تقديم:
تعتبر المئة الرابعة والخامسة من اخصب الفترات عطاء وتميزاً في تاريخ المذهب الامامي، ولا نبالغ اذا اعتبرناها عقد القلادة بين القرون الثلاثة الاول وما تلا هذه الفترة من قرون.
ففي هذه الحقبة بالذات تم تثبيت الهوية الفكرية والعلمية للتشيع في زمن الغيبة بنحو افضل مما سبق وحددت معالمه بنحو ادق، بعد ان مر في اوائل امر الغيبة بمنعطفات حرجة كانت كل واحدة منها كافية لتقويض كيانه ومحو هويته لولا رعاية الله.
وتاتي اهمية تلك الحقبة باعتبار انها تمثل بدايات عصر الغيبة الكبرى، ذلك التحول العظيم الذي طرا على كيان التشيع، فنقله من تركيبته التي الفها قرابة القرنين من الزمن والتي كانت تقوم على دعامتين اساسيتين: القيادة المباشرة للمعصومين عليهم السلام، والقاعدة المؤمنة بها الى مرحلة جديدة تفترض غياب القيادة في الظاهر، وتصدي القيادة النائبة الخاصة المتمثلة بالنواب الاربعة (رضى الله عنهم)، والقيادة النائبة العامة المتمثلة بالفقهاء والعلماء قرون طويلة الى ان ينفذ الله مشيئته في خلقه وياذن بالظهور.
وقد اضطلع علماء تلك الحقبة المتاخمة لاعلان الغيبة الكبرى بمهمة حفظ التشيع وتحصينه من حالات التصدع وعمليات التحريف او التذويب والاحتواء.
وتحددت مسؤوليات اولئك العظام (رضوان الله عليهم) في ثلات محاور:
١- حفظ القيادة النائبة من تسلل اصحاب الادعاءات والانتهازيين.
٢- الرد على اصحاب المقالات المشككة في امر الامامة والغيبة، وتحصين القاعدة المؤمنة و تخليصها منحالات الياس والتردد التي حاول الاعداء زرعها في نفوسهم بالنسبة الى الغيبة بوجه خاص.
٣- تحديد الهوية العلمية للتشيع من خلال تصنيف الجوامع الرئيسية في الحديث والفقه والرجال و التفسير، سيما وان رواسب المرحلة السابقة (ما قبل الغيبة) من الدس والتزوير في حديث اهل البيت عليهم السلام، وضياع الاصول الحديثية وغير ذلك كان يتطلب وقفة حازمة ومسؤولة في هذا المجال.
كل هذا كان يلقي باعباء المسؤولية على كاهل الفقهاء المعاصرين لتلك البرهة، ويدفعهم لتحمل واجبهم الديني.. ولقد قاموا جزاهم الله خيراً بالمامول خير قيام.
ومن هنا فقد تمخض نشاط الفقهاء في القرن الرابع والخامس عن جملة امور تاسيسية تعد من شواخص ذينك القرنين، وهي:
١- حفظ الخط الاصيل للتشيع من التمزق والضياع; وذلك من خلال تثبيت فكرة الغيبة والدفاع عن مقام الامامة، ودحض الشبهات الواردة في هذا المجال من داخل الوجود الشيعي وفرقه الاخرى كالزيدية وهم العمدة، والاسماعيلية والكيسانية والواقفة أو من خارجه.
ولذا نرى اشتداد الصراع الكلامي آنذاك وكثرة المناظرات والمقالات والمصنفات في مثل هذه الامور على عهد الشيخ الصدوق والمفيد والسيد المرتضى حتى ان الشيخ المفيد اعلى الله مقامه افرد لوحده في موضوع الغيبة عشرة مصنفات ما بين رسالة وكتاب ونقض وجواب، ووضع الشيخ الصدوق كتابه اكمال الدين واتمام النعمة لدفع الحيرة عن الشيعة في امر الغيبة، وله كتاب كبير آخر في الغيبة، كما ان لابيه علي بن الحسين بن بابويه كتاب الامامة والتبصرة من الحيرة، وللشيخ الطوسي ايضاً كتاب الغيبة معروف.
٢- حفظ الاصول الروائية الموروثة (الاربعمئة) وضبطها، وغربلة اسانيد الروايات ودراسة احوال رجالها، واقامة الفقه على اساس علمي واستدلالي رصين من خلال نقله من اطار الحديث والنقل و ادخال عنصر العقل والاستدلال في عملية الاستنباط والاجتهاد، ولا شك فان ذلك يعد خطوة عظيمة
وقفزة كبيرة في تاريخ علم الفقه.
ومن هنا فقد صنفت الكتب الحديثية الاربعة في تلك الفترة والاصول الرجالية، وفي تلك البرهة ايضاً تطور الفكر الاصولي بشكل ملحوظ على يد الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي.
٣- تأسيس او تقوية الحوزات العلمية كحوزة بغداد والنجف في العراق وحوزة قم والري في ايران. وعليه فقد مهد اولئك الاعاظم الطريق امام قوافل الفقهاء التي تلت عصرهم واقتفت اثرهم بحيث صارت كتبهم ومصنفاتهم منهلا لكل شارب ومصدرا لكل باحث وطالب، ومن هنا ندرك عظمة الجهد الذي بذلوه وانه لم يكن جهدا عاديا ولا يمكن مقايسته بجهود من تلاهم من الفقهاء، ولو قلنا ان اصل وجود اولئك الاكابر من الالطاف الالهية التي من الله بها على هذه الامة لحفظ الشريعة لما جانبنا الصدق والحق في ذلك.
وقد تبنت مجلة فقه اهل البيت عليهم السلام مهمة التعريف بحياة الفقهاء ودراسة حياتهم في البعد الفردي والعلمي منها، فنشرت بحثين عن علمين من اعلام الامة وفقهائها وهما ثقة الاسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، والشيخ الاجل علي بن الحسين بن بابويه القمي (رضوان الله عليهما)، وتتبنى في هذا العدد تقديم مقال آخر عن احد اعلام القرن الرابع الذين احيوا الشريعة، وهو:
الشيخ الصدوق الثاني:
رئيس المحدثين على الاطلاق، وفقيه الامامية ووجههم، صدوق الطائفة وملاذها وركن الملة وعمادها، ناصر الحق ورافع رايته، وداحض شبهات الباطل وماحقه، الذائد عن حمى الامامة والدين، المؤيد بتاييدات رب العالمين، شيخ مشايخ الاسلام والحجة على الخاص والعام، المولود بدعوة صاحب الامرعجل الله تعالى فرجه الشريف، المخصوص بخفي رعايته والطافه، الشيخ الفقيه المحدث ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، الملقب في السنة الفقهاء بالصدوق، كذا اثبت نسبه رحمه الله في اكثر كتبه، ولم يتجاوز به باكثر من جده بابويه.
لمحات عامة:
ولد الشيخ الصدوق رحمه الله في محتد طيب وبلدة عريقة، في مدينة قم موئل العلماء ومنبت الفضيلة، وتربى في وسط بيت رفيع من بيوتاتها كان قد عرف بالصلاح والعلم وزعامة الدين، فدرج في مقتبل امره وعنفوان فتوته يرتضع لبان المعارف والفضيلة، ويرتشف من معين العلم على يد والده الفقيه المعظم ذي الجلالة والشرف، علي بن الحسين بن موسى بن بابويه المعروف بالصدوق الاول، وذلك خلال مدة طويلة.
ثم اختلف من بعد ابيه رحمه الله الى اكابر المشايخ بقم يسمع منهم على حداثة سنه، فحاز اجازة الحديث والرواية عنهم.
ولما اشتد من العلم كاهله وصفت له مناهله وبلغ مبالغ العلماء العظام استقل بالتدريس، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن، حتى تناهى صيته الى كل بلاد الاسلام وامرائها، فدعوه الى بلادهم، للافادة من محضره والاستنارة بوهج علمه، فلبى نداء المسؤولية، ويمم وجهه الى الري حيث كانت محطته الاولى في سلسلة اسفاره وتطوافه في البلاد المختلفة.
وقد كانت هجرة الشيخ الصدوق رحمه الله من وطنه الام بقم بمثابة مرحلة جديدة في حياته، انفتح من خلالها على حواضر العلم ومراكز الاشعاع الاخرى في العالم الاسلامي، لتبادل السماع والاسماع مع محدثيها وائمة العلم فيها.
وبعد ان استقر به المقام في بلاد الري التي كانت تعتبر جامعة علمية تزخر بالعلم ورواد المعرفة انطلق بعد ذلك الى بلاد اخرى، فعرفته حواضرها وعلماؤها بالفضل والتقدم من خلال ما سطرته يراعته من مؤلفات ناهزت الثلاثمئة كتاب ومن خلال مواقفه ومناظراته في اندية العلم دفاعا عن المبدا والحقيقة، فذاع لذلك صيته وتالق نجمه في الاوساط العلمية والاجتماعية، والقت اليه الامة امر زمامها ورجعت اليه من مختلف الاصقاع تساله في قضاياها، فكان وجه الطائفة وزعيمها في المئة الرابعة من بعد ابيه، الى ان التحق بالرفيق الاعلى بعد ان ادى ما افترض عليه تجاه امته ومجتمعه.
وهكذا كان الشيخ الصدوق ابان حياته جامعة سيارة بعلمها المتدفق، وكذلك بقي بعد رحيله جامعة عكفت على الدرس في اروقتها الاجيال، وما فتئت يرتوي من معينها الاعيان والابدال. فخلد لنفسه في الدنيا قبل غيره ذكرا جميلا ومجدا شامخا ومقاما رفيعا، وفي الآخرة مزيدا.
هذا، وقد عرف علماؤنا العظام للشيخ الصدوق حقه ومكانته الخاصة لدى الامة فاطروه بكل مكرمة وجميل، عرفانا لفضله واكبارا لشخصه وخدماته.. واليك بعض الشذرات من كلامهم العطر حول هذه الشخصية الفذة وان كان يكفيه كلام حجة العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف في وصفه، ولو لم يذكر في حقه سواه لكفى، حيث ورد وصفه رحمه الله في التوقيع الخارج من الناحية المقدسة بانه فقيه، خير، مبارك ينفع الله به فطوبى لمن امتدحه حجة الله بمثل هذا وحسن مآب، وكفى به لصاحبه فخرا وعزا، ولعمري فان كل ما قيل غير هذا فهو دونه.
الصدوق في نظر الاعلام:
قال شيخ الطائفة الطوسي في رجاله: جليل القدر حفظة، بصير بالفقه والاخبار والرجال.
وشهد له شهادة اعلى واضفى، فقال في فهرسته: جليل القدر، يكنى ابا جعفر، كان جليلاً حافظا للاحاديث، بصيراً بالرجال، ناقداً للاخبار، ولم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه، له نحو من ثلاثمئة مصنف، وفهرست كتبه معروف.
ولك ان تتامل مليا في كل لفظة من تينك الشهادتين، فان قائلهما ممن لا يجازف بالقول، ولا يقول شططا.
وقال الرجالي الخبير، الشيخ ابو العباس النجاشي: ابوجعفر نزيل الري، شيخنا وفقيهنا، ووجه الطائفة بخراسان، وكان ورد بغداد سنة ٣٥٥هـ، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن، وله كتب كثيرة.
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: كان من شيوخ الشيعة، ومشهوري الرافضة حدثنا عنه محمد بن طلحة النعالي.
وفي سير اعلام النبلاء للذهبي: راس الامامية، ابو جعفر محمد بن العلامة علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، صاحب التصانيف السائرة بين الرافضة، يضرب بحفظه المثل. يقال له: ثلاث مئة مصنف.
وقال العلامة الحلي في رجاله وابن داود في رجاله بمثل قولي الشيخ والنجاشي، فلا نعيد.
وقال الشيخ المتقدم ابن ادريس الحلي في السرائر: كان ثقة جليل القدر، بصيرا بالاخبار، ناقدا للآثار، عالماً بالرجال، حفظة، وهو استاذ شيخنا المفيد، محمد بن محمد بن النعمان.
واثنى عليه الشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي فقال: وكان هذا الشيخ جليل القدر عظيم المنزلة في الخاصة والعامة، حافظاً للاحاديث بصيراً بالفقه والرجال والعلوم العقلية والنقلية، ناقداً للاخبار، شيخ الفرقة الناجية وفقيهها ووجهها بخراسان وعراق العجم، وله ايضا كتب جليلة. ثم قال: لم ير في عصره مثله في حفظه وكثرة علمه.
ووصفه المحقق الكركي في احدى اجازاته بالامامة والفقاهة فقال: الشيخ الامام الفقيه المحدث الرحلة، امام عصره ابي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي الملقب بالصدوق (قدس الله روحه).
×واطراه الشهيد الاول في اجازته لزين الدين علي بن الخازن بوصفه «الامام ابن الامام».
×ووصفه المحقق الداماد بالصدوق ابن الصدوق وقال عنه ايضا: عروة الاسلام ابي جعفر.
×وقال العلامة المجلسي رحمه الله بعد ان اورد كلاما للصدوق رحمه الله: وانما اوردناه لكونه من عظماء القدماء التابعين لآثار الائمة النجباء عليهم السلام الذين لا يتبعون الآراء والاهواء، ولذا ينزل اكثر اصحابنا كلامه وكلام ابيه (رضي الله عنهما) منزلة النص المنقول والخبر الماثور.
×وقال المحقق التستري في مقابسه: الصدوق رئيس المحدثين ومحيي معالم الدين، الحاوي لمجامع الفضائل والمكارم، المولود كاخيه بدعاء الامام العسكري او دعاء القائم عليهما السلام بعد سؤال والده له بالمكاتبة او غيرها او بدعائهما صلوات الله عليهما، الشيخ الحفظة ووجه الطائفة المستحفظة، عماد الدين ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الخراساني الرازي (طيب الله ثراه ورفع في الجنان مثواه).
وفي اجازة المحقق الكركي في اجازته للشيخ صفي الدين عيسى وصفه بالشيخ الحافظ المحدث الرحلة المصنف الكنز الثقة الصدوق.
×ووصفه الشيخ حسن ابن الشهيد في اجازته للسيد نجم الدين، بالشيخ الامام الصدوق الفقيه.
×وفي الفوائد الرجالية لآية الله المحقق السيد بحر العلوم «شيخ من مشايخ الشيعة، وركن من اركان الشريعة رئيس المحدثين، والصدوق فيما يرويه عن الائمة الصادقين عليهم السلام، ولد بدعاء صاحب الامر والعصر عليه السلام ونال بذلك عظيم الفضل والفخر، ووصفه الامام عليه السلام في التوقيع الخارج من الناحية المقدسة بانه: فقيه خير مبارك ينفع الله به.
فعمت بركته الانام، وانتفع به الخاص والعام وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الايام وعم الانتفاع بفقهه وحديثه فقهاء الاصحاب ومن لا يحضره الفقيه من العوام.
وقال في موضع آخر عنه: وكيف كان فوثاقة الصدوق امر ظاهر جلي، بل معلوم ضروري كوثاقة ابي ذر وسلمان، ولو لم يكن الا اشتهاره بين علماء الاصحاب بلقبيه المعروفين يقصد رئيس المحدثين والصدوق لكفى في هذا الباب.
