المسيرة الممهّدة لنداء (يا لثارات الحسين)
السيد أحمد الاشكوري
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الممتحنة: ٦)
العطايا الربّانية والرسالات السماوية هبة إلهية لتكامل البشر وإيصالهم إلى برّ الأمان والسعادة، وقد صيغت هذه المنحة بدساتير وقوانين متمثّلة بالكتاب الكريم والسُنّة الشريفة، وزيّنت هذه الحلية بياقوت الأسوة الميدانية، فكانت القصص القرآنية تحتلّ مساحة واسعة من المصحف حتَّى نزلت سورة القصص وجاءت القصَّة لا بعنوان تاريخ سردي عفوي، بل أسوة يقتدى بها، فالقصّاص هو الله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (يوسف:٣)، والمأمور بالبيان هو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: ١٧٦)، والغاية هي التدبّر والتأمّل والاعتبار والحذو بحذو الصالحين والتأسّي بهم.
ولكي تؤثّر شخصية الأسوة أثرها المنشود فرضت عناصر لها من الحبّ والمودَّة، وإبرازها وإظهارها مناراً كمقام إبراهيم وحجر إسماعيل (عليه السلام)، وأقرن بأعمال عبادية، بل توسَّعت الأسوة فصارت القبلة والمسجد والمصحف وصلاة العيد والجمعة والموقف والمسعى والمنحر لتسامي مكانة هذه الشعيرة في عقول الناس وبواطنهم ويعيشونها حيّة بمشاعرهم وأحاسيسهم بطراوة ونضارة ولذاذة.
فكان للشريعة أسلوبان: ذكر صفات الخير ترغيباً وترهيباً لتاركها، وذكر حملة تلك الصفات حتَّى ورد في رواية الإمام الحسين (عليه السلام) لسليمان بن صرد الخزاعي: (فلكم فيَّ أسوة)، فكان (عليه السلام) أسوة في إخلاصه لله تعالى، حيث قال (عليه السلام): (اللّهمّ إنَّك تعلم أنَّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسُننك وأحكامك)، وكذا هو أسوة في الصبر، قال (عليه السلام): (صبراً بني الكرام)، وأسوة في التسليم، فقد ورد في دعائه يوم عاشوراء: (اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همًّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلُّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمَّن سواك، ففرَّجته وكشفته، وأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة)، وأسوة في زهادة الدنيا، قال (عليه السلام): (عباد الله اتّقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر، فإنَّ الدنيا لو بقيت لأحد وبقي عليها أحد كانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا)، وأسوة في فنائه بالحبّ، كما ورد في دعاء عرفة على لسانه الشريف: (أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتَّى لم يحبّوا سواك، ولم يلجؤوا إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم، ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك، لقد خاب من رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحوّلاً).
فالإمام الشهيد أسوة العمل في الشجاعة والمظلومية والعبادة والدفاع عن العقيدة والقيم والعدالة والصلابة والصبر والإخلاص.
وملحمة عاشوراء رسمت لوحة مجمع القيم والمثل لا على صعيد التنظير، بل التلبّس والتجسيد والعمل، وصارت مظهر صفات الأنبياء، وأرض كربلاء نُحتت بالقداسة والشرافة، وعُرفت بأرض الشهادة والعشّاق والبيعة مع القيم وتجديد الولاء، فقد ورد في المأثور: (وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة)، وقد بيَّن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في زيارة الناحية أسوة أبي الأحرار بقوله: (كنت للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولداً، وللقرآن منقذاً، وللأمّة عضداً، وفي الطاعة مجتهداً، حافظاً للعهد والميثاق، ناكباً على سبل الفسّاق، باذلاً للمجهود، طويل الركوع والسجود، زاهداً في الدنيا زهد الراحل عنها، ناظراً إليها بعين المستوحشين منها).
فترشيح الأسوة في المعيار الربّاني وإحياء الطقوس والشعيرة السماوية كان لحكمة وأهداف نشير إلى جملة منها:
١ - تحديد الأسوة لئلاَّ تنحرف البشرية عن المصاديق الحقيقية لها، وتحديد أهدافها قولاً وعملاً، وكم من أمّة اليوم تفقد أسوتها أو تخطئ في تحديدها فانجرَّ الأمر إلى سقوط القيم، فالاختيار والبحث عن النموذج أمر فطري شعوري، فلا بدَّ من ترشيده وتفعيله.
