تحصين الأنام من دعاوى الاتِّصال بالإمام (عجّل الله فرجه)
الشيخ جاسم الوائلي
إنَّ الاعتقاد بالمهديِّ (عليه السلام) - الذي يقوم في آخر الزمان فيملؤها قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً - قضيَّة قد تواترت بها الأخبار لدى المسلمين كافَّة، وممَّا قام عليها إجماعهم، حتَّى باتت ضرورةً من ضروريّات الدين التي يُعَدُّ منكرها خارجاً عن سلك المسلمين، ولا أقلَّ عن جماعة المؤمنين، ما لم يكن إنكارها عن شبهة أو فساد عقل.
كما أجمع الفريقان على أنَّه (عليه السلام) من نسل عليٍّ وفاطمة (عليهم السلام)، وإن اختلف المخالفون في كونه من نسل الحسن أو الحسين (عليهما السلام)، وفي أنَّه قد وُلِدَ ولم يزل حيّاً، أو أنَّه سيُولَد في آخر الزمان.
ومن هنا يتَّضح ما لهذه الشخصيَّة العظيمة من مكانة ودور عظيمين في نفوس المعتقدين به (عليه السلام) لاسيّما شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وعلى وجه الخصوص الإماميَّة الاثنا عشـرية، حيث بات عنوان الإمام المهديّ المنتظر (عليه السلام) يستهوي المؤمنين والضالّين على حدٍّ سواء.
أمَّا المؤمنون فلا يخفى مدى شوقهم إلى لقائه وتكحيل أنظارهم برؤيته (عليه السلام)، وتطلُّعهم إلى قيامه، ليعيشوا في كنف قسطه وعدله، بعد الذي ذاقوه قروناً من ظلم الظالمين وجور الجائرين، من المخالفين أو النواصب أو الملحدين.
وأمَّا الضالّون فما بين مُضِلٍّ مدَّعٍ المهدويَّة لنفسه، ومضَلَّلٍ مغرَّرٍ به يعتقدها في غيره، ومدَّعٍ كذباً لمشاهدته ولقائه، وربَّما ادَّعى مع ذلك السفارة عنه.
وقد سجَّل المؤرِّخون والمتابعون للقضيَّة المهدويَّة ما أمكن تسجيله من دعاوى المهدويَّة، سواءً من ادَّعاها لنفسه ومن ادُّعيت له برضى منه أو من دون رضاه.
والظاهر أنَّ أوَّل من ادُّعيت له هو محمّد بن الحنفيَّة (رضي الله عنه)، وقد عرف أصحاب هذه العقيدة بالكيسانيَّة، نسبة إلى شخص يُدعى كيسان، وهو - على ما قيل - مولى لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقيل: هو المختار الثقفي، وكيسانُ لقبٌ له(١).
والكيسانيَّة تعتقد بأنَّ محمّد بن الحنفيَّة لم يمت، وأنَّه يعيش عند جبلٍ يُدعى جبل رَضْوَى وعنده عينان، عين تجري ماءً، وأُخرى تجري عسلاً، وأنَّه هو المهديُّ الذي بشَّـر به النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم(٢).
وفي هذا المعنى أبيات نُسِبَت إلى الشاعر المعروف بكثير عزَّة، ونسبها الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) في كمال الدين(٣) إلى السيِّد الحميري، وكان كيسانيّاً قبل أن يستبصـر على يد الإمام الصادق (عليه السلام):
ألَا إنَّ الأئمةَ من قريشٍ * ولاةُ الحـــقِّ أربعــةٌ سـَـواءُ
عليٌّ والثــلاثـةُ من بنيـــه هم * الأسباط ليس بهم خفاءُ
فسبطٌ ســبطُ إيمـان وبــِـرٍّ * وســبـطٌ غـيـَّبــتـــه كربـلاءُ
وسبطٌ لا يذوق الموت حتَّى * يقود الخيلَ يقدمـه اللِّواءُ
تَغَيـَّب لا يُرى فيهـم زمانـاً * برضوى عنده عسل وماءُ
وممَّن ادُّعيت له المهدويَّة أيضاً إمامنا الصادق (عليه السلام)، ادَّعاها له النَّاووسيَّة، وهي إحدى الفرق الضَّالَّة، وادَّعوا أنَّه لم يمت وسوف يقوم ليملأها قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
كما ادُّعيت لإمامنا الكاظم عليه السلام(٤)، ادَّعتها له الواقفة إحدى فِرَق الضلال، ولـمَّا بان ضلالهم ادَّعوها للحسن العسكريِّ (عليه السلام) وطبَّقوا الروايات فيه حتَّى بان ضلالهم أيضاً بوفاته (عليه السلام).
وإذا كانت دعاوى المهدويَّة بالغة الخطورة فإنَّ دعاوى الاتِّصال بالمهدي المنتظر (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى لدى المعتقدين بحياته - والتي (دعاوى الاتِّصال) هي شرف ما بعده شرف - من أخطر القضايا التي وقعت محلَّ كلام بعد الاتِّفاق على وقوعها زمن الغيبة الصغرى بواسطة السفراء أو ربَّما بغير واسطة.
وقد يقال: إنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) قد وضع بنفسه صمّام الأمان من دعوى المشاهدة سدّاً لهذا الباب على المضِلِّين وأصحاب القلوب المريضة وأعداء الدين، فجاء النصُّ بلزوم تكذيب من يدَّعي المشاهدة، وذلك في توقيعه (عليه السلام) الذي خرج إلى آخر سفرائه عليِّ بن محمّد السَّمري (رضي الله عنه)، على ما رواه الصدوق في كمال الدين، قال: حدَّثنا أبو محمّد الحسنُ بن أحمد المكتّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ عليُّ بن محمد السَّمري قدس سره، فحضـرته قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليُّ بن محمّد السَّمري؛ أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية - (وفي نسخة: التامَّة) -، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ)، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذبٌ مفترٍ، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم»، قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيُّك من بعدك ؟ فقال: لله أمر هو بالغه، ومضـى (رضي الله عنه)، فهذا آخر كلام سُمِعَ منه(٥).
وقد يشكل بأنَّ بعض الأعلام نقل عدَّة روايات فيمن شاهده ورآه (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى، كالعلَّامة المجلسـي في بحاره(٦)، فلا بدَّ من حمل التوقيع على ما لا يتنافى مع تلك الأخبار كما صنع في البحار، حيث قال بعد نقله التوقيع المذكور: (لعلَّه محمول على من يدَّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه (عليه السلام) إلى الشيعة، على مثال السفراء، لئلَّا ينافي الأخبار التي مضت وستأتي فيمن رآه (عليه السلام)(٧).
ولا بدَّ من تحقيق الحال في جهات ثلاث:
الأُولى: في سند التوقيع ودلالته.
الثانية: في وقوع المشاهدة وعدمها واقعاً.
الثالثة: وظيفتنا تجاه دعاوى المشاهدة.
الجهة الأولى: تحقيق حال التوقيع سنداً ودلالةً:
ينبغي الكلام تارةً في سند التوقيع، وأُخرى في دلالته، فالبحث يقع في مقامين:
المقام الأوَّل: تحقيق حال سند التوقيع:
تقدَّم أنَّ الشيخ الصدوق رواها عن الحسن بن أحمد المكتّب، عن السَّمري (رضي الله عنه).
ونقلها عن الصدوق كلٌّ من الشيخ الطوسي في الغيبة، وابن حمزة في الثاقب، والراوندي في الخرائج، والمجلسي في البحار(٨)، وغيرهم.
والظاهر أنَّ سند الرواية ضعيف من وجهين:
الوجه الأوَّل: أنَّ الحسن بن أحمد المكتّب مهمل لم يُذكر في كتب الرجال.
نعم ذكره من المعاصرين السيِّد الخوئي (قدس سره) في معجمه، قال: (الحسن بن أحمد المكتّب، أبو محمّد، من مشايخ الصدوق قدس سره، ترحَّم عليه، كمال الدين، الباب ٤٩، الحديث ٤١)(٩).
أقول: إنَّ الباب (٤٩) لا يشتمل إلَّا على حديثين، وليس التوقيع أحدهما، ولعلَّه تصحيفٌ للباب (٤٥) المشتمل على (٥٢) رواية ومن بينها التوقيع، إلَّا أنَّه ليس برقم (٤١)، بل برقم (٤٤).