كانت هذه شمة من كلام الاعلام والفقهاء في حق شيخنا الصدوق (قدس الله نفسه)، وقد تصافقت كلماتهم كما عرفت وكلمات غيرهم ممن اعرضنا عن نقل كلامه خوف الملال على تبجيله وتعظيمه ووصفه بالامامة والفقاهة والوجاهة والنبل والتضلع في علوم جمة كالفقه والحديث والتفسير والرجال وغيرها.
ولادته:
غمرت الرعاية الالهية شيخنا الصدوق رحمه الله منذ بداية امره.. وحفته في مقتبل شبابه وفتوته عندما كان يحفظ ما لا يحفظه غيره حتى انه سمع عنه شيوخ الطائفة وهو حدث السن.. وظللته كهلا ثم شيخا..ولنا ان نتلمس البوادر الاولى من تلك الرعاية فيما ظهر من امر ولادته المباركة، حيث كانت بدعاء صاحب الامر عجل الله تعالى فرجه الشريف عندما طلب منه والد الصدوق (عليه الرحمة) ذلك، ولقد كان الشيخ الصدوق يفتخر بذلك ويقول: انا ولدت بدعوة صاحب الامر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ويحدثنا شيخنا المترجم بنفسه عن قصة ولادته فيقول:
حدثنا ابو جعفر محمد بن علي الاسود قال: سالني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه (رضى الله عنه) بعد موت محمد بن عثمان العمري (رضى الله عنه) ان اسال ابا القاسم الروحي ان يسال مولانا صاحب الزمان عليه السلام ان يدعو الله عزوجل ان يرزقه ولدا ذكرا. قال فسالته فانهى ذلك فاخبرني بعد ذلك بثلاثة ايام انه قد دعا لعلي بن الحسين، وانه سيولد له ولد مبارك ينفع الله به، وبعده اولاد.
وذكر الشيخ الطوسي رحمه الله في (كتاب الغيبة) كلاما اكثر تفصيلا، حول الامر الذي حمل والد الصدوق رحمه الله على مكاتبة الناحية وطلب الولد منها لاكثر من مرة فقال: عن ابي العباس بن نوح عن ابي عبدالله الحسين بن محمد بن سورة القمي حين قدم علينا حاجا قال: حدثني علي بن الحسين بن يوسف الصائغ القمي، ومحمد بن احمد بن محمد الصيرفي المعروف بابن الدلال و غيرهما من مشايخ اهل قم، ان علي بن الحسين بن بابويه كانت تحته بنت عمه محمد بن موسى بن بابويه فلم يرزق منها ولدا، فكتب الى الشيخ ابي القاسم(رضى الله عنه) ان يسال الحضرة ان يدعو الله ان يرزقه اولاداً فقهاء. فجاء الجواب: انك لا ترزق من هذه، وستملك جارية ديلمية وترزق منها ولدين فقيهين.
وفي رجال النجاشي ان علي بن الحسين رحمه الله قدم العراق واجتمع مع ابي القاسم الحسين بن روح رحمه الله وساله مسائل ثم كاتبه بعد ذلك على يد علي بن جعفر بن الاسود يساله ان يوصل له رقعة الى الصاحب عليه السلام ويساله فيها الولد، فكتب اليه: قد دعونا الله لك بذلك وسترزق ولدين ذكرين خيرين.
ولم يذهب غير بعيد حتى كان الامر كما امل ابن بابويه رحمه الله ورجا، فقد ملك الجارية الديلمية وولدت له ولده الموعود فقرت بذلك عينه وطابت به نفسه وكان ذلك المولود هو محمد بن علي الصدوق اكبر ولده وافقههم، ثم ولدت له الحسين بن علي وقد كان آية في الحفظ والنباهة والفقاهة، الا انه لا يبلغ شاو اخيه الصدوق.
هذا ولم يضبط تاريخ ولادة الشيخ الصدوق على نحو التحديد، الا انها كانت بعد وفاة العمري محمد بن عثمان(رضى الله عنه) السفير الثاني كما عرفت ذلك من نقل الصدوق رحمه الله المتقدم وفي اول سني سفارة ابي القاسم الحسين بن روح(رضى الله عنه). وقد كانت وفاة العمري سنة ٣٠٥هـ كما ذكر ابن الاثير ذلك في حوادث تلك السنة من تاريخه، ولعلها كانتسنة ٣٠٦هـ اذا لاحظنا مدة رجوع جواب الامام عليه السلام من سامراء الى علي بن بابويه بقم وامتلاكه الجارية وما يستغرقه الحمل من وقت.
قال العلامة المحقق السيد بحر العلوم في فوائده: ولد بعد وفاة العمري في اوائل سفارة الحسين بن روح وقد كانت وفاة العمري سنة ٣٠٥هـ فيكون قد ادرك من الطبقة السابعة فوق الاربعين ومن الثامنة احدى وثلاثين، ويكون عمره نيفا وسبعين سنة، ومقامه مع والده ومع شيخه الكليني في الغيبة الصغرى نيفاوعشرين سنة فان وفاتهما سنة ٣٢٩هـ وهي سنة وفاة السمري آخر السفراء.
وعلى هذا يكون الشيخ الصدوق رحمه الله قد عاصر في عهد الغيبة الصغرى سفيرين من السفراء الاربعة هما: الحسين بن روح والسمري (رضي الله عنهما).
ولقد كان امر ولادته بدعاء الامام عجل الله تعالى فرجه الشريف ذائعاً عند القميين يعرفه الخاص والعام، ففي الغيبة للشيخ الطوسي: كان اهل قم يتعجبون من حفظهما الصدوق واخيه فكلما رويا شيئاً قال الناس: هذا الشأن خصوصية لكما بدعوة الامام عليه السلام، وهذا امر مستفيض في اهل قم. الا انه ورد في كتاب عقيدة الشيعة للمستشرق دوايت م. رونلدس: ان ولادة الصدوق كانت بخراسان اثناء زيارة والده لمشهد الرضا عليه السلام.
ولم يذكر ماخذه في ذلك. ولم ينقله احد ممن تعرض لاحواله، فالصحيح ان ولادته كانت بقم.
وعلى كل حال، فلا يخفى ما لهذه الواقعة من دلالة خاصة تدل على عظمة علي بن بابويه وولده الصدوق لدى الناحية المقدسة، ولا شك انها زادت من جلالة وقدر اسرة آل بابويه في المجتمع القمي.
ولنطو الكلام عن ولادته بكلام للعلامة المحقق بحر العلوم واصفا احاديث ولادته بالقول: «ان هذه الاحاديث تدل على عظم منزلة الصدوق وكونه احد دلائل الامام عليه السلام، فان تولده مقارنا لدعوة الامام عليه السلام وتبينه بالنعت والصفة من معجزاته (صلوات الله عليه)، ووصفه بالفقاهة والنفع والبركة دليل على عدالته ووثاقته...».
مقومات شخصيته:
لا شك ان شخصية فذة كالشيخ الصدوق لم تكن وليدة ساعتها، بل هي وليدة عقود من الزمن اختلجت بتجارب عسيرة ومعاناة طويلة انجبت شخصية عملاقة كالشيخ الصدوق.
ذلك انا عندما نلهج باسم الصدوق ونترجم له لا نريد ان نتحدث عن ذات كانت ثم مضت، فان الشيخ الصدوق لا يعني ذاتا خارجية بقدر ما يعني تراثا علميا ضخماً وعطاء دينيا ثرا، فالالقاب التي احاطت بحق بشخصيته كالامامة والفقاهة ورئاسة المحدثين وغيرها من النعوت لم تات عن فراغ او مجاملة في التعبير بقدر ما تعكسه من محتوى وجوهر هذه الشخصية وما جادت به من تراث خالد وخدمات جليلة.
ولو اردنا تحديدا دقيقاً لاهم العوامل والمقومات التي ساهمت في صناعة ذلك الجوهر الناصع و تظافرت على صياغة ابعاد تلك الشخصية المرموقة ورسمت معالمها الاصيلة لوجدنا في الصدارة من تلك المقومات عامل التسديد الالهي والرعاية الربانية الخاصة التي رعته في جميع ادوار حياته، حيث جادت عليه الظروف بمناخ علمي وديني في حاضرة العلم آنذاك بقم المشرفة، كما زودته يد الرعاية الالهية باستعداد مفرط، وذكاء وحفظ شديدين بحيث كان، يحفظ ما لا يحفظه غيره من اهل قم.
وفوق كل ذلك نشاته في ظل والده المعظم، الفقيه الوجيه علي بن بابويه الذي كان له القسط الاوفر في تكوين شخصية ولده الصدوق رحمه الله.
واما سائر المقومات والعوامل الاخرى المؤثرة في تقويم وتكوين شخصية شيخنا المترجم فيمكن الاشارة اليها في امور نعقد الحديث حولها، وهي:
(اسرته × بيئته × عصره × رحلاته × شيوخه × قدراته الذاتية)
١- اسرته:
ان من يقرأ تاريخ الامم والشعوب، يجد اصنافاً من الاسر والبيوتات التي عرفت بالسياسة والحكم او بالثروة والمال او بالعلم والتقى او بغير ذلك من الامور التي تميزها وترفع من قدرها.
ولا شك فان خيرها من عرف بالعلم والصلاح، فالعلماء باقون ما بقي الدهر. ومن الاسر التي يشار اليها بالبنان في حاضرة العلم بقم بل في العالم الاسلامي فى القرن الرابع الهجري، هي اسرة آل بابويه، تلك الاسرة التي شهد الفضل بفضلها والشرف بشرفها وعرفت بالعراقة والسؤدد والمجد، فهي باسقة الافنان، عالية البنيان قد نبغ منها ثلة من ائمة العلم وجهابذته، وحملة الفقه وسدنته، ياتي على راسهم الفقيه الجليل والمحدث النبيل، الشيخ ابو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه الذي اطبقت الطائفة على علو مرتبته وارتفاع كعبه، حتى ان اكثر اصحابنا ينزلون كلامه منزلة النص المنقول والخبر الماثور كما نقل ذلك العلامة المجلسي، وعلى كل حال فان امره في الفقاهة والجلالة والفهم والعلم اعلى من ان تحوم فوقه العبارة او تحيطه الاشارة ويكفيه فخرا خطاب الامام العسكري عليه السلام له على ما في الرسالة المنقولة عنه عليه السلام بالفقاهة والشيخوخة حيث جاء في كتابه عليه السلام: «... اما بعد: اوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي ابا الحسن علي بن الحسين القمي وفقك الله لمرضاته وجعل من صلبك اولاداً صالحين برحمته، بتقوى الله واقام الصلاة وايتاء الزكاة»
الكتاب.
واليه يعود الفضل في اشتهار اسرته حتى طار صيتها في الآفاق، واستوى صفها مع سائر الاسر والبيوتات المعروفة في التاريخ، اذ لم يحدثنا التاريخ وكتب المعاجم عن ابيه وجده موسى وجده الاعلى بابويه القمي الذي عرفت الاسرة بعد ذلك باسمه، كما انه لم يحدثنا التاريخ ايضا عن مبدأ سكناهم بقم.
ومن اشهر اعلام هذه الاسرة اخو المترجم الحسين بن علي بن الحسين بن بابويه الذي ولد ايضاً بدعاء الامام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويعتبر من اكابر الفقهاء والصلحاء، وقد كان شريكا لاخيه الصدوق في موهبة الحفظ والفطانة وعقد مجلس البحث وله من العمر دون العشرين، وكان محمد بن علي الاسود ربما يحضر مجلسه فاذا راى اسراعه في الجواب في الحلال والحرام يكثر التعجب لصغر سنه ثم يقول: لا عجب لانك ولدت بدعاء الامام عليه السلام.
قال صاحب رياض العلماء في احوال هذا الفقيه العظيم: «هو واخوه الصدوق وابن هذا الشيخ وسبطه واحفاده نازلاً الى زمن الشيخ منتجب الدين كلهم كانوا من اكابر العلماء، ولم اعثر فيما بعد الشيخ منتجب الدين كيف كانت احوالهم، وقد كان الشيخ منتجب الدين من اعاظم اسباطه، واما سلسلة الصدوق فالظاهر انه لم يكن منهم عالم سوى ولد الصدوق، فلاحظ».
وقد توفي الحسين بن علي بعد اخيه الصدوق سنة ٤١٨هـ.
روى الشيخ في الغيبة عن ابي عبدالله بن سورة قال: ولابي الحسن بن بابويه رحمه الله ثلاثة اولاد: محمد والحسين فقيهان ماهران في الحفظ، ويحفظان ما لا يحفظه غيرهما من اهل قم، ولهما اخ اسمه الحسن وهو الاوسط مشتغل بالعبادة والزهد ولا يختلط بالناس ولا فقه له.
ومن اكابر هذا البيت واعاظمهم شمس الاسلام الحسن بن الحسين نزيل الري المدعو (حسكا) قرا على شيخ الطائفة الطوسي جميع تصانيفه بالغري وكذا قرا على الشيخ سلار والقاضي ابن البراج جميع تصانيفهما.
وايضا من اعلامهم الثقات المشاهير الشيخ منتجب الدين ابو الحسن علي بن عبيدالله بن الحسن (حسكا) وهو من احفاد الحسين بن علي اخو الصدوق. وكان من ثقات المحدثين قال عنه الشهيد الثاني في شرح درايته: «ومنتجب الدين واسع الطرق كثير الرواية عن آبائه واقاربه واسلافه... الخ».
وغير هؤلاء من اعلام هذا البيت الرفيع كثيرون لا ياتي عليهم المجال لعدهم، وقد افرد المحقق الشيخ سليمان البحراني رسالة في تعداد اولاد بابويه ذكر فيها خمسة عشر اسماً من اعلامهم. وقد ذكر في رياض العلماء ترجمة عدة منهم.
قال العلامة المامقاني: «واولاد بابويه كثيرون جدا واكثرهم علماء اجلة» وفي الرياض: «كلهم كانوا من اكابر العلماء».
فالشيخ الصدوق اذن غصن من اغصان هذه الدوحة النضرة وثمرة من افنان تلك الشجرة الباسقة، قد ولد في مثل هذه الاسرة الطيبة الاعراق الطاهرة الانساب درج وتربى في احضان الفضيلة، تحت رعاية والده الزاهد العابد العالم الذي كان يرفع له في كليوم من العلم والتقى علما.. كيف وهو امنيته التي طالما دعا الله تعالى ان يحققها فكان كما اراد ورجا، وتوسم فيه الخير والنفع كما جاء في التوقيع الشريف. فحرص على تربيته وتغذيته من علومه وكمالاته الروحية، وشع على نفسه من صفائه واغدق عليه من فيض علومه فصقل روحه وعقله وصهر معدنه وجوهره حتى صار مثالاً له بعد ملازمة بينهما فاقت العشرين عاماً.
اجل، لقد كان لابي الحسن بن بابويه الاثر الكبير في تكوين وتطوير شخصية ولده العلمية، حتى كاد ان ينعكس اثره في مجمل العطاء العلمي للشيخ الصدوق.
