلا خجل ولا حياء.
بل أكثر من ذلك، ففي الوقت الذي تراهم يبكون بدل الدموع دماً لموت كلب عاش مدلّلاً أكثر من دلال أطفالهم تراهم يغضّون النظر عن جرائم حكوماتهم حينما يبيدون الآلاف من الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ بأسلحة فتّاكة لا تبقي ولا تذر، وبدمٍ باردٍ، ومن دون أن يرفّ لهم جفن.
وما تراه من لطف في معاملتهم، وتماوع في حديثهم، وأدبٍ رفيع في مكالمتك لا يعدو كونه وجهاً من وجوه النفاق الاجتماعي الذي صار ثقافة لتلك الشعوب، بشاهد أنّك تجد المجرمين من المسؤولين في حكوماتهم تتَّبع ذات الأسلوب عندما يتحدّثون إلى الجماهير أو الإعلام أو عندما يصدرون قرارتهم بسحق آلافٍ من الأبرياء هنا أو هناك، فإن اعتراك في هذا شكّ فما عليك إلّا أن تتابع خطابات مسؤوليهم في أمثال ما ذكرت لك، وما يتبعه من تأييد شعبيٍّ كبيرٍ من مختلف أطياف شعوبهم، بمن فيهم أولئك الذين تعتقد أنّهم تقدّميّون ومتحضّرون ومثقّفون، بل ربما تجد بعض هؤلاء أشدّ إجراماً وقساوة ووحشية من عامّة الشعب، بل وينظّرون لحكّامهم في مجال إبادة الشعوب المسحوقة بألف حجّة وحجّة.
هذا مضافاً إلى أنّ المنبهرين - بل وغيرهم - لا يفرّقون بين مصطلحي التقدّم والتحضُّر، فإنّه لا تلازم بينهما خارجاً، فربما يتقدّم الإنسان ويتحضّر، وربما يتقدّم ولا يتحضّر، والحاصل في بلدان الغرب ليس هو إلّا التقدّم المادّي كما نبّهنا، وأمّا في مجال التحضّر فلا يوجد أدنى مؤشّر على ذلك، فيما يوجد أكثر من مؤشّر على وجود تراجع كبير في هذا الميدان.
وبيان هذه المفارقة يحتاج إلى مناسبة أخرى ربما نتعرّض لها في بحث مستقل.
ومنها: الشخصية الانهزامية، فإنّ بعض الأشخاص يعانون حالة الانهزام أمام الآخر، ولا يصمد في سوح المواجهة الفكرية، وربما تبلغ الانهزامية عند بعضهم حدّاً يشك معه في كلّ شيء يختلف فيه مع الآخر فيما لو كان ذلك الآخر يتمتّع بقوّة في شخصيّته.
وأمثلة ذلك كثيرة، من قبيل الانهزام أمام ذوي الاختصاص، كما لو صرّح أحد المختصّين في علم من الفيزياء بما يتعارض مع العقل أو النقل - من كلام الله تعالى أو حديث المعصوم - فتراه يتردّد كثيراً في رفض كلامه والردّ عليه، بل يسري الشك إلى نفسه في صواب ما قاله الله (عزَّ وجلَّ) أو المعصوم، وما ذلك إلّا لأنّ الكلام الذي خالفهما قد سمعه من مختصّ، وقد بلغت به الانهزامية أنّه لم يمنح لنفسه حتى مثل المطالبة بالدليل على صحّة ما قاله ذلك المختصّ، وكأنّه يفترض سلفاً أنّ أصحاب الاختصاص مصيبون في كلّ ما يقولون، ويتعامل معهم معاملة المعصوم من الخطأ والاشتباه.
ولهذا المنشأ آثار خطيرة نراها اليوم تتجلّى في بعض الدعوات التي نسمعها بين الحين والآخر من بعض المحسوبين على الإسلام أو مفكّريهم وعلمائهم.
ومجمل دعواتهم هذه هو المطالبة بإعادة النظر في جملة من المسائل الدينية، من قبيل: ميراث الأنثى، وعقوبة السرقة، وعقوبة الزنا، واللواط، والسحاق، وأحكام الارتداد، والحجاب للمرأة، وقيمومة الزوج على زوجته، ولاية الأب على أولاده قبل الرشد، وفريضة النهي عن المنكر، وغير ذلك من المسائل التي يشعر هؤلاء بالانهزامية أمام المنتقدين لهذه المسائل من الملحدين وإخوانهم ممّن عُرف عنهم العداء للدين.