ويردُّه: أوّلاً: أن عدَّه من مشايخ الصدوق لمجرَّد نقله روايتين أو روايات معدودة عنه محلُّ نظر وتأمُّل، فإنَّ عنوان الشيخ في الرواية لا يصدق بمجرَّد ذلك ما لم يأخذ عنه قدراً معتدّاً به من الحديث.
ولو سلَّمنا كفاية نقل روايتين في صدق الشيخوخة، فلا يكفي ذلك في استكشاف حسن حاله فضلاً عن وثاقته، بخلاف ما لو أكثر الرواية عنه، إذ يكون لاستفادة الوثاقة أو لا أقلَّ حسن الحال مجال.
وثانياً: للمكتّب رواية أُخرى قبل التوقيع برقم (٤٣)، وما من ترحُّمٍ للصدوق عليه في أيٍّ من الروايتين، ولا في أيِّ طبعة من الطبعات الثلاث للكتاب التي وقعت بين يدي، وكذا ظاهر نسخة العلَّامة المجلسي، ولو كان الترحُّم وارداً في طبعةٍ وصلت إلى يد السيِّد الخوئي (قدس سره) فهو ساقط عن الاعتبار جزماً، لعدم العلم آنذاك بما هو الأصحُّ من النسخ والطبعات، لاسيّما وأنَّ طبعتين من الثلاث - وكلاهما بتصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاري - خاليتان من الترحُّم.
وثالثاً: لو سلَّمنا وجود الترحُّم فهو لا يدلُّ على الوثاقة، فإنَّه طلب الرحمة للشخص، ويكفي في استحقاقه كون المطلوب له مؤمناً، بل مطلق المسلم، لاسيّما إذا أفاد منه فائدةً ما كالعلم.
نعم، لا يبعد دلالة الترضّي على ذلك، ومنه يتَّضح أنَّ المناسب هو التفصيل بين ترضّي الصدوق على راوٍ فيدلُّ - لا أقلَّ - على حسن حاله في نظر الصدوق، وبين الترحُّم عليه فلا يدلُّ حتَّى على الحسن فضلاً عن الوثاقة. أمَّا عدم إفادة الترحُّم لذلك فقد تقدَّم وجهه، وأمَّا إفادة الترضّي لحسن الحال، فذلك للوجدان.
توضيحه: أنَّ من المسلَّم أنَّ الترضّي وكذا الترحُّم ليس لهما معنى اصطلاحي عند الصدوق، فيدور المراد منهما بين المعنى اللغوي - وهو طلب الرضا والرحمة - والمعنى العرفي أعني: ما هو المنصرف منهما في عرف المسلمين، والمسلمون لا يُطلِقون الترضّي على أيِّ ميِّت كان ما لم تكن له مكانة ما عندهم والمسلمون ببابك.
خلافاً للسيِّد الخوئي (قدس سره) حيث أنكر دلالته على الحسن فضلاً عن الوثاقة، قال (قدس سره) بعد نقله رواية في شأن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق: (أقول: في هذه الرواية دلالة واضحة على تشيُّع محمّد بن إبراهيم وحسن عقيدته، وأمَّا وثاقته فهي لم تثبت، وليس في ترضّي الصدوق (قدس سره) عليه دلالة على الحسن فضلاً عن الوثاقة)(١٠).
وخلافاً للداماد، حيث سوَّى بين الترضّي والترحُّم في استفادة الوثاقة، قال (قدس سره) في رواشحه: (ثُمَّ إنَّ لمشايخنا الكبراء مشيخة يُوَقِّرون ذكرهم، ويُكثِرون من الرواية عنهم، والاعتناء بشأنهم، ويلتزمون إرداف تسميتهم بالرَّضْيَلَةِ عنهم، أو الرَّحْمَلَةِ لهم البتَّة، فأُولئك أيضاً ثُبَّت فُخَمَاءُ، وأثبات أجلَّاء، ذُكروا في كتب الرجال أم لم يُذكروا، والحديث من جهتهم صحيح معتمد عليه، نُصَّ عليهم بالتزكية والتوثيق أم لم يُنصَّ...)(١١).
وخلافاً للوحيد على ما نسبه إليه السيِّد الخوئي (قدس سره) من ميله إلى استفادة الوثاقة من الترضّي، قال بعد نقله كلام النجاشي والغضائري في الحسن بن محمّد بن يحيى وتضعيفهما له: (فمن الغريب بعد ذلك ميل الوحيد (قدس سره) إلى توثيقه من جهة ترضّي الصدوق وترحُّمه عليه)(١٢).
أقول: إنَّ استغراب السيِّد الخوئي (قدس سره) ليس من جهة استفادة الوحيد الوثاقة من الترضّي والترحُّم - وإن كان هو (قدس سره) لا يرى ذلك -، وإنَّما من جهة أنَّهما معارضان لما ورد عن النجاشي والغضائري، ما يعني دخول المورد في موارد تعارض التعديل والتجريح لو سُلِّم للوحيد دلالة الترضّي والترحُّم على الوثاقة.
والظاهر أنَّ بعض من تأخَّر عن السيِّد الخوئي (قدس سره) قد اعتمد عليه في نسبة الترحُّم إلى الصدوق، لوقوعه في نفس الاشتباه، من ذكر نسبة الترحُّم عليه إلى الصدوق، ومن الإرجاع إلى الباب والحديث بالرقمين اللذين ذكرهما (قدس سره).
وذكره أيضاً التستري (قدس سره) في قاموسه، قال: (الحسن بن أحمد المكتّب، أبو محمّد، روى الإكمال في توقيعاته عنه مترحِّماً عليه، وروى عنه التوقيع إلى السَّمري في الغيبة الكبرى)(١٣).
والكلام في دعوى الترحُّم صغرى وكبرى قد تقدَّم.
وذكره النَّمازي أيضاً، قال: (الحسن بن أحمد المكتّب، أبو محمّد، لم يذكروه...) الخ(١٤).
محاولة لتوثيق الرجل:
وقد يُحاوَل توثيق الحسن بدعوى أنَّه متَّحد مع الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدِّب الذي ترضَّى عليه الصدوق (رضي الله عنه) في عدَّة مواطن.
إذ يدلُّ على وثاقته ما ذكره أهل الخلاف من توقير الشيخ الصدوق له، فقال: إذ ذكر ابن حجر في ترجمة الحسين بن إبراهيم من قوله: (قال عليُّ بن الحكم في مشايخ الشيعة: كان مقيماً بقم، وله كتاب في الفرائض أجاد فيه، وأخذ عنه أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن بابويه، وكان يُعظِّمه)(١٥).
وجوابه: أوَّلاً: أنَّ ابن إبراهيم هو الحسين وليس الحسن، واحتمال التصحيف فيه بعيد بعد أن ورد في مواطن كثيرة بلفظ الحسين، واحتمال تصحيف الحسن في التوقيع - الرواية ٤٤ - بقرينة وروده بلفظ الحسين في الرواية السابقة عليها - ٣٣ - ليس بأولى من احتمال العكس.
وثانياً: لو كانا متَّحدين فمن البعيد جدّاً أن لا يُذكر كنية أبي محمّد - التي هي كنية صاحبنا - مع ابن إبراهيم ولو في مورد واحد من موارد ذكره الكثيرة في مجموع كتبه التي تتبعَّتها، كما أنَّ من البعيد عدم ذكر أيّ اسم من الأسماء التي امتاز بها الحسين بن إبراهيم في الموضعين، وهي (إبراهيم) و(هشام) و(المؤدِّب) ولم يشتركا إلَّا في اسم واحد وهو (أحمد).
وكذا عدم ذكر كنية صاحبنا (أبو محمّد) في أيِّ مورد من موارد ذكر الحسين بن إبراهيم رغم ذكره بجميع أسمائه، بل ذكره بكنية أبي عبد الله(١٦).
وثالثاً: أنَّ الصدوق ترضَّى على الحسين بن إبراهيم حيثما ذكره، ولم يترضَّ على صاحبنا في كلا الموضعين.
ورابعاً: أنَّ هذا التوجيه لو كان لرواية في إثبات استحباب فعل أو كراهته لما قبلناه، فكيف يُقبَل هنا؟!
وخامساً: أنَّ ما ذكره ابن حجر لا يحتجُّ به من وجوه:
أحدهما: عدم وثاقة ابن حجر عندنا، خصوصاً فيما يرتبط بنا.
ثانيها: ولو تنزَّلنا فعليُّ بن الحكم المنقول عنه تعظيم الصدوق للحسين مجهول.
