بيان الحق عند معترك الأهواء في الغيبة الكبرى
السيد أحمد الاشكوري
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
الإسلام تمثل بوضوح في المذهب الإثني عشري، وهو في زمن الحضور واضح المسير بيّن الطريق في تحديد خصوصيات القائد وكيفية معرفته، وذلك للآثار التي دلّت على لزوم تنصيب الإمام والتعرف عليه ولابدّية متابعة المعصوم، وإن كان قد حصل في الأثناء الانشطار والتشظظ بين منكر للإمامة، وبين من ادعاها زوراً لنفسه، وبين منكرها في حق الأئمة، لعدم انطباق المقاسات المعينة من قبل بعض القواعد الجماهيرية، كما جرى في صلح الإمام الحسن (عليه السلام)، وكذا في فلسفة نشوء الفرقة الزيدية التي اشترطت في الإمام القيام بالسيف، ومن ثمّ قالت بإمامة زيد بن علي (عليهما السلام).
فحتى مع وجود المعصوم (عليه السلام) حصل توهم وشبهة وحاول البعض أن ينظر للقائد المعصوم (عليه السلام) ويجعله تابعاً لا متبوعاً.
أما في زمن الغيبة فتحديد الحجة والموقف الشرعي في مختلف المجالات يكون فيه شيء من الخفاء مما أوجب انثلام الأمة وانحراف البعض وإن قلّ عددهم.
*فمنهم من أسقط التكليف في هذا الظرف، بل بالغ وأمر بنشر الفساد.
*ومنهم من جوّز العمل بالآراء المستحسنة والإمارات العاميّة أو الرجوع إلى علماء العامة وطريقتهم.
*ومنهم من رأى أن الدين واضحٌ ولا حاجة إلى معينٍ، وزَهِد في العلماء، بل نشر راية أولوية محاربتهم.
*ومنهم من اتخذ من المرجعية وراثة.
*ومنهم من ساقته الضوابط السياسية فصار الميزان عنده الانتماء إلى الحزب السياسي ولو على مستوى الفكر.
*ومنهم من جعل المعيار في الحجة جمال البيان والخطابة فوحّد بين الخطيب والفقيه وإن لم تتوفر فيه مقومات الاستنباط.
*ومنهم من سار وراء الفكر والتفلسف والنفوذ في الوسط الشبابي وسلطنة المعرفة للحداثة والعولمة.
*ومنهم من حابى أرباب المسالك الصوفية والعرفانية والتضلع في العلوم الغريبة كالجفر والرمل.
*ومنهم من جعل الملاك في الحجة التحدث بالمفردات الساخنة المسلّمة عند الجميع كإخراج المحتل.
*ومنهم من قال بقداسة الجميع.
*ومنهم من له باع في عرض الفقه التسامحي كتجويز المحرمات الصارخة.
*ومنهم من نظم الموسوعة الفقهية من متن مشاكل الواقع وبمعزل عن النص الديني ليضاهي الفقه الوضعي مطلياً عليه صبغة الإسلام في نهاية الأمر، أو غير ذلك...
لقد هزلت حتّى بدأ من هزالها * كلاها وحتى استامها كل مفلس
قالت أفكارنا: العقل والعقلاء والنص الديني والميراث الفقهي الأصيل يلزمونا بطاعة الله في جميع الأحوال لا طاعة أهواءنا، وأن تكون طاعة الله من طريق الكتاب والسنة، وأن تؤتى البيوت من أبوابها، ففي صحيحة أبي عبيدة: (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمن وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه.)
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال أنهاك أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم)، وقد حارب الأئمة مدرسة القياس بالرأي بلسان (إذا قيس الدين محق) وعن الإمام الجواد (عليه السلام) أنه قال لعمّه عبد الله بن موسى: (يا عمّ انه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك لِم تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك) فالمعتمد حسب المقياس الديني رواية الاحتجاج ونحوها، (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه).
وفي رواية أخرى (مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه).
فإن المستفاد من النص أن الحجّية منحصرة في زمن الغيبة بما حدده المعصوم (عليه السلام) وهو حجّية الفقهاء.
هذا كله بحسب خصائص الفقيه في عصر الغيبة من الأعلمية والعدالة والزهد.
