الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ودولة العدل الإلهي
زكية كاظم جبار
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله الذي جعل الحمد مجازاً إلى حقيقة شكره وذريعة إلى بلوغ رضوانه وجميل ذكره، والصلاة والسلام على محمد الذي أجاز له القرب «قاب قوسين أو أدنى» وعلى أوصيائه وحملة عبئه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. لا سيما سيد الموحدين وسلطان العارفين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وبعد..
يعيش العالم اليوم صراعات تنذر بأتون حروب مدمرة ويعصف القلق بشعوبها المقهورة ولاهية قادتها بأعداد ترسانتها من أسلحة مدمرة تنذر بفناء البشرية.
ولابد لهذا الحال من منقذ يرفع الضيم ويبعث فيها روح الأمل ويأخذ بيدها إلى جادة الصواب، وهذا لا يكون إلّا بمعجزة إلهية أعدت لمثل هذا الحال.
وما هو ومن يكون؟
أجل، إن المنقذ يمثل الأمل للمؤمنين الذين جعلوا الإصلاح همهم الوحيد، وبدون الأمل لا يمكن أن يكون هناك سعي وحركة ونشاط. فالجماعة التي تشعر باليأس لا تملك مقومات الاستمرار فضلاً عن النجاح.
أجل، إن أوضاع العالم تبعث على الحزن، لقد طغت المادة على الحياة الإنسانية وانتشر الفساد وعمَّ الظلم، وما زال الاستعمار يبطش بالشعوب المقهورة والأُمم المستضعفة والحروب مشتعلة هنا وهناك، والأرض مليئة بترسانات الأسلحة المدمرة، والمصلحون في العالم أصابهم اليأس والقنوط، حتّى أن بعضهم يرى أنْ لا طريق للإصلاح أبداً، وأن البشرية تنزلق باتِّجاه الهاوية والفناء، وفي خضم هذا الوضع الرهيب والمظلم، فإن هناك بارقة أمل نطمئن لها ونحيا من أجلها لبزوغ نور الفرج والانتظار المطلوب يجب أن يكون إيجابياً كي يبعث في القلوب المنكسرة الطمأنينة والسلام. وكل هذه البشارة متوجة بيوم موعود، يوم الانتصار على الظلم ونصرة المستضعفين. فكوة الأمل المضيئة هي أعظم ما يملكه الإنسان المنتظِر لمستقبل أخضر بلون الربيع الطلق.
إن نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يرسخ في أذهان المؤمنين فكرة المهدي، إنما يهدف إلى القضاء على جبروت اليأس والقنوط وسد الطريق أمام التخاذل والهزيمة أمام الانحراف والفساد والظلم، ولابد لراية الإسلام أن تخفق فوق ربوع العالم بأسره، ولنسمع إلى عملاق البلاغة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يخطب بالمسلمين:
«وأخذوا يميناً وشمالاً في مسالك الغي وتركاً لمذاهب الرشد، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد. ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد. فكم من مستعجل بما إن أدركه ودانه لم يدركه، وما أقرب اليوم بتباشير غد. يا قوم أهذا أبان ورود كل موعد ودنو من طلعه ما لا تعرفون؟ ألا وإن من أدركها منا يسري فيها بسراج منير ويحذو فيها على مثال الصالحين. ليحل فيها ريقاً ويعتق رقاً ويصدع شقياً في ستره عن الناس لا يبصر الفائق أثره، ولو تابع نظرة ثم يتخذن بالتفسير مسامعهم ويعبقون كأس الحكمة بعد الصبوح»(١).
ونستشف من هذه الخطبة أن الناس في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كانوا ينتظرون وقوع الحوادث التي أخبر بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وجو الخطبة يدور حول الغيبة، وأن الإمام (عليه السلام) خلالها يسعى بتبصيره من الله في الدفاع عن دينه وأمنه، ويدفع عن المظلومين الأذى ويشتت قوى الكفر التي تسعى لتدمير الدين، وببركة وجوده يستمر الإسلام والقرآن، ووجود المؤمنين، وأن فكرة اليوم الموعود والمنقذ المهدي عميقة الجذور وتعود إلى عهد النبي الذي بشّر بظهوره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، ومن أجل هذا كان أملاً كبيراً للمقهورين والمستضعفين تدفعهم إلى الحركة والنشاط والاستمرار في المقاومة، خاصة في الظروف الصعبة والمنعطفات التاريخية الخطيرة.
ولقد أرسل الله الأنبياء ليوقظوا هؤلاء المقهورين المغلوبين على أمرهم، فكان الأنبياء رسل الحرية لإنقاذ الناس من الظلم، ومعلمي البشرية لإضاءة القلوب وطرد ظلام الجهل من العقول والنفوس. وكانوا يجهرون بكلمة الحق قائلين للمستضعفين انهضوا فما للطواغيت إلّا قوة كاذبة، وأن قوتهم تكمن في خوفهم وفي جهلهم وفي غفلتهم عن الله، آمنوا بالله وحده واكفروا بالطاغوت.
لقد نهض إبراهيم (عليه السلام) في وجه النمرود، وصرخ موسى (عليه السلام) في وجه فرعون، وقام عيسى (عليه السلام) في وجه الجبابرة، وثار محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وجه طغاة مكة من أمثال أبي جهل وأبي سفيان وأبي لهب.
وكان جهاد الأنبياء جميعاً ضد الكفر والشرك والفساد وقهر الناس ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾(٢)، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى﴾(٣)، ﴿وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً * الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً﴾(٤)، صدق الله العلي العظيم.
وتؤشر هذه الآيات نقاط عديدة، منها:
أن المستكبرين ما هم إلّا قلة ضعيفة وأن قوتهم مستمدة من مقدرات المستضعفين واستغلالهم.