فهذا الخطيب البغدادي يروي ان الصدوق رحمه الله عند ما ورد بغداد حدث فيها عن ابيه علما بان وفاة ابيه كانت سنة ٣٢٩هـ وبينه وبين وروده لبغداد اكثر من عشرين عاما الامر الذي يظهر عنايته بفقه وحديث ابيه على الرغم من سماعه وتحمله عن غيره من المشايخ طيلة هذه الفترة. ونقل ابن النديم في فهرسته انه قرا على ظهر نسخة وجدها بخط الصدوق «اجزت لفلان ابن فلان كتب ابي علي بن الحسين وهي مئتا كتاب وكتبي وهي ثمانية عشر كتابا».
ولك ان تتأمل تراث الشيخ الصدوق فانه ينبئك عن غزارة النقل عن ابيه في مجموع مصنفاته الثلاثمئة، التي ضن الدهر علينا بالكثير منها، بيد ان ما وصلنا منها وظفرنا به ينبئ عما فاتنا.
والى القارىء الفاضل بعض الاحصائيات المقارنة بين ما رواه عن كل واحد من اعيان مشايخه ممن اكثر الرواية عنهم في مصنفاته وهم: والده ابوالحسن بن بابويه، وشيخه المعظم محمد بن الحسن بن الوليد، ومحمد بن موسى المتوكل ومحمد بن علي ماجيلويه واحمد بن محمد بن يحيى العطار وعلي بن احمد الدقاق، لنرى تفوق ما يرويه عن ابيه وعنايته بتراثه، الامر الذي يعكس حرص والده طيلة عشرين عاماً او اكثر على ان يسمع ولده اكثر ما يمكن من الرواية والحديث.
ابن المتوكل احمد بن العطار ماجيلويه الدقاق ابن الوليد والد الصدوق الكتاب
٤٣ ٥ ٥٣ ٧ ١٣٦ ٢٣١ من لا يحضره الفقيه
٥٧ ٤٢ ٧٨ ١٧٩ ٤٥٨ الخصال
٨٧ ٤٤ ٥٣ ٢٧ ٩٧ ١٧٨ الامالي
٤١ ٤ ٣٣ ١٠ ١١٥ ٣١٦ معاني الاخبار
٤١ ١٧ ٢٣ ٦٩ ١٠٠ ١٥٠ التوحيد
والذي ينبغي التنبيه عليه هو ان ما ذكرناه من الارقام عن (من لا يحضره الفقيه) انما هو بلحاظ طرقه الى مشايخه المذكورين، وقد استقصينا ذلك من مشيخة الفقيه، لا بلحاظ موارد الرواية عنهم في الكتاب، والا لكانت الاحصائية اضعاف ما ذكرنا، وما ذكر كاف للقياس عليه.
٢- بيئته:
بعد ان هاجر الاشعريون الى قم من ظلم الحجاج واستوطنوها، اضحت هذه البلدة المباركة موئلاً لاتباع اهل البيت عليهم السلام، وقلعة من قلاع التشيع المنيعة.
قال الحموي: وهي قم كبيرة حسنة طيبة واهلها كلهم شيعة امامية. وقد ورد في حديث عن امير المؤمنين عليه السلام يصف اهل قم «هم اهل ركوع وسجود وخشوع وسجود وقيام وقعود، هم الفقهاء العلماء، هم اهل الدراية والرواية وحسن العبادة». وقد زادها الله شرفا بان جعل تربتها محلا لجثمان البضعة الطاهرة فاطمة المعصومة بنت الامام موسى الكاظم عليه السلام وغيرها من ذراري الائمة المعصومين عليه السلام مما عزز من مكانتها الروحية لدى الشيعة.
والذي يظهر ان بدايات اقتران اسم هذه البلدة بالعلم وبحديث اهل البيت عليه السلام كان على يد ابراهيم بن هاشم ابواسحاق الكوفي الذي انتقل اليها من الكوفة، ولا يبعد ان يكون السبب في هجرته الظروف السياسية التي كانت تمر به الكوفة آنذاك. قال الشيخ النجاشي والطوسي: «واصحابنا يقولون اول من نشر حديث الكوفيين بقم هو».
وذكر الكشي على ما نسب اليه انه كان من تلامذة يونس بن عبدالرحمن واصحاب الرضا عليه السلام وقد كانت قم على مر تلك العصور آهلة بالعلماء وحملة الحديث، عامرة بحلقات الدرس حتى لا يكاد يرى فيها الا عالم او متعلم، يشهد لذلك انها كانت مولدا ومنزلا ومدفنا لجملة كبيرة من الفقهاء والمحدثين، وخرجت مدرستها رعيلا من الافذاذ من اضراب:
احمد بن محمد بن عيسى الاشعري القمي ابو جعفر: شيخ القميين ووجههم بقم وفقيههم، وكان الرئيس الذي يلقى السلطان بها، لقى ابا الحسن الرضا وابا جعفر الجواد وابا الحسن الهادي عليه السلام ثقة عظيم له كتب عديدة منها كتاب (النوادر).
محمد بن احمد بن يحيى بن عمران الاشعري القمي ابو جعفر: جليل القدر ثقة في الحديث كثير الروايات له كتب منها كتاب (نوادر الحكمة) وهو كتاب حسن كبير يعرفه القميون (بدبة شبيب).
سعد بن عبدالله بن ابي خلف الاشعري القمي ابو القاسم: ثقة جليل واسع الاخبار كثير التصانيف. قال النجاشي: شيخ هذه الطائفة وفقيهها وجهها. له كتاب (الرحمة) وغيرها. توفي ٣٠١ هـ او ٢٩٩هـ.
اسماعيل بن آدم بن عبدالله بن سعد الاشعري: قال النجاشي عنه وجه القميين ثقة.
علي بن ابراهيم شيخ ثقة الاسلام الكليني: الذي كان حيا سنة ٣٠٧هـ، ثقة في الحديث، ثبت، معتمد، صنف كتبا، صحيح المذهب.
علي بن الحسين بن بابويه القمي: والد شيخنا الصدوق، وامره في الجلالة والوثاقة والوجاهة فوق ما تحوم عليه العبارة.
وهو ممن كاتب الناحية المقدسة عجل الله تعالى فرجه الشريف واجتمع بسفيرها ابي القاسم الحسين بن روح رحمه الله.
وله كتاب الشرائع في الفقه وغيرها. وتوفي سنة ٣٢٩هـ.
محمد بن الحسن بن الوليد: شيخ القميين، وفقيههم ومتقدمهم ووجههم ثقة ثقة، جليل القدر مسكون اليه، مات سنة ٣٤٣هـ. وله كتب منها كتاب «الجامع» و«كتاب التفسير».
احمد بن محمد بن خالد البرقي: اصله كوفي، هرب جده خالد مع ابيه عبدالرحمن الى برقة قم على اثر حبس ومقتل جده الاعلى محمد بن علي على يد يوسف بن عمر والي العراق بعد مقتل زيد بن علي عليه السلام. وكان احمد ثقة في نفسه له تصانيف كثيرة منها كتاب المحاسن، ويشتمل على كتب عدة.
الحسين بن محمد بن قولويه: استاذ الشيخ المفيد وتلميذ الشيخ الكليني، قال النجاشي في حقه: وكان ابو القاسم من ثقات اصحابنا واجلائهم في الحديث والفقه، وله كتب حسان.
هذه كوكبة من الاعلام الذين حفلت بهم بلدة قم (حرسها الله وزادها شرفا).
وايضا من الدلائل على عراقة هذه البلدة واشتهارها بالعلم والفضل، تشرف تربتها باجساد طائفة كبيرة من العلماء والصلحاء ذكرهم العلامة المجلسي في تحفة الزائر من امثال زكريا بن آدم، و زكريا بن ادريس وعلي بن بابويه وآدم بن اسحاق.
وقد عاشت قم في زمن الشيخ الصدوق وابيه (رضوان الله عليهما) ازهى عصورها; حيث نفقت فيها سوق العلم وراجت في انديتها بضاعة الحديث واكتضت اروقتها بطلاب المعرفة، وتبوء مقعد المشيخة فيها ائمة العلم ومشايخ الرواية من امثال الشيخ محمد بن الحسن بن الوليد (م٣٤٣) واضرابه من المشايخ العظام.
وقد ذكر المجلسي الاول في شرحه على من لا يحضره الفقيه الموسوم باللوامع انه قرا في كتاب ان في زمن علي بن بابويه (والد الصدوق المتوفى سنة ٣٢٩هـ) كان بقم مئتا الف محدث.
الا ان هذا الرقم في غاية الغرابة، فمن المستبعد جدا تواجد هذا العدد الضخم الهائل بقم في ذلك الزمان، اذ ذكر صاحب كتاب تاريخ قم الحسن بن محمد بن الحسن القمي المتوفى ٣٧٨هـ من معاصري الشيخ الصدوق عددا من علماء الخاصة بقم من اصحاب المصنفات والخواص في عصره وعدة من ذكرهم ٢٦٦هـ شخصاً وذكر من اعلام العامة ١٤ نفرا ثم تعرض لمصنفات كل واحد منهم!
وحتى لو اضفنا لهذه الاحصائية (٢٦٦) اضعاف اضعافها باعتبار انها لاكابر العلماء وارباب الحديث واصحاب التصانيف ممن هم دونهم في الفضل والمرتبة فانه لا يبلغ ايضاً ما ذكره المجلسي الاول رحمه الله.
والذي يعزز وجود الاستغراب ايضاً ان نفس العلامة المجلسي الاول التفت لذلك فاراد توجيهه بقوله: «والذي يظهر ان الوجه في ذلك هو ان الخواص والعوام كانوا يعملون بالاحاديث ويحفظونها».
الا ان هذا التوجيه لا يمكن القبول به; لان لفظ المحدث الوارد في كلامه لا يطلق كما هو واضح على من يحفظ حديثا او حديثين، بل يراد بها من اجازه الشيوخ بالرواية عنهم، ولا يجاز بذلك الا من حفظ واكثر السماع وحبر دفاتره بالكثير مما سمع، خصوصا لو لاحظنا المجتمع القمي آنذاك وتشدد مشايخه في الاجازة والرواية. وحينئذ فمن المستبعد ان ينبغ مئتا الف محدث في مثل تلك الآونة.
ومما يعضد هذا الاستبعاد ايضاً ان عدد طلاب العلوم الدينية في عصرنا بقم لا يتجاوز الثلاثين الف طالب وعالم، مع الاخذ بنظر الاعتبار الاتساع المفترض في هذه المدينة طيلة القرون المتمادية، اضافة للتضخم السكاني الحاصل فيها اليوم. كل هذا يبعد ما افاده العلامة المجلسي الاول، وحتى على فرض وقوع التصحيف في عبارته وان الصحيح هو عشرون الف فان الامر ايضا لا يخلو من غرابة بملاحظة ما ذكرناه. الا ان ذلك كله لا يمنع بالطبع من وجود اعداد غفيرة وجموع كثيرة من رواد العلم واكابر الفقهاء والمحدثين في هذه المدينة المشرفة، التي هي من اوضح مصاديق قوله تبارك وتعالى: «والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه».
وعلى كل حال، فقد اختصت قم بموقع علمي مرموق ومكانة سامية لدى علماء الطائفة نتيجة دقة وتشدد علمائها ومحدثيها، حتى اضحت آراؤهم ومروياتهم مقياساً يقاس به صحة الحديث والخبر عند الآخرين، كما يستفاد ذلك من مكاتبة السفير الثالث الشيخ الاجل ابي القاسم الحسين بن روح النوبختي (م٣٢٦) حين انفذ كتابه (التاديب) الى قم يطلب من علمائها النظر في كتابه هذا قائلا لهم: «انظروا ما في هذا الكتاب وانظروا فيه شيء يخالفكم؟ فكتبوا اليه: انه كله صحيح وما فيه شيء يخالف الا قوله في الصاع...».
واما الري موطنه الثاني، فقد كانت آهلة بالعلماء والمحدثين من كلا الفريقين، عامرة بمكتباتها كمكتبة الصاحب بن عباد ومكتبة ابن العميد ومكتبة شرف الدين ابي الفضل محمد بن علي بن المطهر نقيب النقباء في الري.
وقد خرجت جامعة الري طبقة من الاعيان، من نظائر ثقة الاسلام الكليني (قدس سره) وخاله وشيخه الاجل علان الرازي الكليني الذي وصفه النجاشي بانه شيخ اصحابنا ووجههم بالري.
والشيخ الاجل ابي علي بن عبد ربه الرازي القطان وصفه الشيخ الصدوق بانه شيخ كبير لاصحاب الحديث، وقال عنه ايضا «كان شيخا لاصحاب الحديث ببلد الري يعرف بابي علي ابن عبد ربه». ومن اعيان العامة فيها ابو بكر محمد بن زكريا الرازي الحكيم صاحب كتاب من لا يحضره الطبيب (م٣١١)، وعبدالرحمن بن محمد بن ادريس الرازي احد الحفاظ صنف الجرح والتعديل، توفي سنة ٣٢٧، واسماعيل بن علي بن الحسين بن محمد بن زنجويه المعروف بالسمان الحافظ وكان من المكثرين توفي سنة ٤٤٥هـ وكان معتزليا، ومحمد بن عبدالله بن جعفر بن عبدالله بن الجنيد ابو الحسين الرازي وكان حافظا مكثرا توفي سنة ٣٤٧هـ وابو زرعة الحافظ الرازي وغيرهم.
قال ياقوت: وكان اهل الري اهل سنة وجماعة الى ان تغلب احمد بن الحسن المارداني عليها فاظهر التشيع واكرم اهله وقربهم فتقرب اليه الناس بتصنيف الكتب. وكان ذلك في ايام المعتمد وتغلبه عليها في سنة ٢٧٥، واستمر الى الآن. وفي موضع آخر قال: كان اهل المدينة يقصد الري ثلاثة طوائف: شافعية وهم الاقل، وحنفية وهم الاكثر، وشيعة وهم السواد الاعظم.
واما الجانب الامني واستقرار الوضع الداخلي في كلتا الحاضرتين (قم والري) في القرن الرابع الهجري فقد كان امرا نسبياً اذا ما قسناه ببغداد حيث كانت تلتهب بالفتن والاضطرابات التي عصفت باستقرارها مما انعكست تاثيراته على الوضع العلمي فيها وعلى علمائها كالشيخ المفيد الذي اقصي عنها سنة ٣٩٣ هـ بسبب الخصومات الطائفية، وكالشيخ الطوسي الذي احرقت داره وكتبه بالكرخ مرات عديدة بسبب هجمات السلاجقة من الخارج، واذا لاحظنا من زاوية اخرى الظرف السياسي الذي كانت تعيشه بغداد وضعف مركز الخلافة فيها في العصر العباسي الثاني ودخالة العناصر الاجنبية فيه ادركنا حراجة الوضع آنذاك وتازمه. بيد ان قم والري كانتا في مناى عن هذه الاجواء الساخنة، وقد كان ابتعادهما وخروجهما عن سلطة الخلافة واستتباب الامن فيهما السبب في نشاط الحركة العلمية فيهما على اثر انتقال طائفة من فقهاء ومحدثي الكوفة وغيرها سيما في القرن الثالث الهجري الى قم والري.
