فهرس المكتبة التخصصية
 كتاب مختار:
 البحث في المكتبة:
 الصفحة الرئيسية » المكتبة التخصصية المهدوية » كتب المركز » رجل الغيب - دراسة تعنى بالخضر (عليه السلام)
 كتب المركز

الكتب رجل الغيب - دراسة تعنى بالخضر (عليه السلام)

القسم القسم: كتب المركز الشخص المؤلف: عارف آل سنبل تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠٢٢/٠٢/٢٨ المشاهدات المشاهدات: ٢٨٣١ التعليقات التعليقات: ٠

رَجُلُ الغيب

دراسة تُعنى بحياة الخضر (عليه السلام)

عارف آل سنبل
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
الطبعة الأولى ١٤٤٤هـ

رقم الإصدار: ٢٨٠

الفهرس

مقدَّمة المركز..................٣
الإهداء..................٥
إشراقة المدخل..................٧
شكر وتقدير..................٨
الفصل الأوَّل: الخضر في الوجدان الإسلامي..................٩
الخضر في الوجدان الإسلامي..................١١
أوَّلاً: الكُتُب..................١٢
ثانياً: المقامات والمساجد..................١٣
الفصل الثاني: إشراقة النور وميلاد الفجر..................١٥
اسم شريف، ولقب مبارك..................١٧
أوَّلاً: الاسم الشريف (تاليا)..................١٧
١ - نصُّ الروايات..................١٧
٢ - اختيار العلماء..................١٧
أسماء قريبة..................١٨
أسماء أُخرى..................١٨
ثانياً: اللقب الشريف (الخضر)..................١٩
بين الاسم واللقب..................٢٠
ثالثاً: كنيته..................٢١
وقفة تأمُّل..................٢٢
أصلاب طاهرة وحجور طيِّبة..................٢٤
الإطلالة الميمونة..................٢٦
ظروف الولادة..................٢٧
في رحاب النشأة..................٢٩
زعم غريب..................٣٠
واغترف من عين الحياة..................٣٢
تأمُّل وتعليق..................٣٣
عين الحياة..................٣٣
الفصل الثالث: شذرات ومختصَّات..................٣٥
شذرات ومختصَّات..................٣٧
مسكنه (عليه السلام)..................٣٧
طعامه (عليه السلام)..................٣٨
أثره (عليه السلام)..................٣٨
مصلاَّه (عليه السلام)..................٣٩
الصلاة والسلام عليه..................٣٩
الخضر (عليه السلام) مع الشهداء..................٤٠
تأمُّلات..................٤١
الفصل الرابع: المنح الإلهيَّة..................٤٣
الخضر بين العلم والنبوَّة..................٤٥
الرأي الأوَّل: الخضر من العلماء..................٤٥
من القائلين بهذا الرأي..................٤٦
الرأي الثاني: الخضر من الأنبياء..................٤٦
أ - تفسير الرحمة بالنبوَّة..................٤٦
ب - تفسير ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ بالنبوَّة..................٤٧
من القائلين بنوبَّته..................٤٩
الخضر (عليه السلام) في الاعتقاد الإسلامي..................٥٠
عقيدة الشيعة الإماميَّة..................٥٠
عقيدة أبناء العامَّة..................٥٠
أ - الاعتقاد ببقائه حيًّا..................٥٠
ب - الاعتقاد ببقائه حيًّا للعصر النبوي..................٥٢
ج - الاعتقاد بعدم إدراكه للعصر النبوي..................٥٢
دعوى اللقاء مع الخضر (عليه السلام)..................٥٣
وقفة تأمُّل..................٥٤
مواهب وقدرات..................٥٦
١ - الاحتجاب..................٥٦
٢ - طيُّ الأرض..................٥٧
٣ - ويمشي على الماء..................٥٧
الفصل الخامس: وجاء الكليم يطلب اللقاء..................٥٩
بين يدي اللقاء..................٦١
أموسى الكليم جاء أم غيره؟..................٦٢
الرأي الأوَّل..................٦٢
الرأي الثاني..................٦٣
وللِّقاء سبب..................٦٦
وقفة تأمُّل..................٦٨
من مرويَّات العامَّة..................٦٨
عندما تُفقَد السمكة..................٧٠
أوَّلاً: العلامة لم تكن إعجازيَّة..................٧١
ثانياً: العلامة كانت إعجازيَّة..................٧٢
مجمع البحرين..................٧٤
أوَّلاً: ملتقى خليجي العقبة والسويس..................٧٥
ثانياً: باب المندب..................٧٥
ثالثاً: جبل طارق..................٧٥
رابعاً: آذربيجان..................٧٥
شروط موقع اللقاء..................٧٧
لحظة اللقاء المرتقَب..................٧٩
عندما ينفد الصبر..................٨٢
أوَّلاً: حديث السفينة..................٨٢
موقف موسى (عليه السلام)..................٨٣
موقف الخضر (عليه السلام)..................٨٤
ثانياً: وقُتِلَ الغلام..................٨٤
موقف موسى (عليه السلام)..................٨٥
موقف الخضر (عليه السلام)..................٨٦
النفس الزكيَّة..................٨٧
ثالثاً: وجاءا قرية اللئام..................٨٨
موقف موسى (عليه السلام)..................٩٠
موقف الخضر (عليه السلام)..................٩٠
الكنز..................٩١
وصايا قبل الفراق..................٩٤
وللطير معهما قصَّة..................٩٧
قبسات مضيئة..................٩٩
النبيُّ يتعلَّم!..................٩٩
الروايات..................٩٩
مع العلماء في كلماتهم..................١٠٠
الشيخ المفيد (رحمه الله)..................١٠٠
الشريف المرتضى (رحمه الله)..................١٠٠
الشيخ الطبرسي (رحمه الله)..................١٠١
العلَّامة المجلسي (رحمه الله)..................١٠١
السيِّد نعمة الله الجزائري (رحمه الله)..................١٠١
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله)..................١٠١
لماذا اختلفت وجهات النظر؟..................١٠٢
الشيخ المفيد (رحمه الله)..................١٠٢
السيِّد ابن طاوس (رحمه الله)..................١٠٢
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله)..................١٠٢
دروس وعِبَر..................١٠٥
الفصل السادس: وله مع إلياس قصَّة..................١١١
وله مع إلياس قصَّة..................١١٣
وحدة الأُمنية..................١١٤
وفي الموسم يلتقي الأولياء..................١١٥
تسبيح وسعي في الحوائج..................١١٥
الأوَّل: إرشاد الضائعين..................١١٥
الثاني: حضور مجالس الذِّكر..................١١٦
الفصل السابع: لقاءات مع الأصفياء..................١١٧
وجاء سائلاً في محضر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)..................١١٩
عند مغيب الشمس..................١٢٠
على باب مدينة العلم..................١٢٤
أوَّلاً: اللقاء في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)..................١٢٤
أ - يا رابع الخلفاء..................١٢٤
ب - وجاء طيفه زائراً..................١٢٥
ثانياً: اللقاءات العامَّة:..................١٢٧
اللقاء الأوَّل..................١٢٧
اللقاء الثاني: في رحاب مكَّة..................١٢٨
أ - وتحدَّث العالم بمحضر المعلِّم..................١٢٨
ب - وكشف السبط عن جواهره..................١٢٩
اللقاء الثالث: في المدائن..................١٣٢
اللقاء الرابع: بعد البيعة..................١٣٤
اللقاء الخامس: اللقاء في الكوفة..................١٣٧
الحدث الأوَّل..................١٣٧
الحدث الآخر..................١٣٩
اللقاء السادس: في النخيلة..................١٤١
اللقاء السابع: بين يدي الإمام المبين..................١٤٢
خاتمة اللقاءات..................١٤٢
وصاح ناعياً لسيِّد الشهداء (عليه السلام)..................١٤٥
مع السجَّاد (عليه السلام) سائلاً ومسلّياً..................١٤٧
الحجَّة البالغة..................١٤٧
حديث التسلية..................١٤٨
وجاء للباقر (عليه السلام) سائلاً..................١٥٠
طريق التوبة..................١٥٠
وللكعبة تاريخ..................١٥١
وكان للصادق (عليه السلام) رسولاً..................١٥٣
الزائر الدائم للرضا (عليه السلام)..................١٥٥
الخضر مع إمام في صباه..................١٥٦
السلام المستمرُّ..................١٥٦
وأصبح مؤنساً لصاحب الزمان (عجّل الله فرجه)..................١٥٨
وقفة تأمُّل..................١٥٨
تعقيب..................١٦٠
من مشاهدات الأولياء..................١٦٢
الخضر في الأوتاد..................١٦٣
رأي وجيه..................١٦٤
وقفة تأمُّل..................١٦٥
وقفة مع (مصباح) الكفعمي..................١٦٥
تقسيم المقامات..................١٦٥
صفات أصحاب كلِّ مقام..................١٦٦
سُلَّم الترقِّي في المقامات..................١٦٦
تعليق..................١٦٧
الفصل الثامن: اللقاءات والنوادر..................١٦٩
لقاءات عامَّة..................١٧١
أوَّلاً: لقاءات صريحة..................١٧٣
وعاد الأعمى بصيراً..................١٧٣
وناجى ربَّه بأسمائه العظام..................١٧٤
ثانياً: وتوقَّعوا لقاءه..................١٧٥
وعلَّمنا كيف يكون الدعاء..................١٧٥
ودلَّنا على آثار مسجد السهلة..................١٧٦
وجاء الخضر واعظاً..................١٧٨
وجاء خديجة (عليها السلام) زائراً..................١٨٠
وأرسله الرضا (عليه السلام) مغيثاً..................١٨٠
نوادر وطرائف..................١٨٢
الخضر في الرقيق..................١٨٢
هلمَّ فاقرأ للعجائب..................١٨٤
غرائب وأساطير..................١٨٦
الفصل التاسع: آثاره المعنويَّة..................١٩١
أدعية ومناجاة..................١٩٣
أوَّلاً: دعاء كميل..................١٩٣
رواية الدعاء..................١٩٣
وقفة مع هذا الدعاء..................١٩٤
أهمّيَّته..................١٩٤
الناحية الأُولى..................١٩٥
الناحية الثانية..................١٩٥
أ - البحث في سند الدعاء..................١٩٥
ب - الشروح..................١٩٥
ج - الترجمة..................١٩٦
د - النظم..................١٩٦
ثانياً: دعاء للأمن من الوسوسة..................١٩٧
ثالثاً: دعاء للحفظ في الأسفار..................١٩٧
رابعاً: دعاؤه لحصوله على عين الحياة..................١٩٧
مع الدعاء..................٢٠٢
خامساً: دعاء الخضر وإلياس (عليهما السلام):..................٢٠٣
الرواية الأُولى..................٢٠٣
الرواية الثانية..................٢٠٣
آثار الدعاء..................٢٠٣
نوادر من آثاره..................٢٠٥
أوَّلاً: زيارته لأمير المؤمنين (عليه السلام)..................٢٠٥
ثانياً: صلاته..................٢٠٨
ثالثاً: التوسُّل به..................٢٠٨
رابعاً: من المجرَّبات..................٢١١
نتائج البحث..................٢١٣
المصادر والمراجع..................٢١٥

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدَّمة المركز:
تمتاز المكتبة المهدويَّة - خصوصاً في زماننا - بتنوُّع الكتابات التي تتحدَّث عن العقيدة المهدويَّة استدلالاً وجدلاً وتفصيلاً وقصَّةً وشعراً، ولا نقف عند حدٍّ لإحصاء ما كُتِبَ فيها تنوُّعاً وعدداً وإنْ قيل: إنَّ ما كُتِبَ فيها قليل، ومع هذه القلَّة المدَّعاة في الكتابة نجدها حاضرة في وجدان كثير، وإذا جُلْتَ بنظرك في رفوف المكتبة المهدويَّة قلَّما يقع بصرك على كتاب يتحدَّث عن مؤنس الإمام (عجّل الله فرجه) العبد الصالح الخضر (عليه السلام)، ومن بين ما يقع عليه النظر كتاب يتحدَّث عن هذا العبد الصالح بدراسة أنيقة وعبارات رشيقة وتبويب جذَّاب، إنَّه كتاب (رجل الغيب) بقلم (عارف آل سنبل).
الحديث عن الخضر (عليه السلام) شيِّق بذاته، فهو رجل العصور الذي يعيش في مخيَّلة الكثير، فكيف به إذا اقترن بصاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، الخضر اسم يبعث - ولمجرَّد ذكره - على الراحة والطمأنينة، فما أنْ تسمع بذكره أو تدخل مكاناً يُذكِّرك به إلَّا تستحضر قصَّته مع النبيِّ موسى (عليه السلام) وعلمه الخارق وقدرته العجيبة في إدارة الحوار مع نبيٍّ من أنبياء أُولي العزم، تتحدَّث القَصَص في الأديان والروايات المختلفة عن العديد من الحالات والأماكن التي لا زالت مزاراً لهذا العبد الصالح ويرتادها المئات بل الآلاف، لمجرَّد أنَّ هناك حكاية أو قصَّة تروي مروره في هذا المكان، ولسنا بصدد إثبات أو نفي ذلك.
القرآن الكريم الذي تحدَّث في بعض الآيات عن الخضر (عليه السلام) تناول لقطة

↑صفحة ٣↑

من حياة هذا الرجل الغيبي، ولعلَّ ما تناوله لا يتجاوز أيَّاماً معدودة، فكيف إذا قُدِّر لنا النظر إلى حالات الخضر (عليه السلام) الأُخرى وإدارته الغيبيَّة للكثير من الأُمور خلال مديات حياته الطويلة في قرون متمادية.
الحديث عن الخضر شيِّق ورائع ولا يُمَلُّ ولا ينتهي.
ومؤلِّفنا بأُسلوبه الرائع سوف يأخذنا في جولة يتناول فيها ما تيسَّر له من استعراض ما يرتبط بهذا العبد الصالح، ابتداءً من اسمه ونشأته وكيفيَّة ولادته وحالته في ملبسه ومسكنه إلى أهمّ التفاصيل التي يمكن التماسها من العديد من الروايات أو الموروث الدِّيني بشكلٍ عامٍّ.
الارتباط بالخضر (عليه السلام) ارتباط بجهتين في ذات الوقت، ارتباط به لشخصه المبارك واستجلاب الآثار المترتِّبة على إيجاد علقة خاصَّة به، فهو بحقٍّ رجل الغيب، وله العديد من الآثار التكوينيَّة والمعنويَّة التي يفيضها على من يتعلَّق به بصدق.
وارتباط آخر مقدَّمي لأجل أنَّه مؤنس الإمام (عجّل الله فرجه)، وله مع إمامنا (عجّل الله فرجه) علاقة خاصَّة، فالارتباط بهذا العبد الصالح هو ارتباط بالحجَّة وإمام الزمان (عجّل الله فرجه).
نتركك أيُّها القارئ العزيز مع فصول هذا الكتاب الشيِّق الذي لا نشكُّ أنَّك لا تتركه إلَّا بعد الانتهاء منه، لسلاسة الأُسلوب وحلاوة التعبير وجمال الموضوع.
وختاماً نسأله تعالى أنْ نكون ممَّن حَظي برضى الإمام، وتوفَّق لأُنسه، واستمطر رضاه ودعاءه.

مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)

↑صفحة ٤↑

الإهداء

إليك..
يا بلسم الجراح النازفة من عهد آدم (عليه السلام)..
يا إطلالة الفجر المنتظَرة..
يا عين الحياة..
إليك أيُّها الحجَّة المنتظَر..
أرفع هذه الوريقات..
راجياً ومؤمِّلاً..
العبد المرتهن بجود مولاه

عارف

↑صفحة ٥↑

إشراقة المدخل

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على ذروة المجد، ومبلغ كمال الممكنات، محمّد وآله السادة الهداة.
وبعد..
فهذه وريقات تشرَّفت بتناول شخصيَّة فريدة، جمعت بين المعاصرة والتاريخيَّة.
ولا شكَّ أنَّ شخصيَّة بهذه الصفة تكون جديرة بالدراسة، والتأمُّل في شؤونها، والتدقيق فيما يرتبط بها، وكان حصاد التأريخ مهمًّا، فإنَّ مِن أهمِّ ما التقطته أقلام المؤرِّخين من شذرات تتعلَّق بحياة أولياء الله (عزَّ وجلَّ)، فكراً ومنهجاً، أو قولاً وعملاً.
ولا بدَّ من تقديم الاعتذار هنا، كي لا يؤاخذني القارئ، إذا طلب حلقة مفقودة من حياته فلم يجدها، فأقول: إنَّ عدسة التأريخ تضيق حينما تمرُّ بهذه الشريحة، فلا تعرض لهم إلَّا مقاطع متناثرة، وإذا حاولت جمعها لتكوين صورة كاملة فإنَّك تتعثَّر في أُولى خطواتك؛ إذ تجد أنَّ الصورة تتخلَّلها فراغات، ولا تعرف كيف تسدُّها؛ لتبدو الصورة واضحة المعالم.
وسيبدو الأمر واضحاً في هذه المحاولة التي بين يديك، إذ لا أشكُّ في افتقارها لبعض الجوانب المتعلَّقة بشخصيَّة الخضر (عليه السلام)، والمتمِّمة لما كُتِبَ.
فليكن قارئي الكريم عاذراً في كلِّ نقص يلحظه؛ فقد ذكرت السبب

↑صفحة ٧↑

مسبقاً، وأعطف على ذلك أنَّ هذه المحاولة لم تكن مسبوقة بمطالعة منِّي، لدراسة مخصَّصة.
وإنَّما كنت أجد محاولات تهدف لتحقيقات خاصَّة، وجميعها لا يتناول التراث الشيعي البتَّة، وإنَّما كانت مصادرها ما ورد في كُتُب العامَّة.
وحينما جئت لهذا التراث شاهدت نثاراً في كُتُب التاريخ، وأسفار الحديث، ومطوَّلات التفسير؛ فحاولت التأليف بين شتاتها، ونظم متفرِّقاته، مع علمي أنَّ القلم سيتعثَّر في بعض المنعطفات، وسيتهيَّب من اقتحام بعض العقبات، وسيمرُّ بطريق ليس فيه للمسير أثر.
شكر وتقدير:
ومن أجل أنْ لا أنسى لأهل الفضل فضلهم، أقول:
إنَّه لم يمرَّ في خلدي يوماً من الأيَّام أنَّ عيني ستلاحقان أحاديث الخضر (عليه السلام) ونوادره، ولم يخطر ببالي أنَّ قلمي سيخطو نحو ساحاته العطرة، جامعاً، ومرتِّباً، ومستوقفاً، إلَّا أنَّ عناية الباري (عزَّ وجلَّ) شملتني لتجعلني محطَّ اقتراح سماحة العلَّامة المعلِّم (حفظه الله) في كتابة هذا المدوَّن.
فبدء المحاولة بالاقتراح، وختامها بالمراجعة والتصحيح، كانا منه (حفظه الله)، وله بين البدء والختام ما يُشكر عليه.
ولا أنسى إخواناً شاطروني الاهتمام، فقرؤوا، واقترحوا ما كان له الأثر الواضح على الكتاب، فجزاهم الله خيراً، وحباهم من لدنه أجراً.
فبعون الله تعالى - وله المنَّة - تمَّ ما كنت أصبو إليه، وببركات النبيِّ وآله (عليهم آلاف التحيَّة والسلام) ظفرت بما تراه ماثلاً بين يديك.

* * *

↑صفحة ٨↑

الفصل الأوَّل: الخضر في الوجدان الإسلامي

أوَّلاً: الكُتُب.
ثانياً: المقامات والمساجد.

↑صفحة ٩↑

الخضر في الوجدان الإسلامي:
لقد أولى الفكر الإسلامي عناية خاصَّة بشخصيَّة الخضر (عليه السلام)، واهتمَّ بما يتعلَّق بها من قضايا.
وأحتمل أنَّ ذلك يرجع إلى أنَّ المواضيع المتعلِّقة بهذه الشخصيَّة مادَّة خصبة للباحثين، ومجال واسع لصولات الفكر فيه.
ولا يخفى أنَّ القضايا المتعلِّقة بالخضر (عليه السلام) تحمل بين جنباتها إشعاعاً خاصًّا، يجذب نحوه القلوب؛ فتهفو إليه، ويستميل الأسماع؛ فتصغي لما يُقال عنه.
ومن أهمّ جوانب الإثارة فيها، أنَّها حملت سمات يصعب على الفكر لملمة أجزائها وجمعها، وأوجز ما تُوصَف به أنَّها (شخصيَّة غيبيَّة)، ولهذه الكلمة إشعاع يُوحي بما تُمثِّله، فالعمر يطول حتَّى يرى آخر أترابه، ويمتدُّ حتَّى يشاهد مصارع الأجيال جيلاً بعد جيل، بل حتَّى يبصر تهاوي الحضارات واحدة تلو أُخرى، ويبقى حتَّى يكون له شرف الحياة تحت راية الإمام المنتظَر (عجّل الله فرجه).
وقد منحه الله الوهَّاب فوق هذا قدرات، فلا الماء يملك سلطاناً عليه فيُغرقه، ولا بُعد المكان يحول دون حضوره ومشاركته، ولا الأبصار لها الحقُّ في ملاحقته حيث حلَّ، فبينا هو يُرى حاضراً إذ بالعين تفقده.
وفوق هذا وذاك، إنَّه الشخص الذي قال لموسى (عليه السلام): ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ (الكهف: ٦٧)، وكان الأمر كما قال.

↑صفحة ١١↑

إنَّ من اجتمعت فيه كلُّ هذه الجوانب لا أعجب من اهتمام المسلمين بالبحث عنه، والتنقيب عن دقائق حياته.
ويمكننا أنْ نرصد مظهَرين بارزين، يدلَّان على الاهتمام الكبير به عند المسلمين، وهما:
أوَّلاً: الكُتُب:
فمن يتصفَّح فهارس الكُتُب يجد كيف انبرت الأقلام لتستنفد مدادها في الطواف حول هذا السرِّ المكنون، والذي استعصى على العقول فهمه، فراحت تعاود الكرَّة تلو الكرَّة، لعلَّها تفتح ما استغلق من قضايا عسر إدراكها عليها.
وهذا الاهتمام لم يقتصر على طائفة دون أُخرى، بل إنَّه شغل الفكر الإسلامي عامَّة، فكُتَّاب الإماميَّة قد تصدَّوا للكتابة عنه، أو عن بعض ما يتعلَّق به، فألَّفوا كُتُباً منها:
١ - الرسالة التعليميَّة في تعلُّم موسى (عليه السلام) من الخضر (عليه السلام)، للشيخ أحمد ابن زين الدِّين الأحسائي، وهي مدرجة في (جوامع الكلم).
٢ - رسالة في قصَّة موسى والخضر، للشيخ عليِّ ابن الشيخ أحمد الأحسائي(١).
٣ - نظم قصَّة النبيِّ موسى (عليه السلام) والخضر، وهي خمسة آلاف بيت مثنوي، نظمها ميرزا أحمد بن الميرزا محمّد شفيع وصال الشيرازي(٢).
٤ - الكُتُب المتعلِّقة بدعاء الخضر (عليه السلام)، فقد نال قسطاً من الاهتمام تحت عنوان دعاء كميل بن زياد(٣).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ١٧/ ص ٩٨/ الرقم ٥٣١).
(٢) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ١٧/ ص ٩٨/ الرقم ٥٣١).
(٣) سيأتي بيان ما يتعلَّق بهذا الدعاء في الفصل التاسع.

↑صفحة ١٢↑

٥ - إجابة السائل في قصَّة ملاقاة سيِّد الشهداء (عليه السلام) مع الخضر (عليه السلام) وما جرى بينهما من السؤال والجواب، مطبوع بلغة الأُوردو(٤).
وأمَّا العامَّة فقد ألَّفوا كثيراً من الكُتُب حول هذا الموضوع، وملخَّص عملهم كما يلي:
الكُتُب القديمة: وأُحصي منها سبعة عشر كتاباً.
الكُتُب الحديثة: وأُحصي منها ستَّة كُتُب.
الدراسات: وعُدَّ منها ثلاث دراسات(٥).
ثانياً: المقامات والمساجد:
تعدَّدت المساجد والمقامات التي تُنسَب للخضر (عليه السلام)، حتَّى لا تكاد تتعرَّف على منطقة إلَّا وجدت فيها مسجداً يحمل اسمه الشريف، أو مقاماً يُنمى إليه.
وهذه المساجد ربَّما تكون قد سُمّيت تبرُّكاً باسمه الميمون المبارك، وأمَّا المشاهد فربَّما اقترنت بحادثة، تعرَّف الحاضرون فيها على شخصيَّة الخضر (عليه السلام)، أو ظنُّوه ذلك العبد الصالح؛ فشيَّدوا تخليداً لتلك الحادثة صرحاً مناسباً، فبقي الأثر دالًّا على ذلك، وانمحت ملامح الحادثة، وقد يكون الأمر غير ذلك، ومنها:
١ - مشهد الخضر (عليه السلام) بتكريت(٦).
٢ - مقام الخضر (عليه السلام) في قرية عيناثا(٧).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ١/ ص ١٢٠/ الرقم ٥٧٨).
(٥) راجع: الخضر بين الواقع والخيال (ص ٢١ - ٢٤)، وفيه تفصيل ما أجملته.
(٦) أعيان الشيعة (ج ٣/ ص ٥٥٦).
(٧) أعيان الشيعة (ج ٨/ ص ١٦٠).

↑صفحة ١٣↑

٣ - مسجد الخضر (عليه السلام)، وبهذا الاسم مساجد كثيرة، منها في الموصل(٨)، وآمد(٩)، بل في القطيف وحدها عدَّة مساجد بهذا الاسم، وأحسب أنَّ كثرة تسمية المساجد باسمه المبارك (عليه السلام) تحمل دلالة تُبيِّن مقدار حضوره (عليه السلام) في الذهنيَّة الإسلاميَّة العامَّة.
وفي هذا دلالة واضحة على أنَّ شخصيَّة الخضر لا تعيش في بطون الكُتُب ودور البحث فقط، بل إنَّ لها وجوداً في أذهان المسلمين عامَّة.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨) أعيان الشيعة (ج ٨/ ص ١٨٢).
(٩) مستدركات أعيان الشيعة (ج ١/ ص ١٢٠).

↑صفحة ١٤↑

الفصل الثاني: إشراقة النور وميلاد الفجر

* اسم شريف، ولقب مبارك.
* أصلاب طاهرة وحجور طيِّبة.
* الإطلالة الميمونة.
* في رحاب النشأة.
* واغترف من عين الحياة.

↑صفحة ١٥↑

اسم شريف، ولقب مبارك:
ربَّما لم يكن القارئ في انتظار هذه الجولة، وربَّما كان يظنُّ أنَّ هذه الشخصيَّة لا تحمل غير اسمها الذي عُرِفَت به عندنا، وليس الأمر كذلك.
أوَّلاً: الاسم الشريف (تاليا):
اخترت من بين الأسماء المذكورة هذا الاسم، ورجَّحته على غيره، ولك الحقُّ أنْ تسأل عن السبب في ذلك، وهذا ما سأعرضه بين يديك.
١ - نصُّ الروايات:
لقد سُئِلَ أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ستَّة من الأنبياء لهم اسمان، فعدَّ منهم الخضر، فقال: «... وَاَلْخِضْرُ وَهُوَ تَالِيَا...»(١٠).
وأمَّا الإمام الصادق (عليه السلام)، فلم يكتفِ بالاسم مفرداً، بل ذكر سلسلة آبائه، فقال: «وَكَانَ اِسْمُهُ تَالِيَا بْنَ مِلْكَانَ بْنِ عَابِرِ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ (عليه السلام)»(١١).
٢ - اختيار العلماء:
لقد اختار الشيخ الصدوق (رحمه الله) هذا الاسم، ورجَّحه على غيره، وذكر أنَّه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠) بحار الأنوار (ج ١٠/ ص ٨٠/ ح ١، وج ١١/ ص ٣٦/ ح ٣٢)، عن الخصال (٣٢٢/ ح ٧)، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ١/ ص ٢٢٢/ باب ٢٤/ ح ١)، وفيهما: (حلقيا)، وعلل الشرائع (ج ٢/ ص ٥٩٦/ باب ٣٨٣/ ح ٤٤)، وفيه (إرميا).
ورواه العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج ١٦/ ص ٩٠/ ح ٢٢)، وفيه: (حلقيا).
(١١) معاني الأخبار (ص ٤٩/ باب معاني أسماء الأنبياء والرُّسُل (عليهم السلام) وغير ذلك/ ح ١).