المستضعفون أكثرية ساحقة وهم يملكون كل أسباب القدرة والقوة الحقيقية، أنهم ليسوا ضعفاء وأن ضعفهم جاء من انخداعهم بالأباطيل التي يلقنها المستكبرون، وأن أسوأ العوامل في شقاء المستضعفين هو إحساسهم بالضعف وأنهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
ولهذا انقادوا للمستكبرين خائفين متحملين صنوف العذاب والقهر والذل، وهذا الإحساس هو أساس المشكلة، لقد نسوا أنفسهم والقوة التي ينطوون عليها، وتصوروا خطئاً أن الطواغيت لا تغلب.
إن الطريق الوحيد للخلاص هو عثور المستضعفين على هويتهم المفقودة وشخصيتهم الضائعة.
ثم اكتشافهم قدراتهم الكامنة، وعندما يجدون ذلك تحدث المعجزة فتحطم القيود والسلاسل ويتهاوى الطواغيت، فالطواغيت قوتهم يستندون إليها من قدرة المستضعفين المستغلين الغافلين. ولو انتبه المستضعفون إلى ذلك لما بقي طاغوت في الحكم لحظة واحدة.
إن قوة المستضعفين عظيمة تنطوي على آلاف العقول المفكرة والسواعد المفتولة والقلوب الطاهرة التي يمكنها أن تغير وجه الدنيا، وها هو العالم شئنا أم أبينا يسير باتجاه اليوم الموعود، يثور فيه المظلوم على الظالم. ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾(٥) وهو يوم وعد الله الذين آمنوا أن يسود السلام والأمن ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْـرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾(٦)، كل هذه التباشير لنصرة المظلومين والمستضعفين توضح بشكل عام بيوم موعود ينتصر فيه عباد الله الصالحون ويرثون الأرض بالحق ويسود الإسلام ربوع الأرض، وستحل عباد الله وحدهُ بدل الشرك والكفر والوثنية وتتجسد دولة الحق والعدل، وسيعم العالم بعصر مشرق مفعم بالإيمان والسلام على يد منقذ البشرية الذي بشر به نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
من هو المنقذ ومن يكون؟
إن البشرية تحتاج إلى إنسان كامل يجسد التعاليم الإلهية وتتمثل فيه الشرائع والأحكام السماوية دون نقص أو زيادة، وأن يكون معصوماً عن الخطأ والعصيان وكل ما يعتور الإنسان العادي من انحراف. فالإمام وجود ضروري لازم لاستمرار معرفة الله وعبادته، فهو مستودع علم الله وسره، وهو كالمرآة تتجلى فيه حقائق العالم فتعشوا البشرية إلى نوره لأنهم يعيشون عالم الشهود على بصيرة من أمرهم منعمين بلذائذ الكمال.
فكل بني البشر من مسلمين وغير المسلمين ينتظرون شخصاً يمثل هذه المواصفات ويؤمنون بظهور المصلح والمنقذ والمخلص الذي يصلح شأن العالم بعد أن يعم الظلم وينتشر الفساد وتنه مدعوم بقوة غيبية، وأن النصر سيكون حليفه. وكل أُمة من الأُمم تدَّعي أنه فيها، لكن هذه العقيدة واضحة كوضوح الشمس عند المسلمين أكثر من غيرهم، إلّا أنّ الاعتقاد بالمصلح الموعود وهو عقيدة قديمة بشّر بها الأنبياء أُممهم وأن مصدرها الوحي الإلهي، وقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(٧)، ولقد أكَّد رسولنا الكريم بأحاديث كثيرة بأن المهدي أو المنقذ هو من آل محمد ومن ذرية علي بن أبي طالب التاسع من ولد الحسين (عليهم السلام)، حيث قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم، خلفائي وأوصيائي وأوليائي وحجج الله على أُمتي بعدي، المقر بهم مؤمن والمنكر لهم كافر»(٨). وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي الاثنا عشر، أولهم أخي وآخرهم ولدي»، قيل: يا رسول الله، ومن أخوك؟ قال: «علي بن أبي طالب (عليه السلام)»، قيل: فمن ولدك؟ قال: «المهدي الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والذي بعثني بالحق بشيراً لو لم يبق من الدنيا إلّا يوماً واحداً لطول الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدي فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه وتشرق الأرض بنور ربها»(٩). وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «القائم المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي أشبه الناس بي خلقاً»(١٠). وقال: «لا تقوم الساعة حتّى يقوم قائم للحق منا، وذلك حين يأذن الله (عزَّ وجلَّ) له، ومن تبعه نجا ومن تخلف عنه هلك، الله الله عباد الله، فأْتُوه ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفة الله (عزَّ وجلَّ) وخليفتي(١١)، والذي بعثني بالحق، أن منهما مهدي هذه الأُمة إذا صارت الدنيا هرجاً مرجاً، وتظاهرت الفتن، وتقطعت السبل، وأغار بعضهم على بعض فلا كبير يرحم صغيراً، ولا صغيراً يوقر كبيراً. يبعث الله عند الله منهما من يفتح حصون الضلالة، وقلوباً غلفاً.. يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت في أول الزمان»، وكلمتا أول الزمان وآخره، تعنيان زمان الدعوة الإسلامية. وحصون الضلالة قائمة في كل مكان قلوب أكثر الناس في أيامنا هذه غلف. (وقال محيي الدين بن العربي): يشبه رسول الله في الخلق وينزل عنه في الخلق، إذ لا يكون أحد قبل رسول الله في أخلاقه(١٢).