ثالثها: ولو تنزَّلنا فلا مثبت لصحَّة نسخة كتابه (مشايخ الشيعة) الواصلة إلى ابن حجر.
رابعها: يحتمل احتمالاً معتدّاً به رجوع الضمير إلى كتاب الفرائض الذي أجاد فيه الحسين دون نفس الحسين.
خامسها: ولو تنزَّلنا وقلنا بثبوت ذلك كلِّه ورجوع الضمير إلى الحسين، فيردُّه ما تقدَّم من عدم ثبوت اتِّحاده مع الحسن المكتّب، ومجرَّد احتماله لا ينفع كما هو أوضح من أن يُوضَّح.
الوجه الثاني: تفرُّد الحسن بنقل التوقيع، وتفرُّد الصدوق بنقله عن الحسن.
بيانه: أنَّ الحسن صرَّح بأنَّ السَّمري أطلع الناس على التوقيع، وأنَّ الناس قد نسخوه ولم ينفرد هو بنسخه، وأنَّهم عادوا إليه بعد ذلك وحضـروا وفاته، قال في أوَّل الرواية: (فأخرج إلى الناس توقيعاً...)، وقال في آخرها: (فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه...).
فإنَّه صريح في أنَّ السَّمريَّ أطلع الناس على هذا التوقيع، كصـراحته في أنَّهم نسخوه عنه، ولازم قرب عهد الصدوق من السَّمري - إذ ليس بينهما إلَّا واسطة واحدة - أن يرويه عن عِدَّة ممَّن حضـر تلك الواقعة غير الحسن، ولا أقلَّ عن راوٍ آخر غيره، والحال أنَّ الحسن قد تفرَّد بذلك، مع تضافر الدَّواعي عند غيره لنقله.
كما أنَّ الصدوق تفرَّد بنقله، إذ لم ينقله عن الحسن غيره.
وبكلمة أُخرى: أنَّ تفرُّد الصدوق بروايته عن المكتّب وتفرُّد الأخير بروايته للتوقيع أمر لا ينسجم البتَّة مع طبيعة تحمُّل التوقيع حيث كان جماعيّاً وليس فرديّاً، وكذا لا ينسجم مع طبيعة الواقعة وكونها تُمثِّل ختماً للنيابة والسفارة الخاصَّة عن آخر الأئمَّة (عليهم السلام)، ومع خطورة المضمون والتحذير الوارد في التوقيع الموجب للاهتمام والحرص الشديدين في نشره بين الشيعة.
ونظيره إشكالنا على القوم في دعوى نسيان ثالثة الوصايا التي أوصى بها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) عند احتضاره فيما سُمّي برزيَّة يوم الخميس، حيث لا ينسجم مع مكانة الموصي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهمّية وصيَّته، ولا مع طبيعة الحدث، وهو إشرافه (صلّى الله عليه وآله وسلم) على الرحيل عن هذه الدنيا وختم النبوَّة به إلى الأبد.
ولئن أمكن غضُّ النظر عن اكتفاء الصدوق بنقله عن المكتّب فقط، فلا يمكن غضُّه عن تفرُّده بنقل التوقيع من دون أن ينقله ولو واحد من المتقدِّمين عليه طبقةً أو من المعاصرين له ولو بواسطة المكتّب أيضاً.
محاولة لتحسين حال الراوي:
ولو قطعنا النظر عمَّا تقدَّم كلّه، فهل من طريق لتوثيق المكتّب؟
قد يقال بإمكان إثبات حسن حاله دون وثاقته، وذلك من خلال الروايتين اللَّتين رواهما الصدوق عنه في الباب المذكور، أعني الباب (٤٥)، وهما روايتنا محلّ الكلام الواردة برقم (٤٤) والرواية السابقة عليها برقم (٤٣).
أمَّا روايتنا ففيها دلالة على جملة أُمور:
١ - تردُّد الحسن على سفير الإمام (عليه السلام)، الظاهر في كونه اثني عشريّاً.
٢ - حضوره عند موته الدالُّ على اعتنائه به بما أنَّه سفير الإمام (عليه السلام)، لا بما هو فلان.
٣ - ثناؤه عليه بقوله: (قدَّس الله روحه) الدالُّ على توقيره لسفيره (عليه السلام) بالنحو اللائق به كسفير للإمام (عليه السلام)، وبراوٍ يُعَدُّ من المشايخ، إذ غالباً ما تصدر مثل هذه التعابير عن مثلهم.
٤ - خلوّ الرواية من كلِّ ما فيه دلالة على ما يكون في صالحه بالمرَّة، ما يُشعِر بعدم وجود ما يقتضي الكذب والوضع.
٥ - تصديق الواقع الخارجي بعد وفاة السَّمري لمضمون التوقيع، حيث لم تجتمع الشيعة على أحد بعده كما اجتمعوا على الأربعة، وكذَّبوا كلَّ من ادَّعى ذلك، ما يعني اطِّلاعهم على التوقيع.
٦ - إرسال الأعلام قديماً وحديثاً مضمون التوقيع إرسال المسلَّمات.
٧ - نقل بعض الأعلام - كالطوسي في الغيبة عند ذكره عليَّ بن محمّد السَّمري ووفاته - ذيل الرواية - (لله أمر هو بالغه) - بنحو ظاهر في قطعهم بصدوره من السَّمري.
٨ - عدم تعليق الصدوق عليه مطلقاً مع تعلُّقه بأمر غاية في الخطورة.
٩ - إجماع الطائفة على انقطاع السفارة بالسَّمري، وهو ما ينسجم تماماً مع مضمون التوقيع والتعبير فيه بــ: (الغيبة الثانية (التامَّة).
١٠ - إجماع الطائفة على أنَّ السفراء أربعة بقطع النظر عن وجود مدَّعٍ للسفارة بعدهم وعدمه، بحيث إن كلَّ من أرَّخ للمرحلة لم يزد ولم ينقص عن الأربعة.
١١ - ما ذكره أبو القاسم بن قولويه في حال أحد المنحرفين، والظاهر في إجماع الطائفة على تكذيب مدَّعي السفارة بعد السَّمري، على ما رواه الشيخ في غيبته عند ذكره لأبي بكر البغدادي ابن أخي الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري، وأبي دُلَف المجنون، قال: (أخبرني الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، عن أبي الحسن عليّ بن بلال المهلبي(١٧)، قال: سمعت أبا القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه يقول: أمَّا أبو دلف الكاتب - لا حَاطَهُ الله - فكنَّا نعرفه ملحداً، ثمّ أظهر الغلوَّ، ثُمَّ جُنَّ وسُلْسِلَ، ثمّ صار مفوِّضاً، وما عرفناه قَطُّ إذا حضـر في مشهد إلَّا استُخِفَّ به، ولا عرفته الشيعة إلَّا مدَّة يسيرة، والجماعة تتبرَّأ منه وممَّن يومي إليه ويُنمِّس به، وقد كُنّا وجَّهنا إلى أبي بكر البغدادي لـمَّا ادَّعى له هذا ما ادَّعاه، فأنكر ذلك وحلف عليه، فقبلنا ذلك منه، فلمَّا دخل بغداد مال إليه وعدل عن الطائفة وأوصى إليه، لم نشكّ أنَّه على مذهبه، فلَعَنَّاه وبرئنا منه، لأنَّ عندنا أنَّ كلَّ من ادَّعى الأمر بعد السَّمريِّ (قدس سره) فهو كافرٌ منمِّسٌ ضالٌّ مُضِلٌّ)(١٨).
فقوله: (لأنَّ عندنا أنَّ كلَّ...) الخ، ظاهر في عود الضمير إلى الشيعة، فيكون ذلك منهم إجماعاً عمليّاً على مضمون التوقيع.
١٢ - لـمَّا كان ابن قولويه مقارباً للمكتّب في الطبقة ومتقدِّماً بعض الشـيء على الصدوق فيندفع الإشكال السالف الذكر - تفرُّد المكتّب بنقل التوقيع -، فإنَّ عبارة ابن قولويه مطابقة نتيجةً لمضمون التوقيع، ومن البعيد جدّاً أن يكون قد استفاده من رواية الصدوق في كمال الدين بعد تعبيره بلفظ: (عندنا) الظاهر في الإجماع كما قلنا.