وعلى كل حال، فقد حافظت هاتان الحاضرتان على مرجعيتهما العلمية للعالم الاسلامي والشيعي مدة من الوقت كما ظهر ذلك من مكاتبة سفير الناحية الحسين بن روح لعلماء قم.
٣- عصره:
من الواضح ان نشاط الحركه العلميه او خمولها في كل مكان وزمان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوضع السياسى ومتغيراته. وقد شهد تاريخنا السياسى من حالات التفاعل بين حركه العلم وبين الظروف والاوضاع السياسيه الكثير، فعندما دبّ الضعف فى الدوله الامويه وانقرض سلطان حكامها الذين عرفوا بجاهليتهم وابتعادهم عن رحاب العلم والثقافه تنفست الامه الاسلاميه الصعداء، سيما اتباع مدرسه اهل البيت (عليهم السلام)، حيث استغل ائمه اهل البيت(عليهم السلام) فرصه هذا الانفراج السياسى الحاصل من سقوط دوله الامويين وقيام دوله بنى العباس الفتيه في تنشيط الحركه العلميه وتفعيلها فازدهرت حاضره المدينه المنوره والكوفه على عهد الامامين الباقرين(عليهما السلام) ونفقت سوقها واستقام الحال على ذلك فتره، ثم تناوبته بعد ذلك فى زمن الدوله العباسيه فترات تراوحت بين الضمور والظهور، والنشاط والفتور، بحسب رغبه الحكام العباسيين في العلم واهله الا ان الخطب اشتد على الشيعه بشكل اكثر اواخر الدوله العباسيه وساءت الاوضاع واخذوا كل ماخذ، فانحسرت الحاله العلميه وقل ارتباط العلماء والرواه بالائمه المعصومين عليهم السلام نتيجه الظروف السياسيه الحرجه التى احدقت بهم الا ان تلك المحنه اعقبت انفراجا ويسرا ، وذلك عندما عصفت الاحداث بحكم العباسيين وال امرهم الى الوهن وضعف مركز الخلافه ببغداد حتى اوشك الامر ان يخرج من يدها بالكليه واذنت اركانها بالتداعى والانهيار. في تلك الحقبه الملتهبه بازمه الصراع السياسى من اجل القبض على دست الحكم ظهرت دول جديده التاسيس في هذا الجزء من العالم الاسلامى وذاك،
وقد عرفت تلك الدول الجديده بولائها او تشيعها لاهل البيت(عليهما السلام) مما فسح الفرصه من جديد للشيعه في ان يستعيدوا نشاطهم ويتمتعوا بحرياتهم السياسيه والمذهبيه واظهار معتقداتهم.
ويمكن الاشاره الى تلك الحكومات التى اسهمت في بناء الوضع الجديد، وهى عباره عن:
١- دوله الادارسه في المغرب (١٩٤ - ٣٠٥).
٢- دوله العلويين في الديلم (٢٠٥ - ٣٠٤).
٣- دوله الفاطميين بمصر (٢٩٦ - ٥٦٧).
٤- دوله البويهيين في بلاد العراق وايران (٣٢١ - ٤٤٧).
٥- دوله الحمدانيين في سوريا والموصل وكركوك (٢٩٣ -٣٩٢).
٦ الاماره الطاهريه في هرات (٢٠٥ - ٢٥٩).
ولقد كان للدوله البويهيه الضاربه بملكها على مركز الخلافه ببغداد واكثر بلاد ايران كفارس والاهواز وكرمان واصبهان وهمذان والرى وجميع بلاد فارس الجنوبيه وغيرها من بلاد العالم الاسلامى حتى خطب لحكامها بعمان، كان لها الدور الفاعل والبليغ في تشجيع الحركه العلميه وتطويرها من خلال اتصال حكامها وامرائها بالعلماء واكرامهم وعقد المناظرات العلميه في مجالسهم، وكذلك من خلال انشاء المكتبات كمكتبه عضد الدوله بشيراز ومكتبه دار العلم التى اسسها سابور بن اردشير عام ٣٨١ او ٣٨٣هـ في بغداد، وتعتبر من المكتبات الغنيه في عالمنا الاسلامى، ومكتبه الصاحب بن عباد (م٣٦٠)، ومكتبه ابن العميد في الرى.
وامتازت هذه البرهه من تاريخ الشيعه بامتيازات قلما حصلوا على مثلها في تاريخهم الطويل الملىء بالصراع وكم الافواه ومصادره الحريات. ولا شك فقد نعمت مراكز العلم سيما في قم والرى تحت ظل هذا الاستقرار السياسى واتسع نشاطها واتصالها بسائر البلاد والحواضر الاخرى خاصه عاصمه العلم ببغداد، كما ساعد هذا الوضع على فسح المجال للعلماء للتجوال والترحال الى مراكز العلم الاخرى وعقد المناظرات واللقاءات فيما بينهم.
وقد عاصر الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) من حكام الدوله البويهيه الحسن بن ابى شجاع بويه الملقب بركن الدوله الذى بسط ملكه على الرى واصفهان وهمذان وسائر بلاد العراق العجمى، وكانت ايام ملكه التى دامت اربعا واربعين عاما حتى وفاته سنه (٣٦٦هـ) عامره بالعدل بين الرعيه وحسن السيره وتكريم اهل العلم. قال ابن الاثير: (كان حليما كريما، واسع الكرم، كثير البذل، حسن السياسه لرعاياه وجنده، رؤوفا بهم عادلا في الحكم بينهم، وكان متحرجا من الظلم، مانعاً لاصحابه منه، عفيفا عن الدماء يرى حقنها واجبا الا فيما لا بد منه، وكان يحامى على اهل البيوتات، وكان يجرى عليهم الارزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعه...، ويتعهد العلويين بالاموال الكثيره، ويتصدق بالاموال الجليله على ذوى الحاجات، ويلين جانبه للخاص والعام.. رضى اللّه عنه وارضاه، وكان له حسن عهد وموده واقبال). وقال في وفاته: اصيب به الدين والدنيا جميعا، لاستكمال جميع خلال الخير فيه.
ولما نزل شيخنا الصدوق (طيب اللّه رمسه) الرى اكرمه ركن الدوله وادناه وعقد له مجلس المناظره في دار امارته بمحضر ومشاركه منه، وللشيخ في مجلسه خمس مناظرات جرت بينه وبين علماء العامه، وقد سجل القاضى نور اللّه التسترى بعضها.
وعلى كل حال، فقد تمتع الشيخ الصدوق (عليه الرحمه) بحريه مطلقه في اظهار ارائه ومعتقداته في حله وترحاله في عهد ركن الدوله.
واما فيما بعد وفاه ركن الدوله وجلوس ابنه عضد الدوله مجلسه سنه ٣٦٦هـ الذى حكم من هذا التاريخ الى سنه ٣٧٢هـ ، فلم يحدثنا التاريخ عن العلاقه فيما بينهما على وجه التحديد، والذى نحدسه من سيره عضد الدوله مع العلماء هو تبجيلهم وتعظيمهم واجراء الارزاق على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وغيرهم، فلا بد ان تكون للشيخ الصدوق نفس المكانه المرموقه التى كان يتمتع بها على عهد ركن الدوله. الا ان الذى يقطع به انه (رحمه اللّه) كان على صله وثيقه بالصاحب بن اسماعيل بن عباد ابى القاسم العالم والاديب الفاضل وزير فخر الدوله البويهى سنه ٣٧٣، حتى انه صنف كتاب عيون اخبار الرضا عليه السلام لقصيدتين رائعتين للصاحب في مدح الامام الرضا عليه السلام وابلاغه السلام والتحيه بلسان المنظوم. والذى يكشف عن طرف من هذه العلاقه ما اثبته الصدوق(رحمه اللّه) في اول ديباجه الكتاب حيث قال: (فصنفت هذا الكتاب لخزانته المعموره ببقائه، اذ لم اجد شيئا اثر عنده واحسن موقعا لديه من علوم اهل البيت(عليهم السلام)، لتعلقه بحبهم واستمساكه بولايتهم واعتقاده بفرض طاعتهم وقوله بامامتهم واكرامه لذريتهم (ادام اللّه عزه واحسانه الى شيعتهم)، ثم قال: قاضيا بذلك حق انعامه على ومتقربا به اليه لاياديه الزهر عندى ومننه الغرلدى).وعلى كل حال، فقد استثمرالشيخ الصدوق فرصه استتباب الامن واستقرار الوضع انذاك وقربه ومكانته من الامراء البويهيين، لخدمه المذهب واعلاء كلمته من خلال مباحثاته وسجالاته مع مخالفيه في الاعتقاد، ومن خلال ما انجز من مصنفات ضخمه وتراث عملاق، خاصه اثره الخالد (من لا يحضره الفقيه) وكتابه العظيم (مدينه العلم) الذى ضن الزمان به على الباحثين وغيبته يد الاحداث.
٤- رحلاته:
لا يخفى على احد ما تنطوى عليه كثره الاسفار والتطواف بين البلدان وحواضر العلم من عظيم الفائده والاثر في تطوير حركه العلم وتعميقها، على الرغم مما يكتنف ذلك من الاخطار والمشاق، سيما في تلك الاعصار المتقدمه. الا ان كل ذلك يضؤل اذا بات الهدف مقدسا، وكانت العزيمه راسخه ف (ما ضعف بدن عما قويت عليه النيه).
وقد كان الشيخ الصدوق (عليه الرحمه) من اولئك الافذاذ الذين قويت فيهم العزيمه في اللّه وللّه، فهاجر من اجل طلب العلم ونشره، اذ ليس من بلده او مدينه كان الشيخ يدخلها الا وافاد فيها او استفاد من شيوخها وارباب الروايه والحديث.
والذى نحسبه ان الذى كان يدعوه الى الاكثار من الترحال والسفر حتى بلغ مجموع اسفاره الى اصقاع العالم الاسلامى سبعه عشره رحله بحسب ما ظهر من اسانيد كتبه هو الامور التاليه:
١- حبه الشديد وشغفه المفرط في طلب العلم وتحصيله.
٢- اعتقاده بعدم ايفاء حاضرته العلميه في قم والرى بما يرومه ويريد البلوغ اليه، لوجود الكثير من الفقهاء والمحدثين في حواضر العلم الاخرى الذين لا تتحقق الافاده منهم الا بشد الرحال اليهم.
٣- شعوره بالمسووليه في كثير من هذه الاسفار كما في سفره الى الرى واقامته فيها بطلب من اهلها وعلمائها، وكذا اسفاره الاخرى التى كان يتولى فيها نشر المذهب والذب عن عقائده ودحض الشبهات الموجهه ضده وتثبيت قلوب المومنين وارشادهم.
واليك تفصيل اسفاره ورحلاته التى طاف فيها كثيرا من البلاد، حتى وصفه ب (الرحله) كثير ممن تعرض لترجمته.
١- الرى: وهى موطنه الثانى من بعد قم، واول البلاد التى نزل فيها، حيث بقى فيها الى اواخر حياته حتى توفي ودفن في تربتها. والرى مدينه مشهوره من امهات البلاد واعلام المدن، قال الاصطخرى عنها: (والرى مدينه ليس بعد بغداد في المشرق اعمر منها)، وقال ايضا: (كان السواد الاعظم فيها من الشيعه). وعلى كل حال فقد جعلها الشيخ الصدوق منطلقا لاسفاره الاخرى يعاود اليها الرجوع بعد كل سفر، وقد سمع فيها من مشايخها سنه ٣٤٧ هـ كابى الحسن محمد ابن احمد بن على الاسدى المعروف بابن جراده البردعى، ويعقوب ابن يوسف بن يعقوب، واحمد بن محمد بن الصقر الصائغ العدل، وابى على احمد بن محمد بن الحسن القطان المعروف بابى على بن عبد ربه الرازى، والاخير من مشايخ الرى كما وصفه الشيخ الصدوق.
٢- خراسان: ورد الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) خراسان ثلاث مرات:
الاولى: وكانت في شعبان من سنه ٣٥٢، وهى التى استاذن فيها الامير ركن الدين البويهى في الزياره لمشهد الرضا عليه السلام فاذن له وساله الدعاء والزياره عنه. ثم رجع في تلك السنه.
الثانيه: في شهر ذى الحجه من سنه ٣٦٧ اى بعد خمسه عشر عاماً من زيارته الاولى وسمع فيها من السيد ابى البركات على بن الحسين الحسينى الحلى، وابى بكر بن على، ثم رجع الى الرى قبل محرم الحرام من سنه ٣٦٨ واملى فيها في اول محرم المجلس السابع والعشرون من مجالس اماليه. الثالثه: في سنه ٣٦٨ في شعبان، واملى فيها اربعه مجالس. وخراسان من البلاد الواسعه، معروفه بالعلم والحديث، قال الحموى واصفا اهلها (فاما العلم فهم فرسانه وساداته واعيانه)، وفي كتاب الحضاره الاسلاميه انها جنه العلماء، وللشيخ الصدوق(رحمه اللّه) مكانه ساميه فى نفوس العلماء والمحدثين بخراسان انذاك، قال المجلسى الاول(قدس سره): (وبعد انصرافه اى الصدوق من الحج توجه الى خراسان لكثره مشايخ الحديث فيها من الخاصه والعامه من سائر البلاد. واشتهر في خراسان شهره عظيمه وكان مجلسه حافلا بالعلماء على الدوام).
وقد تكرر وروده الى خراسان مرات عديده كما عرفت توقف فى الثانيه منها قرابه السنه، واما الثانيه فلم يعلم مده توقفه فيها. الا ان القرائن تدل على طول مكوثه فيها، فقد وصفه النجاشى بانه وجه الطائفه بخراسان، مما يعنى بقاوه مده ليست بالقليله حتى صح نعته بذلك، هذا كله على تقدير انه لم يدخل خراسان اكثر من ثلاث مرات، واما لو قلنا بدخوله اكثر من ذلك مما لم يحدثنا التاريخ به فالامر اوضح.
ومما يشهد لما ذكر ان بعض اصحاب التراجم وصفه بالخراسانى على حد وصفه بالقمى والرازى.
٣- نيسابور: وتقع في طريق خراسان، وكان قد وردها في شعبان سنه ٣٥٢ بعد منصرفه من زيارته الاولى لمشهد مولانا الرضا عليه السلام، وتوقف فيها واقام يسمع من مشايخها كابى على العطار، وابى منصور احمد بن ابراهيم بن بكر الخوزى، وابى على الحسين بن احمد البيهقى، وعبدالواحد بن محمد بن عبدوس، وابى سعيد محمد بن الحسن بن محمد بن على بن الصلت القمى، وعبداللّه بن محمد بن عبدالوهاب السنجرى، وغيرهم.
وكانت نيسابور من مدن العلم المشهوره انذاك، وصفها الحموى بانها (مدينه عظيمه ذات فضائل جسيمه معدن الفضلاء ومنبع العلماء، فما طوفت من البلاد مدينه كانت مثلها). وقد ذكرنا سابقا توقف الشيخ الصدوق فيها لرفع الالتباس والحيره عن نفوس الشيعه في امر الغيبه.