وهكذا فإن الحجة (عجل الله فرجه) معين بذلته وصفاته، لا يمكن أن يشك فيه أحد حين ظهوره. إذ لابد أن يجتمع فيه الخلال التي لغته بها آباؤه وواصفوه فمن رآه خلة خلة بلا استثناء. ولذلك قال ابن حجر في حديثه عن المهدي الذي يظهر في آخر الزمان: (إن المهدي المنتظر واحد لا تعدد فيه)(١٣).
قال ابن حجر في كتابه الصواعق المحرقة ايضاً: (لو لم يكن في الآيتين - أي في نسل علي وفاطمة (عليهم السلام) - إلّا الإمام المهدي لكفى)(١٤).
ويدل عليه إلى جانب الصفات، كل ما يسبق عهد ظهوره، وكل ما يرافقه من علامات مميزة ستراها مفصلة تفصيلاً لم يسبق له مثيل لم يأل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا الأئمة (عليهم السلام) جهداً عن التلميح إليها مرة، والتصريح بها ثانية، كيلا يلتبس الأمر على أحد، وبحيث لا يمكن أن يتفق لواحد أن يجمع كافة الصفات الجسدية والخلقية غيره، إلى جانب البيعة وعدد الأنصار، ومكان الخروج، ويوم الظهور، وغير ذلك مما يختص به دون سواه مما تراه موضحاً خطوة خطوة.
وقال الصادقان (عليهما السلام) في حديث مقنع:
«... إن أمرنا أبين من هذه الشمس»(١٥) فهو يدل على نفسه بنفسه.. لم تؤثر عوامل تعاقب الزمان في بنيته الشريفة، فيخرج على الناس كما قال جده وآباؤه (صلوات الله عليهم): عليه جلابيب النور تتوقد بشعاع القدس، فيكون رحمة للمؤمنين، وعذاباً على الكافرين، ينجي الله به من الضلالة، ويبرئ من العمى ويشفي من المرض، ويكون منصوراً بالرعب، مؤيداً بالنصر قد فتح الله تعالى بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم يختم به.
بيده عصا موسى التي تصنع العجائب وتفلق البحر، وخاتم سليمان، وتابوت السكينة الذي يفعل ما لا تفعله القنابل الهيدروجينية، وبيه جملة مواريث الأنبياء.
وهو يعد أكثر الناس علماً وصلح(١٦).
لأن الأئمة أحلم الناس صغاراً، وأعلمهم كباراً لا تُعلِّموهم فإنهم أعلم منكم، هذا وقد عرف الإمام الرضا (عليه السلام) إمام الناس بحديث طويل وهذا بعض منه: «يكون أعلم لناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس وأحلم الناس، وأسخى الناس، وأعدل الناس، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل، وتنام عينيه ولا ينام قلبه، ويكون محدثاً، وتكون رائحته أطيب من رائحة المسك، ودعاءه مستجاباً حتى أنه لو دعا على صخرة لنسفت نصفين(١٧)... مكتوباً على عضده بالنور: جاء الحق وزهق الباطل»(١٨).
مقومات الظهور:
١ - وجود المناخ العام المؤيد لبزوغ الثورة.
لقد أودع الله في الذات البشرية غريزة السعي نحو الكمال.
فهو ومنذ وطئت قدماه الأرض يسعى من أجل تحقيق حياة هادئة مطمئنة، وما يزال يرنو نحو غد أفضل ومستقبل مشرق، ويبقى يأمل في تحقيق هذا الحلم.
وعندما يفكر بطريقة سليمة ويكتشف أن قوانين الأرض قد أخفقت وأنها عاجزة عن تحقيق هذا الهدف عندها يتجه نحو السماء مؤمناً بشريعة الله.
عندما يكون جو الثورة مأموناً لأن الأنظار متجهة نحو المنقذ المؤيد من الله ورسوله.
٢ - يجب أن تكون هذه الثورة عميقة وشاملة ومتجذرة وإنسانية تتجاوز فوارق اللغة واللون والعرق والقومية والدين، هدفها تحري الإنسان وردّ اعتباره وكرامته المهدورة عبر العصور، وإنهاء الفساد والانحراف والظلم بكل أشكاله وألوانه، وهداية البشرية نحو شريعة الله الخالدة التي تحقق للإنسان سعادته الضائعة، وتتجاوز(١٩) الحدود المصطنعة للون والقومية، وبفكرة إنسانية خالصة، تتعاطف مع المظلومين والمقهورين في كل مكان، ويغير العالم أُسرة واحدة لا فرق بين أسود وأبيض وأصفر وأحمر، ولا امتياز للأمريكي والأوربي على الإفريقي والآسيوي، عندها يكون الظرف مناسباً لظهور الإمام المنقذ.
٣ - يفيق الضمير العالمي من حالة الصراع التي يعيشها وتتفتح الآمال للعدل بعد الظلم الذي يدمر بعض القارات من جراء حرب عالمية تسبق ظهوره المبارك، فتهفو النفوس إلى حاكم عادل، ويتمهد الطريق بقبول الدعوة، ويصير الإمام والخصم على الخصم.
٤ - يظهر انقلاب فكري وتغير عقائدي، ومفاهيم جديدة لدى انتشار نص خطاب عرش المجد الذي يلفظه أثناء البيعة في مكة ويبين فيه دستور دولة الحق فيقرر عدداً لا يحصى من الناس السير تحت راية العدل للتخلص من معاناة الظلم.
٥ - يكون قد سئم الناس من الفتن التي هزت أطراف الأرض - كما أصابنا في لبنان، وكما أصاب الشر الأقصى وإيران وأصاب مناطق كثيرة من إفريقيا وأمريكا وغيرها، ثم عقبها الحرب العامة والأمراض فتصير القوى خائرة، متفرقة، متفككة، ويصبح باستطاعة ضابط عادي قوي في نفسه أن يقوم بالانقلاب ويحقق الانتصارات في مناطق محددة. فأحر بمن يتسلحون بإيمان يزيل الجبال ويعمر قلوباً كزبر الحديد، ان ينتصروا ويحققوا هدفهم المقدس.
