الصفحة الرئيسية » البحوث والمقالات المهدوية » (٦٢٠) قراءة في توقيعات الناحية المقدَّسة
 البحوث والمقالات المهدوية

المقالات (٦٢٠) قراءة في توقيعات الناحية المقدَّسة

القسم القسم: البحوث والمقالات المهدوية الشخص الكاتب: الشيخ نزار آل سنبل القطيفي تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠٢١/٠٣/٠٩ المشاهدات المشاهدات: ٥٣٦٧ التعليقات التعليقات: ٠

قراءة في توقيعات الناحية المقدَّسة

الشيخ نزار آل سنبل القطيفي

مقدّمة:
من الأُمور التي قام بها الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) في ضمن وظائفه وإنجازاته لاسيّما في عصر الغيبة الصغرى، ما عُرِفَ ب (التوقيعات).
وهي رسائل صدرت منه لسفرائه أو لوكلائه أو لشيعته، متعدِّدة الأنحاء والمضامين، وقد تعرَّض لذكرها ونقلها من كتب حول الإمام (عليه السلام)، ولكنَّهم اكتفوا بالنقل وذكر المناسبة، ولم أجد - حسب تتبّعي القاصر - من تناولها بالدراسة والتحقيق، وهي تستحقُّ من الباحثين والكتاب ذلك، ونحن في هذا البحث المختصر سوف نتناولها بصورة سريعة، ونلقي الضوء عليها بنحو من الإيجاز يتناسب مع المقال في هذا المقام، ونصبُّ جهدنا حول مضامين التوقيعات الصادرة منه (عليه السلام)، فلهذا أسمينا البحث: (قراءة في توقيعات الناحية المقدَّسة)، ومن الطبيعي أنَّ ضرورة البحث تقتضي تناول نقاط تمهيدية للبحث:
النقطة الأولى: التوقيع لغةً:
التوقيعات جمع توقيع، وهو في اللغة مشتقٌّ من التوقيع بمعنى التأثير، يقال: وقَّع الدَّبَر ظهر البعير، إذا أثَّر فيه.
وقيل: إنَّ التوقيع مشتقٌّ من الوقوع؛ لأنَّه سبب في وقوع الأمر الذي تضمَّنه، أو لأنَّه إيقاع الشيء المكتوب في الخطاب أو الطلب.
قال الخليل: (التوقيع في الكتاب إلحاق فيه بعد الفراغ منه، واشتقاقه من قولهم: وقَّعت الحديدة بالميقعة، وهي المطرقة، إذا ضربتها، وحمار موقَّع الظهر، إذا أصابته في ظهره دَبَرَة، والوقيعة نُقْرَة في صخرة، يجتمع فيها الماء، وجمعها وقائع.
فكأنَّه سُمّي توقيعاً؛ لأنَّه تأثير في الكتاب، أو لأنَّه سبب وقوع الأمر وإنفاذه، من قولهم: أوقعت الأمر فوقع)(١).
التوقيع في المصطلح الأدبي:

هي الكلمات القصار التي يكتبها الخليفة أو الأمير أو الوالي في آخر الكتاب المرفوع له، ويكون لفظاً موجزاً بليغاً، يحمل معنىً وافياً بالمراد، ومن أمثلته:
١ - ما في العقد الفريد لابن عبد ربِّه: ووقَّع علي (عليه السلام) في كتاب سلمان الفارسي وسأله كيف يحاسب الناس يوم القيامة.
(يُحاسَبون كما يُرزَقون)(٢).
٢ - وأيضاً في العقد الفريد لابن عبد ربِّه: ووقَّع علي (عليه السلام) في كتاب جاءه من الحسن بن علي (عليه السلام):
(رأيُ الشيخ خيرٌ من جَلَد الغلام)(٣).
٣ - وفي العقد الفريد لابن عبد ربِّه: ووقَّع علي (عليه السلام) في كتاب الحصين بن المنذر إليه بذكر أنَّ السيف قد أكثر في ربيعة:
(بقيَّة السيف أنمى عدداً)(٤).
٤ - العقد الفريد لابن عبد ربِّه: وفي كتاب جاءه (إلى علي (عليه السلام)) من الأشتر النخعي فيه بعض ما يكره:
(من لك بأخيك كلّه)(٥).
واشتهر هذا النوع من التوقيعات في العصر العبّاسي حتَّى جُعِلَ له كاتب خاصٌّ، يكتب للأُمراء والولاة والحُكّام، وصار يتنافس عليه المتنافسون، ويتسابق المتسابقون، من أصحاب القلم والأدب، ولا يهمّنا التوسّع في ذلك.
مواصفات التوقيع الأدبي:
يشترط في التوقيع الأدبي:
- الإيجاز: ألفاظه قليلة ذات معنى غزير.
- البلاغة: أن يكون التوقيع مطابقاً لمقتضى الحال، من الحالة أو القضيَّة التي قيل فيها.
- الإقناع: وذلك بأن يتضمَّن من وضوح الحجَّة وسلامتها ما يحمل الخصم على التسليم، ومن قوَّة المنطق وبراعته ما يقطع على صاحب الطلب عودة المراجعة.
أنواع التوقيعات الأدبية:
١ - آية قرآنية تناسب الموضوع الذي تضمَّنه الطلب، أو اشتملت عليه القضيَّة.
٢ - بيت من الشعر.
٣ - مثل سائر.
٤ - حكمة معروفة.
٥ - غير ذلك ممَّا يُبدِعه القائل، وربَّما يذهب مثلاً أو حكمةً بعد ذلك.
التوقيع في المصطلح الروائي والرجالي:
التوقيع عبارة عن جواب مكتوب يُجيب به الإمام (عجّل الله فرجه) على سؤال أو أسئلة ترد عليه، وربَّما يصدر ابتداءً من دون أن يسبق السؤال، كما سنلاحظ فيما يأتي من موارد.
وربَّما اختصَّ هذا المصطلح بما صدر عن الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، وإن أُطلق هذا اللفظ أيضاً على بعض ما صدر من الإمام العسكري (عليه السلام)، وإن كانت عبارة المكاتبة هي الأشهر بالنسبة للأجوبة المكتوبة الصادرة من الأئمَّة (عليهم السلام)، كما أنَّ لفظ المكاتبة أُطلق أيضاً على بعض أجوبة الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) كما في (كتاب الاحتجاج)(٦):
(في جواب مكاتبة محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)...).
تأريخ المكاتبة:
والذي يظهر بالاستقراء الناقص أنَّ المكاتبة وُجِدَت منذ عصر زمان الإمام الكاظم (عليه السلام)؛ حيث سُجِنَ وأُبعد عن الاتِّصال المباشر بشيعته، فلا يستطيع أن يُحدِّثهم ويُحدِّثونه، فاضطرَّ الشيعة إلى مكاتبته (عليه السلام) لأخذ أحكامهم الشرعية، بطرقهم الخاصَّة.
وأصبحت الحاجة إليها ضرورية في زمان الإمامين الهاديين العسكريين (عليهما السلام)؛ لإبعاد الدولة لهما عن قواعدهما الإيمانية، ولاعتقالهم في محلِّ سكناهم، في السجن الصغير أو الكبير، ولتفرّق شيعتهم في البلدان البعيدة عن حاضرة الإمام ومحلِّ إقامته.
وأمَّا الأئمَّة قبل الإمام الكاظم (عليه السلام) فقد كانوا مع الرواة يُحدِّثون عنهم بالمباشرة أو بواسطة راوٍ آخر، فكانت الروايات تأتي بعبارة: (قلت له)، أو (سمعت عنه)، ولا يعني هذا أنَّهم (عليهم السلام) كانوا في سعة من العيش، وفسحة من العمل، غير مشدَّد عليهم، يعيشون بحرّيتهم، بل كانت الحال معهم بين مدٍّ من بحر الظلم وجزر، فيضيق عليهم تارةً بحيث لا يتمكَّن الرواة من الذهاب إليهم والأخذ عنهم، ويُفسَح لهم المجال تارةً أُخرى، وكأنَّ ذلك تبع للظروف المحيطة بالدولة، وإلَّا فالقاعدة الأوَّلية عند حُكّام بني أُميَّة وبني العبّاس بالنسبة لهم، هي التضييق والتشديد وإبعاد الناس عنهم، إلَّا أنَّ الظروف تتحكَّم في خطِّ السير كرهاً على الحُكّام.
نوع خطّ التوقيعات:
كانت التواقيع تصدر بخطِّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهو نفس الخطّ الذي كان يكتب به والده الإمام العسكري (عليه السلام)، ومن الواضح أنَّ استعماله لنفس الخطّ ليطمئنَّ من يعرفون خطَّ الإمام العسكري (عليه السلام) - وهم الحلقة الأُولى في عصر الغيبة الصغرى من أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - بأنَّ التواقيع صدرت من نفس تلك المشكاة، وليقطع الطريق على المغرضين والمستغلّين.