٤- مرو: وفى سفره المتقدم الى خراسان من تلك السنه (٣٥٢) ورد مرو وسمع فيها من جماعه، منهم: ابوالحسين محمد بن على بن الشاه الفقيه المروزى، وابو يوسف رافع بن عبداللّه بن عبد الملك.
٥- بغداد: وفى سنه ٣٥٢ ايضا وكذا سنه ٣٥٥ دخل بغداد عاصمه العلم ومركز الخلافه وقتئذ وحدث فيها كما تقدم عن النجاشى وسمع منه الشيخ المفيد ووالد النجاشى واجازه فيها جميع كتبه ومحمد بن طلحه النعالى شيخ الخطيب البغدادى وغيرهم، كما سمع فيها من ابى الحسن على بن ثابت الدواليبى، وابى محمد الحسن بن محمد بن يحيى العلوى المعروف بابن ابى طاهر، وابراهيم بن هارون الهيستى، ومحمد بن عمر الحافظ. وكان دخوله الثانى (سنه ٣٥٥) بعد رجوعه من الحج.
وتوهم البعض من عباره النجاشى التاليه: (ورد بغداد سنه ٣٥٥، وسمع منه شيوخ الطائفه وهو حدث السن)، ان محل سماع الشيوخ منه كان ببغداد، مع ان عمره انذاك اذا لاحظنا سنه ولادته (حدود ٣٠٦) هو خمسون عاما، ولا يقال لمثله انه حدث السن.
الا ان التامل في عباره النجاشى كفيل برفع هذا التوهم، فان عباره (وسمع منه شيوخ الطائفه) تتعلق بسماع المشايخ منه، لا بدخوله الى بغداد.
٦- همدان: وردها سنه ٣٥٤ في طريقه الى الحج، وسمع فيها من جماعه منهم: ابو احمد القاسم بن محمد بن احمد بن عبدويه السراج الهمدانى، واحمد ابن زياد بن جعفر الهمدانى واجازه فيها ابو العباس الفضل بن عباس الكندى الهمدانى.
٧- الكوفه: وردها سنه ٣٥٤ في طريقه الى الحج وسمع من شيوخها بمسجدها الجامع: محمد بن بكران النقاش واحمد بن ابراهيم بن هارون الفامى، والحسن بن محمد بن سعيد الهاشمى، وسمع فيها ايضا من محمد بن على الكوفي وابى الحسن على بن الحسين بن شقير الهمدانى في منزله بالكوفه وغيرهم.
٨- مكه والمدينه: قصدهما بعد خروجه من الكوفه سنه ٣٥٤، والظاهر ان هذه حجته الاولى.
٩- فيد: منطقه صغيره تقع في منتصف الطريق بين مكه والمدينه، دخلها بعد رجوعه من الحج من تلك السنه، وسمع فيها من ابى على احمد بن ابى جعفر البيهقى.
١٠- سرخس: وردها وهو في طريقه الى خراسان، وسمع بها من ابى نصر محمد بن احمد بن ابراهيم بن تميم السرخسى الفقيه.
١١- سمرقند: وردها سنه ٣٦٨ وسمع بها ابا اسد عبد الصمد بن عبد الشهيد الانصارى وعبدوس بن على الجرجانى، وهى من بلاد ما وراء النهر.
١٢- بلخ: من بلاد ايران القديمه، دخلها سنه ٣٦٨، وسمع بها من جماعه، منهم: على الحسن بن على العطار، وابو عبداللّه الحسين بن احمد الاشنانى الرازى العدل، والحاكم ابو حامد احمد بن الحسن بن على، وغيرهم، واجازه فيها ابو القاسم عبيد اللّه بن احمد الفقيه وابو الحسن طاهر بن محمد بن يونس ابن حيوه الفقيه.
١٣- ايلاق: وهى من اعمال سمرقند، وردها سنه ٣٦٨، وحمل فيها عن ابى الحسن بن عمر بن على بن عبداللّه البصرى، وابى نصر محمد بن الحسن ابن ابراهيم الكاتب الكرخى، وابى محمد بن بكر بن على بن محمد بن الفضل الحنفى، وابى الحسن على بن عبداللّه بن احمد الاسوارى.
١٤- فرغانه: وهى من مدن بلخ، وردها سنه ٣٦٨، وسمع فيها عن تميم ابن عبداللّه بن تميم القرشى، وابى احمد محمد بن جعفر البندار الشافعى الفرغانى، وابى محمد محمد بن عبداللّه الشافعى.
١٥ و ١٦- استرآباد وجرجان: سمع بهما من ابى الحسن محمد بن القاسم، ومن ابى محمد القاسم بن محمد الاسترابادى، وابى محمد عبدوس بن على بن العباس الجرجانى، ومحمد بن على الاسترابادى.
والذى يبدو ان الشيخ الصدوق لم يكن يقصد من مجمل اسفاره المتعدده الى اطراف العالم الاسلامى واصقاعه طلب الحديث ونشره فحسب، بل كان يرمى الى ما هو ابعد من ذلك. فقد كانت اسفاره ورحلاته تحمل رساله التعريف بمذهب اهل البيت(عليهم السلام) ومهمه الدفاع عن معتقداته الحقه واظهار تفوقه ومزاياه في الفقه والحديث والتفسير وغيرها، خصوصا اذا لاحظنا اسفاره في البرهه الاخيره من حياته حيث مكانته العلميه ومرجعيته بحيث لا يمكن تبرير ذلك بمجرد الاستزاده في طلب الحديث وضبطه.
٥- مشايخه:
من الابعاد الواضحه في حياه الشيخ الصدوق(قدس سره) كثره مشايخه ومن لقيهم وتحمل العلم والحديث عنهم. ولا ريب فان لهذا البعد الدور الكبير في بناء شخصيته(رحمه اللّه) وسعه
ثقافته والمامه بالمرافق الهامه من ابواب العلم.
وقد ذكر المحدث النورى(رحمه اللّه) في معجم اساتذته ١٩٨ شيخا، وزاد على هذا العدد المحقق الشيخ عبدالرحيم الربانى(رحمه اللّه) في مقدمته على معانى الاخبار جماعه اخرى استخرجها من اسانيد كتبه المطبوعه، وهى الفقيه والامالى والتوحيد وثواب الاعمال وعقاب الاعمال وعلل الشرائع وعيون الاخبار واكمال الدين ومعانى الاخبار والمقنع والهدايه فبلغ مجموع اساتذته ٢٥٢ محدثا. وتاتى هذه الكثره الكاثره من المشايخ ممن لقيهم الشيخ الصدوق واخذ عنهم نتيجه طبيعيه لوفره اسفاره وتطوافه بين البلاد الاسلاميه وحواضر العلم كخراسان والرى وبخارى ونيسابور وبغداد والكوفه والحجاز وغيرها من البلاد التى كانت تزدحم اروقه العلم فيها بطلاب الفضيله وائمه العلم الذين تشد اليهم الرحال من كل مكان.
ومما لا شك فيه فان ثمه فوارق مذهبيه او فكريه كانت موجوده بين هذه المراكز والحواضر، ربما تصل الى حد التباين، مما يفتح افقا واسعا للناظر فيها يساعده على الاحاطه بها والوقوف على اتجاهاتها ومناحيها.
اجل، لقد استفاد الشيخ الصدوق من هذه الحواضر واخذ عن اعلامها من الخاصه والعامه. وبالطبع فليس جميع من سمع منه وحدث عنه على حد واحد في مقدار ما استفاده منهم، فقد كان لبعضهم الدور البارز في تربيه الصدوق(رحمه اللّه) واسماعه اكثر ما يمكن من الروايه والعلم. ونظرا لضيق المجال عن ايراد فهرس اسماء اساتذته ومشايخه نقتصر على ذكر ابرزهم، وهم:
١- والده الفقيه الاجل على بن الحسين بن بابويه القمى.
٢- الشيخ الثقه الثبت محمد بن الحسن بن الوليد.
٣- الشيخ محمد بن على ماجيلويه.
٤- الشيخ الاجل محمد بن موسى بن المتوكل.
٥- الشيخ احمد بن على بن احمد بن محمد بن عمران الدقاق.
٦- الشيخ محمد بن يحيى العطار.
هولاء هم اعلام اساتذته البارزين. وينبغى التنبيه هنا على امرين:
الامر الاول: انه قد عد المحدث النورى في جمله اساتذته الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه.
وعقب المحقق السيد الخوئى(رحمه اللّه) على الكلام المذكور بقوله: (ولم نجده في كتبه اى لم نجد لابن قولويه ذكرا في كتب الصدوق نعم لا مانع من روايه الصدوق(قدس سره) عنه بحسب الطبقه، فان جعفر بن محمد مات سنه ٣٦٨ والصدوق(قدس سره) مات سنه ٣٨١، فلا مانع من روايه الصدوق عنه بحسب الطبقه.
وما ذكره(قدس سره) في صدر عبارته من عدم وجوده في اسانيد الموجود من كتب الصدوق حق لا دافع له، ولا يمكن احتمال وجوده في المفقود منها، اذ من المستبعد جدا عدم نقله فيما بين ايدينا من كتبه ولو في مورد واحد مع اشتهار بعضها خصوصا من لا يحضره الفقيه.
نعم، احتمل استاذ المجتهدين الوحيد البهبهانى في تعليقته على منهج المقال ان يكون جعفر بن محمد بن مسرور هو نفس جعفر بن محمد بن قولويه، لان قولويه كما ذكر اسمه مسرور، وهو فى طبقه الكشى الى زمان الصدوق، ثم قال: فتامل.
اقول: منشا هذا الاحتمال هو ما ذكره النجاشى في ترجمه على بن محمد بن جعفر بن موسى بن مسرور (اخو ابن قولويه) حيثابدل بمسرور.
الا ان المحدث النورى والمحقق الخوئى استبعدا الاحتمال المزبور غايه الاستبعاد، وقد ذكر في معجم رجال الحديث وجها للاستبعاد، فراجع.
ومما يويد هذا الاستبعاد ايضا ما ظهر لنا من خلال المقارنه بين اسانيد كامل الزيارات لابن قولويه وتتبع مشايخه فيه، وبين الاسانيد التى وقع فيها جعفر بن محمد بن مسرور في كتاب من لا يحضره الفقيه ومعانى الاخبار والخصال والتوحيد واكمال الدين، فلم نجد وجها محصلا لما افاده في التعليقه، اذ لم نجد تطابقا بين مشيخه ابن قولويه ومشيخه ابن مسرور، وكذلك الامر في باقى رجال السند. نعم، وجدنا الاشتراك في الحسين بن محمد بن عامر، ومحمد بن عبداللّه بن جعفر الحميرى مع اختلاف في بعض رجال السند، ومن الواضح فان الاشتراك في رجلين لا ينهض باثبات دعوى الاتحاد انصافا.
وعلى هذا، فاثبات الاتحاد عسير جدا، بل غير واقع، واليك مضافا لما تقدم بعض ما يشهد على ذلك:
١- ذكر النجاشى ان ابن قولويه روى عن ابيه واخيه. ومن راجع كامل الزيارات يجد صحه هذه الدعوى، بل انه اكثر الروايه عن ابيه جدا، في حين انا لم نعثر بحسب التتبع على سند واحد
لجعفر بن محمد بن مسرور يحدث فيه عن ابيه او اخيه او غيرهما من مشايخ ابن قولويه في كتابه، سوى المشتركين المشار اليهما. بل اكثر ما يحدث عن الحسين بن محمد بن عامر عن عمه عبداللّه بن عامر، ويحدث ايضا عن محمد بن جعفر بن بطه.
٢- ان المعروف عند الاصحاب كالمفيد في الامالى والشيخ فى الغيبه وغيرهما التعبير عن ابن قولويه بذكر كنيته (ابوالقاسم) عند ذكر اسمه، ولم نظفر بمورد واحد ذكر فيه ابن مسرور بهذه الكنيه.
٣- انا نستغرب من الشيخ الصدوق على فرض الاتحاد اهماله التعبير باشهر اسميه، وهو (ابن قولويه)، والتزامه الدائم في التعبير عنه بابن مسرور!
الامر الثانى: عد السيد بحر العلوم(قدس سره) في الفوائد الرجاليه كما هو ظاهر عبارته ثقه الاسلام الكلينى(رحمه اللّه) في جمله مشايخ الشيخ الصدوق، ولم يذكرهذا بحسب التتبع احد سواه، فان كان مراده اخذه عنه بالمباشره فهذا ما لا مثبت له لا في اسانيد كتب الشيخ الصدوق ولا فى كتب التراجم، فلا بد ان يكون المراد الاخذ عنه بالواسطه، فقد صرح الشيخ الصدوق في مشيخه الفقيه بان ما كان فى كتاب من لا يحضره الفقيه عن محمد بن يعقوب الكلينى فقد رواه عن:
١- محمد بن محمد بن عصام الكلينى.
٢- على بن احمد بن موسى.
٣- محمد بن احمد السنانى.
قال: وكذلك جميع كتاب الكافي فقد رويته عنهم عنه عن رجاله.
وبعد الفحص لم نجد في (من لا يحضره الفقيه) الا سبعه موارد نقل فيها عنه بلفظ روى محمد بن يعقوب الكلينى(رضى اللّه عنه)، او بلفظ في كتاب محمد بن يعقوب الكلينى، واليك تفصيل هذه الموارد من كتاب من لا يحضره الفقيه وايضا جميع ما ظفرنا به بحسب التتبع والبحث في باقى كتبه لاهميه الموضوع، كما لا يخفى.
اولا: من لا يحضره الفقيه وفيه سبعه مواضع كما اشرنا لذلك، وهى:
١- المجلد الثالث، الصفحه ٣٥٣ من كتاب الصيد، باب الاكل والشرب في انيه الذهب والفضه، الحديث١٠ قال: وهذا الحديث في روايات محمد بن يعقوب الكلينى(رحمه اللّه).
٢- المجلد الرابع، الصفحه ٢٠٣، كتاب الوصيه، باب الرجلين يوصى اليهما فينفرد كل واحد منهما بنصف التركه، الحديث الثانى ، قال: وفي كتاب محمد بن يعقوب الكلينى(رحمه اللّه)... الخ.
٣- المجلد الرابع، الصفحه ٢٢٢، كتاب الوصيه، باب الوصى يمنع الوارث ماله بعد البلوغ، الحديث الاول، قال: روى محمد بن يعقوب الكلينى (رضى اللّه عنه).. الخ.
٤- المجلد الرابع، الصفحه ٢٢٧، كتاب الوصيه، باب الرجل يوصى الى رجل بولده، الحديث الاول، قال: روى محمد بن يعقوب الكلينى (رضى اللّه عنه)... الخ.
٥- المصدر السابق، الصفحه ٢٣٢، كتاب الوصيه، الباب السابق، الحديث السابع، قال: وروى محمد بن يعقوب الكلينى (رضى اللّه عنه)... الخ.
٦- المصدر السابق والكتاب والباب المتقدمين، الصفحه ٢٣٦، الحديث السابع عشر، قال: وروى محمد بن يعقوب الكلينى (رضى اللّه عنه)... الخ.