٦ - يفتتن الناس بالدعوة الكريمة لكثرة ما تجرعوا من الباطل ويطمعون بالدعة والراحة، وبحكم عادل بيده سيف كحريق النار يؤمِّن لهم دعة الدنيا والآخرة. كل هذه الأحداث لا نستغرب معه انتصار قائم بالقسط يهز سيف السماء، سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وثبة شعارها: أمت أمت.. لا تقبل الجزية ولا الحياد، لأن شعارها قد أعلنه الخبر الشريف المروي عن النبي والأئمة (عليهم السلام) الذي يقول: «وما هو والله إلّا الموت تحت ظل الأسنة...» فهو أعمق من ذلك في العقيدة وأخلص من ذلك للمبدأ؟ لا والله، فإن الأكثرية الساحقة من الطبقة الرشيدة ستضع نفسها في خدمة ماحي الظلم ومقيم العدل، ويومها يتنفس المظلومين الصعداء، إذ ترون سيف الإيمان في رقبة الكفر، ومدية الحق في ضمير الباطل، لا يقبل حياد ولا تقبل جزية.
ثم ماذا؟
ثم ما أدراك أن ينصر الله (عزَّ وجلَّ) من يظنه الجاهلون أعزل في معركة أرضية، يشاء الله تعالى فيها فناء قردة الناس ليعيد العدل إلى الأرض.
سيكون ذلك وستظهر عصا موسى ثانية بيد حجة الله على الخلق لتصنع العجائب. وسيقف سلاح الإمام وتابوت السكينة بوجه القنابل الذرية والهيدروجينية والنتروجينية، ويضع أعجب العجائب، وسترهص الأيام الأدمة من عمر الأرض بمشيئة الله تعالى عن يوم الخلاص وقيام الحق الإلهي(٢٠).
يوم الفتح:
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾، هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم، فيعزهم ويذل عدوهم(٢١)، قال الإمام الباقر (عليه السلام): «جاء عنه في تأويل: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل»(٢٢)، ومن ذاق مرارة دولة الباطل كما ذقت يا مولاي وكما ذاق آباؤك وأجدادك؟ فلا عجب أن تزف إلينا هذه البشرى، وتعدنا فيها بزوال كابوس الباطل التي ترزح تحته الإنسانية في عصرنا الحاضر.
ثم قال (عليه السلام): «القائم منّا منصور بالرعب مؤيد بالنصر، تطوى له الأرض، وتظهر له الكنوز، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب» (٢٣).
وقد روي عن الصادق (عليه السلام) مثله، ومنّا أحرى الأرض بأن تطوى لنا حين نثيب بالطائرة من قارة إلى قارة كالبراق الخاطف وبذلك تقصر المسافات، وتنعدم المشقات، كما أنها تقصر بالسيارة وتزداد قصراً وطياً بالمركبة الفضائية، بل إن الصاروخ ليطوي الأرض كلها بأقل مما يرتد إلينا طرفاً، وهذا مضافاً إلى ما في أمر المهدي (عجّل الله فرجه) وأمر أنصاره من عناية إلهية وتأييد رباني سيذلل كل صعب ويسهل كل عسر، فيدفع بعض العقول التي أصبحت رجوماً للشياطين (٢٤).
وقال الباقر (عليه السلام) أيضاً يصف ساعة الصفر المباركة. يظهر وحده - ويأتي البيت وجده، ويلج الكعبة وحده، ويجن الليل عليه وحده. فإذا نامت العيون وغسق الليل نزل إليه جبرائيل وميكائيل والملائكة صفوفاً فيقول جبرائيل: يا سيدي قولك مقبول وأمرك جائز، فيمسح يده على وجهه ويقول: (الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة غرفاً، فنعم أجر العاملين)، ثم يقف بين الركن والمقام فيصرخ قائلاً: (يا معاشر نقبائي، وأهل خاصتي، ومن ذخرهم الله لنصرتي قبل ظهوري على وجه الأرض، ائتوني طائعين)، فترد الصيحة عليهم وهم في محاريبهم وعلى فرشهم في شرق الأرض وغربها فيسمعونه في صيحة واحدة في أذن كل رجل فيجيئون نحوها ولا يمضي إلّا كلمحة بصر حتّى يكونوا كلهم بين يديه ويكون هذا قبيل طلوع الشمس(٢٥).
وقال الإمام العسكري (عليه السلام): «كأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة (كان (عليه السلام) قد خاطبه مرة وهو على غيبة بقاعه، قائلاً له: وكأنك يا بني، بتأييد نصر الله وقد آن - أي حين يكون قد آن وجاء وقته - وبتيسير الفرج وعلو الكعب وقد حان، وبالرايات الصفر والأعلام البيض تخفق على أثناء أعطافك ما بين الحطيم وزمزم - وكأنك بترادف البيعة وتصادف الولي، يتناظم عليل الدر في مثاني العقود وتصادف الألف على جنبات الحجر الأسود تلوذ نضاك من ملأ برَّأهم الله في طهارة الولادة ونفاسة التربة، مقدسة قلوبهم من دنس النفاق، مهذبة أفئدتهم من رجس الشقاق لينة عرائكم للدين، خشنة ضرائبهم على المعتدين، واضحة بالقبول وجوههم، نضرة بالفضل عيونهم، يدينون بدين الحق وأهله.