↑صفحة ١٧↑

الاسم الصحيح اعتماداً على الروايات المسندة لديه، وقد ذكرها في كتاب (علل الشرائع)(١٢).
أمَّا من علماء العامَّة فستجد الآلوسي يُصرِّح بأنَّ هذا الاسم عليه جمهور علماء السُّنَّة(١٣).
أسماء قريبة:
هناك عدَّة أسماء قريبة جدًّا من التسمية المختارة، وهي: إبليا، بليا، بليان. ومن المحتمل أنَّ هذه الأسماء كانت تصحيفاً لاسمه الشريف (تاليا)، وهذا التصحيف قد يرجع إلى غرابة الاسم، أو إلى عدم معرفة الناقل للاسم بمدلوله، فلا يشعر بما أحدث من تغيير فيه.
لقد نقل الكُتّاب رأي ابن منبِّه في تسمية الخضر (عليه السلام)، فنسب العيني أنَّه يُسمِّيه (بليا)(١٤)، وأمَّا القرطبي فنسب له التسمية بـ (إيليا)(١٥)، وإذا رجعت إلى الطبري فسيذكر أنَّه يُسمِّيه (أرميا)(١٦).
أسماء أُخرى:
هناك أسماء ذُكِرَت في طيَّات الكُتُب للخضر (عليه السلام)، ومنها: عامر، وأحمد، واليسع، وجعدا، وإلياس، وأرميا، وحلقيا، وخلعبا.
وربَّما كانت هذه الأسماء ممَّا لحق به؛ نظراً لمرور السنين الطويلة عليه، فربَّما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢) كمال الدِّين (ص ٣٩١)، وفيه: (والصحيح أنَّه اسمه بليا بن ملكان...).
وفي علل الشرئع (ج ١/ ص ٦٠/ باب ٥٤/ ح ١): (وكان اسمه باليا بن ملكان...).
(١٣) تفسير الآلوسي (ج ٨/ ص ٣٠١)، وفيه: (بليا بن ملكا).
(١٤) عمدة القاري (ج ٢/ ص ٦٠).
(١٥) تفسير القرطبي (ج ١١/ ص ٤٤).
(١٦) تاريخ الطبري (ج ١/ ص ٣٨٩).

↑صفحة ١٨↑

لحقه اسم هنا، وعُرِفَ باسم آخر هناك، بل إنَّ بعضها يبدو وكأنَّه من الصفات المناسبة كـ (عامر)، فإنَّه في الدنيا.
ثانياً: اللقب الشريف (الخضر):
لقد اشتهر لقبه الخضر حتَّى غلب على اسمه، ويُضبَط هذا اللقب بصورٍ ثلاث، وهي:
أ - الخَضِر، بفتح أوَّله وكسر ثانيه.
ب - الخِضْر، بكسر أوَّله وإسكان ثانيه(١٧).
ج - الخَضْر، بفتح الخاء وسكون الضاد(١٨).
ولهذا اللقب أسباب تُذكر، وهي:
١ - أنَّه إذا صلَّى في مكان اخضرَّ ما حوله(١٩).
٢ - أنَّه قعد على فروة بيضاء، فاهتزَّت تحته خضراء(٢٠).
٣ - سُمِّي خضراً لحسنه وإشراق وجهه، تشبيهاً بالنبات الأخضر الغضِّ(٢١).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧) لسان العرب (ج ٤/ ص ٢٤٨ و٢٤٩).
(١٨) مجمع البحرين (ج ٣/ ص ٢٨٨).
(١٩) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٧)، الزاهر في معاني كلمات الناس (ص ٥١٢)، معاني القرآن للنحَّاس (ج ٤/ ص ٢٦٧)، تفسير الطبراني (ج ٤/ ص ١٨٣)، تهذيب اللغة (ج ٧/ ص ٥١)، تفسير الثعلبي (ج ٦/ ص ١٨٢)، الهداية إلى بلوغ النهاية (ج ٦/ ص ٤٤٢٨).
(٢٠) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٧)، الزاهر في معاني كلمات الناس (ص ٥١٢)، صحيح ابن حبَّان (ج ١٤/ ص ١٠٩)، تفسير الثعلبي (ج ٦/ ص ١٨٢)، تاريخ مدينة صنعاء (ص ٤٥٢)، الفائق في غريب الحديث (ج ٣/ ص ١٩)، أحكام القرآن لابن العربي (ج ٣/ ص ١٢٤٤).
(٢١) الزاهر في معاني كلمات الناس (ص ٥١٢ و٥١٣)، تهذيب اللغة (ج ٧/ ص ٥١ و٥٢)، لسان العرب (ج ٤/ ص ٢٤٨ و٢٤٩)، تاج العروس (ج ٦/ ص ٣٥٢).

↑صفحة ١٩↑

٤ - أنَّه لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلَّا أزهرت خضراء، وكانت هذه آية نبوَّته(٢٢).
٥ - لأنَّه كان إذا صار في مكانٍ لا نبات فيه اخضرَّ ما حوله(٢٣).
وقريب من هذا اللقب ما يُنسَب إليه، مثل: خضرويه، وخضرون(٢٤).
بين الاسم واللقب:
لقد رأيت أيُّها القارئ الكريم أنَّنا جعلنا (الخضر) لقباً له (عليه السلام)، ولم نجعله اسماً، ولك الحقُّ في المطالبة بمستندٍ لذلك، فنقول: إنَّ مستند ذلك ما يظهر من الروايات التي تُعلِّل تسميته بالخضر.
ومن تلك التعليلات أنَّه كان لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلَّا اهتزَّت خضراء، وفي بعض الروايات أنَّ ذلك كان آية له خلال دعوته لله سبحانه وتعالى(٢٥)، ويُستفاد من هذا أنَّ إطلاق (الخضر) عليه كان بعد نشأته ودعوته للناس، ومن الطبيعي أنْ يُسمَّى باسم ما قبل ذلك، إذ من البعيد جدًّا أنَّه بقي بعد ولادته مدَّة بدون اسم، ثمّ أُطلق عليه اسم الخضر لصدور تلك الكرامة على يديه.
إنَّما الذي يُرجَّح أنَّه سُمِّي باسم خاصٍّ، ثمّ لُقِّب بالخضر؛ لما شوهد منه، وغلب اللقب عليه حتَّى نُسِيَ اسمه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢) علل الشرائع (ج ١/ ص ٦٠/ باب ٥٤/ ح ١).
(٢٣) تفسير التبيان (ج ٧/ ص ٧٠).
(٢٤) كمال الدِّين (ص ٣٩١/ باب ٣٨/ ح ٦).
(٢٥) رواها الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع (ج ١/ ص ٥٩ و٦٠/ باب ٥٤/ ح ١)، وستأتي في (ص ٤٨).

↑صفحة ٢٠↑

ثالثاً: كنيته:
لقد اتَّفقت مصادر الفريقين على أنَّ كنيته (أبو العبَّاس)، وقد روي ذلك عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)(٢٦)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)(٢٧)، وورد التصريح بذلك في كُتُب العامَّة(٢٨).
وأمَّا كنيته الشعبيَّة عند عامَّة الشيعة، فهي (أبو محمّد)، ولا أعرف مصدر ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦) عَنْ زَيْنِ اَلْعَابِدِينَ (عليه السلام)، قَالَ: «كَانَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام) عِنْدَ جَدِّهِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وَهُوَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي اَلمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا اَلْبَابِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، مِنْ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ يَسْأَلُ عَمَّا يَعْنِيهِ»، قَالَ: «فَنَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَى اَلْبَابِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ طَوِيلٌ مِنْ رِجَالِ مِصْرَ، فَتَقَدَّمَ وَسَلَّمَ عَلَى اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وَجَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، سَمِعْتُ اَللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣]، فَمَا اَلْحَبْلُ اَلَّذِي أَمَرَ اَللهُ تَعَالَى بِالْاِعْتِصَامِ بِهِ؟ فَأَطْرَقَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، وَقَالَ: هَذَا حَبْلُ اَلله، مَنِ اِسْتَمْسَكَ بِهِ نَجَا وَاِعْتَصَمَ فِي دُنْيَاهُ، وَلَمْ يَضِلَّ فِي آخِرَتِهِ. فَوَثَبَ اَلرَّجُلُ إِلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَاِحْتَضَنَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اِعْتَصَمْتُ بِحَبْلِ اَلله، وَحَبْلِ رَسُولِهِ، وَحَبْلِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، ثُمَّ قَامَ وَخَرَجَ، فَقَامَ فُلَانٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، أَلْحَقُهُ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي؟ قَالَ: فَقَالَ: إِذَا تَجِدُهُ، قَالَ: فَلَحِقْتُ اَلرَّجُلَ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي، فَقَالَ: أَفَهِمْتَ مَا قَالَ لِي رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وَمَا قُلْتُ لَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تَتَمَسَّكُ بِذَلِكَ اَلْحَبْلِ يَغْفِرُ اَللهُ لَكَ، وَإِلَّا فَلاَ غَفَرَ اَللهُ لَكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ وَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: هُوَ أَبُو اَلْعَبَّاسِ اَلْخَضِرُ».
الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (ص ١٠٣ و١٠٤/ ح ٩٣)، الفضائل (ص ١٢٥).
ورواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص ٤٨ و٤٩/ باب ٢/ ح ٢).
(٢٧) قال ابن جبر (رحمه الله) في نهج الإيمان (ص ٦٣٥ و٦٣٦): وفي كتاب أبي الحسن البصري أنَّ رجلاً جاء إلى عليٍّ (عليه السلام)، فسأله عن مسائل، فأجابه عنها، فمضى، فقال: «أتعرفون هذا؟ هذا أبو العبَّاس الخضر، ولقد أخبرني أنَّه كان مع موسى (عليه السلام) على البحر، فسقط عصفور، فأخذ بمنقاره قطرة من البحر، ثمّ جاء حتَّى وضعها على يد موسى، فقال موسى: ما هذا؟ فقال: هذا العصفور يقول: والله ما علمكما في علم وصيِّ النبيِّ الذي يأتي في آخر الزمان إلَّا كما أخذت بمنقاري هذا من هذا البحر».
(٢٨) شرح مسلم للنووي (ج ١٥/ ص ١٣٦)، عمدة القاري (ج ٢/ ص ٦٠).

↑صفحة ٢١↑

وقفة تأمُّل:
لقد ذُكِرَ رأي الشيخ الصدوق (رحمه الله) في مصنَّفين، وهما: (بحار الأنوار) للعلَّامة المجلسي (رحمه الله)، و(قَصَص الأنبياء) للسيِّد الجزائري (رحمه الله)، ومفاد النقل أنَّه (رحمه الله) يرى أنَّ الصحيح في تسمية الخضر (عليه السلام) هو (إلياس بن ملكان)، ويسندان نقلهما هذا إلى كتابه (كمال الدِّين)(٢٩).
ولكن حينما ترجع لكتاب (كمال الدِّين) ترى أنَّه لم يذكر اسم (إلياس)، وإنَّما ذكر أنَّ الصحيح في اسمه هو (بليا)(٣٠).
ويُعقِّب الشيخ الصدوق (رحمه الله) على ذلك بقوله: (وقد أخرجت الخبر في ذلك مسنداً في كتاب (علل الشرائع والأحكام والأسباب)).
وحينما نرجع لكتاب (العلل) نجد أنَّ الخبر المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) يذكر فيه أنَّ اسمه (باليا)(٣١).
ولأهمّيَّة هذه النقطة في تحديد الاسم حاولت البحث عن الرواية التي استند عليها الشيخ الصدوق (رحمه الله) في ترجيح الاسم المختار لديه، والتي ذكرها في كتابه (العلل)، فقمت بالرجوع للمصادر الأُخرى القديمة التي نقلت عن كتاب (العلل) هذه الرواية، فوجدت ما يلي:
١ - العلَّامة المجلسي (رحمه الله) نقل الرواية عن كتاب (العلل) في (بحاره)، وذكر فيها ما يلي: (وكان اسمه - أي الخضر - تاليا...)(٣٢).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩) بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٣٠٣)، قَصَص الأنبياء (ص ٢٩٩).
(٣٠) كمال الدِّين (ص ٣٩١).
(٣١) علل الشرائع (ج ١/ ص ٦٠).
(٣٢) بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٢٨٦/ ح ٤).

↑صفحة ٢٢↑

٢ - السيِّد الجزائري (رحمه الله) في (قَصَصه) نقلها عن (العلل) أيضاً، وذكر فيها أنَّ اسمه (تاليا)(٣٣).
٣ - الشيخ الصدوق (رحمه الله) نفسه ذكر في كتابه (معاني الأخبار): (حدَّثنا مشايخنا (رضي الله عنهم) بأسانيد مرفوعة متَّصلة قد ذكرتها في كتاب (علل الشرائع والأحكام والأسباب) في أبواب متفرِّقة، ورتَّبتها فيه)، ثمّ ذكر معاني بعض الأسماء حتَّى بلغ الخضر (عليه السلام)، فذكر مضمون الرواية، ثمّ قال: (وكان اسمه تاليا)(٣٤).
٤ - ذكر صاحب كتاب (الصراط المستقيم) رأي الشيخ الصدوق (رحمه الله) المذكور في (كمال الدِّين)، فنصَّ على أنَّه قال: والصحيح أنَّ اسمه (تاليا)(٣٥).
ونقل العلَّامة الطباطبائي (قدس سره) في (ميزانه) هذه الرواية، وذكر فيها أنَّ اسمه (تاليا)(٣٦).
وممَّا تقدَّم يتَّضح أنَّ رأي الشيخ الصدوق (رحمه الله) والرواية التي استند عليها تنصَّان على أنَّ اسمه (تاليا)، وغير هذا تصحيف.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣) قَصص الأنبياء (ص ٢٩٣).
(٣٤) معاني الأخبار (ص ٤٨ و٤٩/ باب معاني أسماء الأنبياء والرُّسُل (عليهم السلام) وغير ذلك/ ح ١).
(٣٥) الصراط المستقيم (ج ٢/ ص ٢٢٢).
(٣٦) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٥٢).

↑صفحة ٢٣↑

أصلاب طاهرة وحجور طيِّبة:
هناك من يذكر أنَّ والدته كان اسمها (ألمى)(٣٧)، وقيل: إنَّها كانت روميَّة(٣٨).
وأمَّا والده فهو ملكان، وقد نصَّت الروايات على هذا الاسم، وصحَّح هذه التسمية الشيخ الصدوق (رحمه الله) كما سبق، بل ذُكِرَ أنَّها هي الأشهر عند علمائنا كما نُقِلَ(٣٩).
وكان ملكان والد الخضر (عليه السلام) - كما تُحدِّثنا الروايات عنه(٤٠) - مَلِكاً عادلاً أحبَّه شعبه لسيرته الحسنة فيهم.
وأمَّا جدُّه فهو عابر، ولقبه هود (عليه السلام)، وقد أنجب ثلاثة أولاد: فالغ، وهو جدُّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وقحطان، وهو والد يعرب، وملكان، وهو والد الخضر (عليه السلام)(٤١).
ويمكننا أنْ نُلخِّص اسم الخضر (عليه السلام)، فنقول: هو تاليا بن ملكان بن عابر.
ولا شكَّ أنَّك ستجد أسماء أُخرى يطرحها المؤرِّخون، ولا أحتاج لمناقشة الآراء التالية مطوَّلاً بعد أنْ عرفنا الاسم الراجح، ولكن لكي يكون القارئ على اطِّلاع بما في التراث، ولكي لا يُفاجأ إذا ما قرأ شيئاً من ذلك، وإليه ما ذُكِرَ من أسماء لأبيه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٧) تفسير القرطبي (ج ١١/ ص ٤٤).
(٣٨) رجل لا يموت (ص ٢٠).
(٣٩) الأنبياء (حياتهم، قَصَصهم) (ص ٣٦٠).
(٤٠) ستأتي في الفصل اللَّاحق.
(٤١) راجع: سلسلة آباء النبيِّ (ص ٦٥ و٦٧ و٦٩).

↑صفحة ٢٤↑

١ - آدم (عليه السلام): ذكر ذلك ابن عساكر(٤٢)، ويعضدون هذا القول برواية عن ابن عبَّاس يقول فيها: الخضر ابن آدم لصلبه، ونُسِئَ له في أجله(٤٣)، وعلماؤهم لا يقبلون هذه الرواية لغرابتها وانقطاعها(٤٤).
٢ - قابيل بن آدم(٤٥).
٣ - فرعون(٤٦): ويقصدون به فرعون موسى، وهذا من الآراء الغريبة؛ لأنَّ المعروف أنَّ آسية اقترحت على فرعون أنْ يتَّخذ موسى (عليه السلام) ولداً، لأنَّهما لم يكن لهما ولد.
٤ - العيص بن إسحاق.
٥ - كليان، وربَّما كان تصحيفاً لـ (ملكان)(٤٧).
٦ - وقيل: كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه(٤٨).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٢) تاريخ مدينة دمشق (ج ١٦/ ص ٤٠٠).
(٤٣) بغية الطلب في تاريخ حلب (ج ٧/ ص ٣٢٨٦)، البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٨٠)، المقفى الكبير (ج ٣/ ص ٤٤٨)، الدُّرُّ المنثور (ج ٤/ ص ٢٣٤)، وقد رووها عن الدارقطني، وتتمَّة الرواية: (حتَّى يُكذِّب الدجَّال).
(٤٤) البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٨٠).
(٤٥) البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٨٠)، وينسبه السجستاني لمشائخه.
(٤٦) رجل لا يموت (ص ٢١).
(٤٧) الأنبياء (حياتهم، قَصَصهم) (ص ٣٦٠).
(٤٨) البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٨٠).

↑صفحة ٢٥↑

الإطلالة الميمونة:
هناك خبر نقله بعض الكُتَّاب دون أنْ يذكر كونه روايةً أم قول مؤرِّخ، مع ما له من الأهمّيَّة.
ومفاد الخبر أنَّ والد الإسكندر كان أعلم أهل الأرض بعلم النجوم، ولم يراقب أحد الفلك ما راقبه، وكان قد مدَّ الله له في الأجل، فقال ذات ليلة لزوجته، قد قتلني السهر؛ فدعيني أرقد ساعة، وانظري أنت في السماء، فإذا رأيت قد طلع في هذا المكان نجم - وأشار لها إلى موضع طلوعه - فنبِّهيني حتَّى أطأكِ، فتعلقين بولد يعيش إلى آخر الدهر، وكانت أُختها تسمع كلامه معها، ثمّ نام والد الإسكندر، فجعلت أُخت زوجته تراقب النجم، فلمَّا طلع أعلمت زوجها بالقصَّة، فوطأها؛ فعلقت منه بالخضر ابن خالة الإسكندر.
فلمَّا استيقظ والد الإسكندر من نومه، ورأى النجم قد نزل في غير البرج الذي كان يراقبه قال لزوجته: هلَّا نبَّهتني، فقالت: استحييت والله، فقال لها: أمَا تعلمين أنِّي أرقبه منذ أربعين سنة؟ والله لقد ضيَّعت عليَّ عمري في غير شيء، ولكن الساعة يطلع نجم في أثره، فأطأكِ فتعلقين بولد يملك قرني الشمس، فما لبث أنْ طلع فوطأها، فعلقت بالإسكندر، وولد الإسكندر وابن خالته الخضر في ليلة واحدة(٤٩).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٤٩) راجع: حياة الحيوان (ج ٢/ ص ٣٠)، والكواكب الزاهرة (ص ٣٧١)، ومجمع البحرين (ج ٦/ ص ٢٩٦ و٢٩٧) بعنوان (وممَّا يُنقَل...).

↑صفحة ٢٦↑

وهذا الخبر كما يُلاحَظ يحتاج إلى تحديد شخصيَّة الإسكندر وزمان ولادته، وهل يتَّفق زمانه مع زمان الخضر أم لا؟
وأمَّا كون النجم علامة على أمر من الأُمور فهو ممَّا جالت فيه الآراء بين مثبِت ومنكِر، والذي يبدو أنَّ الأمر لا يحتاج إلى جهد نظري وقوَّة بيانيَّة واستدلاليَّة ليرجح رأي على آخر، وإنَّما يحتاج إلى تجربة عمليَّة يثبت من خلالها الأمر، أو تُنفى عنه كلُّ دلالة، والبحث العلمي الميداني له مجاله ورجاله.
ظروف الولادة:
لم تتوفَّر لديَّ روايات عن أهل البيت (عليهم السلام) تتحدَّث عن ولادته، وإنَّما وجدت رواية ذكرها القرطبي في تفسيره تتحدَّث عن ذلك، وفيها أُمور لا تنسجم مع مكانة والده ملكان.
وتقول الرواية: إنَّ والدته ولدته في مغارة، وإنَّه وُجِدَ هنالك وشاة تُرضِعه في كلِّ يوم من غنم رجل من القرية.
فأخذه الرجل فربَّاه، فلمَّا شبَّ طلب المَلِك - وهو والده - كاتباً، وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصُّحُف التي أُنزلت على إبراهيم وشيث.
وكان ممَّن قَدِمَ عليه من الكُتَّاب الخضر - وهو لا يعرفه -، فلمَّا استحسن خطَّه ومعرفته بحث عن جليَّة أمره، فعرف أنَّه ابنه، فضمَّه لنفسه وولَّاه أمر الناس، ثمّ إنَّ الخضر فرَّ من المَلِك(٥٠).
وهذه الرواية فيها ما يدعو للتأمُّل، وهو:
أوَّلاً: ما الداعي لأنْ تلد زوجة المَلِك ولدها في مغارة؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٠) تفسير القرطبي (ج ١١/ ص ٤٤)، حياة الحيوان (ج ١/ ص ٣٨٢)، الإصابة (ج ٢/ ص ٢٥٣)، الكواكب الزاهرة (ص ٣٧٠)، مجمع البحرين (ج ٣/ ص ٢٨٨ و٢٨٩).

↑صفحة ٢٧↑

ثانياً: أنَّ والده لم يكن ظالماً، بل كان عادلاً كما تصفه الروايات، ولو افترضنا كونه ظالماً فهل يمكن أنْ يصل ظلمه لقتل ولده؟
وتبدو الرواية لمن يطالعها مهلهلة وكثيرة الوهن، بل إنَّ الروايات الأُخرى تذكر أخباراً مخالفة فيما يتعلَّق بنشأته وسبب ابتعاده عن عالم الملوك.
وهكذا نخرج بدون معلومات يُستنَد إليها فيما يتعلَّق بولادته (عليه السلام) والظروف التي صاحبتها.

* * *

↑صفحة ٢٨↑

في رحاب النشأة:
تشير الروايات إلى أنَّ الخضر (عليه السلام) كان ابن مَلِك، وقد عاش في مُلك والده، ولكنَّه كان متعلِّقاً بالله (عزَّ وجلَّ)، وعازفاً عن الدنيا، ولم يتعلَّق طرفه بما راق الناس وحَلِيَ في أعينهم.
وذكروا أنَّ أباه ملكان كان مَلِكاً، وكانت له أُسوة حسنة في أهل مملكته، وكان ابنه الخضر (عليه السلام) قد رغب عمَّا هو فيه، وتخلَّى في بيت يعبد الله، حتَّى كبر سنُّ المَلِك والناس تعلم أنَّ كلَّ حيٍّ مصيره للفناء، فمشى إليه خيرة الناس من أجل أنْ يطرحوا عليه اقتراحاً يضمنون به استمرار وجوده من خلال عقبه.
فلمَّا حضروا ذكروا له ما يدور في خلدهم، وأبدوا إعجابهم بسيرته، وقرنوا ذلك بإبداء خوفهم من ذهابه، وابنه منصرف عن أُمور المُلك، فلذلك طرحوا عليه اقتراحاً قد يُقرِّب الخضر (عليه السلام) من الدنيا فيلتفت نحوها، ويضمنون بذلك استمرار المُلك في عقبه، فقالوا له: إنَّه لم ينل من الدنيا، فلو حملته على النساء حتَّى يصيب لذَّة الدنيا لعاد؛ فاخطب كريمة له.
لقد وقع قولهم موقع استحسان عند المَلِك، فزوَّجه جارية لها أدب وعقل، فلمَّا أتوا بها وحوَّلوها إلى بيته أجلسوها وهو في صلاته، فلمَّا فرغ قال: أيَّتها المرأة، ليس النساء من شأني، فإنْ كنتِ تُحبِّين أنْ تُقيمي معي وتصنعين كما أصنع كان لكِ من الثواب كذا وكذا، قالت: فأنا أُقيم على ما تريد.
ثمّ إنَّ أباه بعث إليها يسائلها: هل حبلت؟ فقالت: إنَّ ابنك ما كشف لي

↑صفحة ٢٩↑

عن ثوب، فأمر بردِّها إلى أهلها، وغضب على ابنه، وأغلق الباب عليه، ووضع عليه الحرس، فمكث ثلاثاً، ثمّ فتح عنه، فلم يُوجَد في البيت أحد(٥١).
وهناك رواية أُخرى تذكر أُموراً مشابهة لما ذُكِرَ، إلَّا أنَّها تختلف في التفاصيل(٥٢)، أعرضت عن ذكرها، ففيما ذُكِرَ كفاية.
زعم غريب:
قيل: إنَّ الخضر (عليه السلام) كان من أشراف بني إسرائيل، وكان يمرُّ كلَّ يوم على راهب في صومعته، فتطلَّع إليه الراهب يوماً، واستدعاه وعلَّمه الإيمان بالله سبحانه وتعالى ووحدانيَّته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥١) قَصص الأنبياء للراوندي (ص ١٦١)، بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٣٠٢ و٣٠٣/ ح ٢٣).
(٥٢) عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «لَـمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إِلَى اَلسَّمَاءِ وَجَدَ رِيحاً مِثْلَ رِيحِ اَلْمِسْكِ اَلْأَذْفَرِ، فَسَأَلَ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) عَنْهَا، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتٍ عُذِّبَ فِيهِ قَوْمٌ فِي اَلله حَتَّى مَاتُوا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ اَلْخَضِرَ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ اَلمُلُوكِ فَآمَنَ بِالله وَتَخَلَّى فِي بَيْتٍ فِي دَارِ أَبِيهِ يَعْبُدُ اَللهَ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِ وَلَدٌ غَيْرُهُ، فَأَشَارُوا عَلَى أَبِيهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَلَعَلَّ اَللهَ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَداً فَيَكُونَ اَلمُلْكُ فِيهِ وَفِي عَقِبِهِ، فَخَطَبَ لَهُ اِمْرَأَةً بِكْراً وَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتِ اَلْخَضِرُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي اَلْيَوْمِ اَلثَّانِي قَالَ لَهَا: تَكْتُمِينَ عَلَيَّ أَمْرِي؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ لَهَا: إِنْ سَأَلَكِ أَبِي: هَلْ كَانَ مِنِّي إِلَيْكِ مَا يَكُونُ مِنَ اَلرِّجَالِ إِلَى اَلنِّسَاءِ فَقُولِي: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَفْعَلُ، فَسَأَلَهَا اَلمَلِكُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ اَلنَّاسُ أَنْ يَأْمُرَ اَلنِّسَاءَ أَنْ يُفَتِّشْنَهَا، فَأَمَرَ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا، فَقَالُوا: أَيُّهَا اَلمَلِكُ، زَوَّجْتَ اَلْغِرَّ مِنَ اَلْغِرَّةِ، زَوِّجْهُ اِمْرَأَةً ثَيِّباً، فَزَوَّجَهُ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ سَأَلَهَا اَلْخَضِرُ أَنْ تَكْتُمَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَلَمَّا أَنْ سَأَلَهَا اَلمَلِكُ قَالَتْ لَهُ: أَيُّهَا اَلمَلِكُ، إِنَّ اِبْنَكَ اِمْرَأَةٌ، فَهَلْ تَلِدُ اَلمَرْأَةُ مِنَ اَلمَرْأَةِ؟ فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِرَدْمِ اَلْبَابِ عَلَيْهِ، فَرُدِمَ، فَلَمَّا كَانَ اَلْيَوْمُ اَلثَّالِثُ حَرَّكَتْهُ رِقَّةُ اَلْآبَاءِ، فَأَمَرَ بِفَتْحِ اَلْبَابِ، فَفُتِحَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ فِيهِ...».
تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٤٢ و٤٣)، عنه مجمع البحرين (ج ٣/ ص ٢٨٩) مختصراً، وتفسير البرهان (ج ٣/ ص ٦٧٢/ ح ٦٧٨١/٣٣)، وبحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٢٩٦ و٢٩٧/ ح ١٤)، وقَصَص الأنبياء للجزائري (ص ٢٩٦ و٢٩٧).