ولو سلَّمنا تفرُّد الكاتب برواية التوقيع ولم يشاركه أمثال ابن قولويه - ولو في نقل النتيجة - فهو لا يختلف عن كثير من الأحاديث التي سمعها جماعة وتفرَّد بنقلها واحد منهم لأسباب نجهلها.
١٣ - استبعاد أن يخطر تحديد التكذيب بخروج السفياني ووقوع الصيحة ببال أيِّ راوٍ.
هذا كلُّه بلحاظ الرواية (٤٤)، أعني التوقيع.
وأمَّا الرواية (٤٣) فهي ما رواه المكتِّب من الدعاء المعروف الذي يُدعى به في زمن الغيبة، قال في كمال الدين: حدَّثنا أبو محمّد الحسين بن أحمد المكتّب، قال: حدَّثنا أبو عليِّ بن همّام بهذا الدعاء، وذكر أنَّ الشيخ العمري (قدَّس الله روحه) أملاه عليه وأمره أن يدعو به، وهو الدعاء في غيبة القائم (عليه السلام): «اللّهمّ عرِّفني نفسك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللّهمّ عرِّفني نبيَّك فإنَّك إن لم تُعرِّفني نبيَّك لم أعرف حجَّتك، اللّهمّ عرِّفني حجَّتك فإنَّك إن لم تُعرِّفني حجَّتك ضللت عن ديني...» الدعاء بطوله.
وهنا أمران:
الأوَّل: أنَّ الوارد في هذه الرواية: (الحسين) بدلاً من (الحسن)، وبعد الجزم بوحدة الراوي فلا ثمرة في تشخيص كون الاشتباه أو التصحيف حاصلاً في هذه الرواية أو تلك، وبعد استبعاد كونه الحسين بن إبراهيم المؤدِّب.
الثاني: اشتمال الرواية على قرائن تساعد على حسن حاله:
١ - قوله بأنَّ العمري أمر ابن همّام بأن يدعو بهذا الدعاء، فإنَّه كما يدلُّ على اعتناء العمري بابن همّام كذلك يدلُّ على اهتمام الأخير بصاحبنا.
ويُؤيِّده: أنَّ انفراده بنقل الدعاء يُبعِد احتمال أخذه من غيره ونسبته إلى ابن همّام كذباً.
٢ - مناسبة مضامين الدعاء لما يقتضيه التوقيع بشكل يدلُّ على أنَّهما من منبع واحد ومنهل فارد، فهما متلائمان كمال التلائم، ما يشير - إن لم يدلّ - إلى انقطاع الرجل إلى أصحابه (عليه السلام).
٣ - عمل الطائفة بالدعاء من دون تشكيك بصدوره، مع أنَّه منحصر بطريق المكتّب. فتأمَّل.
٤ - ثناؤه على العمري نائب الإمام (عليه السلام) كثنائه على السَّمري وما يكشف عنه.
والمحصَّل من كلِّ ذلك: أنَّ المناسب بعد ملاحظة مجموع ما ذُكِرَ في حقِّ الرجل هو الحكم بحسن حاله، والله تعالى أعلم بواقع حاله.
المقام الثاني: تحقيق حال التوقيع دلالةً:
وقع الكلام في المراد من تكذيب مدَّعي المشاهدة، ويمكن أن نذكر له عدَّة احتمالات:
الأوَّل: أنَّ المراد تكذيب مطلق المشاهدة تكذيباً حقيقيّاً، بمعنى عدم وقوعها خارجاً لأيِّ أحد قبل خروج السفياني والصيحة، ولازمه كذب مدَّعيها مطلقاً مهما كانت مرتبته وغرضه.
الثاني: أنَّ المراد عدم ترتيب الأثر على دعوى المشاهدة، لا التكذيب الحقيقي، نظير قوله (عليه السلام): «كذِّب سمعك وبصـرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسّامة وقال لك قولاً فصدِّقه وكذِّبهم»، فإنَّ المقصود من تكذيب الخمسين مؤمناً ليس التكذيب الحقيقي كما هو بديهيٌّ، بل المقصود عدم ترتيب الأثر على قولهم.
الثالث: أنَّ المراد تكذيب المشاهدة المقرونة بدعوى معرفته (عليه السلام) حين المشاهدة، وليس المراد تكذيب مطلق المشاهدة حتَّى التي تحصل المعرفة بعدها، وإلَّا فإنَّ كثيراً ممَّن ثبتت مشاهدتهم له (عليه السلام) قد عرفوه بعد المفارقة.
الرابع: أنَّ المراد نفي الرؤية المتكرِّرة، دون المرَّة أو المرَّتين.
الخامس: أنَّ المراد تكذيب المشاهدة المقرونة بدعوى السفارة عنه (عليه السلام) وكون المشاهد رسولاً من جهته إلى الشيعة في بعض الأُمور الخاصَّة.
السادس: كالخامس، ولكن في جميع الأُمور الخاصَّة منها والعامَّة، كشأن السفراء الأربعة.
وقبل تقييم الاحتمالات المذكورة لا بدَّ من بيان الأثر المترتِّب على كلِّ واحد منها، فنقول:
أمَّا الأوَّل والثاني فيترتَّب عليهما أنَّه لو لم تنفَ المشاهدة فيهما وادَّعاها شخص فحينئذٍ يكون للمشاهد خصوصيةً ومنزلةً، لبداهة أنَّ مشاهدته (عليه السلام) شرف عظيم لا يناله إلَّا ذو حظٍّ عظيم، والمؤمنون بما أنَّهم متطلِّعون إلى رؤية الطلعة البهيَّة له (عليه السلام) فهم يميلون بشكل عفويٍّ إلى من كحَّل عينيه برؤيته، وبالتالي يسهل عليه خداعهم لو كان كاذباً.
وعلى هذا يكون الهدف من تكذيب مدَّعي المشاهدة سدَّ بابٍ لو فُتِحَ كان ما يترتَّب عليه من المحاذير أخطر وأهمّ من تكذيب مدَّعيها.
ويترتَّب على خصوص الثاني - مضافاً إلى ما تقدَّم - التفريق في الحكم الشـرعيِّ بين المدَّعي ومن سمع دعواه، أمَّا السامع فيجب عليه تكذيبه مطلقاً حتَّى لو علم أنَّه من الصادقين، فيكون تكذيبه حكماً تكليفياً مستقلّاً غير مرتبط بصدق المدَّعي الخاصِّ وكذبه، بل يرتبط بمنع تلك المفسدة ولو على حساب تكذيب الصادق، من باب التزاحم الحفظي، أو حسماً لمادَّة الفساد.
وأمَّا حكم مدَّعي المشاهدة فيجب عليه الكتمان حتَّى لو كان صادقاً، لحرمة إذلاله لنفسه بتعريضها لتكذيب المؤمنين له، فإن عصى وأظهر فلا يلومنَّ إلَّا نفسه.
ومن حال هذين الاحتمالين يتَّضح أنَّ ما يترتَّب على الثالث أشدُّ وأخطر ممَّا يترتَّب عليهما، لوضوح الفارق بينه وبينهما، فإنَّ من يلقى الإمام (عليه السلام) وهو يعلم أنَّه هو لا بدَّ أن يكون أعلى منزلةً عنده (عليه السلام) ممَّن يلقاه ولا يعرفه إلَّا بعد مفارقته، فإن لزم تكذيب مدَّعي المنزلة الأدنى فبالأولى يلزم تكذيب مدَّعي الأعلى منها.
كما يتَّضح شدَّة خطورة الرابع، فإنَّ من تكون مشاهدته له (عليه السلام) متكرِّرة لا بدَّ أنَّه يكون ممَّن يأنس به (عليه السلام) ويعتمد عليه، ولا يخفى ما فيه من خطورة بالغة لو صُدِّق وهو كاذب.
وأمَّا الأخيران - لاسيّما السادس - فلا يخفى ما يترتَّب عليهما من أثرٍ متناهٍ في الخطورة لا حاجة إلى بيانه.
تقييم الاحتمالات الستَّة:
إذا عرفت ما تقدَّم فنقول: أمَّا الاحتمال الأوَّل فيدعمه كونه الأنسب بمعنى الغيبة الكبرى، فإنَّ الاتِّصال به (عليه السلام) في عصـر الغيبة الصغرى لـمَّا لم يكن إلَّا بالواسطة فالمناسب في زمن الكبرى عدم الاتِّصال حتَّى بالواسطة فضلاً عن الاتِّصال المباشر المعبَّر عنه بالمشاهدة.