ومن شواهد ما قلناه:
١ - ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة:
عنه (أي أحمد بن علي بن نوح وهو أبو العبّاس السيرافي)، عن أبي نصر هبة الله (بن محمّد) بن أحمد الكاتب ابن بنت أبي جعفر العمري قدس سره، عن شيوخه أنَّه لمَّا مات الحسن بن علي عليهما السلام، حضر غسله عثمان بن سعيد (رضي الله عنه) (أي السفير الأوَّل)، وتولّى جميع أمره في تكفينه وتحنيطه وتقبيره، مأموراً بذلك، للظاهر من الحال التي لا يمكن جحدها ولا دفعها إلَّا بدفع حقائق الأشياء في ظواهرها.
وكانت توقيعات صاحب الأمر (عليه السلام) تخرج على يدي عثمان بن سعيد رحمه الله، وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان (رحمه الله) (السفير الثاني)، إلى شيعته وخواصّ أبيه أبي محمّد (عليه السلام) بالأمر والنهي والأجوبة عمَّا يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه، بالخطِّ الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام)، فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالتهما، إلى أن تُوفّي عثمان بن سعيد (رحمه الله)، وغسَّله ابنه أبو جعفر، وتولّى القيام به، وحصل الأمر كلّه مردوداً إليه، والشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته، لما تقدَّم له من النصِّ عليه بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن (عليه السلام) وبعد موته في حياة أبيه عثمان (رحمة الله عليه))(٧).
٢ - وفيه أيضاً: وأخبرني جماعة، عن هارون بن موسى، عن محمّد بن همّام، قال: قال لي عبد الله بن جعفر الحميري: لمَّا مضى أبو عمرو (رضي الله عنه) أتتنا الكتب بالخطِّ الذي كنّا نكاتب به بإقامة أبي جعفر (رضي الله عنه)(٨).
٣ - وفيه أيضاً: (ثمّ إنَّهم كتبوا في ذلك كتاباً وأنفذوه إلى الناحية، وأعلموه بما تشاجروا فيه، فورد جواب كتابهم بخطِّه عليه وعلى آبائه السلام...)(٩).
٤ - وفيه أيضاً: (عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الدار (عليه السلام)...)(١٠).
ولا يخفى على أحد هذه الدقَّة المقصودة من الإمام (عجّل الله فرجه)؛ فإنَّ الخطَّ يخرج للشيعة بنفس خطّ الإمام العسكري (عليه السلام)، وكثير من الشيعة يعرفون ذلك الخطّ، ثمّ إنَّه يخرج على يد السفير الأوَّل، الموثَّق من قِبَل الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام)، بحيث لا يحوم الشكّ حوله من مؤمن من المؤمنين، ثمّ لمَّا انتقل السفير الأوَّل إلى جوار ربِّه، صارت الكتب تخرج على يد ابنه السفير الثاني، الموثَّق من قِبَل الإمام العسكري (عليه السلام) أيضاً، بنفس ذلك الخطّ، ومن طبع هذا العمل واستمراره لعدَّة سنين أن يعرف الناس الآخرون خطّ الإمام (عجّل الله فرجه)، فتنتقل المعرفة بنحو اليقين والقطع إلى العصر الثاني الذي لم يلتقِ بالإمام العسكري (عليه السلام)، ولا بالسفير الأوَّل، ويُقدِّر الله تعالى أن يستمرَّ السفير الثاني مدَّة طويلة في السفارة والنيابة، فينتقل ذلك إلى الجيل الثالث والرابع أيضاً، وكلُّ ذلك ليقطع الطريق على المغرضين والمستغلّين كما قدَّمنا.
فائدة التوقيعات:
لا يخفى أنَّ من وظائف الأئمَّة (عليهم السلام) حفظ الدين وبيانه وتبليغه وتمكين المؤمنين منه، وردّ الشبهات عنه، وقد حفلت كتب الحديث بما قام به الأئمَّة (عليهم السلام) في ذلك، حيث يعجز الآخرون عن معرفة المسائل، أو ردّ ما يواجهون به من شبهات، فيلجؤون إلى من جعلهم الله أُمناء على دينه وهداة لخلقه، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: ٢٤).
وقد قام الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) بهذا الدور عن طريق سفرائه ووكلائه بهذه التوقيعات، فيكون لهذه التوقيعات فوائد:
الأُولى: بيان الدين بجميع مجالاته كما ستأتي الشواهد في ذلك.
الثاني: الدلالة على وجوده؛ فإنَّها أثر من آثاره، والأثر يدلُّ على المؤثِّر.

أقسام التوقيعات من حيث المضمون:

وتنقسم هذه التوقيعات الصادرة من الناحية المقدَّسة من حيث المضمون إلى أقسام كثيرة، تعدَّدت بتعدّد ما يحتاجه المؤمنون في حياتهم اليومية، الشخصية والاجتماعية، في عباداتهم ومعاملاتهم، وعقائدهم، وأمنهم وخوفهم، وغير ذلك، فلهذا يمكن أن نُدرِجها في هذه الأقسام:
القسم الأوَّل: التوقيعات العقائدية:
التوقيع الأوَّل:
في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي (رحمه الله)، والاحتجاج: وأخبرنا الحسين بن إبراهيم، عن أبي العبّاس أحمد بن علي بن نوح، عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب، قال: حدَّثني أبو الحسن أحمد بن محمّد بن تربك الرهاوي، قال: حدَّثني أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه - أو قال: أبو الحسن (علي بن) أحمد الدلَّال القمّي -، قال:
اختلف جماعة من الشيعة في أنَّ الله (جلَّ جلاله) فوَّض إلى الأئمَّة (عليهم السلام) أن يخلقوا أو يُرزقوا؟
فقال قوم: هذا محال لا يجوز على الله تعالى، لأنَّ الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله (جلَّ جلاله).
وقال آخرون: بل الله تعالى أقدر الأئمَّة (عليهم السلام) على ذلك وفوَّضه إليهم فخلقوا ورزقوا، وتنازعوا في ذلك تنازعاً شديداً.
فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) فتسألونه عن ذلك فيُوضِّح لكم الحقَّ فيه؟ فإنَّه الطريق إلى صاحب الأمر (عجّل الله فرجه)، فرضيت الجماعة بأبي جعفر (رحمه الله) وسلَّمت وأجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته:
(إنَّ الله (جلَّ جلاله) هو الذي خلق الأجسام وقسَّم الأرزاق، لأنَّه ليس بجسم ولا حالٌّ في جسم، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم، وأمَّا الأئمَّة (عليهم السلام) فإنَّهم يسألون الله تعالى فيخلق)، وأضاف في الاحتجاج: (ويسألونه فيرزق إيجاباً لمسألتهم، وإعظاماً لحقِّهم)(١١).
وهذا المعنى هو الذي أجاب به الإمام (عجّل الله فرجه) في حياة أبيه أيضاً، كما في حديث سائل أتى ليسأل الإمام العسكري (عليه السلام) فأذن له باللقاء مع صاحب الزمان، فتلقّى الجواب منه قبل أن يسأل، ونقتطع منه محلّ الشاهد:
في غيبة الشيخ الطوسي: جعفر الفزاري، عن محمّد بن جعفر بن عبد الله، عن أبي نعيم محمّد بن أحمد الأنصاري، قال: وجَّه قوم من المفوِّضة والمقصِّرة كامل بن إبراهيم المدني إلى أبي محمّد (عليه السلام)، قال كامل: فقلت في نفسي: أسأله: لا يدخل الجنَّة إلَّا من عرف معرفتي وقال بمقالتي؟
إلى أن قال: ثمّ قال - أي الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) -: (وجئتَ تسأله عن مقالة المفوِّضة، كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيَّة الله، فإذا شاء شئنا، والله يقول:
﴿وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: ٣٠])، ثمّ رجع الستر إلى حالته فلم أستطع كشفه(١٢).
التوقيع الثاني: في كتاب الاحتجاج: وممَّا خرج عن صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، ردَّاً على الغلاة من التوقيع جواباً لكتاب كُتِبَ إليه على يدي محمّد بن علي بن هلال الكرخي:
(يا محمّد بن علي، تعالى الله وجلَّ عمَّا يصفون، سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاؤه في علمه ولا في قدرته ، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تباركت أسماؤه: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل: ٦٥].
وأنا وجميع آبائي من الأوَّلين : آدم ونوح وإبراهيم وموسى (عليهم السلام)، وغيرهم من النبيّين، ومن الآخرين محمّد رسول الله، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم ممَّن مضى من الأئمَّة (عليهم السلام)، إلى مبلغ أيّامي ومنتهى عصري، عبيد الله (جلَّ جلاله)، يقول الله (جلَّ جلاله): ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى *  قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى﴾ [طه: ١٢٤ - ١٢٦].