فإذا اشتدت أركانهم، وتقومت أعمدتهم، قدمت بمكانفتهم طبقات الأمم إلى مبايعتك، في ظلال دوحةٍ بسقت غصونها على حافات بحيرة طرية - طبرية - فعندها يتلألأ لأصبح الحق، وينجلي ظلام الباطل، ويقصم الله بك الطغيان، ويعيد معالم الإيمان. فيطهر بك أقسام الآفاق، ويظهر بك السلام للرفاق... يود الطفل في المهد لو استطاع إليك نهوضاً. ونواشط الوحش لو وجد نحوك مجازاً، تهتز بك أطراف الدنيا بهجة وتهتز بك أعطاف العز نصرة، وتستقر يواقي الحق من قرارها، وتؤون شوارد الدين إلى أوكارها، تتهاطل عليك سحائب الظفر ويخنق كل عدو، وينصر كل ولي، فلا يبقى على وجه الأرض جبار ولا جاحد غامط، ولا شانئ مبغض(٢٦)، ولا معاند كاشح - ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِه قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾(٢٧)، قال الحجة المنتظر (عليه السلام) لبعض من حظي برؤيته الكريمة: «علامة الظهور أمر، كثرة الهرج والمرج والفتن. وآتي مكة فأكون في المسجد الحرام، فيقول الناس - انصبوا لنا إماماً، ويكثر الكلام، حتّى يقول رجل من الناس ينظر في وجهي: يا معشر الناس هذا هو المهدي: انظروا إليه: فيأخذون بيدي وينصبوني بين الركن والمقام فيبايع الناس بعد إياسهم في...».
وفي الأخبار: أن الذي يرشد إليه هو جبرئيل (عليه السلام)(٢٨) وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾(٢٩)، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) محذراً بعد تلاوة هذه: الكريمة: «يوم الفتح يوم تفتح الدنيا على القائم (عليه السلام) ولا ينفع أحداً تقرب بالإيمان لم يكن قبل ذلك مؤمناً بإمامته ومنتظراً لخروجه، فذاك الذي ينفعه إيمانه ويعظم الله (عزَّ وجلَّ) عنده قدره وشأنه. وهو أجر الموالين لأهل البيت (عليهم السلام).
فليختر العاقل. قبل ان يصير الايمان غير مقبول. ونحن على أبواب الفتح بإذن الله.
ملامح الدولة العالمية:
دولة العدل الإلهي:
إن مهمة الإمام (عجّل الله فرجه) في هذه الدولة مهمة ربانية ضخمة متعددة الجوانب جليلة الأهداف، فهي عملية تغيير شاملة للحياة الإنسانية على وجه الأرض، فإقامة فصل جديد منها بكل معنى الكلمة، وفيما يلي لمحات من بعض جوانب مهمته (عجّل الله فرجه):
أولاً: تطهير الأرض من الظلم والظالمين(٣٠):
إن للظلم على الأرض نهاية جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ﴾(٣١)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «الله يعرفهم، ولكن نزلت في القائم يعرفهم بسيماهم فيخبطهم بالسيف هو وأصحابه خبطاً»، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «فليفرجن الله بغتة برجل منا أهل البيت بأبي ابن خيرة الإماء، لا يعطيهم إلّا السيف هرجاً ومرجاً (أي قتلاً قتلاً) موضوعاً على عاتقه ثمانية أشهر».
وقد يرى البعض في سياسة القتل والإبادة للظالمين التي يعتمدها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، أنها قسوة وإسراف في القتل. ولكنها في الواقع عملية جراحية ضرورية لتطهير مجتمع المسلمين ومجتمعات العالم من الطغاة والظالمين، وبدونها لا يمكن إنهاء الظلم وإقامة العدل، ولا القضاء على أسباب المؤامرات الجديدة التي سيقوم بها بقاياهم فيما لو استعمل الإمام معهم سياسة اللين والعفو، فالظالمون في مجتمعات العالم كالغصون اليابسة من الشجرة، بل كالغدة السرطانية، لابد من استئصالها من أجل نجاة المريض مهما كلّف الأمر. والأمر الذي يوجب الاطمئنان عند المترددين في هذه السياسة أنها بعهد معهود من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأن الله تعالى يعطي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) العالم بالناس وشخصياتهم، فهو ينظر إلى الشخص بنور الله جل وعلا فيعرف ما هو داؤه ولا يخشى أن يقتل أحداً من الذين يؤمل اهتداؤهم وصلاحهم.
وتدل الأحاديث على أن الخضر (عليه السلام) يظهر مع الإمام ويكون من أعوانه، ويبدو أنه يستعمل علمه اللدني ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾(٣٢) في تنمية بذور الخير، ودفع الشر عن المؤمنين.
وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يقضي بين الناس بحكم الله الواقعي الذي يريه إياه الله تعالى، فلا يطلب من أحد شاهد أو بيِّنة، وكذلك يستعمل علمه الواقعي في تقتيل الظالمين والفجار، ويكون للخضر وأصحابه صلاحياتهم الخاصة(٣٣).
وفيه بإسناده عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا علي إن قريشاً ستظهر عليك - إلى أن يقول - واعلم أن ابني (ينتقم) من ظالميك وظالمي أولادك وشيعتك في الدنيا ويعذبهم الله في الآخرة عذاباً شديداً. فقال: سلمان: من هو يا رسول الله؟ قال: التاسع من ولد ابني الحسين (عليه السلام) الذي يظهر بعد غيبته الطويلة فيعلن أمر الله ويظهر دين الله (وينتقم) من أعدائه»(٣٤). وستتهاوى كل حصون الجبابرة أمام دعوة الله وتتحقق أحلام الإنسانية في الحياة الطيبة، ويتحقق وعد الله الذي وعد به عباده الصالحين، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(٣٥).