ولكن يدفعه أنَّه يكفي في الفرق بين الغيبتين ارتفاع السفارة والنيابة عنه (عليه السلام) بالنحو الذي كان للأربعة، مضافاً إلى ما يأتي من قرائن في صالح الاحتمال السادس. على أنَّه منقوض بما نقله بعض الأعلام من الأخبار العديدة الواردة في وقوع المشاهدة كما تقدَّمت الإشارة إلى ذلك.
وأمَّا الثاني فيدعمه أنَّه وجه من وجوه الجمع بين ما يقتضيه التوقيع من تكذيب مدَّعي المشاهدة ودلالة الأخبار العديدة على تحقُّقها لعدد ليس بالقليل.
ولكن يدفعه ما يدفع الأوَّل من القرائن لصالح الاحتمال السادس، مضافاً إلى جريان سيرة الأعلام على قبول دعوى المشاهدة في الجملة من غير نكير منهم، مع ما هم عليه من الورع والحرص على عقيدة المؤمنين، لاسيّما الضعفاء منهم.
وتحفُّظُهُم غالباً بعدم تشخيص من تحقَّقت له المشاهدة هو ممَّا تقتضيه الحكمة، وليس إنكاراً منهم لتحقُّقها.
وأمَّا الثالث فلا شاهد يدعمه. وعدمُ تعرُّفِ من أخبر بمشاهدته على هويَّته إلَّا بعد المفارقة لا ينفي أن بعضاً ممَّن لم يُخبِر عن ذلك قد عرفه (عليه السلام) حين المشاهدة.
على أنَّ أصل المحذور في تصديقه موجود على كلِّ حال سواء ادَّعى معرفته حينها أم بعدها وإن كان المحذور في دعوى المعرفة حينها أشدَّ منه في دعوى المعرفة بعدها.
فمن تلك المحاذير دعوى أنَّ الإمام (عليه السلام) قد كلَّفه بوظيفةٍ ما، وأنَّ على الشيعة أن تطيعه، أو كلَّفه بنقل أمر منه إليهم، ومن المعلوم أنَّ أمره (عليه السلام) - على تقدير صدروه - واجب الطاعة، سواء كان الناقل قد عرف هويَّته (عليه السلام) حين المشاهدة أم بعدها.
وأمَّا الرابع والخامس فمخالفان للظاهر، فإنَّ المنفي مطلق المشاهدة الصادقة على الرؤية لمرَّة واحدة، وعلى غير المقرونة بدعوى النيابة في أمر أو أُمور خاصَّة.
وأمَّا السادس فهو وإن كان مخالفاً للظاهر أيضاً إلَّا أنَّ هناك قرائن تساعد عليه:
أحدها: أنَّه (عليه السلام) نفى المشاهدة في مقام التصـريح بختم السفارة والنيابة عنهعليه السلام على غرار سفارة الأربعة، حيث قال (عليه السلام): «... ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك»، أي: يقوم مقامه في السفارة والنيابة عنه (عليه السلام)، ثمّ علَّل ذلك بقولهعليه السلام: «فقد وقعت الغيبة الثانية...»، إلى أن قال: «ألَا فمن ادَّعى المشاهدة»، أي: بنحو السفارة «قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذبٌ مفترٍ...».
ثانيها: أنَّ قوله (عليه السلام): «وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة» لا يتناسب إلَّا مع دعوى السفارة والمرسوليَّة من قِبَله (عليه السلام) إلى الشيعة، ولا يشمل من خصَّ مؤمناً بينه وبينه يُخبِره بمشاهدته له (عليه السلام)، ولا يصدق عليه أنَّه أتى الشيعة بذلك، وإلَّا لكان المناسب أن يحذف هذه الجملة برمَّتها.
ثالثها: الأخبار العديدة الواردة في وقوع المشاهدة المجرَّدة من دعوى السفارة لكثير من المؤمنين، ولعلَّ من بينهم جملة من العلماء المعروفين كأبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه وابن طاووس، كما ذكر صاحب البحار(١٩).
ومقتضى الجمع بين الأخبار الكثيرة الدالّة على حقِّ المشاهدة خارجاً وبين نفي التوقيع لها: أن نحمل المشاهدة المنفية على المشاهدة المخصوصة، وهي المقرونة بدعوى السفارة لا مطلقاً وفاقاً للعلَّامة المجلسي (رضي الله عنه) كما نقلنا عنه.
وبهذا يتعيَّن إرادة الاحتمال السادس، وبتنقيح المناط يمكن الشمول للخامس.
بتقريب: أنَّ التوقيع لو خصَّ النفي بالسفارة في الأُمور العامَّة، فلازمه إمكان قبول دعوى السفارة في بعض الأُمور الخاصَّة، مع أنَّ أصل المحذور موجود أيضاً، وهو متابعة المؤمنين لمدَّعٍ في بعض الأُمور الخاصَّة، ولمدَّعٍ آخر في بعض آخر، ولثالث في بعض ثالث، لأنَّ لازم جواز قبولها من أحدهم جواز قبولها من غيره، وهكذا يكثر المدَّعون فيقع محذور كالمحذور الذي يلزم من ادِّعاء السفارة في الأُمور العامَّة أو قريب منه.
والحاصل: أنَّ أنسب الاحتمالات المذكورة هو الأخير، أي نفي المشاهدة المقرونة بدعوى السفارة مطلقاً سواء في الأُمور العامَّة أو الخاصَّة.
احتمال سابع في المقام:
يمكن أن يقال: إنَّ المراد بالمشاهدة المنفيَّة شيءٌ آخر غير ما تقدَّم من الاحتمالات الستَّة، وهو دعوى القيام والظهور التامّ للإمام (عليه السلام) نفسه.
والوجه في ذلك: أنَّه (عليه السلام) بعد تعليله عدم الوصيَّة إلى أحد بقوله: «فقد وقعت الغيبة الثانية (خ ل - التامَّة)»، قال مفرِّعاً: «فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ)»، أي: فلا ظهور له (عليه السلام) قبل الإذن الإلهي به، ثمّ أخذ يذكر (عليه السلام) بعض شرائط الظهور والتي يمكن أن تكون شرائط للإذن الإلهي فقال: «وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً»، ثمّ قال (عليه السلام): «وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة» أي: ورغم أنَّه لا ظهور إلَّا بعد تحقُّق ما ذُكِرَ من شرائط فسوف يأتي شيعتي من يدَّعي ظهوري قبل تحقُّق شرائطه، ويدَّعي أنَّه قد شاهدني بعينه، فتكون دعوى المشاهدة طريقاً لإثبات الظهور التامّ، أعني كدليل يقيمه مدَّعي الظهور على صدق دعواه، كما يصنع من ينسب فعلاً ما إلى شخص إذا طولب بالدليل على صدقه فيقول: (أنا رأيته بعيني يصنع كذا وكذا)، ثمّ بيَّن (عليه السلام) حكم من يفعل ذلك بقوله: «ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذبٌ مفترٍ...»، ومن المعلوم أنَّ الذي يقع بعد خروج السفياني والصيحة هو الظهور التامُّ لا مجرَّد المشاهدة، بل لا معنى لأن يأتي الشيعة من يدَّعي المشاهدة بعد الظهور المبارك، فإنَّها أشبه بمن ينادي في الناس في وضح النهار: إنَّ الشمس قد طلعت!
ويُؤيِّده: أنَّ الوارد في نسخةٍ بدلاً من كلمة (الثانية) كلمة (التامَّة)، فإنَّها أنسب بتفريع نفي الظهور بقوله: «فلا ظهور»، أي: لأنَّها غيبة تامَّة فلا يكون هناك ظهور إلَّا بعد ما ذُكِرَ من الإذن الإلهي وطول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً.
وعلى هذا يكون المقصود من قوله (عليه السلام): «وسيأتي شيعتي...» الخ: أنَّه رغم تصـريحي بوقوع الغيبة التامَّة وأنَّه لا ظهور لي قبل خروج السفياني ووقوع الصيحة سيأتي شيعتي من يدَّعي الظهور وأنَّه قد شاهدني، وبناءً على هذا فمن جاءكم يدَّعي ظهوري قبل ذلك فهو كاذبٌ مفترٍ.
الجهة الثانية: تحقيق الحال في وقوع المشاهدة خارجاً وعدمها:
تقدَّم أنَّ مشاهدة الحجَّة (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى بمعنى رؤيته أمر مقطوع به لتواتر الأخبار في ذلك حتَّى بعد حذف الروايات التي لا تدلُّ على أنَّ من شوهد هو الحجَّة (عليه السلام) نفسه لاحتمال أن يكون أحد الأولياء والصالحين.