ويمكن معالجة الانهزامية من خلال تشييد البناء الفكري والعقدي وتقويتهما، فإنّ ذلك يستتبع إعادة الثّقة بصواب الشرع المبين وأحكامه، وبالتالي يستتبع الاطمئنان ببطلان كلّ ما خالفه.
ويجدر في هذا المقام تذكير النفس بترديد بعض النصوص بين حين وآخر، من قبيل:
١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّـرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ (الإسراء: ٩).
٢ - وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي القُرْبى وَيَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ (النحل: ٩٠-٩١).
٣ - وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَـى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: ٢١٦).
٤ - وما رواه الصدوق (قدِّس سرّه) بسنده عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): «إنّ دين الله (عزَّ وجلَّ) لا يصاب بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب إلّا بالتسليم، فمن سلَّم لنا سَلِمَ، ومن اقتدى بنا هُدِيَ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً ممّا نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم»(١٨).
وغيرها من النصوص النافعة في هذا المجال، فإن لم ينتفع بها هؤلاء فعليهم أن يأخذوا العبرة من أتباع الديانات الأخرى واعتزازهم بأديانهم، حتى أنّ عُبّاد البقر يعتزون بعقيدتهم، وفيهم الكثير من حملة الشهادات العليا، فتراهم يتذلّلون لها، ويتمسّحون بها، ويتبرّكون بأبوالها، فإن لم يتمكّن الانهزاميّون من المسلمين أن يكونوا أشدّ وفاءً واعتزازاً بعقيدتهم من عبدة الأبقار، فلا أقلّ يكونون مثلهم.
السبب الثالث: طول الأمد وقسوة القلوب:
إنّ استبطاء الظهور المقدّس لطول أمد الغيبة يشكّل أحياناً عاملاً من عوامل قسوة القلوب، كما حذّر الله (عزَّ وجلَّ) منها في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾ (الحديد: ١٦).
وقسوة القلوب تشكّل بدورها عاملاً مساعداً في زلزلة العقيدة، لاسيما العقيدة المهدوية، ويعضد هذا العامل عامل الملل والضجر الملازم للطبيعة البشرية.
وبالإمكان معالجة السبب المذكور إذا تمّت مراعاة جملة من الأمور:
منها: أخذ العبرة ممّا ابتلي به المؤمنون من قوم نوح (عليه السلام)، وكيف ارتدّوا بعد إيمانهم نتيجة استبطائهم لما وعدهم به، على ما جاء في رواية سدير الصيرفي المتقدّمة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، حيث قال (عليه السلام): «وأمّا إبطاء نوح فإنّه لمّا استنزل العقوبة على قومه من السماء بعث الله (عزَّ وجلَّ) الرُّوح الأمين بسبع نويّات، فقال: يا نبيّ الله؛ إنّ الله تبارك وتعالى يقول لك: إنّ هؤلاء خلائقي وعبادي، ولستُ أبيدهم بصاعقة من صواعقي، إلّا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجّة، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك، فإنّي مثيبك عليه، واغرس هذه النّوى، فإنّ لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص، فبشّر بذلك من تبعك من المؤمنين.
فلمّا نبتت الأشجار وتأزّرت وتسوّقت وتغصّنت وأثمرت وزها التمر عليها بعد زمان طويل، استنجز من الله سبحانه وتعالى العِدَةَ، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد، ويؤكّد الحجّة على قومه، فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به، فارتدّ منهم ثلاثمائة رجلٌ، وقالوا: لو كان ما يدّعيه نوح حقّاً لمّا وقع في وعد ربّه خلف.
ثمَّ أنّ الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كلّ مرّة بأن يغرسها مرّة بعد أخرى، إلى أن غرسها سبع مرَّات، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتدّ منه طائفة بعد طائفة، إلى أن عاد إلى نيّف وسبعين رجلاً، فأوحى الله تبارك وتعالى عند ذلك إليه وقال: يا نوح؛ الآن أسفر الصبح عن اللّيل لعينك حين صرح الحقُّ عن محضه، وصفى [الأمر والإيمان] من الكدر بارتداد كلِّ من كانت طينته خبيثة، فلو أنّي أهلكت الكفّار وأبقيت من قد أرتدّ من الطوائف التي كانت آمنت بك لمّا كنت صدقت وعدي السابق للمؤمنين الذين أخلصوا التوحيد من قومك، واعتصموا بحبل نبوّتك، بأن أستخلفهم في الأرض، وأُمكّن لهم دينهم، وأُبدّل خوفهم بالأمن، لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشك من قلوبهم...»، إلى أن قال (عليه السلام): «وكذلك القائم فإنه تمتدُّ أيّام غيبته ليصرح الحقُّ عن محضه، ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلِّ من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم...»(١٩).