↑صفحة ٣٠↑

وكان الخضر (عليه السلام) في ذلك الوقت صغيراً لم يصل بعد سنَّ البلوغ، ثمّ تذكر الرواية بلوغ خبره لفرعون، فطلبه من أجل قتله(٥٣).
والواضح في هذا القول أنَّه يريد أنْ يجعل الخضر (عليه السلام) شخصيَّة إسرائيليَّة عاشت في زمان فرعون.
والتأريخ يرفض هذا القول؛ لأنَّ وجود الخضر (عليه السلام) كان قبل الفراعنة بعدَّة أجيال، وبالخصوص فرعون موسى (عليه السلام)، حيث إنَّ الفارق بين عصريهما عشرة أجيال، أي ما يقارب ثلاث مائة سنة.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٣) ميزان الاعتدال (ج ٢/ ص ١٢٨ و١٢٩/ ح ١٢١/٢).

↑صفحة ٣١↑

واغترف من عين الحياة:
إنَّ خبر الخضر (عليه السلام) وعين الحياة من الأخبار التي كثرت فيها الروايات، وسأختار من بينها رواية واحدة تُبيِّن الغرض وتبتعد عن الأُمور الغريبة التي قد تُثير بعض التساؤلات.
لقد سُئِلَ أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذي القرنين، فتحدَّث عنه، ثمّ قال: «قِيلَ لَهُ: إِنَّ لِله فِي أَرْضِهِ عَيْناً يُقَالُ لَهَا: عَيْنُ اَلْحَيَاةِ، لَا يَشْرَبُ مِنْهَا ذُو رُوحٍ إِلَّا لَمْ يَمُتْ حَتَّى اَلصَّيْحَةِ، فَدَعَا ذُو اَلْقَرْنَيْنِ اَلْخَضِرَ، وَكَانَ أَفْضَلَ أَصْحَابِهِ عِنْدَهُ، وَدَعَا بِثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلاَثِينَ (وَسِتِّينَ ط) رَجُلاً، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَمَكَةً، وَقَالَ لَهُمْ: اِذْهَبُوا إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ هُنَاكَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ عَيْناً، فَلْيَغْسِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ سَمَكَتَهُ فِي عَيْنٍ غَيْرِ عَيْنِ صَاحِبِهِ.
فَذَهَبُوا يَغْسِلُونَ، وَقَعَدَ اَلْخَضِرُ يَغْسِلُ، فَانْسَابَتِ اَلسَّمَكَةُ مِنْهُ فِي اَلْعَيْنِ، وَبَقِيَ اَلْخَضِرُ مُتَعَجِّباً مِمَّا رَأَى، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا أَقُولُ لِذِي اَلْقَرْنَيْنِ؟
ثُمَّ نَزَعَ ثِيَابَهُ يَطْلُبُ اَلسَّمَكَةَ، فَشَرِبَ مِنْ مَائِهَا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اَلسَّمَكَةِ، فَرَجَعُوا إِلَى ذِي اَلْقَرْنَيْنِ، فَأَمَرَ ذُو اَلْقَرْنَيْنِ بِقَبْضِ اَلسَّمَكِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا اِنْتَهَوْا إِلَى اَلْخَضِرِ لَمْ يَجِدُوا مَعَهُ شَيْئاً، فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا حَالُ اَلسَّمَكَةِ؟ فَأَخْبَرَهُ اَلْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ: فَصَنَعْتَ مَاذَا؟
قَالَ: اِغْتَمَسْتُ فِيهَا فَجَعَلْتُ أَغُوصُ وَأَطْلُبُهَا فَلَمْ أَجِدْهَا، قَالَ: فَشَرِبْتَ مِنْ مَائِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».

↑صفحة ٣٢↑

قَالَ: «فَطَلَبَ ذُو اَلْقَرْنَيْنِ اَلْعَيْنَ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَقَالَ لِلْخَضِرِ: كُنْتَ أَنْتَ صَاحِبَهَا»(٥٤).
تأمُّل وتعليق:
لقد استبعد أحد المعلِّقين(٥٥) على بعض الكُتُب الصلة بين ذي القرنين والخضر (عليه السلام)، وخلاصة اعتراضه هو:
أنَّ ذا القرنين كان بعد موسى (عليه السلام) بقرون كثيرة، فإنْ كان ذو القرنين هو الإسكندر فقد جاء بعد قرابة ألف ومائة وسبعين سنة، وإنْ كان كورش فقد جاء بعد تسع مائة وخمسين سنة.
وهذا الاعتراض غريب جدًّا لأمرين، وهما:
الأوَّل: أنَّ الخضر (عليه السلام) شخصيَّة إلهيَّة ذات عمر طويل، خارق لما تعارف عليه الناس من أعمار البشر.
الثاني: أنَّ هوداً (عليه السلام) كان جدَّ الخضر (عليه السلام) لأبيه، وكان الأب الثالث عشر لموسى (عليه السلام)، فالفاصل بين موسى والخضر (عليه السلام) عشرة أجيال، وهو ما يُقدَّر بقرابة ثلاث مائة سنة، وهذا فصل طويل، وأمَّا إذا لاحظنا طول الأعمار في أُولئك الآباء فإنَّ الفاصل سيطول كثيراً.
عين الحياة:
جاء عالم اليهود سائلاً أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أوَّل عين فاضت على وجه الأرض، فقال له عليٌّ (عليه السلام): «أَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنَّ أَوَّلَ عَيْنٍ فَاضَتْ عَلَى وَجْهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٤) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٤٢).
(٥٥) تركت التصريح باسم الكتاب تعمُّداً.

↑صفحة ٣٣↑

اَلْأَرْضِ عَيْنُ اَلْيَقُورِ(٥٦)، وَهِيَ اَلْعَيْنُ اَلَّتِي تَكُونُ فِي بَيْتِ اَلمَقْدِسِ، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُونَ، وَلَكِنَّهَا عَيْنُ اَلْحَيَاةِ اَلَّتي وَقَفَ عَلَيْهَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَفَتَاهُ، وَمَعَهُمُ اَلنُّونُ اَلمَالِحَةُ فَسَقَطَتْ فِيهَا فَحَيِيَتْ، وَكَذَلِكَ مَاءُ تِلْكَ اَلْعَيْنِ لَا يُصِيبُ شَيْءٌ مِنْهَا اِلَّا حَيِيَ، وَكَذَلِكَ كَانَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام) عَلَى مُقَدِّمَةِ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ فِي طَلَبِ عَيْنِ اَلْحَيَاةِ، فَأَصَابَهَا اَلْخَضِرُ (عليه السلام) فَشَرِبَ مِنْهَا، وَجَاءَ ذُو اَلْقَرْنَيْنِ يَطْلُبُهَا فَعَدَلَ عَنْهَا».
قَالَ: صَدَقْتَ وَاَلَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنِّي لَأَجِدُهَا فِي كِتَابِ أَبِي هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ كَتَبَهُ بِيَدِهِ وَإِمْلَاءِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ(٥٧).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٦) لليهود اعتقاد في هذه العين، ومنها ما رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (ج ١/ ص ١٥٢) عن كعب: (ما شُرِبَ ماء عذب قطُّ إلَّا ما يخرج من تحت هذه الصخرة، حتَّى إنَّ العين التي بدارين ليخرج ماؤها من تحت هذه الصخرة).
(٥٧) مقتضب الأثر (ص ١٤ - ١٧).

↑صفحة ٣٤↑

الفصل الثالث: شذرات ومختصَّات

* مسكنه.
* جبله.
* طعامه.
* أثره.
* مصلَّاه.
* الصلاة والسلام عليه.
* الخضر مع الشهداء.

↑صفحة ٣٥↑

شذرات ومختصَّات:
مسكنه (عليه السلام):
علاقة جليَّة بين الخضر (عليه السلام) وبين مسجد السهلة، فالمسجد مهوى أفئدة عُشَّاق صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، والخضر واحد من رجاله. ولكن الروايات لم تفصح عن أكثر من كونه مناخاً أو مسكناً له، وعلى ما في هذه اللفظة من التصريح إلَّا أنَّها لا تُعطي تفصيلاً واضحاً.
لقد روي عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ أَبَانٍ أَنَّهُ قَالَ:
دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَسَأَلَنَا: «أَفِيكُمْ أَحَدٌ عِنْدَه عِلْمُ عَمِّي زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ؟».
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ اَلْقَوْمِ: أَنَا عِنْدِي عِلْمٌ مِنْ عِلْمِ عَمِّكَ، كُنَّا عِنْدَه ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي دَارِ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ اَلْأَنْصَارِيِّ، إِذْ قَالَ: اِنْطَلِقُوا بِنَا نُصَلِّي فِي مَسْجِدِ اَلسَّهْلَةِ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «وَفَعَلَ؟».
فَقَالَ: لَا، جَاءَه أَمْرٌ فَشَغَلَه عَنِ اَلذَّهَابِ.
فَقَالَ: «أَمَا وَاَلله لَوْ أَعَاذَ اَللهَ بِهِ حَوْلاً لَأَعَاذَه، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّه مَوْضِعُ بَيْتِ إِدْرِيسَ اَلنَّبِيِّ (عليه السلام)، وَالَّذِي كَانَ يَخِيطُ فِيهِ، وَمِنْهُ سَارَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) إِلَى اَلْيَمَنِ بِالْعَمَالِقَةِ، وَمِنْهُ سَارَ دَاوُدُ إِلَى جَالُوتَ، وَإِنَّ فِيهِ لَصَخْرَةً خَضْرَاءَ فِيهَا مِثَالُ كُلِّ نَبِيٍّ، وَمِنْ تَحْتِ تِلْكَ اَلصَّخْرَةِ أُخِذَتْ طِينَةُ كُلِّ نَبِيٍّ، وَإِنَّه لَـمُنَاخُ اَلرَّاكِبِ».

↑صفحة ٣٧↑

قِيلَ: وَمَنِ اَلرَّاكِبُ؟
قَالَ: «اَلْخَضِرُ (عليه السلام)»(٥٨).
وفي رواية أُخرى عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ لِي: «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، كَأَنِّي أَرَى نُزُولَ اَلْقَائِمِ (عليه السلام) فِي مَسْجِدِ اَلسَّهْلَةِ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ».
قُلْتُ: يَكُونُ مَنْزِلَهُ - جُعِلْتُ فِدَاكَ -؟!
قَالَ: «نَعَمْ، كَانَ فِيهِ مَنْزِلُ إِدْرِيسَ، وَكَانَ مَنْزِلَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اَلرَّحْمَنِ، وَمَا بَعَثَ اَللهُ نَبِيًّا إِلَّا وَقَدْ صَلَّى فِيهِ، وَفِيهِ مَسْكَنُ اَلْخَضِرِ...»(٥٩).
تنسب الروايات للخضر (عليه السلام) جبلاً، وتُحدِّد موقعه بقربه من سدِّ يأجوج ومأجوج، وليست هناك إشارة إلى سبب التسمية في ذلك(٦٠).
طعامه (عليه السلام):
روي أنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «اَلْكَرَفْسُ بَقْلَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ»، وَيُذْكَرُ أَنَّ طَعَامَ اَلْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ اَلْكَرَفْسُ وَاَلْكَمْأَةُ(٦١).
أثره (عليه السلام):
عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ اَلْكُوفِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْعَسْكَرِيِّ (عليه السلام)، فَقَالَ لِي: «يَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، اُنْظُرْ إِلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ، فَإِنَّكَ عَلَى بِسَاطٍ قَدْ جَلَسَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلمُرْسَلِينَ وَاَلْأَئِمَّةِ اَلرَّاشِدِينَ»...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٥٨) الكافي (ج ٣/ ص ٤٩٤/ باب مسجد السهلة/ ح ١).
(٥٩) المزار لابن المشهدي (ص ١٣٤ و١٣٥/ ح ٧).
(٦٠) المحتضر (ص ١٢٩ - ١٣٢/ ح ١٤٩)، وفيه رواية مفصَّلة تذكر إحدى معاجز أمير المؤمنين (عليه السلام).
(٦١) مكارم الأخلاق (ص ١٨٠).

↑صفحة ٣٨↑

فَقَالَ: «اُدْنُ مِنِّي»، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَمَسَحَ يَدَهُ اَلشَّرِيفَةَ عَلَى وَجْهِي، فَصِرْتُ بَصِيراً.
قَالَ: فَرَأَيْتُ فِي اَلْبِسَاطِ أَقْدَاماً وَصُوَراً، فَقَالَ: «هَذَا [أَثَرُ] قَدَمُ آدَمَ (عليه السلام) وَمَوْضِعُ جُلُوسِهِ، وَهَذَا أَثَرُ هَابِيلَ، وَ...»، حتَّى قال: «وَهَذَا أَثَرُ اَلْخَضِرِ...»، إلى أنْ قال: «وَهَذَا أَثَرُ اَلْأَوْصِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى اَلمَهْدِيِّ (عليه السلام)؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَطَأَهُ وَجَلَسَ عَلَيْهِ».
ثُمَّ قَالَ: «اُنْظُرْ إِلَى اَلْآثَارِ، وَاِعْلَمْ أَنَّهَا آثَارُ دِينِ اَلله، وَأَنَّ اَلشَّاكَّ فِيهِمْ كَالشَّاكِّ فِي اَلله، وَمَنْ جَحَدَهُمْ كَمَنْ جَحَدَ اَللهَ»، ثُمَّ قَالَ: «اِخْفِضْ طَرْفَكَ يَا عَلِيُّ»، فَرَجَعْتُ مَحْجُوباً كَمَا كُنْتُ(٦٢).
مصلاَّه (عليه السلام):
رُوِيَ عَنِ اِبْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ حَوْلَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي اَلمَسْجِدِ اَلْكُوفَةِ إِذْ قَالَ:
«يَا أَهْلَ اَلْكُوفَةِ، لَقَدْ حَبَاكُمُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِمَا لَمْ يَحْبُ بِهِ أَحَداً، فَفَضَّلَ مُصَلَّاكُمْ، وَهُوَ بَيْتُ آدَمَ، وَبَيْتُ نُوحٍ، وَبَيْتُ إِدْرِيسَ، وَمُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ اَلْخَلِيلِ، وَمُصَلَّى أَخِي اَلْخَضِرِ (عليه السلام)...»(٦٣).
الصلاة والسلام عليه:
إنَّ القارئ للأدعية الواردة يجد أنَّ الأسماء التي تُذكر في ثناياها محفوفة بالإجلال والإكبار هم قِمَم المسيرة الإنسانيَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٢) مشارق أنوار اليقين (ص ١٥٥).
(٦٣) أمالي الصدوق (ص ٢٩٨/ ح ٣٣٤/٨).

↑صفحة ٣٩↑

فمتى ما استقرأنا الأسماء التي يُصلَّى عليها، فإنَّ العين لن تقع إلَّا على أصحاب المقامات الإلهيَّة الشامخة، وأُنبؤك قبل أنْ تقرأها أنَّك ستجد للخضر (عليه السلام) فيها اسماً مدوَّناً.
لقد وردت الصلاة عليه ضمن الأدعية المصلّية على الأنبياء (عليهم السلام)، ومن ذلك ما ورد في دعاء أُمِّ داود: «اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى هَابِيلَ وَشِيثٍ وَإِدْرِيسَ وَنُوحٍ وَهُودٍ... وَيُوشَعَ وَمِيشَا وَاَلْخَضِرِ وَذِي اَلْقَرْنَيْنِ وَيُونُسَ»(٦٤).
بل ورد الإرشاد إلى السلام عليه كلَّما ذُكِرَ؛ فإنَّه متى ذُكِرَ حضر مشرِّفاً المكان، فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّهُ - أي الخضر (عليه السلام) - لَيَحْضُرُ حَيْثُ مَا ذُكِرَ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْكُمْ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ»(٦٥).
الخضر (عليه السلام) مع الشهداء:
ورد في بعض الروايات أنَّ للخضر (عليه السلام) مقاماً مع الشهداء، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: مَنْ تَرَكَ اَلصَّلَاةَ فِي جَهَالَتِهِ ثُمَّ نَدِمَ لَا يَدْرِي كَمْ تَرَكَ، فَلْيُصَلِّ لَيْلَةَ اَلْاِثْنَيْنِ خَمْسِينَ رَكْعَةً بِفَاتِحَةِ اَلْكِتَابِ مَرَّةً وَ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ مَرَّةً، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ اَلصَّلَاةِ اِسْتَغْفَرَ اَللهَ مِائَةَ مَرَّةٍ، جَعَلَ اَللهُ ذَلِكَ كَفَّارَةَ صَلَاتِهِ، وَلَوْ تَرَكَ صَلَاةَ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يُحَاسِبُ اَللهُ اَلْعَبْدَ اَلَّذِي صَلَّى هَذِهِ اَلصَّلَاةَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُ عِنْدَ اَلله بِكُلِّ رَكْعَةٍ وَلِكُلِّ آيَةٍ قَرَأَهَا عِبَادَةَ سَنَةٍ، وَبِكُلِّ حَرْفٍ نُوراً عَلَى اَلصِّرَاطِ، وَأَيْمُ اَلله إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ، فَمَنْ فَعَلَ اِسْتَغْفَرَتْ لَهُ اَلمَلَائِكَةُ، وَسُمِّيَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ: صِدِّيقَ اَلله فِي اَلْأَرْضِ، وَكَانَ مَوْتُهُ مَوْتَ اَلشُّهَدَاءِ، وَكَانَ فِي اَلشُّهَدَاءِ رَفِيقَ اَلْخَضِرِ (عليه السلام)»(٦٦).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٤) مصباح المتهجِّد (ص ٨٠٨ و٨٠٩).
(٦٥) كمال الدِّين (ص ٣٩٠/ باب ٣٨/ ح ٤).
(٦٦) بحار الأنوار (ج ٨٨/ ص ٣٨٤ و٣٨٥/ ح ١٥).

↑صفحة ٤٠↑

تأمُّلات:
١ - ورد في الرواية: «وَأَيْمُ اَلله إِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ»، فما المراد من ذلك؟
يُحتمَل أمران:
الأوَّل: أنَّ المراد هو المواظبة على فعلها مدَّة العمر، وإلَّا فإنَّ الإتيان بها مرَّة واحدة أمر مقدور وميسور.
الثاني: أنَّها صلاة لا يُوفَّق للإتيان بها إلَّا أهل الإيمان، وأمَّا سواهم فنفوسهم منصرفة عن هذا العمل.
٢ - ينبغي ألَّا يُفهَم - بناءً على صحَّة الرواية - من هذا أنَّ قضاء الصلاة يسقط عن مصلِّي هذه الصلاة، بل عليه أنْ يأتي بالقدر المتيقَّن من الصلوات الفائتة، ولعلَّ الله أنْ يغفر له تقصيره وإسرافه على نفسه بأداء هذه الصلاة.
٣ - قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله): (ويمكن حمله على القضاء المظنون، أو على ما إذا أتى بالقدر المتيقَّن، أو على ما إذا أتى بما غلب على ظنِّه الوفاء، فتكون هذه الصلاة لتلافي الاحتمال الضعيف على حسب ما مرَّ من الوجوه، وأمَّا القضاء المعلوم فلا بدَّ من الإتيان بها، والخروج منها...)(٦٧).
٤ - قال الشيخ النوري (قدس سره): (ويحتمل أنْ يكون هذا العمل كفَّارة لمعصيته، فإنَّ قضاء الصلاة المتروكة لا يستلزم حطَّ ذنب تركها، فالغرض منه جبر أصل المخالفة، وأنَّه لا يُعاقَب بعده عليه، من غير نظر إلى تكليفه في جبر المتروك بالقضاء حتَّى يتيقَّن، أو قضاء المتيقَّن، أو المظنون، والله العالم)(٦٨).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٧) بحار الأنوار (ج ٨٨/ ص ٣٨٥).
(٦٨) مستدرك الوسائل (ج ٦/ ص ٤٤٢).

↑صفحة ٤١↑

الفصل الرابع: المنح الإلهيَّة

* الخضر بين العلم والنبوَّة.
* الخضر في الاعتقاد الإسلامي.
* مواهب وقدرات:
١ - الاحتجاب.
٢ - طيُّ الأرض.
٣ - ويمشي على الماء.

↑صفحة ٤٣↑

الخضر بين العلم والنبوَّة:
اختلفت آراء العلماء في حقيقة العبد الصالح (عليه السلام)، فهناك من يقول: إنَّه كان نبيًّا من الأنبياء، وكان صاحب آية ومعجزة، وهناك من يقول: إنَّه عبد صالح أُوتي علماً ولم يكن نبيًّا.
الرأي الأوَّل: الخضر من العلماء:
لقد اعتمد القائلون بهذا الرأي على عدد من الروايات المصرِّحة بعدم نبوَّته، ففي باب من أبواب كتاب (بصائر الدرجات) وحده أكثر من خمس روايات صحيحة، وسأختار منها روايتين:
١ - رُوِيَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَأَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا مَنْزِلُكُمْ مِمَّنْ تُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى؟ فَقَالَ: «كَصَاحِبِ مُوسَى وَذِي اَلْقَرْنَيْنِ كَانَا عَالِمَيْنِ وَلَمْ يَكُونَا نَبِيَّيْنِ»(٦٩).
٢ - رُوِيَ عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ عَلِيًّا (عليه السلام) كَانَ مُحَدَّثاً»، قُلْتُ: فَنَقُولُ: إِنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالَ: فَحَرَّكَ يَدَهُ هَكَذَا، ثُمَّ قَالَ: «أَوْ كَصَاحِبِ سُلَيْمَانَ، أَوْ كَصَاحِبِ مُوسَى، أَوْ كَذِي اَلْقَرْنَيْنِ، أَوَ مَا بَلَغَكُمْ أَنَّهُ قَالَ: وَفِيكُمْ مِثُلَهُ؟!»(٧٠).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٦٩) بصائر الدرجات (ص ٣٨٦/ ج ٧/ باب ٢٠/ ح ٣)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ١/ ص ٢٦٩/ باب في أنَّ الأئمَّة بمن يشبهون ممَّن مضى.../ ح ٥).
(٧٠) بصائر الدرجات (ص ٣٨٦/ ج ٧/ باب ٢٠/ ح ٢)؛ ورواه بتفاوت الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ١/ ص ٢٧١/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) محدَّثون مفهَّمون/ ح ٥)، والمفيد (رحمه الله) في الاختصاص (ص ٢٨٦ و٢٨٧).

↑صفحة ٤٥↑

من القائلين بهذا الرأي:
١ - الشيخ المفيد (رحمه الله)، وقد قال في توجيه تعلُّم موسى (عليه السلام) من الخضر (عليه السلام): (وليس اتِّباع الأنبياء العلماءَ قبل نبوَّتهم قدح فيهم، ولا مُنفِّر)(٧١).
٢ - الشيخ الطوسي (رحمه الله)، وقد قال: (وأمَّا العبد الصالح - أعني الخضر (عليه السلام) - فإنَّ الله تعالى ما طوَّل عمره لنبوَّة قرَّرها له، ولا لكتاب نزل عليه...)(٧٢).
٣ - السيِّد ابن طاوس (رحمه الله)، وقد قال: (وهذا الخضر (عليه السلام) باقٍ على طول السنين، وهو عبد صالح من بني آدم، ليس بنبيٍّ، ولا حافظ شريعة...)(٧٣).
الرأي الثاني: الخضر من الأنبياء:
وعمدة ما يستدلُّ به أصحاب هذا الرأي قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥)، ومحور الاستدلال يرتكز على فهم كلمة ﴿رَحْمَةً﴾، فقد فهموا أنَّها تعني النبوَّة.
ولهذا الفهم طريقان، وهما:
أ - تفسير الرحمة بالنبوَّة:
قالوا: لقد عبَّر القرآن الكريم عن النبوَّة بالرحمة في آيتين من آياته، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ لَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ (الزخرف: ٣١ و٣٢)، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ (القَصَص: ٨٦).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧١) المسائل العكبريَّة (ص ٣٤).
(٧٢) الغيبة للطوسي (ص ١٧٢).
(٧٣) الطرائف (ص ١٨٥)؛ وصرَّح كذلك في (ص ١٩٧)، فقال: (والخضر غير نبيٍّ).

↑صفحة ٤٦↑

والمراد من الرحمة في الآيتين النبوَّة، وبهذا سيتَّضح معنى الآية المتحدِّثة عن الخضر (عليه السلام)، فإنَّها صريحة في أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد آتاه رحمةً، وبما أنَّ الرحمة النبوَّة؛ فقد آتاه الله (عزَّ وجلَّ) النبوَّةَ.
ولكن يمكن أنْ يقال:
لا شكَّ في أنَّ النبوَّة رحمة، ولكنَّا لا نُسلِّم أنَّ كلَّ رحمة نبوَّة؛ كي يصحَّ منَّا تفسير الرحمة في كلِّ آية بأنَّها تعني النبوَّة(٧٤)؛ فلقد قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ (هود: ٩).
فهل يمكن أنْ نرى أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) أذاق الإنسان النبوَّة، ثمّ نزعها منه؟ أم هل يمكن أنْ نرى أنَّ الداعي إذا خاطب ربَّه قائلاً: هب لي من لدنك رحمةً، فهو يطلب النبوَّة؟
وخلاصة القول: إنَّ تفسير كلمة (الرحمة) بالنبوَّة لم يكن فيه استقصاء لكلِّ الآيات؛ ولهذا جاء البحث قاصراً عن الغاية.
ب - تفسير ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ بالنبوَّة:
وهذا الطريق لا يقتصر على تفسير كلمة ﴿رَحْمَةً﴾ مفردةً، لأنَّ كلَّ نعمة من الله (عزَّ وجلَّ) فهي رحمة منه، فكما أنَّ النبوَّة رحمة من الله (عزَّ وجلَّ) بعباده، كذلك الماء والهواء رحمة منه (عزَّ وجلَّ)؛ ولهذا لو اقتصرت الآية على ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً﴾ ولم تتبعها بشيء آخر لكان من المحتمل أنْ تكون الرحمة نعمة ظاهريَّة كالمأكل والمشرب، أو أنْ تكون نعمة باطنيَّة كالنبوَّة والولاية، ولكن إذا رجعنا للآية سنجدها تقول: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾.
وربَّما تساءل القارئ عمَّا أضافته عبارة ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾ في الآية، فيقال له: إنَّها دلَّت على أنَّ هذه الرحمة ليست كسائر الرحمات، فليس لأحدٍ فيها صنع ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٤) تفسير الرازي (ج ٢١/ ص ١٤٨).