بيان ذلك: أنَّ التواتر عبارة عن إخبار جماعة يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب، كتواتر قتل الحسين (عليه السلام) يوم العاشر من محرَّم الحرام من سنة إحدى وستّين للهجرة، فإنَّ الناقلين لهذا الخبر جماعة من الفريقين كثيرة حتَّى من بني أُميَّة لعنهم الله، ومن المحال في العادة أن يتواطأ - يتَّفق - الموالي والمعادي على الكذب في هذه القضيَّة.
والتواتر على أقسام ثلاثة:
الأوَّل: التواتر اللفظي، وهو تطابق الأخبار في ألفاظ الحديث.
وهذا إن كان له مصداق في الأخبار فهو نادر جدّاً.
الثاني: التواتر المعنوي، وهو تطابقها في المعنى دون اللفظ.
وهذا كثير في الأخبار، كحديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث الثقلين، وغيرها كثير، فإنَّ كلَّ واحد منها نُقِلَ بعدَّة طرق مع تفاوتٍ في اللفظ كثير أو يسير مع الاتِّفاق في المعنى.
ومنه حديث النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في ظهور رجل من أهل بيته - وهو المهدي (عليه السلام) - في آخر الزمان فيملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
الثالث: التواتر الإجمالي، وهو نقل جملة من الأخبار يُقطَع بصدور ولو واحد منها، وكان تشترك - جميعها - في لازم من اللوازم، فيُقطَع بثبوت ذلك اللازم.
ومن أمثلته شجاعة عليٍّ (عليه السلام) وقتله للأبطال المشهورين، فإنَّ الأخبار في ذلك متواترة إجمالاً، بمعنى أنَّها جميعاً تثبت بالدلالة الالتزاميَّة أنَّه (عليه السلام) كان شجاعاً، فيُقطَع آنذاك بشجاعته، لأنَّنا مهما طرحنا من تلك الروايات فإنَّ العاقل يقطع أو يطمئنُّ بصدور ولو واحد منها، وهو كافٍ في إثبات شجاعته، كما لو اختلف جملة من الرواة في عدد من قتل (عليه السلام) في إحدى المعارك، بأن أخبر أحدهم بأنَّه قتل مائة من الفرسان الأبطال، وأخبر آخر بأنَّه ما قتل مائة بل تسعين، وأخبر ثالث بأنَّهم كانوا ثمانين لا مائة ولا تسعين، وهكذا، فإنَّ الروايات الثلاث تشترك في أنَّه (عليه السلام) قتل ثمانين من الفرسان الأبطال، وهذا لا شكَّ في دلالته على شجاعته وخبرته في القتال.
إذا عرفت هذا فاعلم أنَّ وقوع المشاهدة في زمن الغيبة الكبرى ممَّا تواترت به الأخبار تواتراً إجماليّاً، بمعنى أنَّ كلَّ عاقل لو اطَّلع على تلك الأخبار لقطع أو اطمأنَّ بصدق ولو بعضها.
وهو كافٍ في إثبات المطلوب، إذ المطلوب إثبات المشاهدة بنحو القضيَّة الموجبة الجزئية في مقابل السالبة الكلّية كما نُسِبَت إلى بعض ممَّن علَّل عدم الوقوع بنفي وجود خصوصيَّة لفلان وفلان المقتضية لحصول المشاهدة واللقاء، فكان نفيه للخصوصيَّة أقبح من نفيه للمشاهدة، وإلَّا فحتَّى أجهل الناس يعلم ويقطع بأنَّ العباد متفاوتون في منازلهم عند الله تعالى، وبالتالي عند المعصومين (عليهم السلام)، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات: ١٣)، ولو اكتفى بتشبُّثه بالتوقيع المزبور على أحد الوجوه المتقدِّمة لكن أجدر وأقرب إلى القبول.
وعلى أيَّة حالٍ: فقد نقل جملة من الأعلام كثيراً من الأخبار التي دلَّت بشكل صريح على حصول اليمن بلقائه (عليه السلام)، فبعض ضمَّنوها في بعض تأليفاتهم، وبعض أفرد فيها كتاباً مستقلّاً.
وبعد هذا فلا مجال لإنكار وقوع المشاهدة في زمن الغيبة الكبرى، نسأله تعالى أن يُكحِّل ناظرنا الآثم ليطهر برؤيته الميمونة.
إلَّا أنَّ المهمَّ في مقامنا هو بيان الوظيفة الشـرعية - بل الاعتقادية أيضاً - لغير من تحقَّقت له المشاهدة، وما هو الموقف الذي يتحتَّم عليه، وهو ما سيتَّضح في بحث الجهة الآتية.
الجهة الثالثة: وظيفتنا تجاه دعاوى المشاهدة:
تأسيس الأصل:
وقبل بيان مقتضـى الدليل الاجتهادي لا بدَّ من بيان مقتضـى الأصل والقاعدة في المقام، وهي تقتضي عدم المشاهدة مهما كان تفسيرها، ومعه فعلى مدَّعيها إقامة الدليل.
ومنه يتَّضح الإشكال في قول بعض المدافعين عن بعض المدَّعين اليوم من أنَّ التوقيع لا يصلح دليلاً على نفي المشاهدة، بدعوى ضعفه سنداً وإجماله دلالةً.
وجوابه من وجوه:
أحدها: أنَّ التوقيع إن لم يكن تامَّ السند أو الدلالة بنفسه فهو تامٌّ بضميمة غيره إليه، فهو من قبيل الضعيف المحفوف بقرائن تدلُّ على صدوره واعتباره، فلاحظ ما ذكرناه من قرائن في صالح التوقيع سنداً ودلالةً.
ثانيها: أنَّ الدليل النافي لا ينحصر بالتوقيع المذكور، كما سيأتي.
ثالثها - وهو الأهمُّ -: أنَّ نفي المشاهدة لا يحتاج إلى دليل أصلاً بعد كونه مقتضـى الأصل، والذي يحتاج إليه إنَّما هو دعوى المشاهدة.
هذا مضافاً إلى أنَّه يلزم أن يكون في الدليل من القوَّة ما يتناسب مع حجم الدعوى، فمن يدَّعي المشاهدة بمعنى السفارة ليس كمن يدَّعيها مجرَّدةً عن هذا المعنى، ومن يدَّعي السفارة المطلقة ليس كمن يدَّعيها في أمر خاصٍّ، ومن يدَّعي حصول المشاهدة مراراً ليس كمن يدَّعي حصولها مرَّة واحدة فقط، وعلى هذا فقس بقيَّة الدعاوى.
الرابع: الأولوية، فإنَّ من الشائع بين الناس دعاوى رؤية المعصومين (عليهم السلام) في المنام، ومن الشائع أيضاً هو تكذيب كثير منهم أو التشكيك من قِبَل المؤمنين - لاسيّما العلماء الربّانيين - في أنَّ من رأوه هو المعصوم الفلاني، وذلك لوجوه عديدة وقعت محلّاً للكلام(٢٠)، فإذا كان هذا حال من يدَّعي رؤية المعصوم (عليه السلام) في منامه فما بالك بمن يدَّعي رؤيته في اليقظة، لاسيّما إذا اقترنت دعوى الرؤية بما هو أكبر منها، كدعوى السفارة وما أشبه؟!
الخامس: الاعتبار، فإنَّ ممَّا حثَّ عليه الكتاب العزيز والسُّنَّة المطهَّرة وجرت عليه سيرة العقلاء وحكم به العقل أن يعتبر الإنسان ويتَّعظ من الحوادث الواقعة قديماً وحديثاً، ليستفيد من ذلك في مستقبل أيّامه، ولو رجعنا إلى التاريخ فكم سجَّل بين صفحاته من دعاوى كاذبة وجريئة ترتبط بالقضيَّة المهدويَّة، وكم راح ضحيَّتها من العوامِّ والسُّـذَّج.
ومن هنا يلزم أن يكون الأصل لدى المؤمنين أعزَّهم الله هو عدم تصديق المدَّعين ما دام يحتمل احتمالاً وجيهاً أن يكونوا كغيرهم من الكذَّابين ممَّن سبقهم، لاسيّما وأنَّ هذا الأمر يرتبط بمصيرهم في الدين والآخرة، فإمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النار، ولاتَ حين مندم.