أما كيفية التعرف على الفقيه، فهذه أيضاً فيها مشارب وأذواق فلا عذر للمكلف في عدم التقليد، أو التسامح في الانتخاب، أو الرجوع إلى طرق غير صحيحة وغير مأمونة كالاعتماد على الاستخارة أو المنامات، أو الرجوع إلى نفس الشخص في تقليده، أو التعويل على ما ينقل عنه من كرامات مختلفة، أو الاستعانة بغير المتخصص في التعريف وإن كان يرتدي الزي الديني، أو الركون إلى الإذاعات والإعلام المسيّس والوجاهات الاجتماعية والعشائرية بل والقومية والأحزاب كذلك، أو الاتكاء على الشياع المبهم غير معلوم المناشئ أو انبساط الصور، أو اقتران صورته بصورة مرجع عالي المقام، أو محض حضوره درسه برهة من الزمن، أو الظنون، أو الأساليب العاطفية وغير العقلائية من قبيل مناشدة المفلسين للمحاججة، فأي عقل سليم يرتضي لزوم الاستجابة لصبي لم يهضم الحروف الأبجدية ويترك الانقياد لعالم مخضرم انحنت أعناق العلماء لمقامه، أو الاستجابة لدعوى المجهولين والمضمرين، أو من لم يعرفه حتّى أصحابه وقرناؤه، فإن السبيل المعوّل في المعرفة هو أن يكون الفقيه أستاذاً فَرضَ هيمنته على الوسط العلمي واعترفت بمقامه الطبقة الثانية من أهل العلم، وهي التي بيدها زمام الأمر في العرصات العلمية، وبعبارة فقهية التعويل على (البيّنة الشرعية) وهي شاهدان عدلان فرشت لهما وسادة العلم ومن أهل الخبرة، ولم يختلف أصحاب الفنّ في مقاماتهم العلمية، وفي عدالتهم ووثاقتهم واستقلالهم الفكري في الاختيار، هذا شأن تحديد الفقيه.
أما أداء الفقيه فالوظيفة المهمة هي بيان الحلال والحرام المبرئ للذمم والموجب للعذر الإلهي يوم الحشر، وامتثال الحق والتكليف، والمذكر بالله واليوم الآخر، ويتحرك أيضاً في تأمين المصالح العليا، والحفاظ على النظام العام وسدّ باب الهرج والمرج، والحرص على دماء وأعراض وأموال الناس، وإعلاء كلمة التوحيد ورعاية المؤسسة الدينية نهجاً وفكراً وسلوكاً، ويكون تشخيص ذلك بيده حسب ملكاته الذاتية والعلمية واستيناساً بالطبقة المحيطة من أهل الفضل والعلم والورع، ويحرص بأن لا تندرس معالم الدين، ويسعى إلى طمس البدع والخرافة، فإذا ظهرت البدع فعليه أن يظهر علمه لكن لا بمعنى المواجهة المقرفة والنزول إلى الجزئيات المقززة، وإنما يعرض الفكرة الأصيلة في أجواء هادئة صحية تنجذب إليها النفوس الشفافة، فلا معنى للجدل والتهاترات والمشاحنات، ولا ينجر وراء طريق يرسم خارطته العدو ليجره للمعركة.
فحديثه عام وبلسم وشفاء لنفوس تطلب الحق، وعلاجه مثمر وإن بطئ، فالمذهب مع كثرة أعداءه يتسم بالإتساع لحكمة أصحابه، كما ونُحذّر من البعض الذي يسعى أن ينظر للفقيه أو أن يتوقع للعالِم أن ينزل إلى جزئياته الخاصّة ويصرف جلّ وقته في مشاكله، فليس وقت العالم ملكاً لأحد، بل هو ملك الدين فيسير وفق المصالح الأهم.
وأيضاً من أهمّ شواخص المرجعية الاستقلالية والاستغناء، كما نراه بوضوح في مراجعنا على طول المسير.
ومن الإمارات الخطيرة أن بعض الجهات أو المؤسسات السياسية ترسم صفات الفقيه وتوحي للآخرين أن الساحة خالية من الفقيه حتّى تبرر للآخرين تصدّيها وإن اعترفت بفقدانها للملاكات.
هذا كله لتحديد الموقف الفقهي فما بالك في تحديد جوهر الدين والقضايا المركزية، فمعرفة أصول الدين وتحديدها وتطبيق أدلتها على الواقع الخارجي لاسيما في قضية الإمام المهدي وتوقيت الظهور وتنزيل علامات الظهور على ظرفنا الخاص أمر في غاية الإشكال.
فلا مجال للتخرص، ولا ينبغي استغلال الظرف الاجتماعي العصيب والفقر العلمي والعاطفة الوهاجة في القلوب للنيل من حطام الدنيا عن طريق نافذة الدين والإغراء بالجهل والتدليس، فالتثبت والفحص والتحقيق والتدقيق ومواكبة علماء الدين هو السبيل لسد هذه الإساءات.
﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