يا محمّد بن علي، قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم، ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه.
فأُشهد الله الذي لا إله إلَّا هو وكفى به شهيداً، ورسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وملائكته وأنبياءه، وأولياءه (عليهم السلام).
وأُشهدك، وأُشهد كلَّ من سمع كتابي هذا، أنّي بريء إلى الله وإلى رسوله ممَّن يقول: إنّا نعلم الغيب، ونشاركه في ملكه، أو يحلّنا محلَّاً سوى المحلّ الذي رضيه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدّى بنا عمَّا قد فسَّرته لك وبيَّنته في صدر كتابي.
وأُشهدكم: أنَّ كلَّ من نبرأ منه فإنَّ الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياءه. وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك وعنق من سمعه أن لا يكتمه لأحد من مواليَّ وشيعتي حتَّى يظهر على هذا التوقيع الكلّ من الموالي لعلَّ الله (جلَّ جلاله) يتلافاهم فيرجعون إلى دين الله الحقّ، وينتهون عمَّا لا يعلمون منتهى أمره، ولا يبلغ منتهاه، فكلُّ من فهم كتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته، فقد حلَّت عليه اللعنة من الله وممَّن ذكرت من عباده الصالحين)(١٣).
الغلاة والمفوّضة:
من التيّارات المنحرفة التي ظهرت في زمان الأئمَّة (عليهم السلام) فرقة الغلاة، والمفوِّضة قسم منهم، ويظهر من الروايات مقدار الألم الذي أصاب قلب أهل البيت (عليهم السلام) منهم، وهم ذو شعب كثيرة، ولبروزهم أسباب متعدِّدة، ليس هذا محلّ ذكرها وإن كان من المهمِّ دراستها ومعرفتها، ولكن نذكر هنا بمجمل من القول ما يُسلِّط الضوء على التوقيعين السابقين، ليُعرَف المراد منهما، كلُّ ذلك حسب ما استفدناه من الروايات وكلام أعلامنا الهداة، من حماة المذهب وشيعة آل البيت (عليهم السلام)، فنقول:
إنَّ الغلوَّ في النبيِّ والأئمَّة (عليهم السلام) يكون بأحد أُمور:
١ - القول بأُلوهيتهم.
٢ - القول بكونهم شركاء لله تعالى في الخلق.
٣ - القول بكونهم شركاء لله تعالى في الرزق.
٤ - القول بكونهم شركاء لله تعالى في العبادة، بأن يُعبَدوا مع الله تعالى.
٥ - القول بأنَّ الله تعالى حلَّ فيهم أو اتَّحد بهم.
٦ - القول بأنَّهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى.
٧ - القول بأنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) أنبياء.
٨ - القول بأنَّ معرفتهم (عليهم السلام) تُغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي.
فإنَّ القول بكلٍّ من هذه الأُمور خروج عن الدين كما دلَّت عليه الأدلَّة العقلية والآيات والأخبار، وقد تبرَّأ الأئمَّة (عليهم السلام) من القائلين بذلك، وحكموا بكفرهم.
ولكن أفرط بعض المتكلِّمين والمحدِّثين في الغلوِّ، فاتَّهموا كثيراً من الرواة بالغلوِّ؛ لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتَّى قال بعضهم: من الغلوِّ نفي السهو عنهم! مع أنَّ هناك مساحة كبيرة بين الغلوِّ وعدمه، وقد حبا الله تعالى أهل البيت (عليهم السلام) ما لا عين رأت ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على خيال بشر، بحيث لا يُخرِجهم عن البشرية والعبودية لله تعالى، بل مقامهم الشامخ نشأ من حصول حقيقة العبودية لله تعالى في نفوسهم الكريمة.
وأمَّا التفويض فنذكر ملخَّص ما ذكره العلَّامة المجلسي في البحار، حيث قال:
يُطلَق على معانٍ بعضها منفي عنهم (عليهم السلام) وبعضها مثبت لهم:
الأوَّل: التفويض في الخلق والرزق والإماتة والإحياء،
فإنَّ قوماً قالوا: إنَّ الله تعالى خلقهم وفوَّض إليهم أمر الخلق، فهم يخلقون ويُرزِقون ويُميتون ويُحيون.
فإن أُريد أنَّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقيقة مستقلّين عن الله تعالى، فهذا كفر صريح دلَّت على استحالته الأدلَّة العقلية والنقلية، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.
وإن أُريد معنىً آخر، لا بمعنى الاستقلال، فهو وإن لم يوجب الشرك إلَّا أنَّه لا دليل عليه فيما عدا ما كان بنحو المعجزات.
الثاني: التفويض في أمر الدين، وهذا أيضاً يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الله تعالى فوَّض إلى النبيِّ والأئمَّة (عليهم السلام) عموماً أن يُحلّوا ما شاؤوا ويُحرِّموا ما شاؤوا من غير وحي وإلهام، أو يُغيِّروا ما أوحى إليهم بآرائهم.
وهذا باطل لا يقول به عاقل، فإنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان ينتظر الوحي أيّاماً كثيرة لجواب سائل ولا يجيبه من عنده، وقد قال تعالى: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى﴾ [النجم: ٣ و٤].
وثانيهما: أنَّه تعالى لمَّا أكمل نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بحيث لم يكن يختار من الأُمور شيئاً إلَّا ما يوافق الحقَّ والصواب، ولا يحلُّ بباله ما يخالف مشيَّته تعالى في كلِّ باب، فوَّض إليه تعيين بعض الأُمور كالزيادة في الصلاة وتعيين النوافل في الصلاة والصوم وطعمة الجدّ وغير ذلك.
وليس في ذلك فسادٌ عقلاً، وقد دلَّت النصوص المستفيضة عليه.
الثالث: تفويض أُمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبّوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه.
وذا حقٌّ لقوله تعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، وغير ذلك من الآيات والأخبار، وعليه يُحمَل قولهم (عليهم السلام): (نحن المحلِّلون حلاله والمحرِّمون حرامه)، أي بيانهما علينا، ويجب على الناس الرجوع فيهما إلينا.
الرابع: تفويض بيان العلوم والأحكام بما رأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقول الناس، أو بسبب التقيَّة، فيُفتون بعض الناس بالواقع من الأحكام، وبعضهم بالتقيَّة، ويُبيِّنون تفسير الآيات وتأويلها، وبيان المعارف بحسب ما يحتمل عقل كلّ سائل، ولهم أن يُبيِّنوا ولهم أن يسكتوا كما ورد في أخبار كثيرة: (عليكم المسألة وليس علينا الجواب)، كلُّ ذلك بحسب ما يُريهم الله من مصالح الوقت.
الخامس: الاختيار في أن يحكموا بظاهر الشريعة، أو بعلمهم وبما يُلهِمهم الله من الواقع ومخّ الحقِّ في كلِّ واقعة، وعليه دلَّت الأخبار.
السادس: التفويض في العطاء؛ فإنَّ الله تعالى خلق لهم الأرض وما فيها، وجعل لهم الأنفال والخمس والصفايا وغيرها، فلهم أن يعطوا ما شاؤوا ويمنعوا ما شاؤوا.
انتهى ملخَّصاً، ومن أراد التوسّع فليرجع إلى البحار (ج ٢٥/ ص ٣٤٨).
ومن هذا يظهر أنَّ سؤال السائل وجواب الإمام (عجّل الله فرجه) ينصبُّ على التفويض بمعنى أنَّ الله تعالى فوَّض الخلق والرزق مطلقاً لأهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما نفاه الإمام عن نفسه وعن آبائه (عليهم السلام).
وكذلك نفى عن نفسه وعن آبائه (عليهم السلام) أن يكونوا شركاء لله في علمه وقدرته، وأنَّهم يعلمون الغيب، بمعنى أنَّهم يعلمون به مستقلّين عن الله تعالى فيكونوا شركاء له.
وأكَّد الإمام (عجّل الله فرجه) على أنَّهم عبيد لله تعالى، وهذا ما نراه فيهم نحن الشيعة الإماميَّة الاثني عشرية، فإنّا نعقتد بأنَّهم عباد مخلَصون قد اصطفاهم الله تعالى على سائر خلقه، وأنَّهم قاموا بحقيقة العبودية له تعالى لمعرفتهم به حقَّ معرفته، فصاروا هم الأدلَّاء عليه.
وأمَّا ما يُنسَب إلى الشيعة الإماميَّة من الغلوِّ والتأليه والعبادة لهم، و...، فهو ناشئ من أوهام المخرِّفين، وأحلام المتَّخمين.