٢ - الارتباط بالأسوة يؤمّن تهذيب النفس وتكاملها والأمان من انحرافها.
٣ - تهذيب المجتمع وتحذيره من السقوط كما سقطت تلك الأمم التي ذكرها القرآن والتاريخ والتي واجهت الأسوة الصالحة.
٤ - تنشيط الأحاسيس الصادقة والقيم العليا كالعدالة والعزّة والنصرة وكبح النفس جماحها والتعايش مع مبادئ الإمام الحسين (عليه السلام).
٥ - فضح أمراء السوء وتعريتهم وإن ألصقوا أنفسهم بعناوين مقدَّسة كخليفة الله، فالأمّة التي تملك أسوة حقّة وتعيشها لها مناعة تزوير الحكّام الظلمة، لذا إنَّ أمثال الغزالي قال: إنَّه محرَّم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكايته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم فإنَّه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين. فهم يعلمون أنَّ فتح ملف الطفّ المقدَّس يستدعي كشف ملفات وفضائح وكشف أقنعة مزيّفة.
٦ - الارتباط بالأسوة المعصومة يعني الإيمان بالمعاد وتحصيل الثواب عند التلبّس بقيمها، وقد ورد في الارتباط مع الإمام الحسين (عليه السلام) أنَّه يكون سبباً للمؤمنين إلى الفوز وتحفّه ملائكة من كلّ سماء مائة ألف ملك في كلّ يوم وليلة.
٧ - نزول البركات، فقد ورد في الأثر عن الإمام الباقر (عليه السلام): (فإنَّ إتيانه -أي الإمام الحسين (عليه السلام)- يزيد في الرزق ويمدّ في العمر ويدفع مدافع السوء)، بل ورد في قوله تعالى: ﴿وَما كانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ الله مُعَذبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال: ٣٣)، ومن الثابت قول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسين منّي وأنا من حسين).
٨ - الطقوس تهيّئ لظهور نظام إنساني ديني عبادي متكامل لظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
٩ - التحدّي والاستعراض السلمي والإعلام الصامت لقوَّة المذهب.
١٠ - ارتباط أصحاب العقيدة فيما بينهم عند إحياء الشعيرة والتعايش الإيماني وما يتفرَّع عليه من آثار، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لفضيل بن يسار: (تجلسون وتحدّثون؟)، قال: نعم، جُعلت فداك. قال: (إنَّ تلك المجالس أحبّها).
١١ - الإيمان بالوعد الإلهي وأنَّ أهل الحقّ باقون وخالدون ويكونون علماً لمن بعدهم، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأْشْهادُ﴾ (غافر: ٥١)، وقد ورد في الرواية: (وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء (عليه السلام) لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاَّ ظهوراً وأمره إلاَّ علوّاً).
وحينما نمرّ بالسيرة والآثار نرى أنَّ السماء فرضت الإمام الحسين (عليه السلام) شعيرة مائزة صارخة إذ ورد عن ابن عبّاس أنَّه قال: كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في خروجه إلى صفّين، فلمَّا نزل بنينوى وهو شطّ الفرات، قال بأعلى صوته: (يا بن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟)، فقلت له: ما أعرفه، يا أمير المؤمنين، فقال علي (عليه السلام): (لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتَّى تبكي كبكائي)، قال: فبكى طويلاً حتَّى اخضلَّت لحيته وسالت الدموع على صدره وبكينا معاً، وهو يقول: (أوه أوه، ما لي ولآل أبي سفيان، ما لي ولآل حرب، حزب الشيطان، وأولياء الكفر، صبراً يا أبا عبد الله...).
وقد ذكر الصدوق في كتابه (كمال الدين) أنَّ عيسى (عليه السلام) مرَّ بأرض كربلاء وتوقَّف فوق مطارح الطفّ ولعن قاتلي الإمام الحسين (عليه السلام).
وروى الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (السجود على طين قبر الإمام الحسين (عليه السلام) ينوّر إلى الأرض السابعة، ومن كان معه سبحة من طين قبر الحسين (عليه السلام) كتب مسبّحاً وإن لم يسبّح بها).
وأيضاً ورد الدعوة إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، منها قول الإمام الباقر (عليه السلام): (مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (عليه السلام)).
وفي خبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: (يا معاوية لا تدع زيارة الحسين (عليه السلام) لخوف).