ثانيا: كتاب الخصال وفيه مورد واحد. قال: حدثنا محمد بن على ماجيلويه(رضى اللّه عنه) قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكلينى... الخ.
ثالثا: كتاب التوحيد وقد روى عنه في عشرين موضعا بطرق واسانيد متعدده، روى بعضها عن محمد بن محمد بن عصام الكلينى منفردا، وفي بعضها منضما الى على بن احمد بن محمد بن عمران الدقاق، وروى بعضها عن الثانى منفردا.
رابعا: اكمال الدين روى فيه عن الشيخ الكلينى في عشر مواضع، في تسع منها عن محمد ابن محمد بن عصام الكلينى، والعاشر عنه وعن على بن احمد الدقاق وعلى بن عبداللّه الوراق.
خامسا: علل الشرائع روى عنه في سبعه مواضع، في ثلاث منها عن محمد بن محمد بن عصام الكلينى والباقى عن على بن احمد بن محمد الدقاق.
سادسا: معانى الاخبار روى عنه في خمسه مواضع، ثلاثه منها عن محمد ابن محمد بن عصام الكلينى، والرابع عن على بن احمد بن محمد الدقاق، والخامس عن على بن احمد بن موسى.
سابعا: عيون اخبار الرضا عليه السلام روى عنه في سته مواضع ثلاثه منها عن ابن عصام الكلينى، وفي واحد عن محمد بن على ما جيلويه، وفى اخر عن على ابن احمد الدقاق، والاخير عن الدقاق وعلى بن عبداللّه الوراق، وابن عصام الكلينى، والحسن بن احمد المودب، والحسين بن ابراهيم المودب جميعا.
ثامنا: كتاب الامالى روى فيه عن الكلينى في سته مواضع، اربعه منها عن ابن عصام الكلينى، والخامس عن على بن احمد بن موسى، والسادس عن محمد بن موسى بن المتوكل.
وعلى هذا يكون مجموع ما رواه الشيخ الصدوق عن محمد بن يعقوب الكلينى(رحمه اللّه) هو اثنان وستون روايه او ما هو قريب منه لاحتمال التكرار، بحسب بعض المطبوع من كتبه، واما البعض الاخر وهى كتاب عقاب الاعمال، وكتاب ثواب الاعمال، وكتاب المواعظ وصفات الشيعه، وفضائل الاشهر الثلاث، ومصادقه الاخوان وكتاب المقنع وكتاب الهدايه فلم يحدث في شىء منها عنه.
ا٦- قدراته الذاتيه ( نبوغه وبراعته):
لقد كان من الطبيعى ان تترك دعوه الامام الحجه عجل الله تعالى فرجه الشريف في حق الشيخ الصدوق اثارا عظيمه في تكوين شخصيته الفذه وموهلاتها العلميه، فظهرت اثار تلك الدعوه المباركه في عده مجالات من حياته، كان اهمها حبه الواسع للعلم، وحده ذكائه وبراعته، وقوه حفظه لما يسمع، حتى عرف عنه ذلك واشتهربين القميين وكانوا يعزون الامر فيه لدعاء الامام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وربما صارح بعضهم شيخنا الصدوق به.
وهذا ما يحدثنا به الشيخ الصدوق نفسه حيث يقول: (كان ابو جعفر محمد بن على بن الاسود (رضى اللّه عنه) كثيرا ما يقول لى اذا رانى اختلف الى مجلس شيخنا محمد بن الحسن بن احمد بن الوليد(رضى اللّه عنه)، وارغب في كتب العلم وحفظه: ليس بعجب ان تكون لك هذه الرغبه في العلم وانت ولدت بدعاء الامام عليه السلام).
ولا شك فان حضوره في سن مبكر على استاذ عظيم كابن الوليد بحيث يستوى صفه مع بقيه الحضار من مشايخ الحديث والروايه ينطوى على معنى كبير في ذاته، ويعكس بلا شك نبوغ الصدوق وتقدمه على اترابه، لا بل على مشايخ الحديث في وقته، فقد نقل الرجالى الكبير ابو العباس النجاشى: ان شيوخ الطائفه سمعوا منه وهو حدث السن.
وينقل شيخ الطائفه الطوسى في كتابه الغيبه عن ابى عبداللّه بن سوره (رحمه اللّه) انه كان يقول: (كلما روى ابو جعفر يعنى به الصدوق وابو عبد اللّه ابنا على بن الحسين شيئا يتعجب الناس من حفظهما ويقولون لهما: هذا الشان خصوصيه لكما بدعوه الامام لكما، وهذا امر مستفيض في اهل قم).
وقال الشيخ الطوسى ايضا عن حفظه وفطنته (لم ير في القميين مثله في حفظه وكثره علمه). بل في درايه والد الشيخ البهائى انه لم ير في عصره مثله في حفظه وكثره علمه.
ووصف الذهبى حفظه بانه يضرب به المثل وكان اخوه الفقيه الحسين بن على رحمه شريكا له في الحفظ والذكاء فانه عقد مجلس البحث والتدريس وله من العمر دون العشرين سنه، ولا ريب فان لهذا الامر مدلوله الخاص في قم ذلك المركز العلمى الحافل بائمه العلم ومشيخه الحديث والفقه والتفسير.
وبالطبع فقد افرز هذا النبوغ الذى حظى به شيخنا المترجم تراثا علميا ضخما قد ناهزت مولفاته الثلاثمئه.
انوار من سيره الشيخ الصدوق (قدس سره): حياه العلماء مليئه بالدروس والعبر، وحرى بكل طالب علم ومثقف ان يتملى ويتزود لحياته من الملكات الفاضله والخصال الروحيه الرفيعه التى كان يتمتع بها علماونا.
وانا اذ لا زلنا نتصفح حياه شيخنا الصدوق ونتفىء ظلاله، ونمتع ناظرنا ببحبوحه رياضه وجنانه نجد الكثير من مشاهد العبر، ودروس العظمه في حياه ومواقف هذا الرجل العظيم، تعرفنا على غنى معدنه، وعظيم سره وذاته. وقد شاء الزمن ان يكشف عن طرف من ذلك من خلال البحث والمطالعه في فناء حياته الشريفه، ولعل ما خفى علينا كثيرا جدا لا يعرفه الا اللّه فهو اعلم بعباده.
وبما ان المنشود من تسجيل حياه العلماء والحديث حولها، ليس هو العرض المجرد، بل الانتفاع بسيرتهم وتكميل النفوس باقتفاء اثرهم والتخلق باخلاقهم، نلوى عنان القلم لاستعراض نفحات طيبه ودروس بليغه من حياه الشيخ الصدوق (رضوان اللّه عليه) من خلال النقاط التاليه:
اولا الاحساس بالمسووليه: من الامور التى تميز بها فقهاونا على مر العصور شعورهم بالمسووليه، ونهوضهم باعبائها في جميع مواقع الحياه ومجالاتها. ولا يخفى هذا الامر على كل من سبر تاريخ اولئك الاعاظم وتامل في تفاصيله ووقائعه. ولا غرو فان الفقهاء هم حصون الامه وحماتها.
وان المتتبع لحياه شيخنا الصدوق اعلى اللّه مقامه يجد تجسيد ذلك في اكثر من مجال من حياه هذا الامام الفقيه الذى كان يقدر مواقع المسووليه في جسم الامه فيحاول ان يملاها بوجوده الشريف تاره وبقلمه وبيانه اخرى، وبسجالاته ومناظراته تاره ثالثه. ولعل في طليعه تلك المسووليات التى وضعت نفسها بين يدى شيخنا الصدوق(رحمه اللّه) تستنهضه لحمل اعبائها، سفره الى الرى واقامته فيها برغبه وطلب اهلها الذين رغبوا في حضوره واقامته للافاده من محضره على كثره من في الرى من المحدثين والفقهاء وذوى الفضل.
ولم يرد في المصادر تحديد دقيق لتاريخ هجرته الى الرى. نعم الموجود في اسانيد بعض كتبهوجوده بقم الى سنه ٣٣٩. وعلى اى تقدير فقد نزل الشيخ الصدوق بالرى والتفت حوله جماهيرها ومحدثوها، يستمطرون وابل علمه ويستظلون بغمائم فضله، قد غمرتهم رعايه الشيخ وعنايته، وعلاهم وقاره وهيبته، وبهرتهم غزاره علمه وتدفقه ما تركهم عكوفا على بابه، ذاهلين عمن سواه. ولقد كان من ثمرات وجوده (رحمه اللّه) بالرى دفاعه عن المذهب الحق من خلال محاججاته ومناظراته مع بعض علماء المسلمين او الملاحده بحضره الامير ركن الدوله البويهى الذى كان مجلسه واسعاً لاهل العلم والفضل، وقد جرت تلك المناظرات في موضوعات شتى كالامامه ومساله النص والغيبه وغير ذلك. وكان الشيخ يلزم انداده في البحث بالادله الدامغه والحجج الساطعه فيمسك الخصم عن مجاراته ويذعن بالحق الصراح الذى كشف الشيخ عن جليته واماط اللثام عن غرته. وهكذا نجد المسووليه في موضع اخر تحرك شيخنا الصدوق لان يقف بنيسابور بعد منصرفه من مشهد الامام الرضا عليه السلام، ليذب الشبهات والتشكيكات حول موضوع الغيبه، التى حيرت اتباع اهل البيت(عليهم السلام) حتى عدلوا عن طريق التسليم الى الاراء والمقاييس، ثم يصنف بعد ذلك كتاب اكمال الدين لاستئصال شافه الشبهه وفقء عين الفتنه. وبمثل هذا الحماس والحميه على الحق هب يذود عن المذهب ويبرئه بالمنطق العلمى مما نسبه اليه البعض من القول بالجبر والتشبيه فقبحوا بذلك عند الجهال صوره مذهبنا ولبسوا عليهم طريقتنا، فوضع للرد على تلك التخرصات والسفاسف كتاب (التوحيد).
وهكذا، فقد كان الشيخ الصدوق يتحرى مواقع الحاجه فيندفع لرفعها ولو كانت في اطار ضيق وفردى، كما في تاليفه لكتابه العظيم (من لا يحضره الفقيه) اذ كان ذلك استجابه لرغبه كاشف بها الشريف محمد بن الحسن ابو عبداللّه المعروف بنعمه شيخنا الصدوق (رحمه اللّه) في ان يصنف له كتابا في الحلال والحرام (رساله عمليه)، فلبى الشيخ الصدوق رغبته واجابه الى منيته من غير تعلل او اعتذار في انجاز هذا السفر الكبير لرغبه انسان واحد، وذلك عندما وجد ان من مسووليته القيام بمثل هذا الامر.
ولعمرى، فان هذا التواضع الجم والخلق الرفيع لهو من دلائل العظمه وسمو الذات ولا يجمع العلم الا بالتواضع وما تلك الابهه والمجد الذى بناه الشيخ الصدوق الا من ثمرات تواضعه وخصاله الحميده، وحقا فان من تواضع للّه رفعه.
ثانيا اخلاصه: لا ريب ان عامل الاخلاص يمثل جوهر العمل ولبه، فهو الذى يوجه الممارسه فينقلها الى عالم المعنى والعباديه ومن ثم يرشحها للقبول. كما انه يضمن سلامه العمل واستكماله ببلوغه المراحل النهائيه منه حتى يكتب له البقاء والخلود. وقد تجلى عامل الاخلاص في اعمال الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) بشكل بارز وملموس من خلال ما سطرته يراعته من مولفات. واليك بعض النماذج التى استهل بها كتبه لتكشف عن طرف مما ذكرنا.
قال في خطبه الخصال بعد ان ذكر العله من تصنيف الكتاب: فتقربت الى اللّه جل اسمه بتصنيف هذا الكتاب، طالبا لثوابه، وراغبا فى الفوز برحمته، وارجو ان لا يخيبنى فيما املته ورجوته منه بتطوله ومنه، انه على كل شىء قدير. وفى ثواب الاعمال: ان الذى دعانى الى تاليف كتابى هذا ما روى عن النبى صلى الله عليه واله وسلم انه قال: الدال على الخير كفاعله، وسميته كتاب (ثواب الاعمال) وارجو ان لا يحرمنى اللّه ثواب ذلك، فما اردت من تصنيفه الا الرغبه في ثواب اللّه وابتغاء مرضاته سبحانه، ولا اردت بما تكلفته غير ذلك، ولا حول ولا قوه الا باللّه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وفى كتاب التوحيد بعد التنبيه على الداعى لتاليف الكتاب قال: فتقربت الى اللّه تعالى ذكره بتصنيف هذا الكتاب في التوحيد ونفى التشبيه، مستعينا به ومتوكلا عليه، وهو حسبى ونعم الوكيل.
هذه نظره سريعه في لوح الاخلاص الذى سجل فيه الشيخ الصدوق جمله من اعماله، ولا شك فان اخلاص الشيخ وسلامه نواياه كانا وراء خلوده واشتهار صيته. ثالثا شغفه بالعلم: عندما تتقدس الغايه يتضاءل كل ما دونها، وعندما يسمو الهدف يصغر جميع ما سواه. ولقد كان العلم من اجل احياء الدين وخدمه الشريعه هدفا مقدسا عند الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) تراجعت امامه جميع الاولويات في حياه هذا الرجل الفذ، وارخص دونه كل غال من الراحه والاستقرار والدعه.
كان الشيخ الصدوق دووبا في طلب العلم منذ صباه وهو يعيش تحت رعايه ابيه، حريصا على تحصيله وضبطه، منصرفا عما سواه، وقد هياه انقطاعه للعلم للحضور عند اكابر العلماء والمحدثين في قم، ثم رشحه نبوغه للتصدى لكرسى الحديث، فسمع منه شيوخ الطائفه وهو في حداثه سنه وباكوره عمره. ولم يوقفه شغفه بالعلم للاكتفاء بما في حاضرته العلميه بقم، بل جنح به لتحمل وعثاء السفر ومكابده الغربه، والابتعاد عن الاهل والوطن، لا يثنى عزمه بعد الشقه ولا يفت في ارادته الم الغربه او شيخوخه السن، وقد نيف على الستين مما يعنى انه كان ماضيا في طلب العلم وجمع الحديث من اصقاع الارض حتى قبل وفاته بما يقل عن العقد. ولعمرى ان هذا لهو اعظم الجهاد، وابلغ الدرس في المثابره والاستقامه يقدمه امثال الشيخ الصدوق لاجيالنا الحاضره من طلبه العلم. نسال اللّه تعالى الرشاد لما هدى اليه السلف الصالح. رابعا تواضعه: من السمات البارزه في سيرته تواضعه في طلب العلم مع ما كان عليه امره من الجلاله والفضل والمكانه العلميه الرفيعه، الا ان ذلك لم يكن يصده عن الاخذ والافاده من الاخرين، وهذا ما يتكفل باثباته اسفاره التى دامت حتى اخريات حياته يبادل السماع فيها ارباب الحديث وهو رئيس الاماميه وصاحب التصانيف القيمه الغزيره، حتى انه لما ورد سرخس و ايلاق سنه ٣٦٨ وكان ذلك في اواخر حياته حيث توفي ٣٨١ سمع فيهما من ابى نصر محمد بن احمد السرخسى الفقيه، وابى الحسن محمد بن عمرو بن على بن عبداللّه البصرى، وابى نصر محمد بن الحسن بن ابراهيم الكرخى الكاتب، وابى محمد ابن بكر بن على بن فضل الحنفى وغيرهم، مع انه كان معه من كتبه في تلك السفره مئتان وخمسة واربعون كتابا نسخها الشريف ابو عبداللّه المعروف بنعمه باجمعها عند وروده على الشيخ الصدوق بقصبه ايلاق، كما نص عليه الصدوق نفسه في خطبه من لا يحضره الفقيه.