التوقيع الثالث: عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي (رضي الله عنه)، عن سعد بن عبد الله الأشعري، قال: حدَّثنا الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري (رحمه الله)، أنَّه جاءه بعض أصحابنا يُعلِمه أنَّ جعفر بن علي كتب إليه كتاباً يُعرِّفه فيه نفسه، ويُعلِمه أنَّه القيّم بعد أخيه، وأنَّ عنده من علم الحلال والحرام ما يُحتاج إليه وغير ذلك من العلوم كلّها.
قال أحمد بن إسحاق: فلمَّا قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، وصيَّرت كتاب جعفر في درجه، فخرج الجواب إليَّ في ذلك:
(بسم الله الرحمن الرحيم، أتاني كتابك أبقاك الله، والكتاب الذي أنفذته درجه، وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمَّنه على اختلاف ألفاظه، وتكرّر الخطأ فيه، ولو تدبَّرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه، والحمد لله ربّ العالمين حمداً لا شريك له على إحسانه إلينا، وفضله علينا، أبى الله (جلَّ جلاله) للحقِّ إلَّا إتماماً، وللباطل إلَّا زهوقاً، وهو شاهد عليَّ بما أذكره، وليٌّ عليكم بما أقوله، إذا اجتمعنا ليوم لا ريب فيه، ويسألنا عمَّا نحن فيه مختلفون. إنَّه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه، ولا عليك، ولا على أحد من الخلق جميعاً إمامة مفترضة، ولا طاعة ولا ذمَّة، وسأُبيِّن لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله تعالى.
يا هذا، يرحمك الله، إنَّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدى، بل خلقهم بقدرته، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً وألباباً، ثمّ بعث إليهم النبيّين (عليهم السلام) مبشّرين ومنذرين، يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته، ويُعرِّفونهم ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم، وأنزل عليهم كتاباً، وبعث إليهم ملائكة يأتين [خ ل بائن] بينهم وبين من بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم، وما آتاهم من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة، والآيات الغالبة.
فمنهم من جعل النار عليه برداً وسلاماً واتَّخذه خليلاً، ومنهم من كلَّمه تكليماً وجعل عصاه ثعباناً مبيناً، ومنهم من أحيى الموتى بإذن الله، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، ومنهم من علَّمه منطق الطير وأُوتي من كلِّ شيء، ثمّ بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) رحمةً للعالمين، وتمَّم به نعمته، وختم به أنبياءه، وأرسله إلى الناس كافَّة، وأظهر من صدقه ما أظهر، وبيَّن من آياته وعلاماته ما بيَّن.
ثمّ قبضه (صلّى الله عليه وآله وسلم) حميداً فقيداً سعيداً، وجعل الأمر (من) بعده إلى أخيه وابن عمّه ووصيّه ووارثه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثمّ إلى الأوصياء من ولده واحداً واحداً، أحيى بهم دينه، وأتمَّ بهم نوره، وجعل بينهم وبين إخوانهم وبني عمّهم والأدنين فالأدنين من ذوي أرحامهم فرقاناً بيِّناً يُعرَف به الحجَّة من المحجوج، والإمام من المأموم، بأن عصمهم من الذنوب، وبرَّأهم من العيوب، وطهَّرهم من الدنس، ونزَّههم من اللبس، وجعلهم خزّان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سرّه، وأيَّدهم بالدلائل، ولولا ذلك لكان الناس على سواء، ولا وعى أمر الله (جلَّ جلاله) كلّ أحد، ولما عُرِفَ الحقّ من الباطل، ولا العالم من الجاهل.
وقد ادَّعى هذا المبطل المفتري على الله الكذب بما ادَّعاه، فلا أدري بأيَّة حالة هي له رجاء أن يتمَّ دعواه:
أبفقه في دين الله؟ فوَالله ما يعرف حلالاً من حرام، ولا يُفرِّق بين خطأ وصواب.
أم بعلم، فما يعلم حقَّاً من باطل، ولا محكماً من متشابه، ولا يعرف حدَّ الصلاة ووقتها.
أم بورع، فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً، يزعم ذلك لطلب الشعوذة، ولعلَّ خبره قد تأدّى إليكم، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة، وآثار عصيانه لله (جلَّ جلاله) مشهورة قائمة.
أم بآية فليأتِ بها، أم بحجَّة فليقمها، أو بدلالة فليذكرها.
قال الله (جلَّ جلاله) في كتابه:
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ * وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ﴾ [الأحقاف: ١ - ٦].
فالتمس تولّى الله توفيقك من هذا الظالم ما ذكرت لك، وامتحنه وسَلْه عن آية من كتاب الله يُفسِّرها أو صلاة فريضة يُبيِّن حدودها وما يجب فيها، لتعلم حاله ومقداره، ويظهر لك عواره ونقصانه، والله حسيبه.
حفظ الله الحقَّ على أهله، وأقرَّه في مستقرِّه، وقد أبى الله (جلَّ جلاله) أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهم السلام)، وإذا أذن الله لنا في القول ظهر الحقُّ، واضمحلَّ الباطلُ، وانحسر عنكم، وإلى الله أرغب في الكفاية، وجميل الصنع والولاية، وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلّى الله على محمّد وآل محمّد)(١٤).
إضاءة على هذا التوقيع:
تعرَّض الإمام (عجّل الله فرجه) إلى عدَّة أُمور عقائدية في هذا التوقيع، نُلخِّصها في نقاط:
١ - أنَّ الله تعالى هو الحكيم المطلق، فلا يعمل عملاً بلا غرض، ولا يصدر منه العبث واللهو؛ فإنَّ ذلك منافٍ للحكمة (إنَّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدى...)، وهو قول الإماميَّة في قبال الأشاعرة القائلين بأنَّ الله تعالى لا يجب أن يفعل الفعل بغرض، فربَّما يفعله بلا غرض، وهي من المسائل الكلامية المهمَّة.
قال العلَّامة قدس سره في منهاج الكرامة:
(ذهبت الإماميَّة إلى أنَّ الله تعالى عدل حكيم لا يفعل قبيحاً، ولا يخلُّ بواجب، وأنَّ أفعاله إنَّما تقع لغرض صحيح وحكمة، وأنَّه لا يفعل الظلم ولا العبث، وأنَّه رؤوف بالعباد يفعل بهم ما هو الأصلح لهم والأنفع، وأنَّه تعالى كلَّفهم تخييراً لا إجباراً، ووعدهم بالثواب، وتوعَّدهم بالعقاب، على لسان أنبيائه ورسله المعصومين، بحيث لا يجوز عليهم الخطأ ولا النسيان ولا المعاصي، وإلَّا لم يبقَ وثوق بأقوالهم، فتنتفي فائدة البعثة...).
إلى أن قال: (وذهب أهل السُّنَّة إلى خلاف ذلك كلّه، فلم يُثبِتوا العدل والحكمة في أفعاله تعالى، وجوَّزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب، وأنَّه تعالى لا يفعل لغرض، بل كلُّ أفعاله لا لغرض من الأغراض، ولا لحكمة البتَّة. وأنَّه تعالى يفعل الظلم والعبث، وأنَّه لا يفعل ما هو الأصلح للعباد، بل ما هو الفساد في الحقيقة، لأنَّ فعل المعاصي وأنواع الكفر والظلم وجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مستندة إليه، تعالى الله عن ذلك...)(١٥).
وكانت هذه النقطة بمثابة التمهيد للدخول في بيان ما يريد بيانه من النقاط الآتية المتسلسلة.
٢ - أنَّ الحكمة الإلهية المطلقة بعد أن اقتضت خلق الخلق، فخلق الإنس والجانّ، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وألباباً، اقتضت أيضاً أن يبعث لهم نبيّين ومرسلين، مبشّرين ومنذرين، في إشارة إلى قاعدة اللطف التي كتبها الله على نفسه، فقال: ﴿كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ١٢].
وقاعدة اللطف هي الأُخرى من المسائل الكلامية المهمَّة التي صارت محلّ بحث بين الإماميَّة وغيرهم.
٣ - وبما أنَّ الحكمة الإلهية والمشيئة الربّانية اقتضت إرسال الرسل المبلِّغين عنه تعالى أحكامه، فلا بدَّ أن يكون معهم ما يدلُّ على بعثتهم، فأيَّدهم بالمعجزة، من جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وانقلاب العصا إلى ثعبان، وإحياء الموتى.
وهذه المسألة ترتبط بالمسألة الأُولى أيضاً، فلو لم يكن فعل الله تعالى ناشئاً عن غرض وحكمة لما دلَّت المعجزة على نبوَّة أيّ نبيّ من الأنبياء؛ إذ يحتمل على هذا الرأي أن يؤيِّد الله الكاذب في دعواه النبوَّة بالمعجزة، تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً.
٤- بيَّن أنَّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الإمام بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والأوصياء من بعده أولاده، والدليل على إمامتهم أُمور ثلاثة:
أ) العصمة.
ب) العلم اللدنّي.
ج) ظهور الكرامة على يدهم.