ثانياً: بعث الإسلام مجدداً وتعميمه على العالم:
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾(٣٦).
عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أظهر ذلك بعد؟ «كلا والذي نفسي بيده، حتّى لا تبقى قرية إلّا نودي فيها بشهادة ألا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله بكرة وعشياً»، وحتى لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا صاحب ملة إلّا صار إلى الإسلام، وحتى ترفع الجزية ويكسر الصليب ويقتل الخنزير وهو قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، وذلك يكون عند قيام القائم (عجّل الله فرجه)، وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لبعث الله رجلاً اسمه اسمي وخلقه خلقي يكنى أبا عبد الله، يبايع له الناس بين الركن والمقام، يرد الله به الدين، ويفتح له فتوح فلا يبقى على ظهر الأرض إلّا من يقول لا إله إلّا الله». فقام سلمان الفارسي وقال: يا رسول الله من أي ولدك؟ قال: «هو من ولد ابني هذا - وضرب بيده على الحسين (عليه السلام) -»(٣٧).
خلال هذا التاريخ الطويل هناك كم متراكم من البدع والضلالات والأفكار الخاطئة تؤثر سلباً في تفسير القرآن وفهم الأحكام الإلهية. وأن المهدي في ظهوره سوف يزيل كل الشكوك ويطهر الشريعة من كل الانحرافات والبدع وسيكون تطبيق الشريعة الإلهية كما أنزلها الله لا كما يفهمها البعض بشكل ناقص أو مغلوط (٣٨).
فو الله ليرفع عن الملل والأديان الاختلاف، ويكون الدين كله واحداً كما قال جل ذكره ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (٣٩) (فالدين هو الإسلام بالفطرة، أي التسليم بالوحدانية، وبالقدرة والاستطالة والأزلية، وقد صرَّح القرآن الكريم بأن دين الأنبياء جميعاً هو الإسلام منذ البدء، فمن قوله في القرآن الكريم: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾(٤٠) إلى قوله في قصة إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾(٤١)، إلى قوله تعالى في قصة فرعون: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(٤٢)، إلى قصة سليمان وبلقيس ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾(٤٣)، ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(٤٤)، وقول عيسى (عليه السلام): ﴿مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً﴾، وقوله على لسان محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(٤٥)، وقوله في قصة لوط (عليه السلام): ﴿فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(٤٦)، وقوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَـرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾، إلى قوله على لسان بنيه ﴿إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(٤٧). هذا هو الدين عند الله، إنه الإسلام، أي التسليم لله والاعتراف به مهما سميناه في أعرافنا الأرضية(٤٨).
ثالثاً. تطوير الحياة المادية وتحقيق الرفاهية:
من الأمور البارزة في أحاديث المهدي (عجّل الله فرجه) الرخاء الاقتصادي والتقدم التكنولوجي في الدولة العالمية التي يقيمها، وتطور العلوم بالجهود البشرية الاعتيادية، وفيما يلي بعضها:
١ - يستخرج كنوز الأرض ويقسمها على الناس والأحاديث في ذلك كثيرة، منها ما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «نخرج له الأرض أفلاذ أكبادها ويحثوا المال ولا يعده عداً»(٤٩)، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ويعده، وفي رواية يكون في آخر أُمتي خليفة يحثو المال حثياً ولا يعده عداً» وقال: «فيجيء الرجل فيقول يا مهدي اعطني اعطني اعطني، قال: فيحثي له ثوبه ما استطاع أن يحمله»(٥٠).
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتاتها، وتكثر الماشية. وتعظم الأُمة ويعيش سبعاً أو ثمانياً، تنعم أُمتي نعمة لم ينعموا مثلها». ثم قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «فعند ذلك تفرح الطيور في أوكارها، والحيتان في بحارها وتفيض العيون، وتنبت الأرض ضعف أكلها»، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يحيه ساكن الأرض وساكن السماء. وترسل السماء قطرها، وتخرج الأرض نباتها لا تمسك منه شيء»(٥١). فحينئذ تظهر الأرض له كنوزها، وتبدي بركاتها حتّى لا يجد الرجل منكم موضعاً لصدقته ولبره، لشمول الغنى جميع المؤمنين.
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يكون في آخر أُمتي خليفة يحثي المال حثياً، لا يعده عداً، وذلك حين يضرب الإسلام بجرانه» يعني أنه يعطي الناس بلا حساب بعد توطيد أركان دولته، فيعم الغنى جميع الناس ويزول تكالبهم على الدينار.
٢ - يطور العلوم الطبيعية ووسائل المعيشة:
تتطور في عصر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وسائل الرؤية والمعرفة ووسائل الحرب، وأساليب الاقتصاد، والحكم والفضاء ويظهر أن بعضها يكون على شكل كرامات ومعجزات يجريها الله على يده وأيدي أصحابه (عجّل الله فرجه)، وتشير هذه الأحاديث إلى أن تطويره (عجّل الله فرجه) العلوم الطبيعية سيكون قفزة في تقدم الحياة الإنسانية على الأرض في جميع مرافقها، حيث قال الصادق (عليه السلام): «العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتّى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرون حرفاً فيها في الناس وضم إليها الحرفين حتّى يبنها سبعة وعشرون حرفا»(٥٢). وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنا أعطينا علم المنايا والبلايا، والتأويل والتنزيل، وفصل الخطاب، وعلم التوازن والوقائع، ولا يغرب عنا شيء» وكان الصادق (عليه السلام) قد قال: «إن المؤمن في زمن القائم، وهو في المشرق، ليرى أخاه الذي هو في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه في المشرق».