↑صفحة ٤٧↑

تدخُّل، فهي ليست أموالاً تُكسَب من طريق التجارة أو غيرها، ولا أولاداً يأتون من أرحام الأُمَّهات، إنَّما هي رحمة لا تدخُّل لأحدٍ في صنعها؛ فهي من عندنا، ومتى كانت الرحمة هكذا فهي نعمة باطنيَّة، فإمَّا أنْ تكون نبوَّة، أو ولاية قد أُعطيت إليه من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ).
لقد رأينا بوضوح أنَّ الرحمة المعطاة باطنيَّة، وهي إمَّا النبَّوة أو الولاية، ولكن كيف يمكن تحديد إحداهما دون الأُخرى؟
لقد نظر المفسِّرون في خصائص النبوَّة والولاية، فرأوا أنَّ النبوَّة من شأنها توسُّط الملائكة فيها، حيث يحملون الوحي من الله (عزَّ وجلَّ) إلى نبيِّه؛ ولهذا يناسبها التعبير بنون العظمة، فيقول: ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾.
وأمَّا الولاية فلا توسُّط للملائكة فيها، بل هي مختصَّة بحقيقتها بالله (عزَّ وجلَّ)، كما قال تعالى: ﴿فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ (الشورى: ٩)، فلو كانت هي المعنيَّة لناسبها التعبير بـ (من عندي)(٧٥).
وتدعم هذا الرأي روايتان واردتان، وهما:
١ - سُئِلَ أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ستَّة من الأنبياء لهم اسمان، فعدَّ منهم الخضر، فقال: «... وَاَلْخِضْرُ وَهُوَ تَالِيَا...»(٧٦).
٢ - روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اَلْخَضِرَ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلاً، بَعَثَهُ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى قَوْمِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَاَلْإِقْرَارِ بِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَكَانَتْ آيَتُهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ عَلَى خَشَبَةٍ يَابِسَةٍ، وَلَا أَرْضٍ بَيْضَاءَ إِلَّا أَزْهَرَتْ خُضْراً...»(٧٧).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٥) راجع: تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٤١ و٣٤٢).
(٧٦) قد مرَّت في (ص١٧)، فراجع.
(٧٧) علل الشرائع (ج ١/ ص ٥٩ و٦٠/ باب ٥٤/ ح ١).

↑صفحة ٤٨↑

من القائلين بنوبَّته:
لقد صرَّح عدد من العلماء بكون الخضر (عليه السلام) نبيًّا، ومن هؤلاء:
١ - الشيخ الكاشاني (رحمه الله) حيث ذكر في بيان معنى الرحمة في قوله تعالى: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ أنَّ الرحمة هي الوحي والنبوَّة(٧٨).
٢ - العلَّامة الطباطبائي (قدس سره) حيث قال: (إنَّ الآيات النازلة في قصَّة الخضر (عليه السلام) مع موسى (عليه السلام) لا تخلو عن ظهور في كونه نبيًّا، كيف وفيها نزول الحكم عليه؟)(٧٩).
٣ - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله)، فقد قال بعد إيراده لمضمون ما ورد من الروايات النافية لنبوَّته: (إنَّنا نستفيد من روايات أُخرى أنَّه كان نبيًّا، وظاهر بعض الآيات يدلُّ على هذا المعنى؛ لأنَّها تقول على لسانه: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢]، وفي مكانٍ آخر قوله: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ...﴾ [الكهف: ٨١])(٨٠).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٧٨) التفسير الصافي (ج ٣/ ص ٢٥١).
(٧٩) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٥٢).
(٨٠) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٣٦).

↑صفحة ٤٩↑

الخضر (عليه السلام) في الاعتقاد الإسلامي

عقيدة الشيعة الإماميَّة:
قال الشيخ الطبرسي (رحمه الله) كلمة موجزة، أوضحت اعتقاد المسلمين في الخضر (عليه السلام)، وهي:
(أجمعت الشيعة وأصحاب الحديث، بل الأُمَّة بأسرها - ما خلا المعتزلة والخوارج - على أنَّه موجود في هذا الزمان، حيٌّ، كامل العقل، ووافقهم على ذلك أكثر أهل الكتاب)(٨١).
عقيدة أبناء العامَّة:
يمكننا أنْ نُصنِّف أقوال العامَّة ثلاثة أقسام، وهي:
أ - الاعتقاد ببقائه حيًّا:
ويعتقد بهذا قسم من علماء العامَّة، ويُصرِّحونه به، فقد ذكر النووي أنَّ أكثر العلماء يقولون: إنَّه حيٌّ، موجود بين أظهرنا، وذلك متَّفق عليه عند الصوفيَّة(٨٢)، وقد ذكر ابن كثير أنَّ الجمهور على أنَّه باقٍ إلى اليوم(٨٣).
وقد أشار القرطبي في تفسيره إلى أسماء قسم منهم بعد أنْ تبنَّى هذا الرأي ونصَّ على أنَّ الصحيح عنده أنَّه حيٌّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨١) إعلام الورى (ج ٢/ ص ٣٠٥).
(٨٢) شرح صحيح مسلم (ج ١٥/ ص ١٣٥).
(٨٣) البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٨٣).

↑صفحة ٥٠↑

وإليك أسماء مَن ذُكِرَ مِن أصحاب هذا الرأي:
١ - الثعلبي في كتاب (العرائس)، وقد ذكر أنَّه نبيٌّ معمَّر، محجوب عن الأبصار.
٢ - عمرو بن دينار، وقد ذكر أنَّ الخضر وإلياس (عليهما السلام) لا يزالان حيَّين في الأرض، ما دام القرآن على الأرض، فإذا رُفِعَ ماتا.
٣ - شيخ القرطبي عبد المعطي اللخمي، وذكر حكايات كثيرة عن جماعة بأنَّهم رأوا الخضر (عليه السلام).
٤ - ابن منبِّه، رُوِيَ عنه خبر الخضر (عليه السلام)، وشربه لماء الحياة، وأنَّه حيٌّ إلى وقت خروج الدجَّال(٨٤).
٥ - أبو إسحاق إبراهيم بن سعد، فقد جاء في (صحيح مسلم): (أنَّ الدجَّال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو خير الناس أو من خير الناس...) الحديث، وفي آخره: (قال أبو إسحاق: يقال: إنَّ هذا الرجل هو الخضر)(٨٥).
٦ - الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي.
٧ - الشيخ أحمد بن عمر الأنصاري، أبو العبَّاس المرسي، وقد قال: (وأمَّا الخضر (عليه السلام) فهو حيٌّ، وقد صافحته بكفِّي هذه، وعرَّفني بنفسه)، وقال بعد كلام: (فلو جاءني الآن ألف فقيه، يجادلوني في ذلك، ويقولون بموت الخضر، ما رجعت إليهم).
٨ - ابن حجر الهيتمي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٤) تفسير القرطبي (ج ١١/ ص ٤٣).
(٨٥) صحيح مسلم (ج ٨/ ص ١٩٩).

↑صفحة ٥١↑


٩ - مفتي الأنام عزُّ الدِّين بن سلام - وهو ممَّن بلغ عندهم درجة الاجتهاد -، وكان إذا سُئِلَ عن حياة الخضر (عليه السلام) يذكر أنَّ سبعين صدِّيقاً قد أخبر أنَّه رآه(٨٦).
وهناك أسماء أُخرى لمن يرى هذا الرأي، ومن شاء فليرجع للمصادر المدوَّنة.
ب - الاعتقاد ببقائه حيًّا للعصر النبوي:
ويذهب فريق آخر إلى وجوده في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ولكنَّه مات قبل انقضاء المائة، ومن هؤلاء البخاري والقاضي أبو بكر بن العربي(٨٧).
وقال ابن كثير: (قالوا: فالخضر إنْ لم يكن قد أدرك زمان رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) - كما هو المظنون الذي يترقَّى في القوَّة إلى القطع - فلا إشكال، وإنْ كان قد أدرك زمانه، فهذا الحديث يقتضي أنَّه لم يعش بعد مائة سنة، فيكون الآن مفقوداً لا موجوداً)(٨٨).
ويقصد بالحديث ما رووه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ»(٨٩).
ج - الاعتقاد بعدم إدراكه للعصر النبوي:
ولا يعتقد هذا الفريق بوجوده في هذا العصر، ولا في عصر رسول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٨٦) الخضر بين الواقع والتهويل (ص ١١٨ - ١٢١، ٢٠٢ و٢٠٣) باختصار.
(٨٧) تفسير القرطبي (ج ١١/ ص ٤٤)، ونصُّ عبارته: (قال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي (رحمه الله تعالى): إنَّه مات قبل انقضاء المائة)، ونقل ابن كثير في البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٩٣) عن كتاب (التعريف والإعلام) قوليهما، وعلَّق بأنَّ كون البخاري يقول بإدراكه لحياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) قول فيه نظر.
(٨٨) البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٩٢).
(٨٩) صحيح البخاري (ج ١/ ص ٣٦٤/ ح ٥٠٦)، صحيح مسلم (ج ٧/ ص ١٨٧).

↑صفحة ٥٢↑

الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)(٩٠)، فقد ذهب جماعة منهم إلى موته، وانتصر لهم أبو الفرج ابن الجوزي، وألَّف كتاباً سمَّاه: (عجالة المنتظِر في شرح حالة الخضر)(٩١).
دعوى اللقاء مع الخضر (عليه السلام):
لقد تجاوز فريق منهم القول بوجوده إلى دعوى اللقاء به، ويكفينا في هذا الباب شاهداً ما قاله الغزالي في (إحياء علوم الدِّين)، وهو: (ما حُكِيَ عنهم - أي عن المشايخ - من مشاهدة الخضر والسؤال منه، ومن سماع صوت الهاتف، ومن فنون الكرامات، خارج عن الحصر)(٩٢).
ولقد جمع بعض الكُتَّاب قسماً ممَّن ادُّعي أنَّه تشرَّف بلقاء الخضر (عليه السلام)، وعدَّ منهم أكثر من اثنين وخمسين رجلاً، ونصَّ على أسمائهم، وإليك بعضاً منهم:
١ - عبد الله بن مبارك.
٢ - أبو حنيفة.
٣ - بلال الخوَّاص.
٤ - عبد القادر الجيلاني.
٥ - النووي، وقد ذكروا أنَّه اشتهر أنَّ الخضر (عليه السلام) كان يجتمع بالإمام النووي.
٦ - الجنيد.
٧ - الشيخ أبو الحسن البكري.
٨ - رجاء بن حيوة(٩٣).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩٠) الخضر بين الواقع والتهويل (ص ١٥٥).
(٩١) البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٩٠).
(٩٢) إحياء علوم الدِّين (ج ٨/ ص ٤٥).
(٩٣) الخضر بين الواقع والتهويل (ص ١٩٦ - ٢٠٨) باختصار.

↑صفحة ٥٣↑

إلى غير هؤلاء ممَّن ادُّعي لهم ذلك، وهذا ما يُعطينا دلالة على مقدار تغلغل فكرة وجوده حيًّا في وجدانهم.
وكشاهد على ذلك نورد ما رواه الحافظ ابن حجر العسقلاني من أنَّ رباح ابن عبيدة قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة، وشيخ يتوكَّأ على يده، فسألته عنه، فقال: رأيته؟
قلت: نعم.
قال: ما أحسبك إلَّا رجلاً صالحاً، ذاك أخي الخضر أتاني، فأعلمني أنِّي سألي أمر هذه الأُمَّة، وأنِّي ساعدك فيه(٩٤).
وقفة تأمُّل:
ربَّما تساءل القارئ عن سبب الإكثار من ذكر أصحاب هذا الرأي، بل والتأكيد على تفاصيل أقوالهم، ولا شكَّ أنَّني أرمي من وراء ذلك لغاية، وهي أنْ أعرض للقارئ مقدار التفاوت في المعايير التي يُحَكِّمُها الآخرون في القضايا العقديَّة.
لقد رأيتَ علماء المسلمين يتقبَّلون الرأي القائل ببقاء الخضر (عليه السلام) من عهد موسى (عليه السلام) إلى هذا الزمان، ولا يستكثرون عليه البقاء إلى أنْ تقوم الساعة، بل إنَّ الرأي مقبول لديهم، وصاحبه لا يُطعَن في عقيدته، ولا يصحُّ أنْ يُرمى بضعف العقل وادِّعاء المحال.
ولكن هلمَّ وانظر - وما عشت أراك الدهر عجباً - كيف تعاملوا مع اعتقادنا ببقاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مدَّة أقلّ من ذلك بكثير.
لقد شنَّوا علينا حرباً لا هوادة فيها، ورمونا بكلِّ بهتان، وألصقوا بنا كلَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩٤) تهذيب التهذيب (ج ٧/ ص ٤١٩).

↑صفحة ٥٤↑

عيب في الفكر، مع أنَّ مضمون القضيَّتين واحد، وهو بقاء عبد من عباد الله الصالحين معمَّراً؛ لأمر يريده الله سبحانه وتعالى، فإذا جاز بقاء الخضر (عليه السلام) فما المانع من بقاء الحجَّة المنتظَر (عجّل الله فرجه)؟

* * *

↑صفحة ٥٥↑

مواهب وقدرات

لقد منح الله (عزَّ وجلَّ) الخضر (عليه السلام) قدرةً أتاحت له التحرُّك في الكون بما يريده الله (عزَّ وجلَّ)، فلا يمنعه بُعد المكان عن الوصول لمطلوبه، ولا تقف العوائق في وجهه، ولا يمنعه مانع عن إبلاغ رسالته، ولا تعيقه فواصل البحار والأنهار عن بلوغ مقصوده.
١ - الاحتجاب:
لقد أُعطي الخضر (عليه السلام) قدرةً على حجب نفسه عن الأنظار، فهو يرى الناس ولكنَّهم لا يرونه، ويُسمِع الناسَ حديثَه متَى أراد.
وخير شاهد على هذا ما أشارت له روايات تعزيته لأهل البيت (عليهم السلام) أو الصحابة برحيل النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فقد سمعوا صوته، وما رأوا شخصه المبارك، وسيأتي الحديث عنها مفصَّلاً.
ودونك هذه الرواية الواضحة، والدالَّة على حضوره المبارك متَى ما ذُكِرَ، فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّ اَلْخَضِرَ (عليه السلام) شَرِبَ مِنْ مَاءِ اَلْحَيَاةِ، فَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُنْفَخَ فِي اَلصُّورِ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِينَا فَيُسَلِّمُ فَنَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا نَرَى شَخْصَهُ، وَإِنَّهُ لَيَحْضُرُ حَيْثُ مَا ذُكِرَ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْكُمْ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ...»(٩٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩٥) كمال الدِّين (ص ٣٩٠/ باب ٣٨/ ح ٤).

↑صفحة ٥٦↑

٢ - طيُّ الأرض:
وأُعطي الخضر (عليه السلام) قدرةً على طيِّ الأرض وقطع المسافات الشاسعة في مدَّة قصيرة، ويمكن أنْ نستفيد هذه المنحة الإلهيَّة من الروايات التي تحكي إرسال الأئمَّة (عليهم السلام) إليه لمن يطلب نجدةً منهم في البراري والقفار، كما سيأتي لاحقاً في فصل (لقاءات مع أهل البيت (عليهم السلام)).
٣ - ويمشي على الماء:
وأُعطي كذلك قدرة المشي على الماء، وكأنَّه يمشي على الأرض اليابسة، فلا الماء يدنو لقدمه، ولا قدمه تبتلُّ بالماء.
وإلى هذا يشير ما ورد في الحرز المروي عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والمعروف بحرز أبي دجانة الأنصاري (رضي الله عنه)، ففيه وردت العبارة التالية:
«وَبِالْاِسْمِ اَلَّذِي يَمْشِي بِهِ اَلْخَضِرُ (عليه السلام) عَلَى اَلمَاءِ فَلَمْ تَبْتَلَّ قَدَمَاهُ»(٩٦).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩٦) بحار الأنوار (ج ٩١/ ص ٢٢١/ ح ١٩).

↑صفحة ٥٧↑

الفصل الخامس: وجاء الكليم يطلب اللقاء

* أموسى الكليم جاء أم غيره؟.
* وللِّقاء سبب.
* عندما تُفقَد السمكة.
* مجمع البحرين.
* عندما ينفد الصبر.
* وصايا قبل الفراق.
* وللطير معهما قصَّة.
* قبسات مضيئة.
* دروس وعِبَر.

↑صفحة ٥٩↑

بين يدي اللقاء:
سنقف - عزيزي القارئ - على تفاصيل قصَّة طالما تلوناها في القرآن الكريم، وما أكثر ما سمعناها من أفواه الذاكرين، ولكنَّها تظلُّ قصَّة مشوِّقة، تأخذ بألباب المستمعين لها، وتجذب القارئين لتفاصيلها.
إنَّها قصَّة نادرة في بابها، تعرض تفاصيل رحلة قام بها رجلان من صفوة الخلق، ويكفي أنَّ أحدهما موسى بن عمران (عليه السلام)، وهو من الأنبياء والمرسَلين، بل ومن أُولي العزم.
فيا ترى عمَّن كان يبحث هو وفتاه؟ ومن يكون هذا الذي استحقَّ منهما كلَّ هذا العناء؟
بل وما هي المفاجآت المنتظَرة، والتي سيتعاطى معها موسى (عليه السلام) تعاطياً شديداً... حتَّى نرى أنَّه لن يطيق مع العبد الصالح صبراً.
كلُّ هذه التفاصيل تنتظرنا، وأمامها حزم من الاستفهامات تبحث عن الإجابة.
فما سرُّ السفينة المخروقة؟ ولأيِّ أمر أصبح الغلام قتيلاً؟ وما شأن الجدار الذي قد أُقيم؟

* * *

↑صفحة ٦١↑

أموسى الكليم جاء أم غيره؟
اتَّفق المفسِّرون والمؤرِّخون على أنَّ صاحب الخضر (عليه السلام) نبيٌّ من أنبياء الله (عزَّ وجلَّ)، واسمه موسى.
ولكنَّهم حاروا في موسى، فهل هو ابن عمران (عليه السلام) أم كان شخصاً آخر؟
ستجد عند الكتّاب رأيين مختلفين، وهما:
الرأي الأوَّل:
ويقول أصحابه: إنَّ المعنيَّ في الآيات نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، واسمه موسى بن ميشا.
وذكروا نسبه متَّصلاً بيوسف (عليه السلام)، فقالوا: هو موسى بن ميشا (بن أفراثيم)(٩٧) بن يوسف(٩٨).
وحسب المصادر التي رجعت إليها فإنَّني لم أظفر برواية في الباب عند الفريقين، وإنَّما هو قول يُذكر بنوع من التوهين، وعدم الاعتماد عليه، وقد نُسِبَ إلى ثلاث جهات:
الأُولى: أهل الكتاب(٩٩)، وعلى وجه الخصوص أهل التوراة(١٠٠) من اليهود.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٩٧) ذكره ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (ج ٨/ ص ٣١١)، والمصادر الأُخرى لا تذكره.
(٩٨) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٢)، مستدرك الحاكم (ج ٢/ ص ٥٧٣).
(٩٩) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٢).
(١٠٠) البحر المحيط (ج ١/ ص ٥٧٩).

↑صفحة ٦٢↑

الثانية: محمّد بن إسحاق(١٠١)، ولكن في مصادر أُخرى إيضاح في ذلك حيث ذُكِرَ كلام ابن إسحاق هكذا: (قال محمّد بن إسحاق: يقول أهل الكتاب...)(١٠٢)، وهذا يعني أنَّه ناقل لرأي أهل الكتاب لا أنَّه يتبنَّى الرأي، أو يقول به.
الثالثة: كعب الأحبار(١٠٣).
إنَّ الملاحَظ أنَّ الجهات كلَّها تعود إلى مصادر غير إسلاميَّة، بل هو رأي أهل الكتاب(١٠٤).
الرأي الثاني:
ويقول أصحاب هذا الرأي: إنَّ المعنيَّ في هذه الآيات موسى بن عمران الكليم (عليه السلام)، وليس غيره، وهذا الذي عليه الجمهور(١٠٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠١) مستدرك الحاكم (ج ٢/ ص ٥٧٣).
(١٠٢) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٢).
(١٠٣) فتح الباري (ج ٨/ ص ٣١١).
(١٠٤) تنبيه: لقد ذُكِرَ هذا الرأي أمام ابن عبَّاس (رضي الله عنه)، فأبدى انزعاجه من ذلك، وكان جوابه شديد اللهجة، حتَّى لقد احتاجوا لتوجيه هذا التشدُّد منه، فقد عقَّب على هذا النقول بقوله: (كذب عدوُّ الله)، كما في الرسالة للشافعي (ص ٤٤٢/ ح ١٢١٨)، فيا ترى من هو الشخص الذي وُجِّهت له هذه الكلمات الشديدة؟
لقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ج ٢٠/ ص ٢٧) أنَّ القائل هو ابن الزبير، ولكن صاحب فتح الباري (ج ٨/ ص ٣١١) لم يحتمل ذلك، فقال: إنَّه نوف البكالي.
ومن هو نوف؟ إنَّه صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وممَّن روى الروايات العميقة عنه، وما ذاك إلَّا أنَّه من خواصِّه.
وقد تتساءل عن علاقة نوف البكالي بكعب الأحبار، فأُجيب بأنَّها علاقة نسبيَّة؛ لأنَّ كعب الأحبار كان زوجاً لأُمِّ نوف البكالي، كما في طبقات ابن سعد (ج ٧/ ص ٤٥٢)، وليس ذكر نوف لآراء كعب - إنْ صحَّت الرواية - مستلزماً لاعتقاده بذلك.
(١٠٥) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٢).

↑صفحة ٦٣↑

ويُستدَلُّ لهذا القول بمجموعة أدلَّة، ومنها:
أوَّلاً: الروايات المصرِّحة باسم صاحب الخضر، والتي ذكرت اسم أبيه، فنصَّت على أنَّه موسى بن عمران (عليه السلام)(١٠٦).
ثانياً: الإطلاق، فإنَّ اسمه ورد في القرآن الكريم مجرَّداً، ولم يذكر اسم أبيه، وهذا الإطلاق يوجب صرفه إلى موسى بن عمران (عليه السلام)، كما أنَّ إطلاق محمّد ينصرف إلى نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلم)(١٠٧).
ثالثاً: أنَّ القرآن الكريم قد أكثر ذكر اسم موسى حتَّى بلغ مائة ونيِّفاً وثلاثين مرَّةً، وهو يريد موسى بن عمران (عليه السلام)، فمتى أراد غيره لا بدَّ أنْ يضمَّ إليه قرينة صارفة(١٠٨).
رابعاً: أنَّ صاحب الخضر (عليه السلام) كان نبيًّا، وأمَّا موسى بن ميشا فيتَّصل نسبه بنبيِّ الله يوسف (عليه السلام)، ولو رجعنا إلى الروايات وكُتُب التفاسير لعرفنا أنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠٦) عَنْ أَبَانِ بْنِ عَبْدِ اَلمَلِكِ، عَنِ اَلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام) حِينَ أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَ اَلْخَضِرَ (عليه السلام) قَالَ لَهُ: أَوْصِنِي، فَكَانَ مِمَّا أَوْصَاهُ أَنْ قَالَ لَهُ: إِيَّاكَ وَاَللَّجَاجَةَ، أَوْ أَنْ تَمْشِيَ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، أَوْ أَنْ تَضْحَكَ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ، وَاُذْكُرْ خَطِيئَتَكَ، وَإِيَّاكَ وَخَطَايَا اَلنَّاسِ». أمالي الصدوق (ص ٤٠١/ ح ٥١٧/١١).
وَعَنِ اَلزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام)، قَالَ: «كَانَ آخِرُ مَا أَوْصَى بِهِ اَلْخَضِرُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليهما السلام) أَنْ قَالَ لَهُ: لَا تُعَيِّرَنَّ أَحَداً بِذَنْبٍ، وَإِنَّ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) ثَلَاثَةٌ: اَلْقَصْدُ فِي اَلْجِدَةِ، وَاَلْعَفْوُ فِي اَلمَقْدُرَةِ، وَاَلرِّفْقُ بِعِبَادِ اَلله، وَمَا رَفَقَ أَحَدٌ بِأَحَدٍ فِي اَلدُّنْيَا إِلَّا رَفَقَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَرَأْسُ اَلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى». الخصال (ص ١١١/ ح ٨٣)
وَعَنْ مُوسَى اِبْنِ غَسَّانَ، عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ في رواية طويلة، قَالَ: (إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَـمَّا أَعْطَى مُوسَى اَلتَّوْرَاةَ وَعَلَّمَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ مُوسَى: أَنَا أَعْلَمُ اَلنَّاسِ، فَلَمَّا لَقِيَ اَلْخَضِرَ (عليه السلام) أَقَرَّ لَهُ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَحْسُدْهُ كَمَا حَسَدْتُمْ أَنْتُمْ عَلِيًّا (عليه السلام)...). شرح الأخبار (ج ٢/ ص ١٩٧ - ١٩٩/ ح ٥٣١)
(١٠٧) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٢).
(١٠٨) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٣٨).

↑صفحة ٦٤↑

يوسف (عليه السلام) لم تكن النبوَّة في ذرّيَّته، وإنَّما كانت في ولد أخيه لاوي(١٠٩)، وكان موسى بن عمران من ولده، فهو موسى بن عمران بن قاهت بن لاوي بن يعقوب(١١٠).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٠٩) عَنْ مَرْوَكِ اِبْنِ عُبَيْدٍ، عَمَّنْ حَدَّثَه، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ يُوسُفَ (عليه السلام) لَـمَّا قَدِمَ عَلَيْه اَلشَّيْخُ يَعْقُوبُ (عليه السلام) دَخَلَه عِزُّ اَلمُلْكِ، فَلَمْ يَنْزِلْ إِلَيْه، فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا يُوسُفُ، اُبْسُطْ رَاحَتَكَ، فَخَرَجَ مِنْهَا نُورٌ سَاطِعٌ، فَصَارَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، فَقَالَ يُوسُفُ: يَا جَبْرَئِيلُ، مَا هَذَا اَلنُّورُ اَلَّذِي خَرَجَ مِنْ رَاحَتِي؟ فَقَالَ: نُزِعَتِ اَلنُّبُوَّةُ مِنْ عَقِبِكَ، عُقُوبَةً لِمَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى اَلشَّيْخِ يَعْقُوبَ، فَلَا يَكُونُ مِنْ عَقِبِكَ نَبِيٌّ». الكافي (ج ٢/ ص ٣١١ و٣١٢/ باب الكبر/ ح ١٥)
وروى قريباً منه الصدوق (رحمه الله) في أماليه (ص ٣٢٣/ ضمن الحديث ٣٧٥/٧).
(١١٠) كمال الدِّين (ص ١٤٦ و١٤٧/ باب ٦/ ح ١٢)، على اختلاف عند المؤرِّخين في الآباء الذين يتَّصل من خلالهم بلاوي بن يعقوب (عليه السلام).