فيُشتَرط في الإمام (عليه السلام) أن يكون معصوماً من الذنوب، مُبرَّءاً من العيوب، مطهَّراً من الدنس، وأن يكون خزانة لعلم الله، ومستودعاً لحكمته، وأن يكون مؤيَّداً بالدلائل، وإلَّا لما عُرِفَ الحقّ من الباطل، ولا العالم من الجاهل، فادَّعاها كلّ شارد ووارد، وأبت الحكمة الإلهية أن تكون الإمامة شرعة لكلِّ وارد، بل هي درَّة مصونة، محفوظة عند أهلها.
٥ - وبعد أن بيَّن الإمام (عجّل الله فرجه) الكبرى في من يتولّى الإمامة، طبَّقها على الصغرى، فأخرج مدَّعيها منها، وهو عمّه جعفر؛ فإنَّه خارج من تحت الأُمور الثلاثة جميعها، ولا يستطيع أن يدَّعي واحدة منها، فتنتفي عنه دلائل الإمامة.
٦ - بيَّن الإمام (عجّل الله فرجه) قاعدة عامَّة في الإمامة: وهي أنَّها لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام)، وعليه فدعوى جعفر باطلة من هذه الجهة أيضاً.
القسم الثاني: التوقيعات الأصولية:
وردت بعض التوقيعات التي تعرَّض لها الأُصوليون في مباحث أُصول الفقه، وأصبحت محلّ كلام في دلالتها على مدَّعاهم في ذلك الباب، كالتوقيع الذي استُدِلَّ به في مبحث التخيير من باب تعارض الأدلَّة:
روى الشيخ (رحمه الله) في كتاب الغيبة، وأحمد بن أبي طالب الطبرسي وأبو علي الطبرسي بأسانيدهم المعتبرة، أنَّ محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري كتب إلى الناحية المقدَّسة فسأل عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوَّل للركعة الثالثة هل يجب عليه أن يُكبِّر؟ فإنَّ بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير ويُجزيه أن يقول: بحول الله وقوَّته أقوم وأقعد.
فخرج الجواب: (أنَّ فيه حديثين: أمَّا أحدهما فإنَّه إذا انتقل من حالة إلى حالة أُخرى فعليه تكبير، وأمَّا الآخر فإنَّه روي أنَّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبَّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه للقيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهّد الأوَّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً)(١٦).
فإنَّ الجملة الأخيرة، أعني (وبأيّهما أخذت... كان صواباً)، وقعت محلّ الكلام للاستدلال بها على التخيير في حالة التعارض، ولا بأس بنقل ما علَّق به الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره عليه بقوله:
(فإنَّ الحديث الثاني وإن كان أخصّ من الأوَّل، وكان اللازم تخصيص الأوَّل به والحكم بعدم وجوب التكبير، إلَّا أنَّ جوابه (عجّل الله فرجه) بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم يدلُّ على أنَّ الحديث الأوَّل نقله الإمام (عجّل الله فرجه) بالمعنى، وأراد شموله لحالة الانتقال من القعود إلى القيام بحيث لا يمكن إرادة ما عدا هذا الفرد منه، فأجاب (عجّل الله فرجه) بالتخيير.
ثمّ إنَّ وظيفة الإمام (عجّل الله فرجه) وإن كانت إزالة الشبهة عن الحكم الواقعي، إلَّا أنَّ هذا الجواب لعلَّه تعليم طريق العمل عند التعارض مع عدم وجوب التكبير عنده في الواقع، وليس فيه الإغراء بالجهل من حيث قصد الوجوب في ما ليس بواجب، من جهة كفاية قصد القربة في العمل.
وكيف كان: فإذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئية وعدمه، ثبت في ما نحن فيه - من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقلّ - بالإجماع والأولوية القطعية)(١٧).
ولعلَّ من هذا الباب ما ورد أيضاً عقيب السؤال المتقدِّم كما في غيبة الشيخ:
(وعن الفصّ الخماهن - وهو الحديد الصيني كما قيل - هل تجوز فيه الصلاة إذا كان في إصبعه؟
الجواب: (فيه كراهة أن يُصلّي فيه، وفيه إطلاق، والعمل على الكراهية))(١٨).
فإنَّ ظاهر الكلام أنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) بيَّن أنَّ فيه حديثين، حديث صرَّح بالكراهة، والآخر مطلق، ومقتضى الجمع الحمل على الكراهة، واتِّخاذ هذا الطريق في الجواب من باب التعليم على الاستنباط كما يبدو، والله العالم.
القسم الثالث: التوقيعات الفقهية:
وهي أشبه بنظام الاستفتاءات في زماننا؛ حيث إنَّ المكلَّف العامّي يُرسِل إلى مرجعه في التقليد بعدَّة أسئلة، فيجيب الفقيه عليها واحداً واحداً، وربَّما تكون كلّها في الفقه، وربَّما تكون في مسائل شتّى مختلفة، تشتمل على الفقه وعلى غيره.
وكما أنَّ بعضها يكون لمعرفة الحكم الشرعي ابتداءً، فربَّما يكون بعضها استيضاحاً لما ورد عن آبائه (عليهم السلام)، ممَّا ظاهره التعارض، أو لأجل الزيادة في الاطمئنان، ومن أمثلة ذلك:
مسائل محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري:
(بسم الله الرحمن الرحيم، أطال الله بقاءك، وأدام عزَّك، وتأييدك وسعادتك وسلامتك ، وأتمَّ نعمته (عليك)، وزاد في إحسانه إليك، وجميل مواهبه لديك، وفضله عندك، وجعلني من السوء فداك، وقدَّمني قبلك، الناس يتنافسون في الدرجات، فمن قبلتموه كان مقبولاً، ومن دفعتموه كان وضيعاً، والخامل من وضعتموه، ونعوذ بالله من ذلك، وببلدنا أيَّدك الله جماعة من الوجوه، يتساوون ويتنافسون في المنزلة).
وفيه (والترقيم منّي لا من النصِّ):
مسألة ١: فروى لنا عن العالم (عليه السلام): أنَّه سُئِلَ عن إمام قوم صلّى بهم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟
فقال: (يؤخَّر ويُقدَّم بعضهم، ويتمُّ صلاتهم ويغتسل من مسَّه).
التوقيع: (ليس على من نحّاه إلَّا غَسل اليد، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمَّم صلاته مع القوم).
مسألة ٢: وروي عن العالم عليه السلام: أنَّ من مسَّ ميِّتاً بحرارته غَسل يديه، ومن مسَّه وقد برد فعليه الغُسل)، وهذا الإمام في هذه الحالة لا يكون مسَّه إلَّا بحرارته، والعمل [في] ذلك على ما هو؟ ولعلَّه يُنحّيه بثيابه ولا يمسّه، فكيف يجب عليه الغُسل؟
التوقيع: (إذا مسَّه على هذه الحالة لم يكن عليه إلَّا غَسل يده).
مسألة ٣: وعن صلاة جعفر إذا سها في التسبيح في قيام أو قعود أو ركوع أو سجود، وذكره في حالة أُخرى قد صار فيها من هذه الصلاة، هل يعيد ما فاته من ذلك التسبيح في الحالة التي ذكرها أم يتجاوز في صلاته؟
التوقيع: (إذا سها في حالة من ذلك ثمّ ذكر في حالة أُخرى قضى ما فاته في الحالة التي ذكر).
مسألة ٤: وعن المرأة يموت زوجها، هل يجوز أن تخرج في جنازته أم لا؟
التوقيع: (تخرج في جنازته).
مسألة ٥: وهل يجوز لها وهي في عدَّتها أن تزور قبر زوجها أم لا؟
التوقيع: (تزور قبر زوجها، ولا تبيت عن بيتها).
مسألة ٦: وهل يجوز لها أن تخرج في قضاء حقّ يلزمها أم لا تبرح من بيتها وهي في عدَّتها؟
التوقيع: (إذا كان حقٌّ خرجت وقضته، وإذا كانت لها حاجة لم يكن لها من ينظر فيها خرجت لها حتَّى تُقضى، ولا تبيت عن منزلها).
مسألة ٧: وروي في ثواب القرآن في الفرائض وغيرها أنَّ العالم (عليه السلام) قال: (عجباً لمن لم يقرأ في صلاته ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ كيف تُقبَل صلاته؟).
وروي: (ما زكت صلاة لم يُقرأ فيها بـ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾).
وروي: (أنَّ من قرأ في فرائضه (الهُمَزة) أُعطي من [الثواب قدر] الدنيا)، فهل يجوز أن يقرأ (الهُمَزة) ويدع هذه السور التي ذكرناها؟ مع ما قد روي أنَّه لا تُقبَل صلاة ولا تزكو إلَّا بهما.