ومنها: ضرورة الالتفات إلى أنّ طول الأمد إنّما هو بملاحظة مجموع المُدَدِ التي قضتها الأجيال في الانتظار، وأمّا بملاحظة المدّة التي يقضيها الفرد المنتظر فهي مدّة قصيرة وليست بالطويلة.
ذلك ببيان: أنّ الفرد غير معنيٍّ بما قضاه الذين سبقوه في الانتظار، بل يلاحظ السنوات التي يقضيها هو شخصيّاً فحسب، فلو كان في عمر الأربعين مثلاً وكان قد اهتمّ بهذه المسألة في العشرين من عمره فتكون مدّة انتظاره ضمن العشرين الثانية فحسب، وبطرح شطرٍ منها للنوم والشواغل الأخرى تكون مدّة انتظاره الفعلية أقلّ من عشر سنوات، ومعلوم أنّ هذه المدّة ليست شيئاً يذكر في جنب انتظار آخر الأوصياء الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) والذي أُوكلت إليه إقامة دولة العدل الإلهي، ناهيك عمّا يعيشه الفرد المنتظِر خلال هذه المدّة من الأمل بقرب الظهور المقدّس، لما يراه من امتلاء الأرض من الظلم والجور، فينشط للدعاء له (عجّل الله فرجه) بالفرج كأنّه يراه قاب قوسين أو أدنى، كما أشير إلى ذلك في دعاء العهد الذي روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) استحباب الدعاء به أربعين صباحاً، حيث جاء فيه: «اللّهمّ اكشف هذه الغمّة عن هذه الأمّة بحضوره، وعجّل لنا ظهوره، إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، برحمتك يا أرحم الراحمين»(٢٠).
ومنها: أنّ طول الأمد ليس أمراً سلبيّاً ولا إيجابيّاً في حدّ نفسه، بل السلبية والإيجابية كلتاهما ترجعان إلى الفرد المنتظِر، فإن عاش الانتظار متذمّراً معترضاً جازعاً كان طول الأمد سلبياً بالنسبة إليه، بل ربما يورثه الشّك والتزلزل في عقيدته المهدوية، وإن عاش صابراً محتسباً مسلِّماً كان طول الأمد إيجابيّاً له، لأنّه موجبٌ لمضاعفة حسناته، ورفع درجاته، وزياد إيمانه، كما يرشّحه لأن يكون من أعوانه (عجّل الله فرجه) وأنصاره، والمقرّبين لديه (صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين).
ومنها: أنّ الذي يجب على المؤمن في الغيبة إنّما هو العمل بتكاليفه الشرعية الإلزامية إلى جانب انتظار الفرج، مع التسليم فيه لمشيئة الله تعالى وإرادته، وأن لا يتعجّل الظهور المبارك، كما أشير إلى ذلك في الدعاء الوارد استحبابه في زمن الغيبة، والذي أملاه النائب الأوّل عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه) على أبي عليٍّ محمد بن همّام، وأوّله: «اللّهمّ عرّفني نفسك، فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك، اللّهمّ عرّفني نبيّك، فإنّك إن لم تعرّفني نبيّك لم أعرف حجّتك، اللّهمّ عرّفني حجّتك، فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني...»، إلى أن قال: «وثبّتني على طاعة وليِّ أمرك الذي سترته عن خلقك، فبإذنك غاب عن بريّتك، وأمرَك ينتظر، وأنت العالم غير معلَّم بالوقت الذي فيه صلاح أمر وليّك في الإذن له بإظهار أمره، وكشف ستره، فصبّرني على ذلك، حتّى لا أحبَّ تعجيل ما أخَّرت، ولا تأخير ما عَجَّلت، ولا أكشف عمّا سترته، ولا أبحث عمّا كتمته، ولا أنازعك في تدبيرك، ولا أقول: لِمَ؟ وكيف؟ وما بالُ وليُّ الأمر لا يظهر وقد امتلأت الأرض من الجور؟ وأفوِّض أموري كلّها إليك...»(٢١).