ومن كلِّ ذلك يتَّضح: أنَّ الأصل في وظيفة المؤمنين - حفظهم الله - تجاه دعاوى المشاهدة هي عدم ترتيب الأثر عليها مطلقاً، إلَّا إذا جاء عليها المدَّعي بدليل يتناسب وحجمها، بحيث يذعن له جميع العقلاء، وخصوصاً الربّانيون من العلماء.
وأمَّا ما يقتضيه الدليل الاجتهادي فهو عدم ترتيب الأثر على ذلك أيضاً، لوجوهٍ منها عامَّة ومنها خاصَّة.
أمَّا العامَّة فكقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَـرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً﴾ (الإسراء: ٣٦)، وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾ (يونس: ٣٦)، وغيرهما من الآيات الناهية عن اتِّباع غير العلم، أو الذامَّة لاتِّباع الظنِّ.
وقوله (عليه السلام) في مقبولة عمر بن حنظلة: «... وإنَّما الأُمور ثلاثة: أمرٌ بَيِّنٌ رُشدُهُ فَيُتَّبَعُ، وأمرٌ بَيِّنٌ غَـيُّـهُ فَيُجتَـنَب، وأمرٌ مُشكِلٌ يُرَدُّ علمُهُ إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله: حلالٌ بَيِّنٌ وحرامٌ بَيِّنٌ وشُبُهاتٌ بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرَّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرَّمات، وهلك من حيث لا يعلم...» الحديث(٢١).
وقوله (عليه السلام) في آخر الحديث السابق: «... فإنَّ الوقوف عند الشُّبُهات خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكَات...».
ومن ذلك ما جاء في باب الشهادات وأنَّه لا تُقبَل الشهادة إلَّا إذا كانت عن علم ويقين مهما كانت القضيَّة المشهود عليها، كالنبويِّ المروي في كتب الفريقين من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقد سأله سائل عن الشهادة: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد، أو دَعْ»(٢٢)، وقوله (عليه السلام): «لا تشهدنَّ بشهادة حتَّى تعرفها كما تعرف كفَّك»(٢٣)، وغيرهما.
فإذا كانت الشهادة لا تُقبَل على أهون الأُمور إلَّا أن تكون بعلم، فكيف تُقبَل في أخطرها؟!
وأمَّا الخاصَّة فيصعب إحصاؤها بحيث تغني كثرتها الكاثرة عن النظر في أسانيدها(٢٤).
فمنها: ما رواه المفضَّل بن عمر عن إمامنا الصادق (عليه السلام)، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إيّاكم والتنويه، أمَا والله ليغيبنَّ إمامُكم سنيناً من دهركم، ولَتُمَحَّصُنَّ حتَّى يقال: مات، قُتِلَ، هلك، بأيِّ وادٍ سلك؟ ولَتَدْمَعَنَّ عليه عيون المؤمنين، ولَتُكْفَأُنَّ كما تُكْفَأُ السفن في أمواج البحر، فلا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيَّده بروح منه، ولَتُرْفَعَنَّ اثنتا عشـرة رايةً مشتَبَهةً لا يُدرَى أيٌّ من أيٍّ»، قال: فبكيت، ثمّ قلت: كيف نصنع؟ قال: فنظر (عليه السلام) إلى الشمس داخلة في الصُّفَّة فقال: «يا أبا عبد الله، ترى الشمس؟»، قلت: نعم، قال: «والله لأمرنا أبين من هذه الشمس»(٢٥).
إنَّ مضمون هذه الرواية متطابق تماماً مع العقل والنقل كتاباً وسُنَّةً، فلا يضـرُّها لو ناقش بعض في سندها من جهة المفضَّل.
وإنَّما ذكرتها لنكتة لا تخفى على الخبير، وهي: أنَّ الله تعالى يقول: ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ﴾ (الأنعام: ١٤٩)، يعني: الواصلة، ولا تكون كذلك مع الاشتباه، ولذا فلا بدَّ من أن يكون الحقُّ أبلج واضحاً، ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾ (النساء: ١٦٥)، ولا يمنع من أن يكون الوضوح مختصّاً بمن عرف الحقَّ من أوَّل الأمر فلا يلتبس عليه لو اشتبه على الناس في آخره.
فعليك بالتدبُّر في مضمون هذه الرواية جيِّداً آخذاً بالاعتبار ما ذكرت لك، فإنَّه يشتمل على مطلب نفيس من جهة، وخطير - غاية الخطورة - من جهة أُخرى.
ومنها: ما دلَّ على أنَّه (عليه السلام) عندما يقوم فإنَّه يقتل سبعين رجلاً من الكذّابين يدَّعون ما يدَّعون، فإنَّه موجب للاحتياط عقلاً ونقلاً، ووجوب شدَّة التثبُّت في قبول أيِّ دعوى من الدَّعاوى بعد إمكان أن يكون المدَّعي أحد هؤلاء المشار إليهم. ففي غيبة النعماني بسنده عن أمير المؤمنين أنَّه قال لمالك بن ضمرة: «كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا - وشبك أصابعه وأدخل بعضها في بعض -؟»، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عند ذلك من خير؟ قال: «الخير كلُّه عند ذلك يا مالك، عند ذلك يقوم قائمنا فيُقدِّم سبعين رجلاً يكذبون على الله وعلى رسوله فيقتلهم...»(٢٦).
ومنها: الواقع الخارجي، فكم ظهر من كذّابين وأدعياء لا يحصون كثرةً في هذا المجال بالخصوص، أعني فيما يرتبط بالمهدي (عليه السلام).
والحاصل: أنَّ ثبوت نفس المشاهدة ووقوعها شيءٌ، وإثباتها لمدَّعيها شيءٌ آخر، وهو أمر دونه خرط القتاد، وإلَّا فمن السهل أن يدَّعي شخص أنَّه رآه (عليه السلام) وكحَّل ناظريه بطلعته الميمونة، ولكن أنَّى له أن يُثبِت ذلك، أو يُثبِته له غيره بعد احتمال كذبه كائناً من كان؟!
إن قلت: هذا لا ينطبق على الصالحين، فلو ادَّعى أحدهم المشاهدة وجب تصديقه، لحصول الاطمئنان بصدقه، فصلاحه دليل صدقه.
قلت: لا عبرة بالصلاح السابق على الدَّعوى، لاحتمال انحراف المدَّعي قُبيل إظهارها، كشأن من حدَّثنا عنهم التاريخ وكتب التراجم والرجال ممَّن كانوا في ظاهر الأمر من الصالحين، ثمّ بدى منهم ما بدى، حتَّى خرج من الناحية المقدَّسة الأمر بلعنهم، كالشلمغاني والعبرتائي وغيرهما ممَّن يُعَدُّون في أهل العلم.
أمَا في هذا عبرةٌ وحاجز يحجز المؤمنين عن الاقتحام في الشُّبهة من هذه الناحية؟!
وبعبارة أُخرى: إنَّ الصلاح الذي يستلزم الصدق إنَّما هو الصلاح الحقيقي الذي لا يعلمه إلَّا الله ومن أطلعه الله (عزَّ وجلَّ) عليه، ولا عبرة بالصلاح الذي يبدو لنا في ظاهر الحال.
ولا مجال لاستبعاد انحراف أيِّ شخص بعدما ثبت خارجاً قديماً وحديثاً انحراف جملة من العلماء والصالحين ممَّن لم تكن الأُمَّة تتوقَّع ذلك منهم.
بل ينبغي لكلِّ مؤمن عاقل أن لا يستبعد ذلك من أحد بعد وقوع الانحراف بين بعض أولاد الأئمَّة (عليهم السلام)، ولكنّا قد ابتلينا بأُمَّة لا تقرأ تاريخها وهي تمرُّ على آياته تعالى والتي تحثُّ على النظر والتأمُّل في أحوال الذين خلوا من قبل، فإنَّ الغرض من ذلك هو أخذ العبرة منهم، وعدم الوقوع فيما وقعوا فيه، وإلَّا فليس القرآن كتاباً أدبيّاً يسرد القصص للترفيه والاستمتاع بها(٢٧).
ولو تنزَّلنا فذلك يختصُّ بمن عُرِفَ بين الناس بصلاحٍ على درجة عاليةٍ منه جدّاً، بحيث يحصل الاطمئنان بصدقه عند العلماء الربّانيين، ولا يكفي حصوله للعوامِّ، فإنَّهم يطمئنون لأدنى شيءٍ، ويُسلِّمون قيادهم لأمثال هؤلاء بكلِّ سهولة.