التوقيع: (الثواب في السور على ما قد روي، وإذا ترك سورة ممَّا فيها الثواب وقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ( و(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) لفضلهما، أُعطي ثواب ما قرأ وثواب السورة التي ترك، ويجوز أن يقرأ غير هاتين السورتين وتكون صلاته تامَّة، ولكن يكون قد ترك الفضل).
مسألة ٨: وعن وداع شهر رمضان متى يكون؟ فقد اختلف فيه (أصحابنا)، فبعضهم يقول: يُقرأ في آخر ليلة منه، وبعضهم يقول: هو في آخر يوم منه إذا رأى هلال شوّال.
التوقيع: (العمل في شهر رمضان في لياليه، والوداع يقع في آخر ليلة منه، فإن خاف أن ينقص جعله في ليلتين)(١٩).
القسم الرابع: التوقيعات الرجالية:
ونعني بها التوقيعات التي بيَّنت حال أشخاص من حيث الوثاقة وعدمها، أو من حيث الهداية والضلال، ولا يخفى أنَّ من المسائل المهمَّة في معرفة الحكم الشرعي بالنسبة إلى من لا يأخذ عن الإمام (عليه السلام) بالمباشرة معرفة حال الراوي من حيث الوثاقة، فإن كان ثقةً أخذ بروايته ونقله، كما عليه جمهور علماء الشيعة، إمَّا من حيث وثاقته، أو من حيث إفادة خبره للوثوق، وأعظم التوثيقات على الإطلاق توثيق الإمام نفسه، كما أنَّ أعظم التضعيفات تضعيفاته، فلهذا تظهر أهمّية هذه التوقيعات من هذه الجهة.
كما أنَّ للتوقيعات الموضِّحة حال بعضهم من حيث الضلال أهمّية أُخرى، وهي - مضافاً إلى معرفة حالهم للاجتناب عنهم - معرفة الطريقة التي ينبغي العمل عليها تجاه هؤلاء الضالّين المضلّين، الذين يقفون في طريق الله (جلَّ جلاله)؛ ليقطعوا الطريق على المؤمنين، ويحرفوهم عن جادَّة الحقِّ بألاعيبهم الماكرة.
ومن أمثلة ما ورد في التوثيق أو المدح وبيان حسن الحال:
ما جاء في التوقيع الآتي المشتمل على أجوبة أسئلة إسحاق بن يعقوب، فمنه:
(وأمَّا محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) وعن أبيه من قبل، فإنَّه ثقتي وكتابه كتابي.
وأمَّا محمّد بن علي بن مهزيار الأهوازي فسيصلح الله قلبه، ويزيل عنه شكّه.
وأمَّا محمّد بن شاذان بن نعيم فإنَّه رجل من شيعتنا أهل البيت.
وأمَّا أبو الخطّاب محمّد بن (أبي) زينب الأجدع (فإنَّه) ملعون وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم وإنّي منهم بريء وآبائي (عليهم السلام) منهم براء
)(٢٠).
ومن أمثلة ما ورد في الذمِّ وبيان الضلال:
١ - أحمد بن هلال الكرخي:
جاء في رجال الكشّي: (علي بن محمّد بن قتيبة، قال: حدَّثني أبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، قال: ورد على القاسم بن العلاء نسخة ما خرج من لعن ابن هلال وكان ابتداءُ ذلك، أن كتب (عليه السلام) إلى قوّامه بالعراق: (احذروا الصوفي المتصنِّع).
قال: وكان من شأن أحمد بن هلال أنَّه قد كان حجَّ أربعاً وخمسين حجَّة، عشرون منها على قدميه.
قال: وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه، وأنكروا ما ورد في مذمَّته، فحمَّلوا القاسم بن العلا على أن يراجع في أمره. فخرج إليه: (قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنِّع ابن هلال لا رحمه الله، بما قد علمت، لم يزل - لا غفر الله له ذنبه، ولا أقاله عثرته - يداخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضى، يستبدُّ برأيه، فيتحامي من ديوننا، لا يُمضي من أمرنا إلَّا بما يهواه ويريد، أرداه الله بذلك في نار جهنَّم، فصبرنا عليه حتَّى بتر الله بدعوتنا عمره.
وكنّا قد عرَّفنا خبره قوماً من موالينا في أيّامه لا رحمه الله، وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاصِّ من موالينا، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله، وممَّن لا يبرء منه.
وأعلم الإسحاقي سلَّمه الله وأهل بيته ممَّا أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين، ومن كان يستحقُّ أن يطَّلع على ذلك، فإنَّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنَّنا نفاوضهم سرّنا، ونحمله إيّاه إليهم، وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله تعالى
).
وقال أبو حامد: فثبت قوم على إنكار ما خرج فيه، فعاودوه فيه فخرج: (لا شكر الله قدره، لم يدع المرء ربَّه بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه وأن يجعل ما منَّ به عليه مستقرَّاً ولا يجعله مستودعاً . وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان - عليه لعنة الله - وخدمته وطول صحبته، فأبدله الله بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل، فعاجله الله بالنقمة و[لم] يُمهِله، والحمد الله لا شريك له، وصلّى الله على محمّد وآله وسلَّم))(٢١).
ويظهر هنا عدم المهادنة من الإمام (عليه السلام)، والإصحار بالحقِّ لرفع الضلال، واجتثاثه من أرض الولاية، وتنبيه الناس وتحذيرهم من هذا الرجل المتصنِّع، الذي حجَّ أربعاً وخمسين حجَّة، منها عشرون على قدميه، ومثل هذا العمل من شأنه أن يكسب قلوب العامَّة؛ إذ ظاهر من يقوم بذلك الصلاح، مضافاً إلى العلم الذي كان يتمتَّع به، فلو تُرِكَ وشأنه لأضلَّ قوماً كثيرين، وحرفهم عن الصراط المستقيم.
٢ - الحسن الشريعي:
قال السيِّد الخوئي في معجم الرجال: (الحسن الشريعي (السريعي): قال الشيخ في كتاب الغيبة في ذكر المذمومين الذين ادَّعوا البابية، لعنهم الله: أخبرنا جماعة عن أبي محمّد التلعكبري، عن أبي علي محمّد بن همّام، قال: كان الشريعي يُكنّى أبا محمّد، قال هارون: وأظنُّ اسمه كان الحسن، وكان من أصحاب أبي الحسن علي بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي بعده عليهما السلام، وهو أوَّل من ادَّعى مقاماً لم يجعله الله فيه، ولم يكن أهلاً له، وكذب على الله وعلى حججه (عليهم السلام)، ونسب إليهم ما لا يليق بهم، وما هم منه براء، فلعنته الشيعة، وتبرَّأت منه، وخرج توقيع الإمام (عجّل الله فرجه) بلعنه والبراءة منه.
قال هارون: ثمّ ظهر منه القول بالكفر والإلحاد.
وقال الطبرسي في الاحتجاج في أواخره، في ما خرج عن صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) ردَّاً على الغلاة من التوقيع: روى أصحابنا أنَّ أبا محمّد الحسن السريعي كان من أصحاب أبي الحسن علي بن محمّد ثمّ الحسن بن علي عليهما السلام، وهو أوَّل من ادَّعى مقاماً لم يجعله الله فيه من قِبَل صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، وكذب على الله وحججه (عليهم السلام)، ونسب إليهم ما لا يليق بهم وما هم منه براء، ثمّ ظهر منه القول بالكفر والإلحاد)(٢٢).
أقول: من الواضح أنَّ مقام النيابة عن الإمام (عجّل الله فرجه) من أعظم المناصب الدينية، بل أعظمها في عصر الغيبة، فلهذا كان من المقامات التي يطمع فيها الطامعون، وينتهزها المنتهزون، ولهذا رفع رأسه غير واحد من أصحاب المطامع، طمعاً في المنصب، وحبَّاً للجاه، أو حسداً من النوّاب الحقيقيين، أو كليهما.
ولكن خطر هذا المنصب وعلوّ مقامه يأبى أن يناله إلَّا أهله، ممَّن امتحن الله قلوبهم للإيمان، فلا يناله من تدنَّس بأوحال الرذيلة، فضلاً عن من كان إيمانه مستودعاً؛ فإنَّ الله تعالى هو المطَّلع على السرائر، فيعرف نواياهم، وما يُخفون في ضمائرهم، فيظهر أمر من ليس أهلاً له ويدَّعيه، على لسان وليِّه، وربَّما يفضحه على رؤوس الأشهاد، ليُنفِّر الناس منه، وكم لحال هؤلاء من نظير في تأريخ البشر، في الغابر والحاضر، فيُعرَفون بفلتات لسانهم، وصفحات وجوههم، وربَّما يبقون فتنة لغيرهم، فلهذا ينبغي الحذر كلّ الحذر من الغفلة عمَّا جاء به أهل البيت (عليهم السلام) في بيان حال علماء الدنيا، وينبغي الالتفات إلى ما صدر منهم (عليهم السلام) من دلائل تكشف الباطل وتنير درب الحقِّ.