مرجعية الصدوق وبعدها الاجتماعي:
اكتسبت شخصية الصدوق شهرة عظيمة بين اوساط الامة بمختلف مذاهبها، فقد كان كما يصفه والد الشيخ البهائي جليل القدر عظيم المنزلة في الخاصة والعامة، وكان وجه الطائفة بخراسان والري.
ويرجع هذا في الحقيقة الى كثرة مؤلفاته التي انتشرت في اصقاع العالم الاسلامي، وتكرر اسفاره وتنقلاته بين البلدان، مما اكسبه شهرة واسعة النطاق، فتفاعل مع مرجعيته الكثير من البلاد. وكان يرد اليه العديد من الرسائل والمكاتبات من مختلف المناطق فيجيب عليها، كجوابات المسائل الواردة اليه من واسط وقزوين ومصر والبصرة والكوفة والمدائن ونيسابور وبغداد.
كما ان كتاب «من لا يحضره الفقيه» قد اعده الصدوق كرسالة عملية لبيان الاحكام الشرعية لعامة الناس، كما يستفاد ذلك من اول خطبته.
ومما يعكس البعد الاجتماعي والجماهيري في شخصية الشيخ الصدوق طلب اهل الري ورغبتهم في حضوره واقامته فيها مع كثرة من فيها من العلماء والمحدثين، كما ان الذي يستفاد من عبارة النجاشي السابقة انللصدوق مكانة بارزة في خراسان. وذكر القاضي الشهيد انها كانت ترجع اليه في الفتيا.
في ظلال مدرسة الشيخ الصدوق (قدس سره):
اتسمت مدرسة الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) وعطاؤها العلمي بالشمولية والموسوعية، ويمكن لنا رسم ابعاد ذلك العطاء الزاخر في ثلاثة محاور اساسية هي: تلامذته، آثاره، مناظراته.
اولا - تلامذته:
لا شك ان العطاء الذي قدمه الصدوق (قدس سره) لم يكن منحصرا بما الف وصنف، بل استوعب مجالات اخرى، فقد ربى جيلا من الاعلام ممن اخلص لعقيدته ونفع الامة بعلمه.
وقد تميز الرعيل الذي حمل عن الشيخ بخصائص في البعدين:الكيفي والكمي معا اما الجانب الكيفي: فيفصح عنه نقل النجاشي(رحمه اللّه) انه سمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن. ولا ريب فانهذه شهادة عظيمة المدلول يجدر التامل والامعان فيها; اذ كان مجتمعه (رحمه اللّه) بقم غاصا بفطاحل العلم واساطين الفقه والحديث، الامر الذي يصعب معه البروز والتصدي لكرسي المشيخة. ومما يعضد كلام النجاشي المذكور شهادة الشيخ الطوسي في حقه، حيثيقول: «لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه»، مما يدل على نبوغه وتفوقه.
وعلى كل حال، فان شخصية كالصدوق حقيقة بان تزدلف اليها جموع العلماء وتعكف على بابها زمر المحدثين والفقهاء.
وهذا هو الذي تحقق وكان،فقد سمع منه الكثير من طلاب الفضيلة والعلم، وربما رواهم اكثر كتبه او جميعها، كما يكشف عن ذلك تصفح الاسانيد وملاحظتها.
واما الجانب الكمي: فان جموعا غفيرة تخرجت على ابي جعفر الصدوق(رحمه اللّه) في مولده بقم ومنزله بالري وتنقلاته واسفاره التي طاف فيها كثيرا من البلاد وحواضر العلم، وسمع منه خلق كثير يشق حصرهم وعدهم، لذا نكتفي بذكر اعلام تلامذته والراوين عنه:
١- الشيخ الفقيه الحسين بن علي بن موسى بن بابويه القمي، اخو المترجم له، المولود ايضا بدعاء صاحب الامر (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف).
٢- الشيخ الجليل الحسن بن الحسين بن علي بن موسى بن بابويه القمي، ابن الشيخ المتقدم.
٣- الشيخ الثقة علي بن احمد بن العباس، والد الشيخ النجاشي، سمع منه ببغداد سنة (٣٥٥هـ)، واجازه الصدوق(رحمه اللّه) جميع كتبه، كما ذكر النجاشي ذلك.
٤- الشيخ الاجل ابوالحسن جعفر بن الحسين (او الحسن) بن حسكة القمي، شيخ الطوسي (رحمه اللّه).
٥- الشيخ الاجل، زعيم الطائفة ورئيس الفرقة، ابو عبداللّه محمد بن محمد بن النعمان المفيد، سمع منه ببغداد وعمره آنذاك ثمانية عشر عاماً.
٦- الشيخ الجليل الحسن بن محمد بن الحسن القمي، مؤلف تاريخ قم.
٧- الشيخ الجليل الثقة ابو محمد هارون بن موسى التلعكبري.
٨- الشيخ محمد بن طلحة بن محمد النعالي البغدادي، من شيوخ الخطيب البغدادي، سمع من الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) عند وروده بغداد، كما ذكره الخطيب.
٩- الشريف ابو عبداللّه بن محمد بن الحسن، المعروف بنعمة.
١٠- الشيخ الجليل جعفر بن احمد بن علي، ابو محمد القمي، نزيل الري، وهو من مشايخ الصدوق(قدس سره) ايضا.
١٢- الشيخ حسين بن عبداللّه بن الفحام.
١٣- الشيخ السعيد محمد بن احمد بن احمد القمي، المعروف بابن شاذان.
١٤- الشيخ الاجل ابو جعفر محمد بن الدوريستي.
١٥- الشيخ الاجل ابو عبداللّه الحسين بن عبداللّه الغضائري.
وثمة مجموعات اخرى من تلامذته تركنا ذكرهم روما للاختصار. ولا يفوتنا التنبيه هنا على ان العلامة الاميني (رحمه اللّه) قد ذكر في الغدير نقلا عن كتاب الاجازات ان من تلامذته السيد المرتضى (قدس سره)، وهو في غاية الغرابة; اذ كانت ولادته سنة (٣٥٥هـ)، ودخول الصدوق بغداد صادف الاول منه سنة (٣٥٢هـ) والثاني سنة ولادة المرتضى (٣٥٥هـ)، فكيف يعد مع هذا من تلامذته؟! كما انه لم ينقل عن السيد المرتضى سفره الى قم.
ثانيا - آثاره ومؤلفاته:
للشيخ الصدوق اكثر من ماثرة ويد بيضاء على مجتمعه الذي عاش فيه، وعلى الاجيال التي تلت عصره.
ومن تلك المآثر التي خلدت اسمه ورفعت قدره مصنفاته التي ملات العالم الاسلامي كثرة وجودة، فقد ناهزت الثلاثمئة، وقد نص الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) في مقدمة «من لا يحضره الفقيه» ان مئتين وخمسة واربعين منها كانت معه عند حلوله بقصبة «ايلاق» ببلخ.
وقد جاءت مصنفات الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) جامعة لاكثر ابواب الثقافة والعلم، وهذا يعكس بلا ريب سعة ثقافته ومشاركته في اكثر الفنون، بل تضلعه واحاطته بها.
كما تعتبر كتبه (رحمه اللّه) من اوثق المصادر المعتمدة لدى الطائفة بلحاظ الفترة التي صنفت فيها، وبلحاظ مكانة ووثاقة الشيخ الصدوق نفسه سيما كتابه «من لا يحضره الفقيه» ثاني الاصول الحديثية، الذي اثبت به على كل فقيه منة، وجامعه الآخر الموسوم ب«مدينة العلم» وهو اكبر من سابقه، والذي عكفت على الافادة منه اجيال من العلماء والفقهاء ردحا من الزمن، فيما حرم منه آخرون لضياعه. الى غير ذلك من مصنفاته التي رفدت تراثنا الروائي والفقهي بشكل ملحوظ.
هذا، ولم تات شهرة كتب الشيخ الصدوق(قدس سره) وذيوع صيتها في القرون التي تلت عصره حسب، بل كانت كتبه معروفة في زمانه تتداولها الايدي ويرويها العلماء سماعا واجازة، فقد نقل الرجالي الثبت الشيخ ابو العباس النجاشي بعد ايراده فهرس كتبه ان اباه اخبره بجميع كتب الصدوق، وانه قرا بعضها على ابيه، ثم نقل عن ابيه: ان ابا جعفر الصدوق اجازه رواية جميع كتبه، وذلك عند وروده بغداد وسماعه عنه.
وهكذا نرى ان اشتهار كتبه واهتمام العلماء بها في عصره بلغتحدا انه لما اقام بايلاق من اعمال سمرقند سنة( ٣٦٨هـ) طلب منه الشريف ابو عبداللّه المعروف بنعمة، نسخ جميع كتبه، وكانت عدتها (٢٤٥) كتابا، كما نص عليه الصدوق(رحمه اللّه) في اول «من لا يحضره الفقيه».
قال العلامة المجلسي في وصف مؤلفات الصدوق وذلك عند توثيقه لمصادر البحار:اعلم ان اكثر الكتب التي اعتمدنا عليها في النقل مشهورة معلومة الانتساب الى مؤلفيها: ككتب الصدوق، فانها سوى الهداية، وصفات الشيعة، وفضائل الشيعة، ومصادقة الاخوان، وفضائل الاشهر، لا تقصر في الاشتهار عن الكتب الاربعة التي عليها المدار في هذه الاعصار، وهي داخلة في اجازاتنا، ونقل منها من تاخر عن الصدوق من الافاضل الاخيار. وكتاب الهداية ايضا مشهور، لكن ليس بهذه المثابة. ووثق السيد ابن طاووس جميع كتبه ومصنفاته.
وعلى اي تقدير فقد تلقى العلماء كتبه بالوثوق والقبول، بل ان اكثر الاصحاب ينزلون كلامه منزلة النص، كما تقدم ذلك عن العلامة المجلسي، بل عن بعض الاصحاب اعتبار مراسيله كمراسيل ابن ابي عمير، كما سنشير الى ذلك عند الحديث عن كتابه «من لا يحضره الفقيه»، وهذه هي اعلى مراتب التوثيق والاعتماد. وقد بلغ وثوق العلماء وسكونهم لما يرويه حتى لقبوه بالصدوق فيما يروي ويحدث.
وامتازت كثير من مصنفات الصدوق(رحمه اللّه) ببعض الامتيازات المهمة كتاريخه لمايرويه زمانا ومكانا مما يضفي قيمة خاصة لكتبه.
وعلى كل حال، فقد جاء التراث الذي خلفه الشيخ الصدوق(قدس سره) خصب الميادين مترامي الاطراف، متدفقا في مادته، واضحا في عباراته، مستوعبا لسائر ابواب العلم وآفاق المعرفة.
وفيما يلي تفصيل ما كتبه في الفقه، مع الاشارة الى عدد مؤلفاته في العلوم الاخرى دون ايراد اسمائها مراعاة للاختصار:
ا - مؤلفاته في الفقه:
١- الاستسقاء
٢- الاعتكاف
٣- الاغسال
٤- الاوامر
٥- التجارات
٦- التقية، وهو كتاب: حذو النعل بالنعل، ذكره النجاشي بهذا الاسم
٧- التيمم
٨- جامع آداب السفر للحج
٩- جامع الحج
١٠- جامع علل الحج
١١- جامع فرض الحج والعمرة
١٢- جامع فضل الكعبة والحرم
١٣- جامع فقه الحج
١٤- جامع نوادر الحج
١٥- الجزية
١٦- الجمعة والجماعة
١٧- جواب رسالة و ردت في شهر رمضان
١٨- جواب مسالة في الطلاق
١٩- جواب مسالة نيسابور
٢٠- جوابات المسائل البصريات
٢١- جوابات المسائل القزوينيات
٢٢- جوابات المسائل الكوفيات
٢٣- جوابات المسائل المصريات
٢٤- جوابات المسائل الواسطية. هذا كله بناء على كون هذه المسائل في الفقه، وظهوره غير بعيد
٢٥- الحدود
٢٦- الحذاء والخف، وقد تقدم باسم التقية
٢٧- حق الجذاذ
٢٨- الحيض والنفاس
٢٩- الخمس
٣٠- دعائم الاسلام، ذكره الشيخ الطوسي في الفهرس بهذا الاسم، وذكره النجاشي باسم «دعائم الاعتقاد»
٣١- الديات
٣٢- الرسالة الاولى، في شهر رمضان، كتبها الى ابي محمد الفارسي
٣٣- الرسالة الثانية، في شهر رمضان
٣٤- الزكاة
٣٥- السكنى والعمرى
٣٦- الصدقة والنحلة والهبة
٣٧- صلاة الحاجات
٣٨- الصلوات سوى الخمس
٣٩- الصوم
٤٠- العتق والتدبير والمكاتبة
٤١- علل الحج
٤٢- علل الشرائع والاحكام والاسباب، كذا سماه المؤلف في كتاب التوحيد
٤٣- علل الوضوء
٤٤- فرائض الصلاة
٤٥- فقه الصلاة
٤٦- القضاء والاحكام
٤٧- تحريم الفقاع
٤٨- اللعان
٤٩- المتعة
٥٠- المسائل
٥١- مسائل الوضوء
٥٢- مسائل الصلاة
٥٣- مسائل الزكاة
٥٤- مسائل الخمس
٥٥- مسائل الحج
٥٦- مسائل الوقف
٥٧- مسائل النكاح
٥٨- مسائل العقيقة
٥٩- مسائل الرضاع
٦٠- مسائل الطلاق
٦١- مسائل الوصايا
٦٢- مسائل المواريث
٦٣- مسائل الحدود
٦٤- مسائل الديات
٦٥- المقنع في الفقه
٦٦- المواريث
٦٧- الملاهي
٦٨- المعايش والمكاسب
٦٩- المناهي
٧٠- مصباح المصلي، سماه الشيخ وابن شهرآشوب«المصباح»
٧١- مواقيت الصلاة
٧٢- الموالاة
٧٣- المياه
٧٤- النكاح
٧٥- نوادر الصلاة
٧٦- الوصايا
٧٧- الوضوء
٧٨- الوقف
٧٩- الهداية
٨٠- فضائل الصلاة
٨١- فضل الصدقة
٨٢- فضائل الاشهر الثلاث.
ب - مؤلفاته في الحديث:
وتبلغ ستة عشر كتابا.
ج - مؤلفاته في الاعتقادات والكلام: وتبلغ خمسة وعشرين كتابا.
د - مؤلفاته في الرجال والتراجم: وتبلغ ثلاثة عشر كتابا.