↑صفحة ٦٥↑

وللِّقاء سبب:
إنَّ موسى بن عمران (عليه السلام) هو كليم الله (عزَّ وجلَّ)، وهو المخصوص بمعاجز لا تزال تحتفظ بوهجها.
تقرؤه في بعض آيات القرآن الكريم فترى الجلال يحيط به، فهو المنادى بشاطئ الوادي المقدَّس، وهو المناجي لربِّه (عزَّ وجلَّ).
وتقرؤه في آيات أُخرى؛ فتقف إكباراً لمن كان يقف أمام فرعون خالي اليدين إلَّا من التوكُّل على الله (عزَّ وجلَّ)، فلا يرهبه، ولا يخافه.
وإذا تتبَّعت قَصَصه فلن يخلو مشهد من الإثارة والإعجاب، ولن تتجاوز واقعة إلَّا وأنت مذعن بأنَّك لا تقرأ حدثاً يمكن أنْ يتكرَّر.
إنَّه الغيب يمتدُّ إلى عالمنا المشاهَد فيُؤثِّر فيه، فالعصا ثعبان عظيم، والبحر كقطعة قماش يُرفَع من ناحية ليُلقى في ناحية أُخرى، والآيات السماويَّة يتبع بعضها بعضاً.
إنَّ هذه القامة الشامخة سنراها تبحث عن شخص مجهول، فيا ترى ما الذي جرى حتَّى عاد موسى (عليه السلام) يسحب نفسه من بين هؤلاء المحيطين به؛ ليبدأ رحلة البحث المريرة؟!
لقد عرضت الروايات مقطعاً من محادثة كانت بين موسى (عليه السلام) وأتباعه، ولم تغفل الفترة التي تمَّت فيها.
لقد كانت الحادثة بعد أنْ كلَّمه الله (عزَّ وجلَّ)، وبعد أنْ أُنزلت التوراة، وكتب

↑صفحة ٦٦↑

الله له في الألواح من كلِّ شيء موعظة وتفصيلاً لكلِّ شيء، بل وبعد أنْ أُعطي الآيات في يده وعصاه، وبعد أنْ كان من خبر فرعون ما كان.
في تلك الفترة عاد موسى (عليه السلام) لأرض مصر، وأصبح فيها الخطيب المفوَّه، وكان الناس يتحلَّقون حوله مصغين لكلامه.
هاهنا انطلقت الشرارة الأُولى لمسيرة طويلة، فقد روي أنَّه قال في نفسه: «مَا أَرَى أَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) خَلَقَ خَلْقاً أَعْلَمَ مِنِّي، فَأَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَى جَبْرَئِيلَ: يَا جَبْرَئِيلُ، أَدْرِكْ عَبْدِي مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَهْلِكَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّ عِنْدَ مُلْتَقَى اَلْبَحْرَيْنِ رَجُلاً عَابِداً فَاتَّبِعْهُ وَتَعَلَّمْ مِنْهُ.
فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ عَلَى مُوسَى بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ (عزَّ وجلَّ)، فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسُهُ...»(١١١).
وفي رواية أُخرى: أنَّ الجمهور الحاضر أثاره الإعجاب بما أُوتي موسى (عليه السلام)، فقال أحدهم: ما أرى أحداً أعلم بالله منك(١١٢).
وقيل: إنَّهم سألوه إنْ كان يعلم أحداً أعلم منه(١١٣).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١١) علل الشرائع (ج ١/ ص ٦٠/ باب ٥٤/ ح ١)؛ ورواه بتفاوت يسير القمِّي (رحمه الله) في تفسيره (ج ٢/ ص ٣٧).
(١١٢) عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ مَيْمُونٍ اَلْقَدَّاحِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله، عَنْ أَبِيهِ (عليهما السلام)، قَالَ: «بَيْنَمَا مُوسَى قَاعِداً فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا أَرَى أَحَداً أَعْلَمُ بِالله مِنْكَ، قَالَ مُوسَى: مَا أَرَى، فَأَوْحَى اَللهُ إِلَيْهِ: بَلَى، عَبْدِيَ اَلْخَضِرُ، فَسَأَلَ اَلسَّبِيلَ إِلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ آيَةُ اَلْحُوتِ أَنِ اِفْتَقَدَهُ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ مَا قَصَّ اَللهُ» تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٤/ ح ٤٨).
(١١٣) عن ابن عبَّاس أنَّه تمارى هو والحرّ بن قيس حصن الفزاري في صاحب موسى، قال ابن عبَّاس: هو خضر، فمرَّ بهما أُبيّ بن كعب الأنصاري، فدعاه ابن عبَّاس، فقال: إنِّي تماريت وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقائه، هل سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يذكر شيئاً؟ قال: إي نعم، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: «بينا موسى في ملإ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال موسى (عليه السلام): لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى (عليه السلام) السبيل إلى لقيِّه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل: إذا فقدت الحوت فارجع فإنَّك ستلقاه...» تفسير النسائي (ج ٢/ ص ٢٠/ ح ٣٢٩).

↑صفحة ٦٧↑

ومهما يكن فقد أجاب موسى (عليه السلام) بما يعلم، فقال: «لَا أَرَى»، وقد صدق في قوله؛ إذ إنَّه لم ينفِ وجود من هو أعلم منه، وإنَّما نفى معرفته بمن آتاه الله (عزَّ وجلَّ) علماً أكثر ممَّا آتاه.
ولكن كان للسماء جواب آخر، فلقد أُوحي إليه: «بَلَى، عَبْدِي اَلْخِضْرُ».
وقفة تأمُّل:
إنَّ كلَّ ما ذكرته الروايات لا يصطدم مع عقيدتنا المؤكِّدة على عصمة الأنبياء (عليهم السلام).
فإنَّها تذكر أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) أنزل على موسى (عليه السلام) التوراة؛ فظنَّ أنْ لا أحد أعلم منه، فأخبره الله (عزَّ وجلَّ) أنَّ في خلقي من هو أعلم منك، وذاك إذ خاف على نبيِّه العجب(١١٤).
وبهذا نعرف أنَّ موسى (عليه السلام) لم يقع في العجب، ولم يرتكب محرَّماً، وأنَّ مفاد هذه الواقعة التحذير لموسى (عليه السلام) كي لا يعتبر نفسه - برغم علمه ومعرفته - أفضل الأشخاص(١١٥).
من مرويَّات العامَّة:
وردت في هذا الباب مرويَّات سأذكرها للإحاطة بما في كُتُب التراث، أو لتكون ممَّا يُذكر في مقام الوعظ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١٤) عَنْ صَالِحِ بْنِ مِيثَمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «... وَاَلْأُخْرَى مِنْ مُوسَى (عليه السلام) أَنْزَلَ اَللهُ عَلَيْهِ اَلتَّوْرَاةَ، فَظَنَّ أَنْ لَا أَحَدَ فِي اَلْأَرْضِ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَأَخْبَرَهُ اَللهُ تَعَالَى أَنَّ فِي خَلْقِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، وَذَاكَ إِذْ خَافَ عَلَى نَبِيِّهِ اَلْعُجْبَ...» تفسير فرات (ص ٥٤ و٥٥/ ح ١٤/ ٢٢)، بشارة المصطفى (ص ٢٣٥ و٢٣٦/ ح ١٢).
(١١٥) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٤٠).

↑صفحة ٦٨↑

لقد قيل: إنَّ موسى (عليه السلام) سأله ربَّه: أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟
قال: الذي يذكرني ولا ينساني.
قال: فأيُّ عبادك أقضى؟
قال: الذي يقضي بالحقِّ، ولا يتَّبع الهوى.
قال: فأيُّ عبادك أعلم؟
قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه؛ عسى أنْ يصيب كلمة تدلُّه على هدى، أو تردُّه عن ردى.
فقال: إنْ كان في عبادك من هو أعلم منِّي فدلَّني عليه.
قال: أعلم منك الخضر.
قال: أين أطلبه؟
قال: على الساحل عند الصخرة.
قال: يا ربِّ، كيف لي به؟
قال: تأخذ حوتاً في مكتل، فحيث فقدته فهو هناك...(١١٦).
وقالوا: إنَّ موسى (عليه السلام) لـمَّا أحكم التوراة، وعلم ما فيها، قال في نفسه: لم يبقَ في الأرض أحد أعلم منِّي، من غير أنْ يتكلَّم مع أحد؛ فرأى في منامه كأنَّ الله تعالى أرسل السماء بالماء، حتَّى غرق ما بين المشرق والمغرب، فرأى قناة على البحر فيها صردة، فكانت الصردة تجيء للماء الذي غرق الأرض، فتنقل الماء بمنقارها، ثمّ تدفعه في البحر.
فلمَّا استيقظ الكليم (عليه السلام) هاله ذلك، فجاءه جبرئيل (عليه السلام)، فقال: ما لي أراك يا موسى كئيباً؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١٦) تفسير النسفي (ج ٣/ ص ٢٠).

↑صفحة ٦٩↑

فأخبره بالرؤيا، فقال: إنَّك زعمت أنَّك استغرقت العلم كلَّه، فلم يبقَ في الأرض من هو أعلم منك، وإنَّ لله تعالى عبداً علمك في علمه كالماء الذي حملته الصردة بمنقارها فدفعته في البحر.
فقال موسى (عليه السلام): يا جبرئيل، من هذا العبد؟
قال: الخضر بن عاميل من ولد الطيِّب، يعني إبراهيم الخليل (عليه السلام).
قال: من أين أطلبه؟
قال: اُطلبه من وراء هذا البحر.
فقال: من يدلُّني عليه؟
قال: بعض زادك.
قالوا: فمن حرصه على لقياه لم يستخلف على قومه، ومضى لوجهه، وقال لفتاه يوشع بن نون: هل أنت موازري؟
قال: نعم.
قال: اذهب فاحمل لنا زاداً...(١١٧).
ويلاحَظ هنا أنَّ هذا القول يريد أنْ يجعل الخضر (عليه السلام) من سلالة إبراهيم (عليه السلام)، مع أنَّ الروايات تشير إلى أنَّه سابق على ولادة إبراهيم بعدَّة آباء، فالأب الخامس لإبراهيم (عليه السلام) هم عمٌّ للخضر (عليه السلام).
عندما تُفقَد السمكة:
لم تكن رحلة موسى (عليه السلام) وفتاه ضرباً من المجازفة في البحث عن رجل مجهول، وإنَّما كانا يسيران وعينا موسى (عليه السلام) تبحثان عن العلامة التي جعلتها السماء دليلاً على مكان وجود العبد الصالح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١٧) حياة الحيوان (ج ٢/ ص ٨٣ و٨٤)، وفيه أنَّ الرواية تُنسَب إلى ابن عبَّاس.

↑صفحة ٧٠↑

ولو رجع الزمان بنا لرأيناهما يصطحبان زنبيلاً كبيراً، وفيه سمكة، ينتظران لحظة فقدانها؛ فحيثما فُقِدَت فإنَّهما سيجدان ضالَّتهما.
وربَّما تساءلتَ فقلتَ: كيف سيفقدان سمكة في زنبيل؟ أتراها ستعود للحياة فتفرُّ منهما، أم أنَّها ستسقط ميتةً في البحر فتُفقَد؟
إنَّ الإجابة لن تكون محلَّ اتِّفاق، بل ستجد عند تصفُّحك للمصادر اختلافاً في التفاصيل، فمنها ما يشير إلى أنَّ العلامة كانت طبيعيَّة، تسير فيها الأحداث متتابعة، ثمّ تُفقَد السمكة كما يفقد الناس الأشياء، ومنها ما ينصُّ على أنَّ فقدانها كان إعجازيًّا، فهنا قولان سأُوضِّحهما:
أوَّلاً: العلامة لم تكن إعجازيَّة:
ويقول أصحاب هذا الرأي: إنَّ الآيات القرآنيَّة قد تحدَّثت عن فقدان السمكة، ولا شكَّ أنَّ ذلك لا يستلزم حياتها، كما لو وضع الفتى تلك السمكة على صخرة مشرفة على البحر، وجاء المدُّ فأخذها، أو أنَّها سقطت لوجود البلل عليها وعلى الصخرة، ثمّ غابت في أعماق البحر، ويُؤيِّده ما في بعض الروايات أنَّ العلامة كانت افتقاد الحوت لا حياته(١١٨).
وستجد من يقول: إنَّ السمكة كانت حيَّة، بمعنى أنَّها لم تكن قد ماتت بالكامل، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إخراجه من الماء، وهو يعود إلى الحياة الكاملة إذا أُعيد في هذه الفترة إلى الماء(١١٩).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١١٨) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٤٠)، وقد صدَّر هذا القول بقوله: (واعلم أنَّ الآيات غير صريحة في حياه الحوت بعد ما كان ميِّتاً، بل ظاهر قوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ [الكهف: ٦١]، وكذا قوله: ﴿نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ [الكهف: ٦٣]، أنْ يكونا وضعاه في مكان من الصخرة مشرف على البحر، فيسقط في البحر...).
(١١٩) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣١٤ و٣١٥)؛ وذكر هذا الاحتمال صاحب مجمع البيان في (ج ٦/ ص ٣٦٣) عن الحسن، فقال: (وقيل: حوتاً طريًّا).

↑صفحة ٧١↑

ثانياً: العلامة كانت إعجازيَّة:
لقد أشارت عدَّة روايات إلى أنَّ العلامة كانت واضحة وغريبة، فإنَّ السمكة التي فقدت الحياة، بل وأصبحت جاهزة للأكل، ستعود للحياة ثانيةً، وستمضي خلال البحر.
وسواء كانت السمكة مملوحة أو مشويَّة فإنَّ رجوعها للحياة كان إعجازاً ودلالةً على العبد الصالح.
لقد تعدَّدت الصور التي عرضتها الروايات لعودة الحياة للسمكة، فمنها:
* أنَّ موسى وفتاه (عليهما السلام) وصلا بالسمكة إلى مجمع البحرين، حيث عين الحياة، وكان إلى جوارها صخرة، فانطلق الفتى يغسل السمكة في تلك العين؛ فأخذت تضطرب في يده، حتَّى أحدثت خدشاً فيها، ثمّ انفلتت منه(١٢٠).
* ومنها ما ذُكِرَ أنَّهما انطلقا يمشيان على شاطئ البحر، حتَّى انتهيا إلى صخرة على ساحل البحر، فأويا إليها، وعنده عين ماء تُسمَّى عين الحياة، فجلس يوشع بن نون، وتوضَّأ من تلك العين، فانتضح على الحوت شيء من ذلك الماء؛ فعاش، ووثب في الماء، وجعل يضرب بذنبه الماء؛ فكان لا يسلك طريقاً في البحر إلَّا صار الماء جامداً(١٢١).
* ومنها ما نصَّ على أنَّ موسى (عليه السلام) قام يُصلِّي، وقال ليوشع (عليه السلام):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢٠) عَنْ زُرَارَةَ وَحُمْرَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اَلله (عليهما السلام)، قَالَا: «إِنَّهُ لَـمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى (عليه السلام) اَلَّذِي كَانَ أُعْطِيَ مِكْتَلٌ فِيهِ حُوتٌ مُمَلَّحٌ، قِيلَ لَهُ: هَذَا يَدْلُكُ عَلَى صَاحِبِكَ عِنْدَ عَيْنِ مَجْمَعِ اَلْبَحْرَيْنِ، لَا يُصِيبُ مِنْهَا شَيْءٌ مَيِّتاً إِلَّا حَيِيَ، يُقَالُ لَهَا: اَلْحَيَاةُ، فَانْطَلَقَا حَتَّى بَلَغَا اَلصَّخْرَةَ، فَانْطَلَقَ اَلْفَتَى يَغْسِلُ اَلْحُوتَ فِي اَلْعَيْنِ، فَاضْطَرَبَ اَلْحُوتُ فِي يَدِهِ حَتَّى خَدَشَهُ وَاِنْفَلَتَ مِنْهُ...» تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٢٩ و٣٣٠/ ح ٤١).
(١٢١) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٣).

↑صفحة ٧٢↑

احفظ عليَّ، فقطرت قطرة من السماء في المكتل؛ فاضطرب الحوت، ثمّ جعل يثبُ من المكتل إلى البحر...(١٢٢).
لقد كان فقدان السمكة علامة الوصول للغاية، ولكن اختلفت الروايات في تفاصيل ذلك، فمنها ما جعل مسير السمكة دليلاً على الطريق الذي ينبغي اقتفاؤه(١٢٣)، وفي بعضها أنَّ الماء يجمد بمرورها(١٢٤)، ممَّا يجعل المشي عليه ممكناً، ومنها ما جعل موضع افتقاد السمكة مكان تواجد العبد الصالح(١٢٥).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢٢) عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ سَيَابَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ مُوسَى صَعِدَ اَلْمِنْبَرَ، وَكَانَ مِنْبَرُهُ ثَلَاثَ مَرَاقٍ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّ اَللهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً أَعْلَمَ مِنْهُ، فَأَتَاهُ جَبْرَئِيلُ، فَقَالَ: إِنَّكَ قَدِ اُبْتُلِيتَ، فَانْزِلْ فَإِنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ فَاطْلُبْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى يُوشَعَ أَنِّي قَدْ اُبْتُلِيتُ، فَاصْنَعْ لَنَا زَاداً وَاِنْطَلِقْ بِنَا، وَاِشْتَرَى حُوتاً [مِنْ حِيتَانِ اَلْحَيَّةِ]، فَخَرَجَ بِآذْرِبِيجَانَ، ثُمَّ شَوَاهُ، ثُمَّ حَمَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ اِنْطَلَقَا يَمْشِيَانِ فِي سَاحِلِ اَلْبَحْرِ، وَاَلنَّبِيُّ إِذَا أُمِرَ أَنْ يَذْهَبُ إِلَى مَكَانٍ لَمْ يَعْيَ أَبَداً حَتَّى يَجُوزَ ذَلِكَ اَلْوَقْتَ»، قَالَ: «فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ اِنْتَهَيَا إِلَى شَيْخٍ مُسْتَلقٍ مَعَهُ عَصَاهُ، مَوْضُوعَةً إِلَى جَانِبِهِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ إِذَا قَنَّعَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ»، قَالَ: «فَقَامَ مُوسَى يُصَلِّي وَقَالَ لِيُوشَعَ: اِحْفَظْ عَلَيَّ»، قَالَ: «فَقَطَرَتْ قَطْرَةٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ فِي اَلْمِكْتَلِ، فَاضْطَرَبَ اَلْحُوتُ، ثُمَّ جَعَلَ يَثِبُ مِنَ اَلْمِكْتَلِ إِلَى اَلْبَحْرِ...» تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٢/ ح ٤٧).
(١٢٣) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٤/ ح ٤٨).
(١٢٤) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٣).
(١٢٥) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٣٨).

↑صفحة ٧٣↑

مجمع البحرين:
لقد اختلف المفسِّرون في تحديد المنطقة التي شهدت اللقاء الجليل بين بحرين زاخرين من بحور العلم.
وقد احتملوا عدَّة مواقع، وراعوا في تحديدها أنْ تكون منقطة يلتقي فيها بحران؛ بحيث يصدق عليها أنَّها مجمع بحرين، ومنها:
أوَّلاً: ملتقى خليجي العقبة والسويس:
من المعروف أنَّ البحر الأحمر يتفرَّع شمالاً إلى فرعين، فرع نحو الشمال الشرقي حيث يُشكِّل خليج العقبة، والثاني نحو الشمال الغربي، ويُسمَّى خليج السويس، وهذان الخليجان يرتبطان جنوباً، ويتَّصلان بالبحر الأحمر، ويصدق على محلِّ اتِّصالهما أنَّه مجمع بحرين.
وهو احتمال حاز على الترجيح لعدَّة أسباب، وهي:
أ - قربه من مكان وجود موسى (عليه السلام) ومعيشته.
ب - ما يُستفاد من الآيات بشكلٍ عامٍّ من أنَّ موسى (عليه السلام) لم يسلك طريقاً طويلاً، بالرغم من أنَّه كان مستعدًّا للسفر لأيِّ مكانٍ؛ لأجل الوصول إلى مقصوده.
ج - ما يُستفاد من بعض الروايات(١٢٦).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢٦) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣١٣)؛ ولم يذكر صاحب (الأمثل) تلك الروايات التي جعلته يُقرِّب هذا الاحتمال.

↑صفحة ٧٤↑

لقد ذكر العلَّامة الطباطبائي (قدس سره) أنَّ ما يتحصَّل من رواية ابن بابويه والقمِّي أنَّ مجمع البحرين من أرض الشامات وفلسطين، بقرينة ذكرهما أنَّ القرية التي ورداها هي الناصرة التي تُنسَب إليها النصارى(١٢٧).
وقريب من هذا الاحتمال ما ذُكِرَ من أنَّ البحرين هما بحر الأُردن وبحر القلزم، المسمَّى حاليًّا بالبحر الأحمر.
ثانياً: باب المندب:
وهو محلُّ اتِّصال المحيط الهندي بالبحر الأحمر.
ثالثاً: جبل طارق:
وهو محلُّ اتِّصال البحر المتوسِّط (الذي يُسمَّى أيضاً ببحر الروم والبحر الأبيض) مع المحيط الأطلسي؛ أي المكان الذي يُطلَق عليه اسم مضيق جبل طارق، قرب مدينة طنجة(١٢٨).
وربَّما كان الداعي لهذا الاحتمال ذكر الروايات لوجود نبع ماء الحياة بالقرب من مكان اللقاء، وذلك النبع يوجد في بحر الظلمات(١٢٩)، والذي يُسمَّى الآن بالمحيط الأطلسي.
رابعاً: آذربيجان:
وهذا الاحتمال له من المؤيِّدات ما يلي:
* أنَّه المكان الوحيد الذي صرَّحت باسمه رواية، وهي واردة عن أبي عبد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٢٧) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٥٤).
(١٢٨) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣١٣)؛ وقد استبعد هذين الاحتمالين.
(١٢٩) كتاب الاختيارات (ص ٩٤).

↑صفحة ٧٥↑

الله (عليه السلام)، وفيها: أنَّ موسى (عليه السلام) أرسل إلى يوشع: إِنِّي قَدْ اُبْتُلِيتُ، فَاصْنَعْ لَنَا زَاداً، وَاِنْطَلِقْ بِنَا، وَاِشْتَرَى حُوتاً، فَخَرَجَ بِآذْرِبِيجَانَ، ثُمَّ شَوَاهُ، ثُمَّ حَمَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ اِنْطَلَقَا يَمْشِيَانِ فِي سَاحِلِ اَلْبَحْرِ(١٣٠).
* وجود جبل عند سدِّ ذي القرنين باسم الخضر (عليه السلام)، وهذا السدُّ - كما يذهب له بعض المفسِّرين(١٣١) - موجود بتلك النواحي، وهناك رواية كذلك قد تكون ملمِّحة إلى وجود الخضر (عليه السلام) بالقرب من ذلك الجبل.
وذكر القرطبي القول: إنَّه ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب أرض فارس من وراء آذربيجان، فالركن الذي يجمع البحرين ممَّا يلي برَّ الشام هو مجمع البحرين على هذا القول(١٣٢).
وورد عن السُّدِّي أنَّ البحرين هما: الكرُّ والرسُّ؛ حيث يصبَّان في البحر(١٣٣)، وأنَّ القرية كانت تُسمَّى باجروان، وكان أهلها لئاماً(١٣٤)، وهي بناحية آذربيجان(١٣٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣٠) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٢/ ح ٤٧).
(١٣١) ذكر صاحب تفسير الأمثل في (ج ٩/ ص ٣٧١) أنَّه بالاستناد إلى شهادة العلماء وأهل الخبرة فإنَّ السدَّ يقع في أرض القوقاز، بين بحر الخزر والبحر الأسود، حيث توجد سلسلة جبليَّة كالجدار، تفصل الشمال عن الجنوب، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخريَّة هو مضيق (داريال) المعروف، ويُشاهَد فيه جدار حديدي أثري حتَّى الآن، ولهذه المرجِّحات يعتقد الكثيرون أنَّ سدَّ (ذي القرنين) يقع في هذا المضيق، وأنَّ المتبقِّي من مواصفات آثاره دليل مؤيِّد لذلك.
(١٣٢) تفسير القرطبي (ج ١١/ ص ٩).
(١٣٣) تفسير ابن أبي حاتم (ج ٧/ ص ٢٣٧٦/ ح ١٢٨٨٧).
(١٣٤) تفسير ابن أبي حاتم (ج ٧/ ص ٢٣٧٩/ ح ١٢٩١٢).
(١٣٥) تفسير القرطبي (ج ١١/ ص ٢٤)؛ وأشار الحموي في معجم البلدان (ج ١/ ص ٣١٣، وج ٣/ ص ٣٣٩) لذلك، فقال: (قرب شروان، عندها عين الحياة التي وجدها الخضر (عليه السلام))، وقال: (فالصخرة صخرة شروان، والبحر بحر جيلان، والقرية باجروان).

↑صفحة ٧٦↑

وتجدر الإشارة إلى أنَّ بعض المفسِّرين قد ذهب إلى توجيه كلمة البحر، وأنَّها لا تعني شيئاً مادّيًّا، بل تعني أمراً معنويًّا، وهو العلم، فكان الخضر (عليه السلام) بحر علم، وموسى (عليه السلام) بحر علم، وكان لقاؤهما هو مجمع البحرين(١٣٦).
شروط موقع اللقاء:
هناك شروط لا بدَّ من توفُّرها في الموقع كي يصحَّ احتمال كونه موقع اللقاء، ومنها:
* أنْ يكون نقطة التقاء بين بحرين، وهنا لا بدَّ من الالتفات إلى أنَّ كلمة (البحر) تُطلَق على النهر، فالفرات بحر، والنيل بحر، ولهذا فإنَّ نهر النيل يكون من جملة الافتراضات المطروحة، فهو يلتقي مع البحر الأبيض.
* أنْ يكون في جزيرة من الجُزُر.
* قربه من بلاد موسى (عليه السلام)، إذا افترضنا قصر السفر، واستخدام الطُّرُق غير الإعجازيَّة.
* قربه من عين الحياة الواقعة في بحر الظلمات.
ستجد وأنت تُقلِّب كُتُب التفسير احتمالات للموقع، ولكن غاب عن المفسِّرين أنَّ تلك المواقع فاقدة للشرط الأوَّل، فإنَّ كلَّ واحدٍ منها ليس نقطة التقاء بين بحرين، بل ليس بين البحرين التقاء وإنْ كانا متجاورين.
فمثلاً قالوا: إنَّ موضع الالتقاء كان محلُّ التقاء البحر الأحمر بالبحر الأبيض، مع أنَّنا نعلم أنَّ هذين البحرين ليس بينهما نقطة التقاء قديماً، وهذا الذي جعل المصريِّين يحفرون قناة السويس؛ ليكون هناك موضع التقاء بين البحرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣٦) هناك إشارة إلى هذا في تفسير القرطبي (ج ١١/ ص ٩).

↑صفحة ٧٧↑

والأكثر غرابةً من هذا من زعم أنَّ موقع اجتماعهما كان محلُّ التقاء البحر الفارسي ببحر الروم، مع أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يقع في ناحية مختلفة عن ناحية الآخر، وليس بينهما موضع التقاء، لا قريب ولا بعيد.
إلَّا أنْ يكون ذلك القول مبنيًّا على اعتبار مجمع البحرين ما بين البحرين، وسُمِّي مجمعاً بنوع من التوسُّع(١٣٧).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣٧) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٣٩)، وقد ذكر (قدس سره) عدَّة آراء في تحديد الموقع.