والغريب أنَّ قسماً من هؤلاء يمشون في خطٍّ منحنٍ حتَّى يبلغ بهم الأمر إلى نهاية الانحناء والإعوجاج، فترى مثل صاحب هذا العنوان وصل إلى مرحلة الكفر والإلحاد.
٣ - محمّد بن علي الشلمغاني أبو جعفر المعروف بابن أبي العزاقر:
كان متقدِّماً في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديئة (الرديَّة)، حتَّى خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان وقتله وصلبه(٢٣).
وقال الشيخ في كتاب الغيبة:
(أخبرنا جماعة، عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود القمّي، قال: وجدت بخطِّ أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) على ظهر كتاب فيه جوابات ومسائل أنفذت من قم، يسأل عنها، هل هي جوابات الفقيه (عليه السلام) أو جوابات محمّد بن علي الشلمغاني؟ لأنَّه حكي عنه أنَّه قال: هذه المسائل أنا أجبت عنها.
فكتب إليهم على ظهر كتابهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، قد وقفنا على هذه الرقعة وما تضمَّنته، فجميعه جوابنا (عن المسائل)، ولا مدخل للمخذول الضالّ المضلّ المعروف بالعزاقري لعنه الله في حرف منه، وقد كانت أشياء خرجت إليكم على يدي أحمد بن بلال وغيره من نظرائه، وكان من ارتدادهم عن الإسلام مثل ما كان من هذا، عليهم لعنة الله وغضبه))(٢٤).
والظاهر أنَّ كلمة (بلال) في أحمد بن بلال تصحيف عن (هلال)، فإنَّ أحمد بن هلال هو الذي عُرِفَ بالانحراف كما تقدَّم، ويوجد ابن بلال، إلَّا أنَّ اسمه محمّد لا أحمد.
القسم الخامس: التوقيعات الاجتماعية:
ونعني بها التوقيعات التي صدرت لحفظ المجتمع الإيماني، أو حفظ طائفة منهم كالوكلاء، أو حلّ بعض المشكلات الخاصَّة، ومن نماذج ذلك ما جاء في الكافي الشريف:
١ - الحسين بن الحسن العلوي، قال: كان رجل من ندماء روزحسني، وآخر معه، فقال له: هو ذا يجبي الأموال، وله وكلاء، وسمّوا جميع الوكلاء في النواحي، وأنهى ذلك إلى عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: أُطلبوا أين هذا الرجل فإنَّ هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض على الوكلاء، فقال السلطان: لا ولكن دسّوا لهم قوماً لا يُعرَفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قُبِضَ عليه.
قال: فخرج بأن يتقدَّم إلى جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأن يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا الأمر.
فاندسَّ لمحمّد بن أحمد رجل لا يعرفه، وخلا به، فقال: معي مال أُريد أن أُوصله، فقال له محمّد: غلطت، أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطَّفه ومحمّد يتجاهل عليه، وبثوا الجواسيس وامتنع الوكلاء كلّهم لما كان تقدَّم إليهم(٢٥).
٢ - علي بن محمّد، قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحير، فلمَّا كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له: الق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا يزوروا مقابر قريش فقد أمر الخليفة أن يُتفقَّد كلُّ من زار فيُقبَض (عليه)(٢٦) (٢٧).
٣ - وأخبرني جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، قال: حدَّثني جماعة من أهل بلدنا المقيمين كانوا ببغداد في السنة التي خرجت القرامطة على الحاجّ، وهي سنة (تناثر) الكواكب أنَّ والدي (رضي الله عنه) كتب إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) يستأذن في الخروج إلى الحجِّ، فخرج في الجواب: (لا تخرج في هذه السنة)، فأعاد فقال: هو نذر واجب، أفيجوز لي القعود عنه؟ فخرج الجواب: (إن كان لا بدَّ فكن في القافلة الأخيرة)، فكان في القافلة الأخيرة فسلم بنفسه وقُتِلَ من تقدَّمه في القوافل الأُخر(٢٨).
٤ - وأخبرني جماعة، عن أبي غالب أحمد بن محمّد الزراري، قال: جرى بيني وبين والدة أبي العبّاس - يعني ابنه - من الخصومة والشرّ أمر عظيم ما لا يكاد أن يتَّفق، وتتابع ذلك وكثر إلى أن ضجرت به، وكتبت على يد أبي جعفر أسأل الدعاء، فأبطأ عنّي الجواب مدَّة، ثمّ لقيني أبو جعفر، فقال: قد ورد جواب مسألتك، فجئته فأخرج إليَّ مدرجاً، فلم يزل يدرجه إلى أن أراني فصلاً منه فيه: (وأمَّا الزوج والزوجة فأصلح الله بينهما)، فلم تزل على حال الاستقامة، ولم يجر بيننا بعد ذلك شيء ممَّا كان يجري، وقد كنت أتعمَّد ما يُسخِطها فلا يجري فيه (منها شيء)، هذا معنى لفظ أبي غالب (رضي الله عنه) أو قريب منه(٢٩).
القسم السادس: مسائل متفرّقة:
وردت بعض التوقيعات مشتملة على مسائل متفرّقة، في أبواب مختلفة، ومن جملتها ما ورد في كتاب الغيبة للشيخ، وكمال الدين للصدوق، والاحتجاج للطبرسي:
أخبرني جماعة، عن جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الزراري (وغيرهما)، عن محمّد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الدار (عليه السلام): (أمَّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبَّتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا، فاعلم أنَّه ليس بين الله (جلَّ جلاله) وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس منّي، وسبيله سبيل ابن نوح عليه السلام.
وأمَّا سبيل عمّي جعفر وولده، فسبيل إخوة يوسف على نبيِّنا وآله وعليه السلام.
وأمَّا الفقّاع فشربه حرام، ولا بأس بالشلماب(٣٠).
وأمَّا أموالكم فما نقبلها إلَّا لتطهروا، فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع، فما آتانا الله خير ممَّا آتاكم.
وأمَّا ظهور الفرج فإنَّه إلى الله (جلَّ جلاله)، كذب الوقّاتون.
وأمَّا قول من زعم أنَّ الحسين (عليه السلام) لم يُقتَل، فكفر وتكذيب وضلال.
وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله (عليكم).
وأمَّا محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) وعن أبيه من قبل، فإنَّه ثقتي وكتابه كتابي.
وأمَّا محمّد بن علي بن مهزيار الأهوازي فسيُصلِح الله قلبه، ويزيل عنه شكَّه.
وأمَّا ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلَّا لما طاب وطهر، وثمن المغنّية حرام.
وأمَّا محمّد بن شاذان بن نعيم، فإنَّه رجل من شعيتنا أهل البيت.
وأمَّا أبو الخطّاب محمّد بن (أبي) زينب الأجدع، (فإنَّه) ملعون وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم، وإنّي منهم بريء وآبائي (عليهم السلام) منهم براء.
وأمَّا المتلبسون بأموالنا، فمن استحلَّ منها شيئاً فأكله فإنَّما يأكل النيران.
وأمَّا الخمس فقد أُبيح لشيعتنا، وجُعِلوا منه في حلٍّ إلى وقت ظهور أمرنا، لتطيب ولادتهم ولا تخبث.
وأمَّا ندامة قوم قد شكّوا في دين الله على ما وصلونا به، فقد أقلنا من استقال، ولا حاجة لنا في صلة الشاكّين.
وأمَّا علَّة ما وقع من الغيبة، فإنَّ الله (جلَّ جلاله) يقول: ﴿يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١]، إنَّه لم يكن أحد من آبائي إلَّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي.
وأمَّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيَّبتها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، فاغلقوا (أبواب) السؤال عمَّا لا يعنيكم، ولا تتكلَّفوا على ما قد كُفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنَّ ذلك فرجكم. والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتَّبع الهدى)(٣١).
أقول: اشتهر هذا التوقيع في الأوساط العلمية والفقهية، ولاسيّما هذا المقطع منه: (وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا...)، فقد تعرَّض لها الأُصوليون والفقهاء في مباحث الاجتهاد والتقليد، وباب القضاء، وتناولوها بحثاً ودرساً، سنداً ومتناً ودلالةً.
وفي هذا التوقيع أُمور مهمَّة، وكلُّ ما يصدر عنهم (عليهم السلام) مهمّ، منها:
١ - أنَّ المنكرين لإمامته (عليه السلام) من بني عمّه، لا ينفعهم النسب في شيء؛ إذ ليس بين الله وبين العبد قرابة، وإنَّما القريب منه بالقرب المعنوي من اتَّقى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات: ١٣).
٢ - قوله عليه السلام: (وأمَّا سبيل عمّي جعفر وولده، فسبيل إخوة يوسف على نبيِّنا وآله وعليه السلام).