ه - مؤلفاته في احوال النبي صلى الله عليه واله وسلم والائمة عليهم السلام وفضائلهم: وتبلغ عشرين كتابا.
و - مؤلفاته في التفسير وعلوم القرآن: وهي اربعة كتب.
ز - مؤلفاته في الاخلاق:
وتبلغ تسعة كتب.
ح - مؤلفاته في التاريخ:
١- كتاب الجمل.
٢- كتاب التاريخ، وهو الذي احتمل صاحب الذريعة انه كتابه المشتمل على تراجم الرواة من الخاصة والعامة كافة.
ط - مؤلفاته في الدعاء والزيارة: تبلغ خمسة كتب.
ي - مؤلفاته في الطب: كتاب نوادر الطب.
وقد ذكر النجاشي من هذه الكتب (١٨٩) كتابا، ونص الشيخ الطوسي على اربعين منها، وابن شهرآشوب عدمنها ستين.
بيد ان مما يؤسف له حقا، تسلط عوادي الايام على ذلك التراث الزاخر، ففرقته ايادي سبا، ولم يبق لنا منها الاالاسم، وربما ضن الزمان بذلك ايضا.
وعلى كل حال، فان المطبوع من كتبه في عصرنا هو:
١- من لا يحضره الفقيه
٢- عيون اخبار الرضا عليه السلام
٣- الخصال
٤- التوحيد
٥- اكمال الدين واتمام النعمة
٦- علل الشرائع
٧- معاني الاخبار
٨- الامالي
٩- الاعتقادات
١٠- مصادقة الاخوان
١١- عقاب الاعمال
١٢- ثواب الاعمال
١٣- صفات الشيعة
١٤- فضائل الاشهر الثلاث
١٥- المقنع
١٦- الهداية.
نظرات في تراث الشيخ الصدوق (رحمه اللّه):
لا شك ان الالمام بتراث الصدوق وبسط الكلام حول كل مفردة من مفرداته ليطول، وربما يتعذر; لاختفاء الكثير منه وجهلنا به بحيث لا نعرف منه الا الاسم; لذا سنسلط الضوء على بعض مؤلفاته مقتصرين على ذكر اعلام كتبه واشهرها:
الاول: من لا يحضره الفقيه: ويقع البحث فيه حول الامور التالية: السبب في تاليفه وتسميته، قيمته العلمية، صحة رواياته، مراسيله، ترتيبه وعدد ابوابه واحاديثه، الشروح والتعليقات عليه.
السبب في تاليفه وتسميته: يعتبر كتاب «من لا يحضره الفقيه» من اوسع واشهر الموسوعات ومصادر الحديث لدى الشيعة، على الرغم من مضي اكثر من عشرة قرون على تاليفه، فقد الفه سنة (٣٦٨ هـ) او ما بعدها، وهي سنة ورود الشريف ابي عبداللّه المعروف بنعمة قصبة ايلاق في بلاد بلخ حيث كان الشيخ الصدوق (قدس سره) فيها، فطلب اليه وضع كتاب جامع للحلال والحرام والشرائع والاحكام، مستوفيا لجميع ما كتبه الشيخ في الفقه من سائر مصنفاته من اجل ان يكون مرجعا لديه ومعتمدا عليه، فاجابه المؤلف الى مسؤوله، وشرع في تاليفه وترتيبه وهو بارض بلخ، حتى اتمه وقراه فيها على الفاضل المذكور (الشريف نعمة)، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق في آخر الكتاب.
واما تسميته: فقد كانت ايضا باقتراح من الشيخ المذكور على المؤلف تاثرا بكتاب «من لا يحضره الطبيب» الذي صنفه محمد بن زكريا الرازي (م ٣٦٤هـ).
قيمته العلمية: يعد كتاب «من لا يحضره الفقيه» من اكثر مصادر الحديث اعتبارا واعظمها اشتهارا بين الفقهاء والمحدثين، فقد حظي بعنايتهم واستاثر باهتمامهم. قال الفقيه المعظم السيد بحر العلوم(قدس سره) في حقه: «احد الكتب الاربعة التي هي في الاشتهار والاعتبار كالشمس في رابعة النهار، واحاديثه معدودة في الصحاح من غير خلاف ولا توقف من احد».
وياتي هذا الكتاب في القيمة العلمية واعتماد العلماء عليه في المرتبة الثانية من بعد كتاب الكافي لثقة الاسلام الكليني(رحمه اللّه). قال المحدث النوري(رحمه اللّه) «كتاب من لا يحضره الفقيه الذي بعد الكافي اصح الكتب واتقنها على ما صرح به ائمة الفن».
ولعل ثمة رايا آخر يذهب الى ترجيحه على كتاب الكافي. قال السيد بحر العلوم(رحمه اللّه): «ومن الاصحاب من يذهب الى ترجيح احاديث الفقيه على غيره من الكتب الاربعة نظرا الى:
١- زيادة حفظ الصدوق، وحسن ضبطه، وتثبته في الرواية.
٢- تاخر كتابه عن الكافي.
٣- ضمانه فيه لصحة ما يورده، وانه لم يقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه، وانما يورد فيه ما يفتي به، ويحكم بصحته، ويعتقد انه حجة بينه وبين ربه، وبهذا الاعتبار قيل: «ان مراسيل الصدوق في «الفقيه» كمراسيل ابن ابي عمير في الحجية والاعتبار، وان هذه المزية من خواص هذا الكتاب، لا توجد في غيره من كتب الاصحاب».
وقد بلغ اعتماد العلماء على هذا الكتاب وسكونهم اليه حدا صرح البعض معه بقبول مراسيله والقول باعتبارها والاخذ بها كما ياخذون بمسانيده، وهو يكشف بلا شك عن مدى قيمة الكتاب واعتباره الذي هو كاشف بالضرورة عن وثاقة صاحبه ومنزلته لدى الاصحاب. قال صاحب البلغة: «بل رايت جمعا من الاصحاب يصفون مراسيله بالصحة ويقولون انها لا تقصر عن مراسيل محمد بن ابي عمير، منهم العلامة في المختلف، والشهيد في شرح الارشاد والمحقق الداماد».
وعلى كل حال، فقد استاثر الكتاب باهتمام العلماء اكثر من الف عام; وذلك لجملة امور:
١- شهادة مؤلفه بصحة جميع رواياته باعتبار انها مستخرجة من كتب مشهورة واصول معتمدة.
٢- باعتباره يمثل آراء وفتاوى احد اهم قدماء فقهائنا في اوائل عصر الغيبة الكبرى.
٣- المكانة العظيمة التي يتمتع بها نفس الشيخ الصدوق(رحمه اللّه) لدى الطائفة; لدقته وحفظه، حتى ان روايته كما سمعت عن البعض اولى عندهم من رواية الكافي.
وبعد هذا كله، فان الكتاب لا يخلو من بعض الملاحظات التي نشير اليها بشكل عاجل:
١- اختلاط كلام المؤلف وزياداته مع النص، كما حصل ذلك في مواضع من كتابه، حتى صار ذلك منشا لاختلاف فهم الفقهاء او حكمهم، ولذلك امثلة عديدة في كتب الفقه لا نريد الاطالة بذكرها، ولعل هذا هو السر في تقديم البعض نقل الشيخ الكليني على الشيخ الصدوق لاضبطيته.
٢- عدم التزامه بما قطعه على نفسه في مقدمة الكتاب من انه يفتي ويحكم بجميع ما فيه، بل قد تخلف في موارد، كما نبه على ذلك غير واحد من الاعلام.
صحة رواياته:
ذهب لفيف من علمائنا الى صحة اخبار «من لا يحضره الفقيه» اعتمادا على ان كلام مؤلفه في اوله حيث قال: «ولم اقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه، بل قصدت الى ايراد ما افتي به واحكم بصحته، واعتقد انه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعول واليها المرجع» شهادة بوثاقة رواته واعتراف بصحة رواياته.
قال السيد بحر العلوم(قدس سره) في معرض كلامه عن احاديث هذا الكتاب: «واحاديثه معدودة في الصحاح من غير خلاف ولا توقف من احد، حتى ان الفاضل المحقق الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني مع ما علم من طريقته في تصحيح الاحاديث يعد حديثه من الصحيح عنده وعند الكل».
وذهب الى هذا الراي المحقق الاردبيلي في مواضع من كتابه مع ما هو عليه من التدقيق في اسانيد الاخبار ومتونها، الا ان هذا الادعاء قد يكون تاماً بناء على اصطلاح القدماء في الخبر الصحيح للحديث الذي يركن اليه ويعتمد عليه ولو لوجوده في الكتب المشهورة، او تكرره في اصل او اصلين او غير ذلك من القرائن التي تحف الخبر وتشهد بصحته.
وعلى هذا جرى رئيس المحدثين الصدوق(قدس سره) في اطلاق الصحيح على روايات الفقيه، الا ان المتاخرين جروا في اطلاق الصحيح على ما كان جميع سلسلة سنده اماميين ممدوحين بالتوثيق، وعليه فان كثيرا من احاديث هذا الكتاب يكون بمعزل عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتاخرين، ومنخرطا في سلك الحسان والموثقات بل الضعاف.
وقد ناقش المتاخرون في صحة الدعوى المذكورة، ولعل السيد الطباطبائي صاحب «مفاتيح الاصول» هو اول من ناقش في ذلك، وتابعه وشيد رايه السيد الخوئي في معجم رجال الحديث وفي بحوثه الفقهية، بل الاول منهما منع من دلالة كلامه على دعواه العلم بصدور جميع ما في كتابه عن الائمة المعصومين(عليهم السلام).
مراسيله:
لا شك ان المكانة العلمية التي امتاز بها شيخنا الصدوق، والمنهج العلمي الدقيق الذي اقتفاه في حفظ الآثار وضبط الاخبار، وتبويب الروايات وتصنيفها وتحملها ونقلها، قد زاد من قيمة روايته ووثوق العلماء به، حتى نزلوا كلامه منزلة النص; لما علم انه لا يتعدى النص، بل ان وثاقته من الواضحات التي لم يتردد فيها احد، وقال السيد بحر العلوم (رحمه اللّه): «وثاقة الصدوق امر جلي، بل معلوم ضروري كوثاقة ابي ذر وسلمان، ولو لم يكن الا اشتهاره بين علماء الاصحاب بلقبيه المعروفين لكفى»، وقال(رحمه اللّه) فيما يخص التوقيع الشريف في حقه: «ووصفه بالفقاهة والنفع والبركة دليل على عدالته ووثاقته; لان الانتفاع الحاصل منه رواية وفتوى لا يتم الا بالعدالة التي هي شرط فيها، فهذا توثيق له من الامام والحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف وكفى حجة على ذلك»، بل ذكر المحدث النوري ان: «عدالته من ضروريات المذهب».
وقد نص على توثيقه جماعة من الاعلام، منهم: الفقيه الفاضل محمد بن ادريس في السرائر، والسيد الثقة الجليل علي بن طاووس في فلاح السائل ونجاح الآمل وفي كتاب النجوم والاقبال وغياث سلطان الورى لسكان الثرى، والعلا مة في المختلف والمنتهى، والشهيد في نكت الارشاد والذكرى، والسيد الداماد، والشيخ البهائي، والمحدث التقي المجلسي، والشيخ الحر العاملي.
ومن هنا فقد اخذ بعض اكابر الطائفة بمراسيله كاخذهم بمسانيده معللين ذلك: بانه لايرسل الا عن ثقة، وان جميع ما رواه في كتابه هذا مستخرج من كتب مشهورة، كما تعهد بذلك في مقدمة الكتاب، وانه لم يورد الاخصوص ما يفتي به، ويراه حجة شرعية يستند اليها، ولذا فانهم لا يفرقون كما ذكرنا بين مراسيله ومراسيل ابن ابي عمير، فلا تطرح روايته بمجرد الارسال، بل نسب الشيخ البهائي الى جماعة من الاصوليين القول بترجيح مراسيل العدل على مسانيده، محتجين بان قول العدل: «قال رسول اللّه صلى الله عليه واله وسلام كذا» يشعر باذعانه بمضمون الخبر، بخلاف ما لو قال: «حدثني فلان عن فلان انه صلى الله عليه واله وسلم قال كذا»، والا كان الحكم الجازم بالاسناد هادما لجلالته وعدالته، وقد ذهب الى هذا المسلك جمع من علمائنا الماضين، كالعلامة الحلي في حرمة اخذ الاجرة على الاذان، والشهيد الاول في شرح الارشاد، والشيخ البهائي، والحر العاملي، والمحقق الداماد، والفاضل التفريشي، والشيخ ياسين بن صلاح الدين، وهو المستفاد من كلام المحقق القمي في القوانين، ومن المعاصرين ذهب الى ذلك الامام الخميني، والسيد حسن الصدر.
استنتاج وتعقيب:
تعقيبا على ما تقدم تجدر الاشارة الى الامور التالية:
١- ان المراجع لكلماتهم يجد تفاوتا في تحديد دائرة الحجية والاعتبار التي يرونها لمراسيل «الفقيه»، فمنهم من يثبت الحجية باوسع نطاقها ولكافة اقسام المرسل، كالعلامة الحلي والشيخ البهائي والحر العاملي والفاضل التفريشي والشيخ ياسين بن صلاح الدين، ومنهم من يقصر الحجية على خصوص المرسل الذي يسند فيه الحديث للمعصوم مباشرة، كالمحقق الداماد والامام الخميني.
٢- ان المفهوم من ظاهر بعض الكلمات المزبورة ولازم بعض التعليلات المذكورة في حجية المرسل هو اعتبار مرسلات الصدوق بشكل مطلق، سواء التي في الفقيه او التي في سائر كتبه الاخرى، كالمقنع والهداية والخصال ومعاني الاخبار وغيرها مما يعتمده الفقهاء في النقل عنها. وهذا هو صريح او ظاهر جملة من الكلمات السابقة، ككلام العلامة والحر العاملي والمحقق الداماد والامام الخميني(قدس سره)، فلاحظ.
٣- ان المسلك المتقدم الذي يفترض ثبوت الحجية لمراسيل الثقات كابن ابي عمير وصفوان بن يحيى واحمد بن ابي نصر، والشيخ الصدوق قد ناقش فيه بعض اعلام المتاخرين كالمحقق الخوئي والعلامة المامقاني في المقباس، وصاحب التكملة في خصوص مراسيل الصدوق.
تتميم، وفيه تنبيهان: الاول: ان اصطلاح المرسل يقع على معان وانحاء: قال الفاضل التفريشي في شرحه على «من لا يحضره الفقيه»:«ومرادهم من المرسل انه:
١- اعم مما لم يذكر فيه اسم الراوي; بان قال: روي، او قال: قال عليه السلام.
٢- او ذكر الراوي، وصاحب الكتاب نسي ان يذكر طريقه اليه في المشيخة».
الثاني: ان عدة مراسيل الكتاب تبلغ الفين وخمسين مرسلا، بحسب ما افاده بعض الاعلام.
وقد ذكر المجلسي الاول(رحمه اللّه) في شرحه على «من لا يحضره الفقيه» انه وجد بحسب التتبع ان اكثر مراسيله من الكافي.