السبب الرابع: الانغماس في الذنوب:
فإنّ من آثاره أنّه يورث كراهة الحقّ والعياذ بالله تعالى، وربما تبلغ كراهته أن يصبح مرتكبها من قتلة الأنبياء وأولاد الأنبياء، كما أشير إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَباءوُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (البقرة: ٦١)، فإنّ ظاهره أنّ هؤلاء إنّما ضُربت عليهم الذلّة والمسكنة وصاروا مستحقّين للغضب الإلهي لسببين: كفرهم بآياته، وقتلهم لأنبيائه، وأنّ هذين السببين ناشئان من العصيان والاعتداء، فإن كانت كثرة الذنوب تورث الكفر بآيات الله وقتل النبيّين فبالأَوْلى تورث الشّك فيما هو دون ذلك، كبعض المسائل المرتبطة بالعقيدة المهدوية.
السبب الخامس: ظلم العباد:
ذلك أنّ الظالمين يتوقّعون أن يكونوا من المشمولين بمعاقبة الإمام (عجّل الله فرجه) لهم عند خروجه، لِـما بلغهم متواتراً من أنّه (عجّل الله فرجه) إنّما يخرج ليملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ولابدّ أن يتقدّمه إزاحة الظَلَمة من أمثالهم ومعاقبتهم، وبالتالي لا يكون خروجه (عجّل الله فرجه) في صالحهم.
وربما يتفاقم لدى الظَّلَمة هذا الشعور الباعث على القلق حتى يجرّهم إلى الشّك في العقيدة المهدوية، كخطوة نفسية في طريق التخلّص من القلق المذكور.
السبب السادس: الوقوع في العلماء الربّانيّين:
إنّ عقيدة الإمامية في علمائهم الربّانيّين تبعاً لنصوص أئمّتهم (عليهم السلام) أنّهم: ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل، وأنّ الفقيه منهم إذا مات ثُلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء، وأنّهم حجّة عليهم من قبل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في زمن الغيبة، لا سيما في بيان الأحكام ومعالم الدين.
وهذا المقدار من النصوص يكفي لبيان ما للعلماء الربّانيّين من مكانة عند الله تعالى ورسوله والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام)، لاسيما خاتمهم المهدي (عجّل الله فرجه)، ما يعني أنّ الذين يقعون في هؤلاء العلماء إنّما يقعون في حملة تلك العناوين العظيمة والكريمة، ومن المتوقّع جدّاً - كما وقع بالفعل - أن يؤدّي ذلك والعياذ بالله إلى سلب ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ممّن يقع فيهم ويطعن عليهم، لاسيما لو كان معلناً بذلك، وفي ضمن ما يسلب منه عقيدته في الإمام الحجّة أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
السبب السابع: الجهل والاستنكاف:
فإنّ من أخطر الآفات التي تهدّد عقيدة المسلم أن تجتمع فيه هاتان الخصلتان، لأن الجهل يجعله عرضةً لتضليل المضلّين الذين يستهدفون الجهلة من الناس فيما يطرحونه من شبهات، لعلمهم بعدم قدرتهم على دفعها بعد عدم تسلّحهم بسلاح العلم الذي به حصراً تدفع كلّ شبهة، وبالتالي فليس بمقدور الجاهل دفعها ما لم يستعن بأهل العلم، لكن الاستنكاف يمنعه من ذلك، فتستولي الشبهات على قلبه حتى يضلّ عن سواء الصراط والعياذ بالله.
ومن الواضح أنّ معالجة الجهل إنّما تكون بالتعلُّم، والتعلُّم يتوقّف على ترك الاستنكاف، وإلى هذا المعنى أشار أمير الحكماء وحكيم الأمراء علي بن أبي طالبٍ (عليه السلام) فيما روي عنه أنّه قال: «قِوَام الدنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلّم، وجواد لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلّم، وإذا بخل الغنيّ بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه...»(٢٢).
ويمكن معالجة الاستنكاف ومحاربته من جبهتين ومحورين:
أحدهما: التفكير في عواقب الجهل، وأخطرها الضلال والانحراف عن دين الله تعالى.
ثانيهما: إزاحة موجب الاستنكاف من خلال التعرُّف على مكانة العلم والعالم والمتعلّم في مقابل حال الجاهل، كما دلّت علىها جملة من الروايات، من قبيل:
١ - ما رواه أبو إسحاق السبيعي، عمّن حدّثه ممن يوثق به، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «إنّ الناس آلوا بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ثلاثة، آلوا إلى عالمٍ على هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره، وجاهلٍ مدّع للعلم لا علم له معجب بما عنده، قد فتنته الدنيا، وفَتَن غيره، ومتعلّمٍ من عالمٍ على سبيل هدى من الله ونجاة، ثم هلك من ادّعى، وخاب من افترى»(٢٣).