وورد أيضاً اللعن على قتلة الإمام الحسين (عليه السلام)، قال الإمام الرضا (عليه السلام): (يا بن شبيب إن سرَّك أن تسكن الغرف المبنية في الجنّة مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فالعن قتلة الحسين).
وورد أيضاً أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) ليرى من يبكيه فيستغفر له ويسأل آباءه (عليهم السلام) أن يستغفروا له، ويقول: (لو يعلم زائري ما أعدَّ الله له لكان فرحه أكثر من جزعه).
وورد في استحباب الانفاق في سبيل الإمام الحسين (عليه السلام)، قال: فما للمنفق في خروجه إليه والمنفق عنده، قال -أي الإمام الصادق (عليه السلام)-: (درهم بألف درهم).
وخلاصة ما استفدناه من السيرة والسُنّة:
١ - التأكيد على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي (عليه السلام) إن كان ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة حسنة ومحى عنه سيّئة)، وما ورد من الآثار كزيادة العمر وتفريج الكرب وغفران الذنوب.
٢ - إعلان الأئمّة يوم مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) يوم حزن وعزاء، بل استحباب طول الحزن، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (وما هو إلاَّ يوم حزن ومصيبة دخلت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع المؤمنين).
٣ - ما ورد في فضل كربلاء والحضور فيها وفضل تربة الإمام الحسين (عليه السلام) من الآداب الشرعية كالسجود ونحو ذلك.
٤ - الأمر بعدم نسيان الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث ورد عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند وفاتها مخاطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام): ابكني وابك لليتامى ولا تنسَ قتيل العدى بطفّ العراق
٥ _ التأكيد على إقامة المأتم والعزاء، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتَّى قضى)، حيث نجد أنَّ الإمام (عليه السلام) كان من أوائل من أقام العزاء على والده الإمام الحسين (عليه السلام).
٦ _ ما ورد في استحباب البكاء والتباكي وإنشاد الشعر على الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد ورد في دعاء الندبة: (فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجّ الضاجّون، ويعجّ العاجّون).
٧ _ ما ورد من الأخبار بظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يوم عاشوراء رافعاً هتاف: (يا لثارات الحسين).
فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (رحم الله شيعتنا لقد شاركونا بطول الحزن على مصائب جدّي الحسين (عليه السلام)، أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) دمعة حتَّى تسيل على خدّه بوَّأه الله بهما في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (رحم الله شيعتنا، شيعتنا والله المؤمنون، فقد والله شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة).
وعنه (عليه السلام): (وموضع قبره -أي الإمام الحسين (عليه السلام)- منذ يوم دفن روضة من رياض الجنّة، ومنه معراج يعرج فيه بأعمال زوّاره إلى السماء، فليس ملك ولا نبيّ في السماوات إلاَّ وهم يسألون الله أن يأذن لهم في زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، ففوج ينزل وفوج يعرج).
وعن اُمّ سعيد الأحمسية، قالت: جئت إلى أبي عبد الله (عليه السلام)... فقال: (تأتون الشهداء -أي شهداء المدينة المنوَّرة- من سفر بعيد وتتركون سيّد الشهداء لا تأتونه)، قالت: قلت له: من سيّد الشهداء؟ فقال: (الحسين بن علي (عليه السلام))، قالت: قلت: إنّي امرأة، فقال: (لا بأس لمن كان مثلك أن يذهب إليه ويزوره).
وعن علي بن عقبة، عن أبيه، قال: قلت للصادق (عليه السلام): إنَّ لنا خادماً لا تعرف ما نحن عليه، فإذا أذنبت ذنباً وأرادت أن تحلف بيمين، قالت: لا وحقّ الذي إذا ذكرتموه بكيتم، قال: فقال: (رحمكم الله أهل البيت)، فترحَّم الإمام عليه، لأنَّ هذه الأسرة تلبَّست بالشعيرة وبدت تعرف بهذه الخصلة.
فما يذكر من شبهات حول شعيرة الإمام الحسين (عليه السلام) تارة على لسان الوهّابية، وأخرى على لسان العلمانية، وثالثة على لسان المغرضين لإطفاء هذا النور مرجعه إلى عدم الإيمان بالغيب وعدم الاطّلاع على الآثار أو لما يصيبهم من أضرار، وسنتلو بعض هذه الشكوك:
الشكّ الأوّل:
الطقس الحسيني من عزاء مستمرّ وبكاء ونياح ومأتم وسواد بدعة محرَّمة لأنَّه لم يرد فيه نصّ شرعي.