↑صفحة ٧٨↑

لحظة اللقاء المرتقَب:
لقد كان اللقاء في جزيرة من جزائر البحر، وتحديداً عند صخرة فيها(١٣٨).
وقد تعدَّدت الروايات والأخبار في رسم المعالم الدقيقة للحظات اللقاء، وسأذكر بعضاً من ذلك.
١ - لقد ذكروا أنَّ الخضر (عليه السلام) كان في حالة عبادة حينما وصل موسى (عليه السلام) وفتاه لتلك المنطقة(١٣٩)، فقالوا: كان الخضر (عليه السلام) يُصلِّي، فقعد موسى (عليه السلام) حتَّى فرغ من الصلاة، فسلَّم الخضر (عليه السلام) على زائريه(١٤٠).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٣٨) راجع: تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٥٥)، وفيه إشارة لعدَّة أقوال.
(١٣٩) عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اَلْخَضِرَ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلاً بَعَثَهُ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى قَوْمِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَاَلْإِقْرَارِ بِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَكَانَتْ آيَتُهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ عَلَى خَشَبَةٍ يَابِسَةٍ وَلَا أَرْضٍ بَيْضَاءَ إِلَّا أَزْهَرَتْ خُضْراً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَضِراً لِذَلِكَ، وَكَانَ اِسْمُهُ باليا بْنَ مِلْكَانَ بْنِ عَابِرِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ (عليه السلام)، وَإِنَّ مُوسَى لَـمَّا كَلَّمَهُ اَللهُ تَكْلِيماً، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلتَّوْرَاةَ، وَكَتَبَ لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ آيَتَهُ فِي يَدِهِ وَعَصَاهُ، وَفِي اَلطُّوفَانِ وَاَلْجَرَادِ وَاَلْقُمَّلِ وَاَلضَّفَادِعِ وَاَلدَّمِ وَفَلْقِ اَلْبَحْرِ، وَغَرَقِ اَلله (عزَّ وجلَّ) فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، وَعَمِلَتِ اَلْبَشَرِيَّةُ فِيهِ حَتَّى قَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا أَرَى أَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) خَلَقَ خَلْقاً أَعْلَمَ مِنِّي، فَأَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَى جَبْرَئِيلَ: يَا جَبْرَئِيلُ، أَدْرِكْ عَبْدِي مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَهْلِكَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّ عِنْدَ مُلْتَقَى اَلْبَحْرَيْنِ رَجُلاً عَابِداً فَاتَّبِعْهُ وَتَعَلَّمْ مِنْهُ، فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ عَلَى مُوسَى بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ (عزَّ وجلَّ)، فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسُهُ، فَمَضَى هُوَ وَفَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ (عليه السلام) حَتَّى اِنْتَهَيَا إِلَى مُلْتَقَى اَلْبَحْرَيْنِ، فَوَجَدَا هُنَاكَ اَلْخَضِرَ (عليه السلام) يَعْبُدُ اَللهَ (عزَّ وجلَّ)...» علل الشرائع (ج ١/ ص ٦٠/ باب ٥٤/ ح ١).
(١٤٠) رُوِيَ أَنَّ مُوسَى (عليه السلام) قَالَ لِوَصِيِّهِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ: إِنَّ اَللهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَتَّبِعَ رَجُلاً عِنْدَ مُلْتَقَى اَلْبَحْرَيْنِ وَأَتَعَلَّمَ مِنْهُ، فَتَزَوَّدَ يُوشَعُ حُوتاً مَمْلُوحاً، وَخَرَجَا، فَلَمَّا خَرَجَا وَبَلَغَا ذَلِكَ اَلمَكَانَ وَجَدَا رَجُلاً مُسْتَلْقِياً عَلَى قَفَاهُ، فَلَمْ يَعْرِفَاهُ، فَأَخْرَجَ وَصِيُّ مُوسَى اَلْحُوتَ وَغَسَلَهُ بِالمَاءِ وَوَضَعَهُ عَلَى اَلصَّخْرَةِ، وَمَضَيَا وَنَسِيَا اَلْحُوتَ، وَكَانَ ذَلِكَ اَلمَاءُ مَاءَ اَلْحَيَوَانِ، فَحَيَّ اَلْحُوتُ وَدَخَلَ فِي اَلمَاءِ، فَمَضَى مُوسَى وَيُوشَعُ مَعَهُ حَتَّى عَيِيَا، فَقَالَ مُوسَى لِوَصِيِّهِ: ﴿آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾ [الكهف: ٦٢]، أَيْ عَنَاءً، فَذَكَرَ وَصِيُّهُ اَلسَّمَكَ، فَقَالَ لِمُوسَى: ﴿إِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ [الكهف: ٦٣] عَلَى اَلصَّخْرَةِ، فَقَالَ مُوسَى: ذَلِكَ اَلرَّجُلُ اَلَّذِي رَأَيْنَاهُ عِنْدَ اَلصَّخْرَةِ هُوَ اَلَّذِي نُرِيدُهُ، فَرَجَعَا ﴿عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً﴾ [الكهف: ٦٤]، أَيْ عِنْدَ اَلرَّجُلِ، وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، فَقَعَدَ مُوسَى حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا. تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٣٨).

↑صفحة ٧٩↑

٢ - وفي رواية أُخرى أنَّ الخضر (عليه السلام) كان في كساء له، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى (عليه السلام)، فَعَجِبَ مِنَ اَلسَّلَامِ، وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا اَلسَّلَامُ.
قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: أَنَا مُوسَى.
قَالَ: أَنْتَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، اَلَّذِي كَلَّمَهُ اَللهُ تَكْلِيماً؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَمَا حَاجَتُكَ؟
قَالَ: أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِّي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً.
قَالَ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِأَمْرٍ لَا تُطِيقُهُ، وَوُكِّلْتَ بِأَمْرٍ لَا أُطِيقُهُ، وَقَالَ لَهُ: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾ [الكهف: ٦٧ - ٦٩]، فَحَدَّثَهُ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)، وَعَمَّا يُصِيبُهُمْ حَتَّى اِشْتَدَّ بُكَاؤُهُمَا، ثُمَّ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وَعَنْ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ، وَذَكَرَ لَهُ مِنْ فَضْلِهِمْ وَمَا أُعْطُوا، حَتَّى جَعَلَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ...(١٤١).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤١) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٢٩ و٣٣٠/ ح ٤١)؛ وكذلك في تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٣٨) مع قليل من الاختلاف.

↑صفحة ٨٠↑

٣ - وذكر آخرون أنَّ موسى وفتاه (عليهما السلام) انتهيا إلى صخرة عظيمة، وعندها مصلَّى، فقال موسى: ما أحسن هذا المكان! ينبغي أنْ يكون لذلك العبد الصالح.
فلم يلبثا أنْ جاء الخضر، حتَّى انتهى إلى ذلك المكان والبقعة، فلمَّا قام عليها اهتزت خضراً.
فقال موسى (عليه السلام): السلام عليك يا خضر.
فقال: وعليك السلام يا موسى، يا نبيَّ بني إسرائيل.
فقال: ومن أدراك من أنا؟
قال: أدراني الذي دلَّك على مكاني...(١٤٢).
٤ - ورُوِيَ أنَّ موسى وفتاه (عليهما السلام) اِنْتَهَيَا إِلَى شَيْخٍ مُسْتَلقٍ، مَعَهُ عَصَاهُ، مَوْضُوعَةً إِلَى جَانِبِهِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ إِذَا قَنَّعَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ.
وتجاوز موسى وفتاه (عليهما السلام) ذلك الرجل، ثمّ عادا، فوجداه وَهُوَ عَلَى حَالِهِ مُسْتَلْقٍ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ اَلسَّلَامُ، يَا عَالِمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ: ثُمَّ وَثَبَ، فَأَخَذَ عَصَاهُ بِيَدِهِ.
قَالَ: فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَتَّبِعَكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً...(١٤٣).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٢) بحار الأنوار (ج ٦١/ ص ٢٩٠ و٢٩١).
(١٤٣) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٢ و٣٣٣/ ح ٤٧).

↑صفحة ٨١↑

عندما ينفد الصبر:
لقد تركَّزت أحداث اللقاء بين موسى والخضر (عليهما السلام) حول ثلاث قضايا، وذلك بعد أنْ ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾.
فأجابه الخضر: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾.
فقال موسى: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾.
فأجابه الخضر: ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ (الكهف: ٦٦ - ٧٠).
لقد كانت هناك ثلاث قضايا مهمَّة، استحوذت على اهتمام الباحثين، وهي ما أشارت لها الآيات الشريفة:
* خرق السفينة.
* قتل الغلام.
* إقامة الجدار.
فهلمَّ لنقرأ تفاصيل ما أُوجز، ونتتبَّع أحداث ما يُتلى في القرآن الكريم، ممَّا جرى بين هذين العظيمين.
أوَّلاً: حديث السفينة:
البحر وأهواله، والأمواج وصولتها..
الرياح وقسوتها، والسُّفُن وضعفها..
أشباح تطارد من ركبوا متن البحار وخاضوا عبابها، فما ظنُّك بهم إذا رأوا

↑صفحة ٨٢↑

من يقتلع ألواحها؟! إنَّه موقف لا يمتلك الفؤاد عنده استقراراً، ولن يستطيع معه صبراً.
لقد ذكر المفسِّرون أنَّ الخضر وموسى (عليهما السلام) أرادا أنْ يعبرا في البحر إلى أرض أُخرى، فأتيا معبراً، فعرف صاحب السفينة الخضر (عليه السلام)، فحملهما، فلمَّا ركبا في السفينة خرقها الخضر (عليه السلام).
وأمَّا عن طريقة خرقها فقد قالوا: إنَّه عمد إلى لوحين من ألواحها فاقتلعهما، وكان موسى (عليه السلام) ينظر إلى تصرُّفات الخضر (عليه السلام)، فرأى الماء يدخل السفينة، ومتى تُرِكَ الماء وشأنه فإنَّ النهاية هي غرق السفينة ومن عليها.
لقد بادر موسى (عليه السلام)، فأخذ ثوبه، وحشا موضع الخرق(١٤٤)، ولا يبعد أنَّ أهل السفينة انتبهوا إلى الخطر، فقاموا بإصلاح الخرق مؤقَّتاً(١٤٥).
لقد كانت نهاية هذه الحركة أنَّ السفينة أصبحت معيبة غير سالمة، فكلُّ من يراها سيجد عمليَّة الإصلاح فيها.
موقف موسى (عليه السلام):
إنَّ موسى (عليه السلام) كان نبيًّا إلهيًّا كبيراً، ولهذا فقد كان يرى أنَّ من واجبه الحفاظ على أرواح الناس وأموالهم، وعليه كذلك أنْ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل إنَّ وجدانه الإنساني يضغط عليه، ولا يدعه يسكت أمام أعمال الرجل العالم، والتي يبدو ظاهرها سيِّئاً وقبيحاً، لذا فقد نسي العهد(١٤٦) الذي قطعه من قبل، فاعترض، وقال: ﴿أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾، فأجابه الخضر (عليه السلام): ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ (الكهف: ٧١ و٧٢).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٤) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٩).
(١٤٥) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٢٢).
(١٤٦) جاء عن ابن عبَّاس في معنى ﴿بِمَا نَسِيتُ﴾ أي بما تركت من وصيَّتك وعهدك.
راجع: مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٩).

↑صفحة ٨٣↑

موقف الخضر (عليه السلام):
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ (الكهف: ٧٩).
لقد كان ظاهر العمل الذي قام به الخضر (عليه السلام) مشيناً سيِّئاً، وأمَّا باطنه فإنَّه كان يهدف إلى نجاة أهل السفينة من قبضة مَلِك غاصب، وكان هذا المَلِك يترك السفينة المعيبة، ويصرف النظر عنها، ولهذا تكون خلاصة عمل الخضر (عليه السلام) في السفينة هو حفظ مصالح مجموعة من المساكين(١٤٧).
ثانياً: وقُتِلَ الغلام:
الدم المسفوح، والسكِّين الحمراء، وجُثَّة الغلام الهامدة، مناظر يصعب النظر إليها، ولا شكَّ أنَّ منْ يراها إمَّا أنْ يتلاشى خوراً وضعفاً لينكفئ على نفسه، وأنيسه دمعته، أو أنْ يقدح ضميره شعلة نار تذوب عندها كلُّ شروط أُخِذَت مسبقاً.
لقد خرج موسى والخضر (عليهما السلام) من البحر، وانطلقا يمشيان في البرِّ، فلقيا غلاماً يلعب مع الصبيان، وكان من أحسن أُولئك الغلمان وأصبحهم، عليه قميص حرير أخضر، وفي أُذُنيه دُرَّتان.
واختلف المفسِّرون في المعنيِّ بكلمة (الغلام)، فمنهم من قال: إنَّه كان غلاماً غير بالغ، ومنهم من قال: إنَّه كان شابًّا بالغاً، وذكروا أنَّ كلمة (غلام) لا تُحدِّد العمر الزمني للمقتول؛ لأنَّه ربَّما سُمِّي الرجل غلاماً، واستدلُّوا بقول ليلى الأخيليَّة:

شفاها من الداء العضال الذي بها * * * غلامٌ إذا هزَّ القناة سقاها(١٤٨)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٧) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٢٨).
(١٤٨) المحرَّر الوجيز (ج ٣/ ص ٥٣٢).

↑صفحة ٨٤↑

لقد أقبل الخضر (عليه السلام) نحو الغلام فقتله، ولكن..
أتراه ذبحه بالسكِّين؟
أم صرعه ثمّ نزع رأسه من جسده؟
أم ضربه برجله فقتله؟
أم فتل عنقه فمات؟
أم ضرب برأسه الحائط؟
أم وكزه فمات؟
أو أنَّ العالم تورَّكه - أي جعله على وركه معتمداً عليه - فذبحه(١٤٩)؟
كلُّ ذلك قد ذُكِرَ، والذي يهمُّنا أنَّ الغلام أصبح قتيلاً، وكان القتل على يدي الخضر (عليه السلام).
موقف موسى (عليه السلام):
لقد كان الموقف مغضباً، وهذا ما جعل موسى (عليه السلام) يأخذ بتلابيب الخضر (عليه السلام) ويقول له: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾ (الكهف: ٧٤).
قَالَ لَهُ اَلْخَضِرُ (عليه السلام): إِنَّ اَلْعُقُولَ لَا تَحْكُمُ عَلَى أَمْرِ اَلله تَعَالَى ذِكْرُهُ، بَلْ أَمْرُ اَلله يَحْكُمُ عَلَيْهَا، فَسَلِّمْ لِمَا تَرَى مِنِّي وَاِصْبِرْ عَلَيْهِ، فَقَدْ كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
قَالَ مُوسَى (عليه السلام): ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً﴾ (الكهف: ٧٦)(١٥٠).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٤٩) راجع: مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٩)، وبحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٢٨٤).
(١٥٠) علل الشرائع (ج ١/ ص ٦٠ و٦١/ باب ٥٤/ ح ١).

↑صفحة ٨٥↑

موقف الخضر (عليه السلام):
﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ (الكهف: ٨٠).
وللمفسِّرين في بيان هذا المعنى قولان:
أوَّلهما: أنَّ الغلام كان له والدان مؤمنان، وكان إيمانهما ذا قدر عند الله، وهذا الإيمان يستدعي وجود ولد مؤمن صالح يصل رحمهما.
وكان غلامهما قد قُضِيَ فيه خلاف ذلك، أي إنَّه سيُرهق والديه بطغيانه وكفره، وسيجرُّ لهما الأذى، فأمر الله (عزَّ وجلَّ) الخضر (عليه السلام) بقتل الغلام ليُبدلهما الله (عزَّ وجلَّ) خيراً منه زكاةً وأقرب رحماً(١٥١).
ثانيهما: أنَّ هذا الغلام سيكون سبباً في انحراف والديه عن الحقِّ(١٥٢)؛ وذلك بأنْ يحمل أبويه على الطغيان والكفر، بأنْ يباشر ما لا يمكنهما منعه منه، فيحملهما على الذبِّ عنه، والتعصُّب له، فيُؤدِّي ذلك إلى أُمور تكون مجاوزة للحدِّ في العصيان والكفر(١٥٣)، وفي هذا المعنى وردت عدَّة روايات، ومنها ما روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «وَعَلِمَ اَللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنْ بَقِيَ كَفَرَ أَبَوَاهُ، وَاِفْتَتَنَا بِهِ، وَضَلَّا بِإِضْلَالِهِ إِيَّاهُمَا، فَأَمَرَنِيَ اَللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَتْلِهِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ نَقْلَهُمْ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ فِي اَلْعَاقِبَةِ»(١٥٤).
وروي إيضاحٌ لذلك، وهو أنَّه إنْ أدرك الغلام فإنَّه سيدعو أبويه إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥١) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٤٨) باختصار.
(١٥٢) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٤٥).
(١٥٣) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٧٥).
(١٥٤) علل الشرائع (ج ١/ ص ٦١/ باب ٥٤/ ح ١).

↑صفحة ٨٦↑

الكفر؛ فيجيبانه من فرط حبِّهما إيَّاه(١٥٥).
وأمَّا ما أُبدل الوالدان عن هذا الغلام فقد كان شيئاً عظيماً، لقد وُلِدَت لهما جارية فتزوَّجها نبيٌّ من الأنبياء؛ فأنجبت ولداً فكان نبيًّا، فهدى الله على يديه أُمَّة من الأُمَم(١٥٦).
بل وفي رواية أنَّ الجارية ولدت سبعين نبيًّا(١٥٧)، وربَّما كان المراد أنَّهم من ذراريها.
النفس الزكيَّة:
لقد وصف موسى (عليه السلام) الغلام، فقال: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ (الكهف: ٧٤)، فما المقصود بالزكيَّة؟
إنَّ كلمة (زكيَّة) لها معنيان:
أوَّلهما: أنَّها مأخوذة من الزكاء، وهو الزيادة والنماء، ولهذا يقال للأرض التي زاد ريعها: زكت الأرض.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥٥) عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ: ﴿فَخَشِينَا﴾ [الكهف: ٨٠]: «خَشِيَ إِنْ أَدْرَكَهُ اَلْغُلَامُ أَنْ يَدْعُوَ أَبَوَيْهِ إِلَى اَلْكُفْرِ، فَيُجِيبَانِهِ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِمَا إِيَّاهُ».
تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٦/ ح ٥٦).
(١٥٦) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٧٦)؛ وفي تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٦/ ح ٥٩) رواية تقول: «وَلَدَتْ لَهُمَا جَارِيَةٌ، فَوَلَدَتْ غُلَاماً؛ فَكَانَ نَبِيًّا».
(١٥٧) عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ اَللَّخْمِيِّ، قَالَ: وَلَدَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا جَارِيَةً دَخَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَرَآهُ مُتَسَخِّطاً لَهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اَلله: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ اَللهَ أَوْحَى إِلَيْكَ أَنِّي أَخْتَارُ لَكَ أَوْ تَخْتَارُ لِنَفْسِكَ، مَا كُنْتَ تَقُولُ؟»، قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: يَا رَبِّ، تَخْتَارُ لِي، قَالَ: «فَإِنَّ اَللهَ قَدِ اِخْتَارَ لَكَ»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اَلْغُلَامَ اَلَّذِي قَتَلَهُ اَلْعَالِمُ كَانَ مَعَ مُوسَى فِي قَوْلِ اَلله: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ [الكهف: ٨١]»، قَالَ: «فَأَبْدَلَهُمَا جَارِيَةً وَلَدَتْ سَبْعِينَ نَبِيًّا».
تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٦ و٣٣٧/ ح ٦٠).

↑صفحة ٨٧↑

ثانيهما: أنَّ وصف الغلام بأنَّه نفس زكيَّة كان على لسان موسى (عليه السلام)، ولم يكن يعلم باستحقاقه القتل، فاستفهم عن حاله(١٥٨)، ولهذا روي أنَّ موسى لـمَّا قال: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾ (الكهف: ٧٤)، أَدْخَلَ اَلْعَالِمُ يَدَهُ؛ فَاقْتَلَعَ كَتِفَهُ، فَإِذَا عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: كَافِرٌ مَطْبُوعٌ(١٥٩).
ثالثاً: وجاءا قرية اللئام:
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ (الكهف: ٧٧).
لقد استطعم موسى والخضر (عليهما السلام) أهل قرية، فأبوا أنْ يُضيِّفوهما، وروي أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وصف أهل هذه القرية، فقال: «كَانُوا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامٌ»(١٦٠).
وأمَّا سبب هذا الاستطعام فيُعزى لأحد أمرين، هما:
* أنَّ زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السفرة.
* أنَّ الرجل العالم تعمَّد طرح هذا الاقتراح؛ كي يُعطي موسى درساً بليغاً آخر(١٦١).
وقد اختلف المفسِّرون في تحديد هذه القرية التي أبت أنْ تُضيِّف العبدين الصالحين، فقيل:
أنطاكية، وهي مدينة من المُدُن السوريَّة القديمة، تقع على بعد (٩٦) كيلومتراً من حلب، وقد نقلوا هذا الرأي عن ابن عبَّاس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٥٨) تنزيه الأنبياء (ص ١٢١) بتصرُّف.
(١٥٩) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٥/ ح ٥٣).
(١٦٠) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٧٤).
(١٦١) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٢٤).

↑صفحة ٨٨↑

أيلة، والتي تُسمَّى اليوم ميناء أيلات المعروف، الذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة.
الناصرة، وتقع شمال فلسطين، وهي محلُّ ولادة السيِّد المسيح (عليه السلام)، ويُؤيِّد هذا الرأي بما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)(١٦٢).
ومهما تكن المدينة فإنَّها قد أبت أنْ تُضيِّفهما، وقد أحسَّ موسى (عليه السلام) بالتعب والجوع، والأهمُّ من ذلك أنَّه كان يشعر بأنَّ كرامته وكرامة أُستاذه قد أُهينتا من أهل هذه القرية التي أبت أنْ تُضيِّفهما.
ولكن هلمَّ معي لنرى كيف كان تعامل العبد الصالح مع هذا الجفاء، لقد قال سبحانه وتعالى: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ (الكهف: ٧٧)(١٦٣).
ويُذكر أنَّ الخضر (عليه السلام) نظر إلى حائط قد زال لينهدم، فوضع يده عليه وقال: قُمْ بِإِذْنِ اَلله، فَقَامَ(١٦٤)، وقد ورد أنَّه توسَّل بآل محمّد (عليهم السلام) فأنجح الله طلبته(١٦٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦٢) تفسير مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٧٤)؛ والرواية مرويَّة في تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٢ و٣٣٣/ ح ٤٧) عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ سَيَابَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «... وَهِيَ قَرْيَةٌ عَلَى سَاحِلِ اَلْبَحْرِ، يُقَالُ لَهَا: نَاصِرَةٌ، وَبِهَا تَسَمَّى اَلنَّصَارَى نَصَارَى...».
(١٦٣) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٢٥) باختصار.
(١٦٤) عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام)، قَالَ: «... فَنَظَرَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام) إِلَى حَائِطٍ قَدْ زَالَ لِيَنْهَدِمَ، فَوَضَعَ اَلْخَضِرُ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اَلله، فَقَامَ».
تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٣٩).
(١٦٥) رُوِيَ أَنَّ أَبَا الشُّرُورِ وَأَبَا الدَّوَاهِي كَانَا قَدْ دَبَّرَا لِقَتْلِ أَمِير اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَقَوْمٍ مَعَهُ تَحْتَ حَائِطٍ، فَمَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) عَلَى اَلْحَائِطِ بِيَسَارِهِ، فَأَقَامَهُ وَسَوَّاهُ، وَرَأَبَ صَدْعَهُ، وَلَأَمَ شَعْبَهُ، وَخَرَجَ هُوَ وَاَلْقَوْمُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قَالَ لَهُ: «يَا أَبَا اَلْحَسَنِ، ضَاهَيْتَ اَلْيَوْمَ أَخِيَ اَلْخَضِرَ لَـمَّا أَقَامَ اَلْجِدَارَ، وَمَا سَهَّلَ اَللهُ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا بِدُعَائِهِ بِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ».
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ١٩٣ و١٩٤/ ح ٩٠).

↑صفحة ٨٩↑

موقف موسى (عليه السلام):
كان موسى (عليه السلام) يعتقد أنَّ على صاحبه أنْ يطالب بأُجرة مقابل عمله، ولكي يتمكَّنا من أنْ يعدَّا طعاماً لهما.
لقد نسي موسى (عليه السلام) عهده مرَّةً أُخرى، وبدأ بالاعتراض، إلَّا أنَّ اعتراضه هذه المرَّة بدا خفيفاً، فقال: ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ (الكهف: ٧٧).
وكانت وجهة نظره أنَّ الجميل جيِّد وحسن بشرط أنْ يكون في محلِّه، وأنَّ التضحية من أجل أُناس سيِّئين عمل مجافٍ لروح العدالة، لأنَّ مقابلة العمل السيِّئ بالإحسان لا بدَّ أنْ يكون سبباً في دفع المسيئين للقيام بالمزيد من الأعمال السيِّئة.
لقد كان كلامه سبباً في أنْ يُلقي العبد الصالح كلامه الأخير على مسامع موسى (عليه السلام)، فقال: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ (الكهف: ٧٨)(١٦٦).
موقف الخضر (عليه السلام):
لقد أودع الكنز رجل صالح، وكان صلاحه سبباً في أنْ تهبط الرحمة على هذين اليتيمين، فأقام الخضر (عليه السلام) الجدار لكي يبقى الكنز محفوظاً، حتَّى يبلغ اليتيمان، ويستخرجاه.
وهلمَّ معي لنقرأ درساً بليغاً ألقته السماء، ورواه لنا الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال: «لَـمَّا أَقَامَ اَلْعَالِمُ اَلْجِدَارَ أَوْحَى اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى مُوسَى (عليه السلام): أَنِّي مُجَازِي اَلْأَبْنَاءِ بِسَعْيِ اَلْآبَاءِ إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، لَا تَزْنُوا فَتَزْنِيَ نِسَاؤُكُمْ، وَمَنْ وَطِئَ فِرَاشَ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ وُطِئَ فِرَاشُهُ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ»(١٦٧).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦٦) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٢٥) باختصار.
(١٦٧) الكافي (ج ٥/ ص ٥٥٣/ باب أنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه/ ح ١).

↑صفحة ٩٠↑

إنَّ ظاهر أكثر الروايات أنَّ الأب الصالح كان أباهما الأقرب، ولكن في بعض الروايات أنَّه كان الأب العاشر، وفي بعضها: السابع، وفي بعضها: بينهما وبينه سبعون أباً، وفي بعضها: كان بينهما وبينه سبعمائة سنة(١٦٨).
فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ يَحْفَظُ وُلْدَ اَلمُؤْمِنِ لِأَبِيهِ إِلَى أَلْفِ سَنَةٍ، وَ إِنَّ اَلْغُلَامَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَبَوَيْهِمَا سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ»(١٦٩).
وروي: «إِنَّ اَللهَ لَيُصْلِحُ بِصَلَاحِ اَلرَّجُلِ اَلمُؤْمِنِ وُلْدَهُ وَوُلْدَ وُلْدِهِ، وَيَحْفَظُهُ فِي دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَلَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اَلله لِكَرَامَتِهِ عَلَى اَلله، ثُمَّ ذَكَرَ اَلْغُلَامَيْنِ فَقَالَ: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ [الكهف: ٨٢]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اَللهَ شَكَرَ صَلَاحَ أَبَوَيْهِمَا لَهُمَا؟»(١٧٠).
الكنز:
كان الكنز ليتيمين، وقد وُضِعَ تحت الجدار، ومتى انهدم الجدار سيظهر الكنز، وستكون عاقبة ذلك ضياعه.
لا شكَّ - عزيزي القارئ - أنَّك بدأت ترسم في مخيِّلتك صورة لهذا الكنز الثمين الذي استدعى بناء الجدار، بل إنَّ المتبادر للأذهان عند سماع كلمة (كنز) مدَّخر ليتيمين أنَّه كان مجموعة من الدراهم والدنانير، وبعبارة أُخرى: لا بدَّ أنْ يكون مالاً ادَّخره الوالد لولديه.
ولكي ترفع الروايات الشريفة هذا التوهُّم أوضحت أنَّ هذا الكنز لم يكن كنزاً مادّيًّا بقدر ما كان كنزاً معنويًّا.
لقد كان الكنز مجموعة من العبارات الحَكميَّة كُتِبَت على لوح من ذهب،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٦٨) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٥٦) باختصار.
(١٦٩) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٩/ ح ٧٠).
(١٧٠) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٧/ ح ٦٣).