٢ - ما رواه جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «يغدوا الناس على ثلاثة أصناف: عالم، ومتعلم، وغثاء، فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلّمون، وسائر الناس غثاء»(٢٤).
٣ - ما رواه القدّاح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به، وإنّه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظٍ وافر»(٢٥).
هذه جملة من الأسباب التي يمكن أن تقف وراء تزلزل العقيدة المهدوية أو زوالها والعياذ بالله لدى بعضهم، وقد عرفت مناشئها، وكيفية التغلُّب عليها، لتحصين عقيدتك في الإمام المهدي صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين المعصومين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سادة خلقه محمد وآله الطاهرين.

الهوامش:

(١) الظاهر وجود سقط في سند الرواية وأنّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) يرويها عن أبيه جعفر بن محمد (عليه السلام)، بقرينة ما سيأتي من قوله (عليه السلام): «يا بنيّ»، ولو كان المخاطَب فيها علي بن جعفر لقال له: يا أخي، ويؤكّده أنّ السابع هو نفسه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، فلو كان الحديث حديثه لقال: الخامس من ولدي، وهذا بخلاف ما لو كان حديث أبيه (عليه السلام)، إذ له أن يعبّر بهذا التعبير، كما له أن يقول: الخامس من ولد ابني.
(٢) الكافي: ج١، ص٣٣٦، ح٢.
(٣) أبو عبد الله كنية المفضَّل بن عمر، فلا تغفل.
(٤) الكافي: ج١، ص٣٣٦، ح٣.
(٥) من وصايا شيخنا الأستاذ الشيخ الايرواني (دامت إفاضاته) التي يردّدها بين الفينة والأخرى كلّما دعت إليها مناسبة قوله: (علينا ـ دائماً ـ أن نلوذ بالله تعالى).
(٦) الكافي: ج٢، ص٤١٨، ح٢.
(٧) الكافي: ج٢، ص٥٢٢، ح٢.
(٨) تفسير العياشي: ج٢، ص٩، ح٧.
(٩) معاني الأخبار: ص١٦٠، (باب: معنى الجهاد الأكبر)، ح١.
(١٠) المصدر السابق، بلا ترقيمٍ للحديث، وكان ينبغي إعطاؤه رقم٢.
(١١) كمال الدين: ج٢، ص٥٢٣، ب٤٦، ح١.
(١٢) كمال الدين: ج٢، ص٥٢٣، ب٤٦، ح٣.
(١٣) ضعفه من جهتين: الأولى: جهالة محمد بن يوسف التميمي الراوي عن الإمام الصادق (عليه السلام). الثانية: استبعاد روايته عن الإمام الصادق (عليه السلام) بلا واسطة، إلّا أن يكون من المعمِّرين، فيحتمل احتمالاً معتدّاً به سقوط واسطة بينه وبين الإمام (عليه السلام)، فيكون ذلك موجباً لانقطاع السند.
(١٤) عمره الشريف في عامنا هذا - وهو سنة ١٤٤٣للهجرة -: ألف سنة ومائة وثمانية وثمانون ١١٨٨ سنة بناء على أنّه (عجّل الله فرجه) ولد سنة ٢٥٥هـ.
(١٥) كذا، ولعلّ الصحيح: بل.
(١٦) كمال الدين: ج٢، ص٣٥٢، ب٣٣، ح٥٠.
(١٧) في العدد ١١/جمادى الآخرة ١٤٤٢هـ -كانون الثاني ٢٠٢١م.
(١٨) كمال الدين: ج١، ص٣٢٤، ب٣١، ح٩.
(١٩) كمال الدين: ج٢، ص٣٥٢، ب٣٣، ح٥٠.
(٢٠) مصباح الزائر: ج١، ص٤٥٥.
(٢١) كمال الدين: ج٢، ص٥١٢، ب٤٥، ح٤٣.
(٢٢) نهج البلاغة ٤: ٨٨، من الخطبة ٣٧٢.
(٢٣) الكافي: ج١، ص٣٣، باب (أصناف الناس)، ح١.
(٢٤) الكافي: ج١، ص٣٤، باب (أصناف الناس)، ح٤.
(٢٥) الكافي: ج١، ص٣٤، باب (ثواب العالم والمتعلم)، ح١.

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

Copyright© 2004-2013 M-mahdi.com All Rights Reserved