وجوابه:
أمَّا القرآن فقد شرَّع بعضها بالعموم وبعضها بالصراحة، فقد ورد رجحان تعظيم شعائر الله، وتكريم النبيّ، ومودَّة القربى، والدعوة إلى الحقّ والفضيلة، والنهي عن الظلم، ولزوم محاربة الظلمة وأعوانهم.
وكذا ما ورد بالصراحة في قوله تعالى: ﴿يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ (يوسف: ٨٤)، فعن الزمخشري كان بكاؤه سبعين سنة مصحوباً بالحزن وفقدان الصبر، وذكر يوسف المستمرّ ﴿تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ (يوسف: ٨٥).
وكذا ما ورد في قوله تعالى: ﴿ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: ٧)، بضمّ ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من بكائه بصوتٍ عالٍ على عمّه حمزة وجعفر بن أبي طالب وسعد بن عبادة وموت ابنه واُمّه وعثمان بن مظعون، بل ورد عن الفريقين بكاءه على الحسين (عليه السلام) قبل موته في موارد مختلفة.
وهذا الجواب على مذاق الوهّابية التي لا تعوّل على روايات العترة الطاهرة، وأمَّا عند اعتماد روايات أهل البيت (عليهم السلام) وسلوكهم فلا يبعد دعوى عدم معهودية موضوع ورد فيه من النصوص مثل الشعائر الحسينية، بيد أنَّه لا ينقضي تعجّبي ممَّن يدَّعي الانتساب إلى التشيّع أن يتوقَّف في رجحان هذه الطقوس ولا يتعقَّل تفسيراً (مع حمله على حسن الظنّ) إلاَّ أنَّه تلبَّس بأخطر آفة أوجبت انحراف الكثير وهي الاجتهاد مقابل النصّ، أي العمل بالاستحسان الشخصي وصدور الرأي من دون أن يكلّف نفسه مراجعة مصادر التشريع ويفقهها، أو آفة خوض السطحيين في المواضع التخصّصية استخفافاً بعلم الشريعة، أو آفة المجاملة على العقيدة والتبنّي الخجول للعقيدة، أو آفة التقييم بالمعايير المادّية والقيم المزدوجة والروح المادّية المحضة.
وينبغي أن لا يغيب من ذهننا ما كان يصدر من الفكر الشيوعي من أنَّ التشريع الإسلامي للصوم يعني شلّ الطاقات، والخمس هدر المال، والحجّ حركات سفيهة، ومسيرة الإمام الحسين (عليه السلام) عماء فكري وتفكير أسطوري واستنزاف المال والقوَّة البشرية، وأنَّ السلطة تبغي من محاربتها للحسين عليه السلام تنوير الناس.
وجوابنا حول هذه الإشكالات فيها تغليب الغرائز الحيوانية والنظم المادّية، وإلاَّ فقد تقدَّم ذكر محاسن الشعيرة.
الشكّ الثاني:
إنَّ أتباع هذه المسيرة أناس انهزموا من الواجبات وعطَّلوا التكاليف وأملوا أنفسهم بجزاء هذه المسيرة وبالغوا به.
وجوابه:
أوَّلاً: كثير من هؤلاء هم من خيرة الناس فكراً وعطاءً وعملاً وسلوكاً، والباقون في طريقهم لتطهير النفس والاستنارة بنور الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن هنا ندعو أتباع الإمام الحسين (عليه السلام) وسفراءه أن يظهروا للعالم بمستوى التمثيل.
وثانياً: قد يكون هناك مسلمون غير لائقين، فهل هذا يعني رفض الإسلام أو تعطيل فروضه وإنكار معتقداته.
الشكّ الثالث:
الإمام الحسين (عليه السلام) نال الشهادة وظفر بالمقام السامي، وقد مرَّت على هذه الواقعة زمن طويل فلا معنى لتمجيده وتخليده.
وجوابه:
المصحف الشريف ما زال يمجّد بالأسوة الصالحة والأمّة الصالحة وتأثيرها ومصيرها وأهدافها، ولكن يسعى سرّاق التراث نهب ميراثنا وأسباب وأسرار كمالنا فيتفوَّهون بهذه المزاعم ونحوها لتضعيف العزائم والهمم، والأمّة مصرَّة على أن تكون هذه المسيرة ممهّدة لنداء (يا لثارات الحسين).