فما أعظم هذين الإمامين اللذين تخطيا معقول زمانهما، وبرهنا على معرفة كل ما كان وكل ما سيكون في مجال كل علم(٥٣).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إذا تناهت الأمور إلى صاحب هذا الأمر رفع الله له تبارك وتعالى كل منخفض من الأرض، وخفض له كل مرتفع حتّى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته؟ فأيكم لو كانت في راحته شعرة ولم يبصره»(٥٤).
السماوات والأرض عند الإمام كيده من راحته، يعرف ظاهرها من باطنها ويعلم برها من فاجرها ثم جاء عن الإمامين الصادق والرضا (عليهما السلام) أن الدنيا لتمثل للإمام مثل فلقة الجوز، فلا يعزب عنه منها شيء وأنه ليتناولها من أطرافها كما يتناول أحدكم من فوق مائدته ما يشاء(٥٥).
رابعاً: ملكه أعظم من ملك سليمان وذي القرن:
إن دولة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تشمل مناطق العالم حتّى لا يبقى مكان إلّا نودي فيه بالشهادتين ولا يبقى في الأرض خراب إلّا عمِّر، وأن الإمكانيات التي سخرها الله للإمام تفوق التي سخرها الله لسليمان، سواء ما كان منها على نحو الإعجاز والكرامة الربانية، أو ما كان تطويراً للعلوم واستثمار الإمكانات الطبيعية، وكذلك مدة دولة الإمام تستمر إلى آخر الدنيا، وأنه يحكم من بعده المهديون من أولاده، ثم تكون رجعة بعض الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فيحكمون إلى آخر الدنيا.
إن الله سبحانه مكَّن لذي القريتين وآتاه من كل شيء سبباً، وبلغ المشرق والمغرب حتّى لا يبقى سهل ولا موضع من سهل ولا جبل إلّا وطأه، ويظهر الله له - أي للمهدي - كل كنوز الأرض ومعادنها، وينصره بالرعب، ويملأ به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلم(٥٦).
خامساً: الانفتاح على عوالم السماء:
ويدل على ذلك عدَّة أحاديث وإشارات، حيث قال الإمام الباقر (عليه السلام): «أما أن ذي القرنين قد خيّر السحابين، فاختار الذلول، وذخر لصاحبكم الصعب». قال سورة: قلت: وما الصعب؟ قال: «ما كان فيه رعد وصاعقة أو برق، فصاحبكم بركة - أما أنه سيركب السحاب ويرقى في الأسباب، أسباب السماوات السبع والأرضين السبع، خمس عواملاً واثنتان خرابات»، ويدل على أن صعوده يشمل عوالم السماوات السبع والأرضين الست غير أرضنا ولا يعني ذلك أنه يستعمل هذه المصاعد والمركبات بنفسه(٥٧)، بل قد يصل الأمر في عصره (عجّل الله فرجه) إلى أن يكون السفر إلى كواكب السماوات وإلى الأرضين الأخرى كالسفر في عصرنا من قارة إلى أخرى، ويشير قوله (عليه السلام) بأن خمساً من الأرضين أو منها من السماوات معمورة إلّا أنه سيتم الاتصال بمجتمعاتها، وقد ذكرت أحاديث شريفة متعددة أنه توجد في السماوات كواكب كثيرة عامرة بمجتمعات من مخلوقات الله تعالى من غير نوع الإنسان والملائكة والجن، وقد أورد العلامة المجلسي في بحار الأنوار، وقد أشارت إلى ذلك عدّة آيات قرآنية كقوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾، وهذا يعني أن الحياة على الأرض سوف تدخل في عصره (عجّل الله فرجه) مرحلة جديدة تختلف عن كل ما سبقها من مراحل(٥٨).
سادساً: الانفتاح على عالم الآخرة والجنة:
من أعمق أنواع الحركة التي يعيش فيها عالمنا بزمانه ومكانه وأشيائه حركة عالم الشهادة نحو عالم الغيب التي يكشف عنها القرآن والإسلام، ويؤكد على الاهتمام بها والانسجام معها، ويسميها حركة رجوع الإنسان إلى الله تعالى. إن دولة المهدي (عجّل الله فرجه) من أشراط الساعة إلّا أن المتفق عليه أن أشراط الساعة تبدأ بعدها.