فيحتمل في هذا المقطع احتمالان:
أ) أنَّ سبيل جعفر وولده سبيل إخوة يوسف، من حيث إنَّهم حسدوا أخاهم وأرادوا قتله حتَّى أنَّهم وضعوه في غيابت الجُبِّ، فلا يدلُّ الكلام على صلاحهم.
ب) أنَّ سبيلهم سبيل إخوة يوسف من حيث التوبة والندم بعد أن ظهرت لهم الآيات، وتجلَّت لهم الكرامات، فيدلُّ الكلام على حسنهم وصلاحهم بعد أن انحرفوا عن الطريق المستقيم.
ولا مُرجِّح لأحد الاحتمالين لو خُلّينا وهذا المقطع، وقطعنا النظر عن باقي الروايات، وتحقيق ذلك والبحث فيه خارج عن دائرة قرائتنا السريعة في التوقيعات.
٣ - بيان العلَّة من غيبته، أو قل: بعض أسرار الغيبة، حيث قال: (وأمَّا علَّة ما وقع من الغيبة، فإنَّ الله (جلَّ جلاله) يقول: ﴿يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: ١٠١]، إنَّه لم يكن أحد من آبائي إلَّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي).
٤ - الجواب عن ما يُطرَح عادةً، قديماً وحديثاً، من سؤال السائل عن الانتفاع به حال غيبته (عليه السلام)، فقال في الجواب: (وأمَّا وجه الانتفاع في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيَّبتها عن الأبصار السحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء).
فأشار في ذلك إلى نقطتين:
النقطة الأُولى:
أنَّه كالشمس، فإنَّ الشمس تمدُّ الكون بالدفء والحرارة والنور، فيستفيد منها جميع من على وجه الأرض وإن غيَّبتها السُّحُب عن الأبصار، فله أثر من هذه الجهة كوني، مضافاً إلى أثره على الإنسان من حيث الهداية وإراءة الطريق المستقيم حتَّى لو يظهر للناس بحيث يعرفهم ويعرفونه، ويشاهدهم ويشاهدونه.
النقطة الثانية: أنَّه أمان لأهل الأرض، فلا يستغني عنه أحد عليها، فيكون الانتفاع به تكوينياً أيضاً، وهذا يتَّفق مع ما ورد عندنا من أنَّه لولا الحجَّة لساخت الأرض.
كما يحتمل الشمول لكونه أماناً من الاختلاف، كما ورد عند أهل السُّنَّة من أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) أمان لأهل الأرض من الاختلاف، ففي المستدرك للحاكم النيسابوري (ج ٣/ ص ١٤٩):
عن ابن عبّاس (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأُمَّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه.
٥ - ما أشار إليه في آخر التوقيع بقوله (عليه السلام): (فاغلقوا (أبواب) السؤال عمَّا لا يعنيكم، ولا تتكلَّفوا على ما قد كُفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإنَّ ذلك فرجكم).
فإنَّ على المؤمن المقرّ بكونه (عليه السلام) إماماً وحجَّةً من قِبَل الله تعالى أن يُسلِّم الأمر في ما يحصل وكلّ ما يجري، ولا يُبدي ما يظهر منه الاعتراض والاستنكار؛ فإنَّه في الواقع يرجع إلى عدم الإيمان الحقيقي، فإنَّ من آمن بوجود الله تعالى وآمن بأنَّه الحكيم المطلق يُسلِّم بما يُجريه الله عليه ولو لم يعرف وجه الحكمة والمصلحة في ذلك.
نعم، عليه أن يلجأ إلى الله فيدعوه دعاء المخلص المستكين، المقرّ بالرقِّ، والتارك للخلاف.
بقيت نقطة ربَّما تثار، وهي:
كيف تصدر التوقيعات من الناحية المقدَّسة؟ وكيف تصل إلى النوّاب والسفراء؟
فنقول: لم يُصرَّح بذلك في الروايات، ولا فيما روي عن النوّاب في ما أعلم، وليس لنا أن نقول من عند أنفسنا رجماً بالغيب، ولكن يمكن أن نُقدِّم بعض الاحتمالات في ذلك:
الاحتمال الأوَّل: أن يأخذه النائب من الإمام (عليه السلام) بالمباشرة؛ فهو الذي يمكن أن يلتقي به، سواء في داره أو في مكان آخر.
الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك بنحو غيبي، بحيث متى ما وصلت الأسئلة إلى يد النائب تنطبع فيها الأجوبة.
الاحتمال الثالث: أن يكون بالنحوين المذكورين، بمعنى أن يصدر البعض بالنحو الأوَّل، ويصدر البعض الآخر بالطريق الآخر.
والله سبحانه أعلم بما يتعامل به أولياؤه، لاسيّما في زمان الغيبة الذي بُني الأمر فيه على الخفاء والاستتار وعدم النشر.
ونكتفي بهذا المقدار، وإن كان للبحث مجال واسع، ولكن أردنا القراءة السريعة لهذه التوقيعات الشريفة.


 

 

 

 



الهوامش:
(١)
الاقتضاب في شرح أدب الكتّاب ١: ١٩٦.
(٢) العقد الفريد ٤: ٤١.
(٣) المصدر السابق.
(٤) العقد الفريد ٤: ٤٢.
(٥) المصدر السابق.
(٦) الاحتجاج: ٢٧٠/ ط النجف.
(٧) الغيبة للطوسي: ٣٥٧.
(٨) الغيبة للطوسي: ٣٦٢.
(٩) الغيبة للطوسي: ٢٨٥.
(١٠) الغيبة للطوسي: ٢٩٠.
(١١) الغيبة للطوسي: ٢٩٤؛ الاحتجاج ٢: ٢٨٤.
(١٢) الغيبة للطوسي: ٢٤٦.
(١٣) الاحتجاج ٢: ٢٨٩.
(١٤) الغيبة للطوسي: ٢٨٧.
(١٥) منهاج الكرامة: ٣١ و٣٢.
(١٦) البحار ٢: ٢٧٧.
(١٧) الرسائل ٢: ١٦٧.
(١٨) الغيبة للطوسي: ٣٩٧.
(١٩) الغيبة: ٣٧٤.
(٢٠) الغيبة للطوسي: ٢٩٠؛ كمال الدين: ٤٨٣؛ الاحتجاج ٢: ٢٨٣.
(٢١) رجال الكشّي ٢: ٨١٦.
(٢٢) معجم الرجال ٦: ١٧٩.
(٢٣) رجال النجاشي: ٣٧٨.
(٢٤) الغيبة للطوسي: ٣٧٣.
(٢٥) الكافي ١: ٥٢٥.
(٢٦) المصدر السابق.
(٢٧) قال المازندراني في شرح أُصول الكافي (ج ٧/ ص ٣٥٦): قوله: (والحير) الحير كربلاء كالحاير. قوله: (الق بني الفرات والبرسيين)، قال الفيروزآبادي: البرس قرية بين الكوفة والحلَّة، وقال ابن الأثير: برس أجمة معروفة بالعراق، وهي الآن قرية، وأمَّا بنو الفرات فقيل: هم كانوا رهط الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات من وزراء بني العبّاس، وهو الذي صحَّح طريق الخطبة الشقشقية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل الرضي رحمه الله.
(٢٨) الغيبة للطوسي: ٣٢٢.
(٢٩) الغيبة للطوسي: ٣٢٤.
(٣٠) في هامش كتاب كمال الدين: شراب يُتَّخذ من الشيلم، وهو الزوان الذي يكون في البرّ، قال أبو حنيفة: الشيلم حَبّ صغار مستطيل أحمر قائم كأنَّه في خلقة سوس الحنطة، ولا يُسكِر ولكنَّه يمرّ الطعام إمراراً شديداً. وقال مرَّة: نبات الشيلم سطاح، وهو يذهب على الأرض، وورقته كورقة الخلاف البلخي شديدة الخضرة رطبة، قال: والناس يأكلون ورقه إذا كان رطباً، وهو طيّب لا مرارة له، وحَبّه أعقى من الصُبَّر (التاج). وقال أُستاذنا الشعراني في هامش الوسائل (ج ١٧/ ص ٢٩١): (إنَّ الشلماب شراب يُتَّخذ من الشيلم، وهو حَبّ شبيه بالشعير، وفيه تخدير نظير البنج، وإن اتَّفق وقوعه في الحنطة وعُمِلَ منه الخبز أورث السدر والدوار والنوم، ويكثر نباته في مزرع الحنطة، ويُتوهَّم حرمته لمكان التخدير، واشتباه التخدير بالإسكار عند العوامّ).
(٣١) الغيبة للطوسي: ٢٩٠؛ كمال الدين: ٤٨٣؛ الاحتجاج ٢: ٢٨٣.

التقييم التقييم:
  ١ / ٥.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016