↑صفحة ٩١↑

والذي أعطاه تلك القيمة جانبه المعنوي لا كونه ذهباً، ولهذا فإنَّ بعض الروايات نفت كونه ذهباً أو فضَّةً، إشارة إلى عدم كونه دراهم أو دنانير كما هو المتبادر.
والعبارات المكتوبة إمَّا أنْ تكون مجموعة من الحِكَم، أو تكون حديثاً قدسيًّا كُتِبَ على ذلك اللوح.
والروايات في نصِّ العبارات متعدِّدة، ويُلاحَظ أنَّها تدور في مضمار واحد، فهي وإنْ تعدَّدت إلَّا أنَّ مفادها متقارب، وأكثرها متَّفق في كلمة التوحيد، ومسألتي الموت والقدر(١٧١)، ومنها:
١ - روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «كَانَ ذَلِكَ اَلْكَنْزُ لَوْحاً مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ: بِسْمِ اَلله، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَلله، وَاَلْأَئِمَّةُ حُجَجُ اَلله، عَجَبٌ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اَلمَوْتَ حَقٌّ كَيْفَ يَفْرَحُ، عَجَبٌ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَفْرَقُ، عَجَبٌ لِمَنْ يَذْكُرُ اَلنَّارَ كَيْفَ يَضْحَكُ، عَجَبٌ لِمَنْ يَرَى اَلدُّنْيَا وَتَصَرُّفَ أَهْلِهَا حَالاً بَعْدَ حَالٍ كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا»(١٧٢).
٢ - روي عن الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «كَانَ فِي اَلْكَنْزِ اَلَّذِي قَالَ اَللهُ: ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ [الكهف: ٨٢]، لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ: بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى اَلدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَرْكَنُ إِلَيْهَا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧١) تفسير الميزان (ج ١٣/ ص ٣٥٨).
(١٧٢) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٤٠)؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذا الحديث ذُكِرَ في التفسير الصافي (ج ٣/ ص ٢٥٧)، وقد ذُكِرَ أنَّ مصدره هو تفسير القمِّي، ولكن لوحظ عليه عدم ذكره لعبارة، وهي: (وَاَلْأَئِمَّةُ حُجَجُ اَلله) بعد ذكر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك أُبدلت كلمة (عجب) بـ (عجبت)، وهذه ليست العثرة الوحيدة، وقد يكون عدم الذكر من باب الغفلة عند المؤلِّف أو الطابع، فإنَّ العصمة لأهلها، والله الهادي.

↑صفحة ٩٢↑

وَيَنْبَغِي لِمَنْ عَقَلَ عَنِ اَلله أَنْ لَا يَتَّهِمَ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَضَائِهِ، وَلَا يَسْتَبْطِئَهُ فِي رِزْقِهِ»(١٧٣).
٣ - رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ اَلْجَمَّالِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اَلله: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ [الكهف: ٨٢]، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ مَا كَانَ ذَهَباً وَلَا فِضَّةً، وَإِنَّمَا كَانَ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ: إِنِّي أَنَا اَللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ لَمْ تَضْحَكْ سِنُّهُ، وَمَنْ أَقَرَّ بِالْحِسَابِ لَمْ يَفْرَحْ قَلْبُهُ، وَمَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ لَمْ يَخْشَ إِلَّا رَبَّهُ»(١٧٤).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧٣) قرب الإسناد (ص ٣٧٥/ ح ١٣٣٠)، تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٨ و٣٣٩/ ح ٦٧)، وهذه الرواية نُقِلَت في الكافي (ج ٢/ ص ٥٩/ باب فضل اليقين/ ح ٩) دون ذكر كلمة (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَلله).
(١٧٤) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٨/ ح ٦٦)، الكافي (ج ٢/ ص ٥٨/ باب فضل اليقين/ ح ٦).

↑صفحة ٩٣↑

وصايا قبل الفراق:
ذكرت الروايات عدَّة وصايا ألقاها الخضر (عليه السلام) على مسامع موسى(عليه السلام)، وربَّما وجدنا اختلافاً في المضامين، ولعلَّ ذلك راجع إلى أنَّ بعضها تناول جانباً خاصًّا من الوصايا بينما تناول بعضها الآخر جانباً آخر، أو أنَّ اختلاف الوصايا المذكورة في الروايات لتعدُّد المواقف، وهذا ما تُشعِر به ألفاظ الروايات، فقد ورد في بعضها: «لَـمَّا فَارَقَ مُوسَى اَلْخِضْرَ»، وفي بعضها: «آخِرُ مَا أَوْصَى بِهِ اَلْخِضْرُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ»، وفي بعضها: «إِنَّ مُوسَى (عليه السلام) لَقِيَ اَلْخِضْرَ (عليه السلام)، فَقَالَ: أَوْصِنِي».
وتجدر الإشارة إلى أنَّ كُتُب العامَّة لا تمتلك روايةً تذكر الوصايا، فلا يعدو ما ذكروه أنْ يكون قولاً لبعض علمائهم، ولهذا أعرضت عنه، واقتصرت على ما جاء عن أهل العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم)، وسأبدأ بما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
١ - روي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أَنَّ مُوسَى (عليه السلام) لَقِيَ اَلْخَضِرَ (عليه السلام)، فَقَالَ: أَوْصِنِي.
فَقَالَ اَلْخَضِرُ: يَا طَالِبَ اَلْعِلْمِ، إِنَّ اَلْقَائِلَ أَقَلُّ مَلَالَةً مِنَ اَلمُسْتَمِعِ، فَلَا تُمِلَّ جُلَسَاءَكَ إِذَا حَدَّثْتَهُمْ، وَاِعْلَمْ أَنْ قَلْبَكَ وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَا ذَا تَحْشُو بِهِ وِعَاءَكَ، وَاِعْرِفِ اَلدُّنْيَا وَاِنْبِذْهَا وَرَاءَكَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ بِدَارٍ، وَلَا لَكَ فِيهَا مَحَلُّ قَرَارٍ، وَإِنَّهَا جُعِلَتْ بُلْغَةً لِلْعِبَادِ لِيَتَزَوَّدُوا مِنْهَا لِلْمَعَادِ. يَا مُوسَى، وَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى اَلصَّبْرِ تَلْقَ اَلْحِلْمَ، وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ بِالتَّقْوَى تَنَلِ اَلْعِلْمَ، وَرُضْ نَفْسَكَ عَلَى اَلصَّبْرِ

↑صفحة ٩٥↑

تَخَلَّصْ مِنَ اَلْإِثْمِ. يَا مُوسَى، تَفَرَّغْ لِلْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ فَإِنَّمَا اَلْعِلْمُ لِمَنْ تَفَرَّغَ لَهُ، وَلَا تَكُونَنَّ مِكْثَاراً بِالمَنْطِقِ مِهْذَاراً، إِنَّ كَثْرَةَ اَلمَنْطِقِ تَشِينُ اَلْعُلَمَاءَ، وَتُبْدِي مَسَاوِئَ اَلسُّخَفَاءِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِذِي اِقْتِصَادٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ اَلتَّوْفِيقِ وَاَلسَّدَادِ، وَأَعْرِضْ عَنِ اَلْجُهَّالِ، وَاُحْلُمْ عَنِ اَلسُّفَهَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلُ اَلْحُلَمَاءِ وَزَيْنُ اَلْعُلَمَاءِ، وَإِذَا شَتَمَكَ اَلْجَاهِلُ فَاسْكُتْ عَنْهُ سِلْماً، وَجَانِبْهُ حَزْماً، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ جَهْلِهِ عَلَيْكَ وَشَتْمِهِ إِيَّاكَ أَكْثَرَ. يَا اِبْنَ عِمْرَانَ، لَا تَفْتَحَنَّ بَاباً لَا تَدْرِي مَا غَلَقُهُ، وَلَا تُغْلِقَنَّ بَاباً لَا تَدْرِي مَا فَتْحُهُ. يَا اِبْنَ عِمْرَانَ، مَنْ لَا يَنْتَهِي مِنَ اَلدُّنْيَا نَهْمَتَهُ وَلَا تَنْقَضِي فِيهَا رَغْبَتُهُ كَيْفَ يَكُونُ عَابِداً؟ وَمَنْ يُحَقِّرُ حَالَهُ وَيَتَّهِمُ اَللهَ بِمَا قَضَى لَهُ كَيْفَ يَكُونُ زَاهِداً؟ يَا مُوسَى، تَعَلَّمْ مَا تَعَلَّمُ لِتَعْمَلَ بِهِ وَلَا تَعَلَّمْ لِتُحَدِّثَ بِهِ فَيَكُونَ عَلَيْكَ بُورُهُ، وَيَكُونَ عَلَى غَيْرِكَ نُورُهُ»(١٧٥).
٢ - وروي عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام)، قَالَ: «كَانَ آخِرُ مَا أَوْصَى بِهِ اَلْخَضِرُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام) أَنْ قَالَ لَهُ: لَا تُعَيِّرَنَّ أَحَداً بِذَنْبٍ، وَإِنَّ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) ثَلَاثَةٌ: اَلْقَصْدُ فِي اَلْجِدَةِ، وَاَلْعَفْوُ فِي اَلمَقْدُرَةِ، وَاَلرِّفْقُ بِعِبَادِ اَلله، وَمَا رَفَقَ أَحَدٌ بِأَحَدٍ فِي اَلدُّنْيَا إِلَّا رَفَقَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَرَأْسُ اَلْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى»(١٧٦).
٣ - وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال في ضمن حديث له: «وَلَـمَّا فَارَقَهُ - أي الخضر - مُوسَى، قَالَ لَهُ مُوسَى: أَوْصِنِي.
فَقَالَ اَلْخَضِرُ: «اِلْزَمْ مَا لاَ يَضُرُّكَ مَعَهُ شَيْءٌ كَمَا لَا يَنْفَعُكَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْءٌ، وَإِيَّاكَ وَاَللَّجَاجَةَ، وَاَلمَشْيَ إِلَى غَيْرِ حَاجَةٍ، وَاَلضَّحِكَ فِي غَيْرِ تَعَجُّبٍ. يَا اِبْنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧٥) بحار الأنوار (ج ١/ ص ٢٢٦ و٢٢٧/ ح ١٨)، عن منية المريد (ص ١٤٠ و١٤١).
(١٧٦) الخصال (ص ١١١/ ح ٨٣).

↑صفحة ٩٥↑

عِمْرَانَ، لَا تُعَيِّرَنَّ أَحَداً بِخَطِيئَةٍ، وَاِبْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ»(١٧٧)، وروي: «وَاُذْكُرْ خَطِيئَتَكَ، وَإِيَّاكَ وَخَطَايَا اَلنَّاسِ»(١٧٨).
٤ - وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «قَالَ اَلْخَضِرُ لِمُوسَى (عليه السلام): يَا مُوسَى، إِنَّ أَصْلَحَ يَوْمَيْكَ اَلَّذِي هُوَ أَمَامَكَ، فَانْظُرْ أَيُّ يَوْمٍ هُوَ، وَأَعِدَّ لَه اَلْجَوَابَ، فَإِنَّكَ مَوْقُوفٌ وَمَسْؤُولٌ، وَخُذْ مَوْعِظَتَكَ مِنَ اَلدَّهْرِ، فَإِنَّ اَلدَّهْرَ طَوِيلٌ قَصِيرٌ، فَاعْمَلْ كَأَنَّكَ تَرَى ثَوَابَ عَمَلِكَ، لِيَكُونَ أَطْمَعَ لَكَ فِي اَلْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَا هُوَ آتٍ مِنَ اَلدُّنْيَا كَمَا هُوَ قَدْ وَلَّى مِنْهَا»(١٧٩).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٧٧) قَصَص الأنبياء للراوندي (ص ١٦٠/ ح ١٧١).
(١٧٨) أمالي الصدوق (ص ٤٠١/ ح ٥١٧/١١).
(١٧٩) الكافي (ج ٢/ ص ٤٥٩/ باب محاسبة العمل/ ح ٢٢).

↑صفحة ٩٦↑

وللطير معهما قصَّة:
وأقبل طائر نحو الخضر وموسى (عليهما السلام)، ومارس أمامهما عمليَّة رمزيَّة، حملت في طيَّاتها درساً بليغاً.
وقد تعدَّدت الروايات التي تعرَّضت لذكره، وقد يكون ذلك ناشئاً من تعدُّد المواقف، فكان في كلِّ مرَّة يُعطي معنًى معرفيًّا يختلف عن الآخر، وربَّما كان أعمق من سابقه، وسأذكر بعضاً من تلك الروايات:
١ - روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَـمَّا لَقِيَ مُوسَى اَلْعَالِمَ كَلَّمَهُ وَسَاءَلَهُ، نَظَرَ إِلَى خُطَّافٍ يَصْفِرُ وَيَرْتَفِعُ فِي اَلسَّمَاءِ وَيَتَسَفَّلُ فِي اَلْبَحْرِ، فَقَالَ اَلْعَالِمُ لِمُوسَى: أَتَدْرِي مَا يَقُولُ هَذَا اَلْخُطَّافُ؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: وَرَبِّ اَلسَّمَاءِ وَرَبِّ اَلْأَرْضِ، مَا عِلْمُكُمَا فِي عِلْمِ رَبِّكُمَا إِلَّا مِثْلَ مَا أَخَذْتُ بِمِنْقَارِي مِنْ هَذَا اَلْبَحْرِ».
قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «أَمَا لَوْ كُنْتُ عِنْدَهُمَا لَسَأَلْتُهُمَا عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمَا فِيهَا عِلْمٌ»(١٨٠).
٢ - روي عن عبد المَلِك بن سليمان أنَّه قال: وُجِدَ فِي ذَخِيرَةِ أَحَدِ حَوَارِيِّ اَلمَسِيحِ (عليه السلام) رَقٌّ مَكْتُوبٌ بِالْقَلَمِ اَلسُّرْيَانِيِّ مَنْقُولٌ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ: أَنَّهُ لَـمَّا تَشَاجَرَ مُوسَى وَاَلْخَضِرُ فِي قَضِيَّةِ اَلسَّفِينَةِ وَاَلْجِدَارِ وَاَلْغُلَامِ، وَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، سَأَلَهُ [أَخُوهُ] هَارُونُ عَمَّا اِسْتَعْمَلَهُ مِنَ اَلْخَضِرِ [فِي اَلسَّفِينَةِ]، وَشَاهَدَهُ مِنْ عَجَائِبِ اَلْبَحْرِ، فَقَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَاَلْخَضِرُ عَلَى شَاطِئِ اَلْبَحْرِ إِذْ سَقَطَ بَيْنَ أَيْدِينَا طَائِرٌ، فَأَخَذَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨٠) بصائر الدرجات (ص ٢٥٠/ ج ٥/ باب ٦/ ح ٢).

↑صفحة ٩٧↑

فِي مِنْقَارِهِ قَطْرَةً مِنْ مَاءِ اَلْبَحْرِ وَرَمَى بِهَا نَحْوَ اَلمَشْرِقِ، ثُمَّ أَخَذَ ثَانِيَةً وَرَمَى بِهَا نَحْوَ اَلمَغْرِبِ، ثُمَّ أَخَذَ ثَالِثَةً وَرَمَى بِهَا نَحْوَ اَلسَّمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَ رَابِعَةً وَرَمَى بِهَا نَحْوَ اَلْأَرْضِ، ثُمَّ أَخَذَ خَامِسَةً وَعَادَهَا إِلَى اَلْبَحْرِ، فَبُهِتْنَا لِذَلِكَ، [قَالَ مُوسَى]: وَسَأَلْتُ اَلْخَضِرَ [عَنْ ذَلِكَ]، فَلَمْ يُجِبْ، وَإِذَا نَحْنُ بِصَيَّادٍ يَصْطَادُ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا وَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمَا فِي فِكْرٍ مِنَ اَلطَّائِرِ وَتَعَجُّبٍ؟ فَقُلْنَا: هُوَ ذَاكَ، فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ صَيَّادٌ وَقَدْ فَهِمْتُ إِشَارَتَهُ وَأَنْتُمَا نَبِيَّانِ وَلَا تَعْلَمَانِ؟! فَقُلْنَا: لَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنَا اَللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَقَالَ: هَذَا طَائِرٌ فِي اَلْبَحْرِ يُسَمَّى (مُسْلِماً)، أَشَارَ بِرَمْيِ اَلمَاءِ مِنْ مِنْقَارِهِ إِلَى نَحْوِ اَلمَشْرِقِ وَاَلمَغْرِبِ وَاَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ وَرَمْيِهِ فِي اَلْبَحْرِ إِلَى أَنَّهُ يَأْتِي فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ نَبِيٌّ يَكُونُ عِلْمُ أَهْلِ اَلمَشْرِقِ وَاَلمَغْرِبِ وَأَهْلِ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ عِنْدَ عِلْمِهِ مِثْلَ هَذِهِ اَلْقَطْرَةِ اَلمُلْقَاةِ فِي اَلْبَحْرِ، وَيَرِثُ عِلْمَهُ اِبْنُ عَمِّهِ وَوَصِيُّهُ، فَسَكَنَ مَا كُنَّا فِيهِ مِنَ اَلمُشَاجَرَةِ، وَاِسْتَقَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا عِلْمَهُ بَعْدَ مَا كُنَّا مُعْجَبِينَ بِأَنْفُسِنَا، [وَمَشَيْنَا]، ثُمَّ غَابَ اَلصَّيَّادُ عَنَّا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَلَكٌ بَعَثَهُ اَللهُ تَعَالَى إِلَيْنَا يُعِرِّفُنَا نَقْصَنَا حَيْثُ اِدَّعَيْنَا اَلْكَمَالَ»(١٨١).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨١) المحتضر (ص ١٨٠ و١٨١/ ح ٢١٦)؛ ورواه العلَّامة المجلسي (رحمه الله) بتفاوت يسير في بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٣١٢ و٣١٣/ ح ٥٢).

↑صفحة ٩٨↑

قبسات مضيئة:
النبيُّ يتعلَّم!
لقد شغلت هذه المسألة أذهان كثير من الباحثين، فالمتعلِّم واحد ممَّن يمتلك مقاماً إلهيًّا شامخاً، فهو الكليم، والمخصوص بالتوراة، فهل يا ترى كان العبد الصالح أفضل منه ليتعلَّم منه، أم أنَّ المسألة لا علاقة لها بالمفاضلة؟
أعلم أنَّ المسألة شائكة، ولكن فيما روي عن أهل البيت (عليهم السلام) ما يجلو كلَّ ظلمة، وفي كلام العلماء ما يزيح الأستار أمام العقول لتُدرك المعنى الحقيقي، وتضع القضيَّة في موقعها المناسب، وسأبدأ بالروايات، فتأمَّل مضامينها.
الروايات:
- روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «كَانُ مُوسَى أَعْلَمَ مِنَ اَلْخِضْرِ»(١٨٢).
- وروي عنه (عليه السلام): «وَكَانَ مُوسَى أَعْلَمَ مِنَ اَلَّذِي اِتَّبَعَهُ»(١٨٣).
- وروي عنه (عليه السلام): «لِأَنَّهُ - أي الخضر - صَارَ فِي اَلْوَقْتِ مُخْبِراً، وَكَلِيمُ اَلله مُوسَى (عليه السلام) مُخْبَراً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقٍ لِلْخَضِرِ (عليه السلام) لِلرُّتْبَةِ عَلَى مُوسَى (عليه السلام)، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ اَلْخَضِرِ، بَلْ كَانَ لاِسْتِحْقَاقِ مُوسَى لِلتَّبْيِينِ»(١٨٤).
إنَّ آخر هذه الرواية يستحقُّ التركيز والتوقُّف، وجدير بنا التأمُّل فيما علَّق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨٢) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٠/ ح ٤٣).
(١٨٣) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣٤/ ح ٤٩).
(١٨٤) علل الشرائع (ج ١/ ص ٦١/ باب ٥٤/ ح ١).

↑صفحة ٩٩↑

به العلَّامة المجلسي (رحمه الله) حيث قال: (المعنى أنَّه كان الغرض تعليم موسى لا كون الخضر حجَّة عليه، وأفضل منه، وكون موسى (عليه السلام) رعيَّة له، بل كان واسطة كالمَلَك)(١٨٥).
مع العلماء في كلماتهم:
الشيخ المفيد (رحمه الله):
إنَّ موسى اتَّبع الخضر قبل أنْ يُنبَّأ ويُبعَث، وهو إذ ذاك يطلب العلم ويلتمس الفضل فيه، فلمَّا كلَّمه الله وانتهى من الفضل في العبادة والعلم إلى الغاية التي بلغها، بعثه الله تعالى رسولاً، واختاره كليماً نبيًّا. وليس اتِّباع الأنبياءِ العلماءَ قبل نبوَّتهم قدح فيهم، ولا منفِّر عنهم، ولا شين لهم، ولا مانع من بعثتهم واصطفائهم.
ولو كان موسى (عليه السلام) اتَّبع الخضر بعد بعثته لم يكن ذلك أيضاً قادحاً في نبوَّته، لأنَّه لم يتبعه لاستفادته منه علم شريعته، وإنَّما اتَّبعه ليعرف باطن أحكامه التي لا يخلُّ فقد علمه بها، لكماله في علم ديانته(١٨٦).
الشريف المرتضى (رحمه الله):
ليس يمتنع أنْ يكون الله تعالى قد أعلم هذا العالم ما لم يُعلِمه موسى، وأرشد موسى (عليه السلام) إليه ليتعلَّم منه، وإنَّما المنكر أنْ يحتاج النبيُّ (عليه السلام) في العلم إلى بعض رعيَّته المبعوث إليهم، فأمَّا أنْ يفتقر إلى غيره ممَّن ليس له برعيَّة فجائز، وما تعلَّمه من هذا العالم إلَّا كتعلُّمه من المَلَك الذي يهبط عليه بالوحي، وليس في هذا دلالة على أنَّ ذلك العالم كان أفضل من موسى في العلم، لأنَّه لا يمتنع أنْ يزيد موسى في سائر العلوم التي هي أفضل وأشرف ممَّا علمه(١٨٧).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨٥) بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٢٩١)، وهذا أحد معنيين ذكرهما صاحب (البحار) (رحمه الله).
(١٨٦) المسائل العكبريَّة (ص ٣٤).
(١٨٧) تنزيه الأنبياء (ص ١١٩).

↑صفحة ١٠٠↑

الشيخ الطبرسي (رحمه الله):
يجوز أنْ يكون الخضر خُصَّ بعلم ما لا يتعلَّق بالأداء، فاستعلم موسى من جهته ذلك العلم فقط، وإنْ كان موسى أعلم منه في العلوم التي يُؤدِّيها من قِبَل الله تعالى(١٨٨).
ويُؤيِّد هذا القول ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كَانَ عِنْدَ اَلْعَالِمِ عِلْمٌ لَمْ يُكْتَبْ لِمُوسَى فِي اَلْأَلْوَاحِ، وَكَانَ مُوسَى يَظُنُّ أَنَّ جَمِيعَ اَلْأَشْيَاءِ اَلَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْها فِي تَابُوتِهِ، وَجَمِيعَ اَلْعِلْمِ قَدْ كُتِبَ لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ»(١٨٩).
العلَّامة المجلسي (رحمه الله):
لا ينافي نبوَّة موسى (عليه السلام) وكونه صاحب شريعة أنْ يتعلَّم من غيره ما لم يكن شرطاً في أبواب الدِّين، فإنَّ الرسول ينبغي أنْ يكون أعلم ممَّن أُرسل إليه فيما بُعِثَ به من أُصول الدِّين وفروعه لا مطلقاً(١٩٠).
السيِّد نعمة الله الجزائري (رحمه الله):
إنَّ الخضر (عليه السلام) كان من الأنبياء، فزيادة نبيٍّ على نبيٍّ في طرف من العلم، وذلك النبيُّ الآخر يزيد عليه فيما لا يتناهى من العلوم والكمال لا قدح فيه.
على أنَّ الله سبحانه إذا أراد أنْ يبتلي بعض الأنبياء في مثل هذه الأُمور كما سيأتي في حديث الطير وعلمه الزائد عليهما لا إشكال فيه(١٩١).
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله):
ينبغي أنْ يكون - أي النبيُّ - أعلم فيما يتعلَّق بمهمَّته، يعني الأعلم بالنظام التشريعي، وموسى (عليه السلام) كان كذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٨٨) مجمع البيان (ج ٦/ ص ٣٦٧ و٣٦٨).
(١٨٩) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٣١/ ح ٤٦)، الاختصاص (ص ٢٥٨).
(١٩٠) بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٢٨٣).
(١٩١) قَصَص الأنبياء (ص ٢٩٣).

↑صفحة ١٠١↑

أمَّا الرجل العالم (الخضر) فهو - كما سيأتي -، كانت له مهمَّة تختلف عن مهمَّة موسى (عليه السلام) ولا ترتبط بعالم التشريع، أي إنَّ الرجل العالم كان يعرف من الأسرار ما لا تعتمد عليه دعوة النبوَّة.
وفي حديث جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «كَانَ مُوسَى أَعْلَمَ مِنَ اَلْخِضْرِ»، أي أعلم منه في علم الشرع(١٩٢).
لماذا اختلفت وجهات النظر؟
الشيخ المفيد (رحمه الله):
وأمَّا إنكاره (عليه السلام) خرق السفينة وقتل الطفل فلم يُنكِره على كلِّ حالٍ، وإنَّما أنكر الظاهر منه ليعلم باطن الحال منه، وقد كان منكراً في ظاهر الحال، وذلك جارٍ مجرى قبول الأنبياء (عليهم السلام) شهادات العدول في الظاهر وإنْ كانوا كذبة في الباطن وعند الله، وإقامة الحدود بالشهادات وإنْ كان المحدودون بُراء في الباطن وعند الله(١٩٣).
السيِّد ابن طاوس (رحمه الله):
- فكان للخضر أنْ يعمل بعلمه بباطن الحال، وكان لموسى (عليه السلام) أنْ يُنكِر، لأنَّ الذي وقع في الظاهر كالمنكر، فكانا معذورين.
- إنَّ موسى لم يكن رعيَّة للخضر يجب عليه طاعته، وإنَّما كان رفيقاً وصاحباً موافقاً(١٩٤).
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله):
إنَّ في هذا العالم نظامين، وهما: النظام التكويني، والنظام التشريعي، وهما يتناسقان في الأُصول الكلّيَّة، ويفترقان في الجزئيَّات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٢) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٤١).
(١٩٣) المسائل العكبريَّة (ص ٣٥).
(١٩٤) الطرائف (ص ١٩٧).