الإمام المنتظر الموعود:
طال انتظار يا مغيب عنا * * * ورجاءنا نحظى بقربك ننعما
فلقد ظلمنا ولابد من منجد * * * عبر العصور تحكم الظلما
توارثوا حقداً لقطع رحمكم * * * وبقية الآل وطمس الأنجما
قطعوا الطريق بدرب وصلكم * * * ذبح الموالي وجذ المعصما
بك يركن الحق القديم صغره * * * ويزول ظلم للعباد ويغلب
تقصم بعدلك شوكة المفكر * * * وتهدم صروح الشرك والغمر
يا صاحب الفتح القرب وناشراً * * * راية الإصلاح والبر والرضا
متى تأخذ الثأر وترفع ساعداً * * * وتطالب بدم الشهيد بكربلا
تستأصل الإلحاد من ميته * * * وتذل قوماً كافرين فسقا
ترفع لواء الحمد شاهر للعلى * * * ونحف حولك عالمنابر بثرا
أنت المقدم للخلاص مجندات * * * وطأ بدعوتك شرقاً ومغرباً
فيك العلوم المستودعات نقية * * * مدارس علم مرشداً ومعلماً
أنت الخليفة للرسول محمد * * * وابن صفي الخلق ابن المصطفى
أنت ابن من شمر البراق لنقله * * * نحو السماء بروجه قد أعرجا
يتوضح الإسلام فيك مجدداً * * * وتعلم الأحكام بأصدق منها
كل المناقب أجمعت في وصفكم * * * طول الدهور منازل لا تلحقا
أنت ابن أول بيوت الله قاطبة * * * تعنى الحجيج لها تطوف وتركعا
تملك من الخلق القويم أجله * * * وبين عباد الله أكثر تعبدا
يا صولة للحق سل سيوفها * * * يقطع الكفار في يوم الوغى
يا ملجماً صوت الرياء بكفه * * * ومعلناً للحق صوتاً أجهرا
يا من تنابذه الطغاة مخافة * * * من بطشه عند الملاحم تهزما
أنت الذي شهد الرسول بذكره * * * يخرج إليكم حجة منتصرا
مآثر للعلم بان وجودها * * * شهادة بالدلائل العبرا
الأبواب تفتح للدعاء بذكركم * * * يا سادة الأرض الكرام الأنجبا
نتعلم الإيمان من أفعالكم * * * وتهتدي سبل العبادة والتقى
بين الأطايب بين آل محمد * * * أنتم شموساً غطت الأفقا
أنت المدخر تجدد ما محا * * * يتوحد الإيمان فيك مجدداً
تحصد العصيان والبدعا * * * وتزيل شقاق وللغي أخرى
أنت بن من دنا فتدنى تجلى * * * بالآفاق قاب قوسين دنا
متى تأتي للقضاء وتحكم * * * وتذل عروشاً أفنت البلدا
شوقي للقياكم صار أمنية * * * ونحق صولك وأنت تأم الملأ
بأي وقت بين أحمد نلتقي * * * ويتصل يومنا بحضورك نحظى
متى نراك يا مولاي متى نحتار * * * في بعدك فقد طال الصدى
ولسوف ننعم باللقاء محتماً * * * قولاً سديداً أكبره خير الورى
ونشرف بطلعتك البهية ننعم * * * ونرد عنك لا نخاف اللوما
المصادر:
١. الشيعة والرجعة (الجزء الأول) - المؤلف المذهب الإمامي محمد رضا النجفي.
٢. حوارات حول المنقذ - المؤلف العلامة الشيخ إبراهيم الأميني.
٣. يوم الخلاص في ظل القائم - المؤلف كامل سلمان.
٤. عصر الظهور المؤلف علي الكوراني.
ملاحظة:
إن المواضيع التي كتبتها من هذه الكتب مجموعة من مصادر كثيرة، وذكرت فقط اسم الكتاب الذي ذكر فيه الخبر وابتعدت عن التكرار في ذكر المصادر المنقول منها.
الهوامش:
(١) نهج البلاغة الخطبة ١٤٦.
(٢) النحل: ٣٦.
(٣) البقرة: ٢٥٦.
(٤) النساء: ٧٦.
(٥) الأنبياء: ١٠٥.
(٦) إكمال الدين: ص٥٥.
(٧) الأنبياء: ١٠٥.
(٨) كمال الدين: ص١٥٠.
(٩) الشيعة والرجعة: ص٥٦.
(١٠) يوم الخلاص: ص٢٥.
(١١) يوم الخلاص: ص٢٦-٢٧.
(١٢) إلزام الناصب: ص٩٦؛ إسعاف الراغبين: ص١٤٢.
(١٣) المهدي: ص٩٧.
(١٤) الصواعق المحرقة: ص١٦١.
(١٥) الصواعق المحرقة: ص١٦١.
(١٦) يوم الخلاص: ص٦١.
(١٧) المصدر نفسه.
(١٨) المصدر نفسه.
(١٩) حوارات حول المنقذ: ص٢٣٤.
(٢٠) يوم الخلاص: ص٢٣١.
(٢١) الإمام المهدي: ص٢٦٧ نقلاً عن يوم الخلاص: ص٢٣٢.
(٢٢) يوم الخلاص: ص٢٤٩.
(٢٣) المصدر نفسه.
(٢٤) المصدر نفسه: ص٢٥٠.
(٢٥) سورة الزمر: ٧٤، فتقول من عدة مصادر في كتاب يوم الخلاص: ص٢٦٧.
(٢٦) يوم الخلاص ص٢٨٥.
(٢٧) الطلاق: ٣.
(٢٨) يوم الخلاص: ص٢٨٥.
(٢٩) السجدة: ٢٨/٢٩/٣٠.
(٣٠) عصر الظهور ص٣١٨.
(٣١) الرحمن.
(٣٢) الكهف: ٦٥.
(٣٣) عصر الظهور، ص٣١٩.
(٣٤) الشيعة والرجعة: ص٢٢١.
(٣٥) الأنبياء: ١٠٥.
(٣٦) التوبة: ٣٣.
(٣٧) عصر الظهور: ص٣٢١.
(٣٨) حوارات حول المنقذ: ص٣٠٦.
(٣٩) آل عمران: ١٩.
(٤٠) الحج: ٧٨.
(٤١) البقرة: ١٢٨.
(٤٢) يونس: ٩٠.
(٤٣) النمل: ٣١.
(٤٤) النمل: ٤٤.
(٤٥) آل عمران: ٥٢، ٨٢، ٨٤.
(٤٦) الذاريات: ٣٦.
(٤٧) البقرة: ١٣٣.
(٤٨) يوم الخلاص: ص١٣٩-٣٤٠.
(٤٩) عصر الظهور: ص٣٢٤.
(٥٠) الشيعة والرجعة: ص٢٠٨.
(٥١) يوم الخلاص: ص٣٠٦-٣٠٣.
(٥٢) عصر الظهور: ص٣٢٧.
(٥٣) يوم الخلاص: ص٣٢٠.
(٥٤) عصر الظهور: ص٣٢٨.
(٥٥) يوم الخلاص: ص٣٢٣.
(٥٦) عصر الظهور: ص٣٣٠.
(٥٧) نفس المصدر: ص٣٣١.
(٥٨) نفس المصدر.