ولا ضير في الالتزام بذلك، ولازمه عدم جواز قبول دعوى مجهول الحال مهما حاط نفسه أو حاطه أتباعه بهالة من التقديس.
على أنَّ من كان بتلك المثابة من الصلاح لا يفصح عن المشاهدة في العادة، لأنَّ الإفصاح لا موجب له من جهة، ويجرُّ إلى ما لا تُحمَد عقباه من جهة أُخرى، نعم لا بأس بالإفصاح لطبقة خاصَّة تثبيتاً لقلوب المؤمنين.
بل يمكن القول: إنَّ وظيفة من شاهده (عليه السلام) هي عدم الإفصاح، وأنَّه لو أفصح فوظيفتنا نحن تجاهه هي تكذيبه وإن كان صادقاً واقعاً، نظير ما صدر من تكذيب الأئمَّة (عليهم السلام) لبعض رواة الشيعة حينما حدَّثوا عنهم (عليهم السلام) بما نهوا عن التحديث به، فكذَّبوهم أمام الناس رغم أنَّهم صدقوا فيما نقلوا عنهم (عليهم السلام)، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «إنّي لأُحدِّث الرجل الحديث فينطلق فيُحدِّث به عنّي كما سمعه فاستحلَّ به لعنه والبراءة منه»(٢٨).
والنتيجة: أنَّه لا يجوز ترتيب الأثر على دعوى المشاهدة مطلقاً، بل لا يبعد جواز تكذيب صاحبها حتَّى لو عُلِمَ صدقه واقعاً، بل ربَّما يجب أحياناً، كما لو اطمأنَّ المكلَّف بترتّب مفسدة عظمى على ترك تكذيبه، والتفكيك في الأحكام ليس بعزيز(٢٩).
نعم لو كان المدَّعي معروفاً في أوساط الأُمَّة عموماً والعلماء الربّانيين خصوصاً أنَّه في أعلى درجات الصلاح والورع والتقوى واقعاً لا ظاهراً فقط فلا يبعد جواز تصديقه لو ادَّعى المشاهدة، لكنه مجرَّد فرض يصعب حصوله، والذي يمكن حصوله هو ما كان فاقداً لأحد الأمرين، فإمَّا أن يشاهده (عليه السلام) صالح بتلك الدرجة من الصلاح والورع، ولكن مثل هذا يكتم الأمر ولا يفصح عنه حتَّى لو كان في ذلك ذهاب حياته، وإمَّا طالح دجّال جريءٌ في إظهار دعوى المشاهدة كذباً وزوراً طمعاً في المكانة العظيمة في نفوس الناس لاسيّما الأغمار منهم والسُّذَّج، ومثل هذا كثير، ولعلَّ من ظهر منهم أقلُّ ممَّن لم يظهروا بعد وهم ينتظرون الفرصة السانحة لإظهار دعواهم، وكالعادة سوف تجد لها عدداً ليس بالقليل ممَّن يُصدِّق بها من الجهلة.
نسأله تعالى أن يديم علينا نعمة العقل، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، آخذين بمحكم كتابه، مستضيئين بنور بيِّنات نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلم)، معتصمين بهدي آل بيته (عليهم السلام)، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
الهوامش:
(١) رجال الكشّي: ١٢٨.
(٢) بحار الأنوار ٣٧: ٣.
(٣) كمال الدين: ٤٢/ طبعة الأعلمي.
(٤) كمال الدين: ٤٦/ طبعة الأعلمي.
(٥) إكمال الدين وتمام النعمة/ الباب ٤٥/ الحديث ٤٤/طبعة دار الكتب الإسلاميَّة: ٥١٦؛ وطبعة مؤسَّسة النشـر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم: ٥١٦، وكلا الطبعتين بتصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاري؛ طبعة منشورات مؤسَّسة الأعلمي: ٤٦٧.
(٦) بحار الأنوار ٥٢: ٥٣ - ٥٩؛ وفي الباب ٢٤/ ص ١٥٩.
(٧) بحار الأنوار ٥٢: ١٥١.
(٨) الغيبة: ٣٩٥؛ الثاقب في المناقب: ٦٠٣؛ الخرائج والجرائح ٣: ١١٢٨؛ بحار الأنوار ٥١: ٣٦١.
(٩) معجم رجال الحديث ٥: ٢٧٢/ برقم ٢٧٢٦.
(١٠) معجم رجال الحديث ١٥: ٢٣١/ في ترجمة محمّد بن إبراهيم بن إسحاق برقم ٩٩٦١.
(١١) الرواشح السماوية: ١٧٠/ الراشحة الثالثة والثلاثون/ مطبعة دار الحديث.
(١٢) معجم رجال الحديث ٦: ١٤٣/ في ترجمة الحسن بن محمّد بن يحيى برقم ٣١٣٣.
(١٣) قاموس الرجال ٣: ١٩٢/ برقم ١٨٤٦.
(١٤) مستدركات علم رجال الحديث ٢: ٣٤٨/ برقم ٣٣٦٢.
(١٥) لسان الميزان ٢: ٢٧١/ ترجمة الحسن بن إبراهيم بن أحمد المؤدِّب برقم ١١٢١.
(١٦) معاني الأخبار: ٣٨٧/ الحديث ٢٢.
(١٧) وسند الشيخ إلى ابن قولويه صحيح، فإنَّ عليَّ بن بلال قد وثَّقه النجاشي، قال: (عليُّ بن بلال بن أبي معاوية أبو الحسن المهلَّبي الأزدي، شيخ أصحابنا بالبصرة، ثقة، سمع الحديث فأكثر ...) الخ. (رجال النجاشي: ٢٦٥/ رقم الترجمة ٦٩٠).
(١٨) الغيبة: ٤١٢/ الحديث ٣٨٥ في ذكر أمر أبي بكر البغدادي ابن أخي الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري، وأبي دلف المجنون.
(١٩) بحار الأنوار ٥٢: ٥٨.
(٢٠) بحوث في الرؤيا والأحلام للشيخ الطبسي.
(٢١) الكافي ١: ٦٧/ الحديث ١٠.
(٢٢) وسائل الشيعة ٢٧: ٣٤٢/ ب ٢٠ من أبواب الشهادات/ ح ٣.
(٢٣) المصدر السابق: ح ١.
(٢٤) اتَّفق العقلاء والعلماء كافَّة على أنَّ الخبر المتواتر لا يتوقَّف الأخذ به على صحَّة جميع أسانيده، لأنَّه خبر جماعة يمتنع حصول التواطُؤ بينهم على الكذب فيه، نظير ما لو نقلت الفضائيّات اليوم خبراً عن حادث معيَّن بحيث توافقت فيه جميع تلك الفضائيّات حتَّى التي بينها عداء مستحكم، كما لو اتَّفقت في نقله فضائيّات إسرائيليَّة وفضائيّات إسلاميَّة معادية لإسرائيل، وفضائيّات دينية وأُخرى علمانية، وفضائيّات محافظة وأُخرى متهتِّكة، وفضائيّات شيعيَّة وأُخرى ناصبية، وهكذا.
(٢٥) الكافي ١: ٣٣٦/ باب الغيبة/ الحديث ٣.
(٢٦) الغيبة للنعماني: ٢١٤.
(٢٧) ولذا فعلى قارئ القرآن أن يُطبِّق ما نزل في بني إسرائيل - مثلاً - على نفسه، ويجعل نفسه هي المخاطبة بتلك الآيات، كما في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة: ٥)، فإنَّ المسلم الذي يقرأ القرآن ولا ينتفع به كالحمار الذي يحمل على ظهره أسفاراً ولا ينتفع بها.
(٢٨) الغيبة للنعماني: باب ١/ ح ٧.
(٢٩) كما هو الحال في الأحكام الظاهرية، وأمثلته كثيرة، منها: الحكم بطهارة اللحم المأخوذ من يد الكافر مع الحكم بحرمة أكله فيما إذا شككنا في تذكيته، مع أنَّه في الواقع لا يخرج عن أحد فرضين: فإمَّا أن يكون مذكّى أو ميتة، فإن كان مذكّى فهو طاهر ويحلُّ أكله، وإن كان ميتة فهو نجس ويحرم أكله، ولا توجد حالة ثالثة واقعاً، أي لا تجتمع الطهارة مع الحرمة، ولا النجاسة مع الحلّية، لكن مقتضى القواعد هو الحكم بطهارته وحرمته.