↑صفحة ١٠٢↑

فمثلاً نرى أنَّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان بسلب النعمة من الإنسان بسبب عدم شكره، كأنْ تغرق أمواله في البحر، أو أنْ يصاب بهذه الأموال، أو أنْ يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربِّه على نعمة السلامة...
والسؤال هنا: هل يستطيع أحد من الناحية الفقهيَّة والتشريعيَّة أنْ يسلب النعمة من الآخرين، أو يُنزل الضرر بسلامتهم وصحَّتهم بسبب عدم شكرهم، وبدعوى ابتلائهم؟
فإذاً هناك نظامان تكويني وتشريعي خاضعان لله سبحانه وتعالى، ولهذا فليس من مانع في أنْ يأمر الله تعالى مجموعة بأنْ تُطبِّق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو من البشر (كالخضر مثلاً) بأنْ يُطبِّقوا النظام التكويني.
فمن وجهة النظام التكويني لا يوجد أيُّ مانع في أنْ يبتلي الله طفلاً غير بالغ بحادثة معيَّنة، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأنَّ أخطاراً كبيرة تحيط الوجود المستقبلي لهذا الطفل، كما أنَّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمُّ لمصلحة معيَّنة، كالامتحان والابتلاء وغير ذلك.
وبعبارة أُخرى: إنَّ مجموعة من أوليائه وعباده مكلَّفون في هذا العالم بالبواطن، بينما المجموعة الأُخرى مكلَّفون بالظواهر، والمكلَّفون بالبواطن لهم ضوابط وأُصول وبرامج خاصَّة بهم، مثلما للمكلَّفين بالظواهر ضوابطهم وأُصولهم الخاصَّة بهم أيضاً.
صحيح أنَّ الخطَّ العامَّ لهذين البرنامجين يوصل الإنسان إلى الكمال، وهما متناسقان من حيث القواعد الكلّيَّة، إلَّا أنَّهما يفترقان في التفاصيل والجزئيَّات.
وبالطبع لا يستطيع أحد أنْ يعمل كما يحلو له ضمن هذين الخطَّين، بل يجب أنْ يحصل على إجازة المالك القادر الحكيم الخالق (جلَّ وعلا)، لذا رأينا الخضر (العالم الكبير) يُوضِّح هذه الحقيقة بصراحة قائلاً: ﴿مَا فَعَلْتُهُ عَنْ

↑صفحة ١٠٣↑

أَمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢]، بل إنِّي خطوت الخطوات وفقاً للبرنامج الإلهي والضوابط التي كانت موضوعة لي.
وهكذا سيزول التعارض، وتنتفي المشكلات المثارة حول مواقف الخضر (عليه السلام) في الحوادث الثلاث.
وسيتَّضح أنَّ سبب عدم تحمُّل موسى (عليه السلام) لأعمال الخضر (عليه السلام) يعود إلى أنَّ مهمَّة موسى (عليه السلام) كانت تختلف عن مهمَّة الخضر (عليه السلام) في العالم، لذا فقد كان موسى يبادر إلى الاعتراض في كلِّ موقف للخضر يرى ظاهره مخالفاً لضوابط الشريعة، ولأنَّ وظيفة كلٍّ من هذين المبعوثين الإلهيَّين تختلف عن وظيفة الآخر ودوره المرسوم له إلهيًّا، لذلك لم يستطيعا العيش سويَّةً(١٩٥).
ويُؤيِّد هذا القول ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) حيث ذكر أنَّ موسى (عليه السلام) جاء للخضر (عليه السلام)، فقال الخضر (عليه السلام): مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِّي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً. قَالَ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِأَمْرٍ لَا تُطِيقُهُ، وَوُكِّلْتَ بِأَمْرٍ لَا أُطِيقُهُ(١٩٦).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٥) تفسير الأمثل (ج ٩/ ص ٣٣٣ - ٣٣٥) باختصار.
(١٩٦) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٣٢٩ و٣٣٠/ ح ٤١).

↑صفحة ١٠٤↑

دروس وعِبَر:
١ - دونك هذا الدرس الذي استخلصه ابن عبَّاس من هذه القصَّة، وألقاه على بعض من جاء له.
ويا له من درس رائع، لو وعته الأُمَّة لأبصرت رشدها، وعرفت خيرها.
لقد أرسل بعض أهل الشام - ممَّن يشتم أمير المؤمنين (عليه السلام) - رجلاً لابن عبَّاس؛ ليسأله عن مسائل.
وكان ابن عبَّاس جالساً على زمزم يُحدِّث، وجاءه الرجل ليفتح باب الحديث معه، فختم ابن عبَّاس كلامه برسالة حمَّله إيَّاها لمن أرسلوه، فقال:
إِنَّمَا مَثَلُ عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي هَذِهِ اَلْأُمَّةِ كَمَثَلِ اَلْعَبْدِ اَلصَّالِحِ اَلَّذِي قَالَ لَهُ مُوسَى: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ [الكهف: ٦٦]، وَيْحَكَ اِجْلِسْ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِمَا سَمِعْتُ وَحَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قَالَ:
«إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَـمَّا أَعْطَى مُوسَى اَلتَّوْرَاةَ وَعَلَّمَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ مُوسَى: أَنَا أَعْلَمُ اَلنَّاسِ، فَلَمَّا لَقِيَ اَلْخَضِرَ (عليه السلام) أَقَرَّ لَهُ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَحْسُدْهُ كَمَا حَسَدْتُمْ أَنْتُمْ عَلِيًّا (عليه السلام)»(١٩٧).

* * *

٢ - إنَّ هذه القصَّة توقفنا موقف التسليم أمام ما يردنا من كلام أهل البيت (عليهم السلام)، وما نقرأ من أفعالهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٧) شرح الأخبار (ج ٢/ ص ١٩٨ و١٩٩/ ح ٥٣١).

↑صفحة ١٠٥↑

إنَّنا نقف أمام أكابر المفكِّرين فنحتار في مقاصدهم، ولا نعرف غاياتهم، ومع ذلك نُسلِّم بأنَّ هناك هدفاً يريدون تحقيقه، ونحن غير مدركين له.
فما بالك إذا كنَّا نقف أمام أكمل العقول، ومن لا يُقاس سواهم بهم؟! ألَا يكون الأنسب بالعاقل أنْ يحترم عقله، ويقرَّ بضعفه، ولا يحسن الظنَّ بنفسه، بحيث ينصب نفسه قاضياً لمن هم أهل الكمال؟!
ولنستمع إلى خطاب الحسن الزكيِّ (عليه السلام) مع أبي سعيد متحدِّثاً عن سرِّ صلحه المبارك:
«يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِذَا كُنْتُ إِمَاماً مِنْ قِبَلِ اَلله تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُسَفَّهَ رَأْيِي فِيمَا أَتَيْتُهُ مِنْ مُهَادَنَةٍ أَوْ مُحَارَبَةٍ وَإِنْ كَانَ وَجْهُ اَلْحِكْمَةِ فِيمَا أَتَيْتُهُ مُلْتَبِساً، أَلَا تَرَى اَلْخَضِرَ (عليه السلام) لَـمَّا خَرَقَ اَلسَّفِينَةَ وَقَتَلَ اَلْغُلَامَ وَأَقَامَ اَلْجِدَارَ سَخِطَ مُوسَى (عليه السلام) فِعْلَهُ لِاشْتِبَاهِ وَجْهِ اَلْحِكْمَةِ عَلَيْهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ فَرَضِيَ؟
هَكَذَا أَنَا، سَخِطْتُمْ عَلَيَّ بِجَهْلِكُمْ بِوَجْهِ اَلْحِكْمَةِ فِيهِ، وَلَوْ لَا مَا أَتَيْتُ لَمَا تُرِكَ مِنْ شِيعَتِنَا عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ»(١٩٨).
وإذا أردت أنْ تعرف حقيقة المقارنة بين ما جرى من أمر الخضر وموسى (عليهما السلام) وما نعيشه نحن من أعمال الأئمَّة (عليهم السلام)، فدونك هذا الإيضاح، الذي يُعرِّفنا بالفرق بين عمل الخضر (عليه السلام) وعمل الأئمَّة (عليهم السلام).
فإنَّه الله سبحانه وتعالى عبَّر عمَّا علَّمه الخضر بصيغة النكرة، وقال: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥).
ومع ذلك قال لموسى: ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ (الكهف: ٧٢).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٨) علل الشرائع (ج ١/ ص ٢١١/ باب ١٥٩/ ح ٢).

↑صفحة ١٠٦↑

فلمَّا بيَّن له الحكمة في عمله، قال: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: ٨٢).
وهو - أي الإمام الحسن (عليه السلام) - إمام من الله، قائم مقام الذي يُنزل الله عليه الكتاب تبياناً لكلِّ شيء - أي قائم مقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) -، فهو عالم بما في هذا الكتاب.
فإذا كان خرق السفينة في البحر ممَّن علَّمه الله علماً مقروناً بالحكمة، فكيف بالصلح الذي صدر ممَّن عنده علم الكتاب(١٩٩)؟
ويُلخِّص لنا السيِّد الخونساري (رحمه الله) هذا الدرس بقوله: (ولهم في حركاتهم من أفعالهم وأقوالهم شؤوناً لا يعلمها غيرهم)(٢٠٠).

* * *

٣ - هناك درس قد استفاده سماحة الشيخ جعفر السبحاني (حفظه الله)، ورشح به قلمه، ولنفاسة هذا الدرس أحببت أنْ أنقله كما ذكره حفاظاً على قيمته:
يقودنا القرآن الكريم نحو مقام (الولاية) الرفيع، وشؤون وأُسلوب الهداية لدى أولياء القيادة، ويُثبِت بوضوح أنَّه من الممكن أنْ يقوم رجالُ الله تعالى، في وقت اختفائهم عن الأنظار، وإرشاد الناس.
القرآن الكريم يُعرِّف القيادة التي لم تكن معروفة، ولم يكونوا يعرفونها، حتَّى رسول ذلك العهد أيضاً لم تكن له معرفة بها، وإذا كان قد عرفها فإنَّما إثر معرفةٍ إلهيَّةٍ، وهذا الوليُّ أو القائد هو الذي يتحدَّث عنه الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم في سورة الكهف عن موسى وفتاه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩٩) منهاج الشيخ الوحيد الخراساني (حفظه الله) (ج ١/ ص ٣٣٩).
(٢٠٠) جامع المدارك (ج ٣/ ص ٣٠).

↑صفحة ١٠٧↑

﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥).
إنَّ من كان يملك مثلَ هذا العلم الواسع، هو صريح عبارة القرآن، يُعلِّم نبيَّ ووصيَّ ذلك الزمن، وهذا بالتأكيد من أولياء الله، وليس إنْ كان أوسع علماً، بل أقوى معنويَّةً، بحيث عندما يقول له موسى (عليه السلام): ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: ٦٦)، يُجيبه: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ (الكهف: ٦٧ و٦٨).
لا شكَّ أنَّ هذا الشخص من أولياء الله، والشخصيَّات الإلهيَّة البارزة.
إنَّ التحقيق في حالات (وليِّ الزمان) هذا، والعالم المجهول، خلال اللحظات الحسَّاسة من الحياة مع النبيِّ موسى عن ملامح من القيادة، منها:
١ - إنَّ (وليَّ الزمان) هذا كان يعيش بشكل مجهول، لا يعرفه أحد، وإنْ لم يُعرِّفه الله تعالى لما عرفه أحد، إذن فلا يُشترَط على الوليِّ أنْ يعرفه الناس حتماً.
٢ - إنَّ هذا الوليَّ الإلهي، مع أنَّه كان غائباً عن الأنظار ومتخفّياً، لم يكن غافلاً عن حوادث وأوضاع الزمن. وبالولاية والصلاحيَّة الممنوحة له من قِبَل الله سبحانه وتعالى كان يتصرَّف في أموال ونفوس الناس، ويتصرَّف طبقاً لما تقتضيه القيادة مع الأوضاع السائدة، إنَّه كان دقيقاً في قيادة الأحداث بحيث إنَّه لم يرتضِ أنْ تقع سفينة البؤساء وهي مصدر حياتهم بيد حاكم ظالم، فأحدث فيها عيباً لكي يمنع مصادرة السفينة. إنَّ صلاحيَّاته كانت لدرجة تُعطيه الحقَّ في قتل إنسان، وبناء جدار لصيانة أموال يتيم.
٣ - الطريف في الأمر ليس فقط أنَّه كان مجهولاً، وإنَّما تصرُّفاته أيضاً كانت غامضة على الناس العاديِّين، فلو أنَّ الناس وأصحاب السفينة كانوا على علمٍ بتصرُّفه لما سمحوا له بإحداث ثقب في السفينة، لأنَّهم ما كانوا يعلمون

↑صفحة ١٠٨↑

هدفه المقدَّس، ولو أنَّ الناس شاهدوا قتله لإنسانٍ لما تركوه وشأنه، و...، وبما أنَّه أنجز جميع هذه الأعمال العجيبة في المجتمع، ولم يلاحظ أحدٌ ذلك، إذن يمكن أنْ نفهم أنَّه ليس فقط غائباً عن الأنظار، وإنَّما حتَّى تصرُّفاته في الأوضاع والحوادث خفيَّة عن الناس، إنَّهم كانوا يرونَ أثر فعله وليس عمله.
٤ - أهمُّ من كلِّ شيء كانت قيادته وهدايته، فهو بامتلاكه لمقام الولاية كان يُؤدِّي واجباته، أحياناً يظهر أثرُ ولايته في التصرُّف بالأموال والنفوس، أو حجز وحراسة أموال الأيتام، وأحياناً عن طريق بناء الشخصيَّة وتعليم الأفراد يقوم بواجب ولايته المهمِّ، فيهدي ويقود أشخاصاً كموسى وفتاه.
نفهم جيِّداً من الحياة الحسَّاسة والهازَّة لهذا الوليِّ الإلهي، أنَّ (وليَّ الزمان) يكون أحياناً ظاهراً مكشوفاً، وأحياناً غائباً مخفيًّا، ويرتبط ذلك بمصالح وأوضاع الزمن.
كما أنَّنا نفهم أنَّ الهداية والقيادة وهما واجب الإمام والوليِّ يمكن أنْ يتمَّا بشكلين: علني وخفي، وليس ضروريًّا أنْ يُعرَف الإمامُ حتَّى يقوم بالهداية، بل إنَّه يقوم في حال غيابه وخفائه بواجبه المهمِّ...
وأوضح من كلِّ شيء أنَّ الهداية والقيادة - وهما من شؤون أولياء الله - يكونانِ أحياناً على شكلِ (بناء الفرد)، وأحياناً على شكل (بناء المجتمع)، وفي الشكل الأوَّل ليس ضروريًّا أنْ يعرف الجميع (وليَّ الله) أو يقوم بقيادة الجميع، وإنَّما في الظروف الخاصَّة التي لا يمكن فيها (بناء المجتمع) يقوم بـ (بناء الفرد).
إنَّ واجب الإمام (عليه السلام) في مرحلة الغيبة شبيه بواجب (الوليِّ في عصر موسى (عليه السلام))، فالإمام (عليه السلام) في حال الاختفاء يتدخَّل في شؤون الحياة الدنيويَّة والدِّينيَّة للناس، ويتَّصل بالأفراد الخاصِّين، ويعمل على بناء الفرد وتربية الشخصيَّات.

↑صفحة ١٠٩↑

فهل بعد معرفتنا لمثل هذه الواجبات أيحقُّ لنا أنْ نتساءل: ما فائدة وجود (وليِّ الزمن) هذا؟!
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: ٧٣).
ليس فقط أنَّه هذه الآية تدلُّ على أنَّ الهداية التي يقومون بها هي بأمر الله تعالى، وإنَّما تدلُّ على أنَّ أُسلوب هدايتهم أيضاً هي بأمر الله (عزَّ وجلَّ).
وأحياناً تقتضي إرادة الله أنْ يقوم هؤلاء في الخفاء بهداية الناس، وأحياناً أُخرى أنْ يخرجوا من وراء حجاب الغيب ليقوموا بهدايةٍ جماعيَّةٍ، إنَّ الهداية وأساليبها إنَّما هي بأمر الله (عزَّ وجلَّ)(٢٠١).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠١) عقائدنا الفلسفيَّة والقرآنيَّة (ص ٢٠١ - ٢٠٣).

↑صفحة ١١٠↑

الفصل السادس: وله مع إلياس قصَّة

* وحدة الأُمنية.
* وفي الموسم يلتقي الأولياء.
* تسبيح وسعي في الحوائج.

↑صفحة ١١١↑

وله مع إلياس قصَّة:
هناك علاقة بين الخضر وإلياس (عليهما السلام)، فهما يجتمعان في كلِّ موسم في عرفات، وهذا ليس مستغرَباً؛ إذ هما شخصان إلهيَّان أطال الله (عزَّ وجلَّ) في عمريهما(٢٠٢).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠٢) اختُلِفَ في إلياس، فقول: إنَّه رُفِعَ للسماء، وقول: إنَّه حيٌّ لا يموت إلى النفخة الأُولى؛ ويمكن الرجوع إلى تفاصيل ذلك في كُتُب التفسير، عند تعرُّضهم لآية (٨٥) من سورة الأنعام، وآية (١٢٣) من سورة الصافَّات.
وهناك رواية طويلة في الكافي (ج ١/ ص ٢٤٢ - ٢٤٧/ باب في شأن إنَّا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها/ ح ١) تشير إلى كونه من المعمَّرين الباقين حتَّى بعد ظهور الإسلام، حيث ذكرت لقاءً جمع بين إلياس والإمام الباقر (عليه السلام)، وهي:
عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ بْنِ اَلْحَرِيشِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلثَّانِي (عليه السلام)، قَالَ: «قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): بَيْنَا أَبِي (عليه السلام) يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إِذَا رَجُلٌ مُعْتَجِرٌ قَدْ قُيِّضَ لَهُ، فَقَطَعَ عَلَيْه أُسْبُوعَهُ حَتَّى أَدْخَلَه إِلَى دَارٍ جَنْبَ اَلصَّفَا، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَكُنَّا ثَلَاثَةً، فَقَالَ: مَرْحَباً يَا ابْنَ رَسُولِ اَلله، ثُمَّ وَضَعَ يَدَه عَلَى رَأْسِي وَقَالَ: بَارَكَ اَللهُ فِيكَ يَا أَمِينَ اَلله بَعْدَ آبَائِهِ. يَا أَبَا جَعْفَرٍ، إِنْ شِئْتَ فَأَخْبِرْنِي، وَإِنْ شِئْتَ فَأَخْبَرْتُكَ، وَإِنْ شِئْتَ سَلْنِي، وَإِنْ شِئْتَ سَأَلْتُكَ، وَإِنْ شِئْتَ فَاصْدُقْنِي، وَإِنْ شِئْتَ صَدَقْتُكَ، قَالَ: كُلَّ ذَلِكَ أَشَاءُ، قَالَ: فَإِيَّاكَ أَنْ يَنْطِقَ لِسَانُكَ عِنْدَ مَسْأَلَتِي بِأَمْرٍ تُضْمِرُ لِي غَيْرَهُ، قَالَ: إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ فِي قَلْبِه عِلْمَانِ يُخَالِفُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَإِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَبَى أَنْ يَكُونَ لَه عِلْمٌ فِيه اِخْتِلَافٌ، قَالَ: هَذِه مَسْأَلَتِي، وَقَدْ فَسَّرْتَ طَرَفاً مِنْهَا، أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا اَلْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ فِيه اِخْتِلَافٌ مَنْ يَعْلَمُهُ؟ قَالَ: أَمَّا جُمْلَةُ اَلْعِلْمِ فَعِنْدَ اَلله (جَلَّ ذِكْرُهُ)، وَأَمَّا مَا لَا بُدَّ لِلْعِبَادِ مِنْه فَعِنْدَ اَلْأَوْصِيَاءِ، قَالَ: فَفَتَحَ اَلرَّجُلُ عَجِيرَتَهُ وَاسْتَوَى جَالِساً وَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: هَذِهِ أَرَدْتُ، وَلَهَا أَتَيْتُ، زَعَمْتَ أَنَّ عِلْمَ مَا لَا اِخْتِلَافَ فِيه مِنَ اَلْعِلْمِ عِنْدَ اَلْأَوْصِيَاءِ، فَكَيْفَ يَعْلَمُونَهُ؟ قَالَ: كَمَا كَانَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يَعْلَمُهُ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ مَا كَانَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يَرَى، لأَنَّه كَانَ نَبِيًّا وَهُمْ مُحَدَّثُونَ، وَأَنَّه كَانَ يَفِدُ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) فَيَسْمَعُ اَلْوَحْيَ وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، سَآتِيكَ بِمَسْأَلَةٍ صَعْبَةٍ، أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا اَلْعِلْمِ مَا لَه لَا يَظْهَرُ كَمَا كَانَ يَظْهَرُ مَعَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ قَالَ: فَضَحِكَ أَبِي (عليه السلام) وَقَالَ: أَبَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُطْلِعَ عَلَى عِلْمِهِ إِلَّا مُمْتَحَناً لِلإِيمَانِ بِهِ، كَمَا قَضَى عَلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَلَا يُجَاهِدَهُمْ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَكَمْ مِنِ اِكْتِتَامٍ قَدِ اِكْتَتَمَ بِه حَتَّى قِيلَ لَهُ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: ٩٤]، وَأَيْمُ اَلله أَنْ لَوْ صَدَعَ قَبْلَ ذَلِكَ لَكَانَ آمِناً وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا نَظَرَ فِي اَلطَّاعَةِ وَخَافَ اَلْخِلَافَ فَلِذَلِكَ كَفَّ، فَوَدِدْتُ أَنَّ عَيْنَكَ تَكُونُ مَعَ مَهْدِيِّ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَاَلمَلَائِكَةُ بِسُيُوفِ آلِ دَاوُدَ بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ تُعَذِّبُ أَرْوَاحَ اَلْكَفَرَةِ مِنَ اَلْأَمْوَاتِ وَتُلْحِقُ بِهِمْ أَرْوَاحَ أَشْبَاهِهِمْ مِنَ اَلْأَحْيَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجَ سَيْفاً، ثُمَّ قَالَ: هَا إِنَّ هَذَا مِنْهَا، قَالَ: فَقَالَ أَبِي: إِي وَالَّذِي اِصْطَفَى مُحَمَّداً عَلَى اَلْبَشَرِ، قَالَ: فَرَدَّ اَلرَّجُلُ اِعْتِجَارَهُ، وَقَالَ: أَنَا إِلْيَاسُ، مَا سَأَلْتُكَ عَنْ أَمْرِكَ وبِي مِنْهُ جَهَالَةٌ غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اَلْحَدِيثُ قُوَّةً لِأَصْحَابِكَ...».

↑صفحة ١١٣↑

ومتى أدركا عصر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فلا بدَّ أنْ يكون لهما قرب من جنابه الأعظم، وأنْ يكونا تحت رايته وضمن موكبه، ولهذا قيل: الظاهر أنَّ الخضر وإلياس من الأوتاد، فهما ملاصقان لدائرة القطب(٢٠٣)، ويعنون بذلك الحجَّة المنتظَر (عجّل الله فرجه).
وحدة الأمنية:
يقال: تمنَّى الخضر وإلياس (عليهما السلام) على الله أربعة آلاف سنة أنْ يُعلِّمهما سورة الفاتحة، وسألاه فلم يُعطيا.
فلمَّا طال تضرُّعهما قال الله تعالى: تلك ذخيرة ادَّخرتها لأُمَّة محمّد، ولكن عليكما أنْ تشربا ماء الحياة؛ فإنْ شربتما (بقيتما) إلى وقت حبيبي محمّد.
ففعلا ذلك؛ فعاشا، فلمَّا بعث الله محمّداً أتيا إليه، فعلَّمهما الرسول، فقالا: الآن تمَّت النعمة لنا، فلا نريد الحياة، فقال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لَا تَفْعَلَا.. يَا خِضْرُ، عَلَيْكَ أَنْ تُعِينَ أُمَّتِي فِي اَلمَفَاوِزِ. وَيَا إِلْيَاسُ، عَلَيْكَ أَنْ تُعِينَ أُمَّتِي فِي اَلْبِحَارِ»(٢٠٤).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠٣) الأنوار النعمانيَّة (ج ١/ ص ٢٦١).
(٢٠٤) المخلاة (ص ٤٠٢).

↑صفحة ١١٤↑

وفي الموسم يلتقي الأولياء:
ذُكِرَ في الروايات أنَّهما يجتمعان في الموسم، ولم يُحدَّد يوم اجتماعهما ولا مكانه، ولكن هناك نقل صدَّره العلَّامة المجلسي (رحمه الله) بكلمة (قيل)، فقال: (يجتمعان في كلِّ يوم عرفة بعرفات)(٢٠٥).
إنَّ الروايات لم تُحدِّد سبب اجتماعهما، ولم تتعرَّض لمضمونه، وإنَّما تذكر أنَّ هناك اجتماعاً يتمُّ بينهما فقط.
وورد في بعض ما يُنقَل لمدَّعي اللقاء بإلياس (عليه السلام) أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يأخذ من علم الآخر، حيث سُئِلَ - كما سيأتي تفصيل الخبر -: فما يكون من حديثكما؟
فأجاب: يأخذ من شِعري وآخذ من شِعره(٢٠٦)، ثمّ يفترقان عن دعاء معيَّن ذكرته عدَّة روايات، وذُكِرَت له فوائدة عديدة.
والذي يبدو أنَّه لا يعني بالشِّعر الشِّعر المعروف، وإنَّما يعني به العلم، أو الكشف، أو الإلهام، لأنَّ القدماء يعدُّون الشِّعر نوعاً من الإلهام، أو الكشف، أو العلم، وقالت العرب: (ليت شِعري)، أي ليت علمي، أو ليتني علمت(٢٠٧).
تسبيح وسعي في الحوائج:
تحدَّثت الروايات عن عملين يقومان بهما، وهما:
الأوَّل: إرشاد الضائعين:
لقد قيل: إنَّ إلياس (عليه السلام) صاحب البراري، والخضر (عليه السلام) صاحب الجزائر، وقيل عكس هذا القول(٢٠٨).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠٥) بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٣٩٧).
(٢٠٦) بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٤٠٢).
(٢٠٧) لسان العرب (ج ٤/ ص ٤٠٩/ مادَّة شعر).
(٢٠٨) مجمع البيان (ج ٨/ ص ٣٢٩)، تفسير السمرقندي (ج ٣/ ص ١٤٣).

↑صفحة ١١٥↑

ولعلَّ في هذا إشارة إلى أنَّهما خفيران في تلك المناطق، فمن تاه في البراري فإنَّ معينه فيها أحدهما (عليهما السلام)، ومن تاه في الجزائر فإنَّ معينه وهاديه للجادَّة أحدهما (عليهما السلام).
الثاني: حضور مجالس الذِّكر:
روي أنَّ إلياس (عليه السلام) كان جالساً، فجاء إليه مَلَك الموت يقبض روحه، فجزع غاية الجزع، وبكى، فأوحى الله إلى مَلَك الموت: قل لعبدي: ما هذا الجزع والبكاء؟ أجزع على الدنيا أم على الموت؟
فقال إلياس: لا، إنَّما جزعي على فوت ذكر الله، حيث يذكرون ولا أكون معم فأذكر الله.
فأوحى الله تعالى إلى مَلَك الموت: أدخل روحه، فإنَّ عبدي يسأل الحياة لذكري لا لنفسه، دعه حتَّى يعيش في ذكري، ويرتع في رياضي مباحاً إلى آخر الدنيا، فالخضر وإلياس يُسبِّحان الله في الأرض، في مشارقها ومغاربها، يطلبان مجالس الذِّكر، فأيُّ مكانٍ علما فيه بذكر حضرا إليهم، وذكرا معهم، والله يُحِبُّ الذاكرين(٢٠٩).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٠٩) المخلاة (ص ٤٠١).

↑صفحة ١١٦↑

الفصل السابع: لقاءات مع الأصفياء

* في محضر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم).
* عند مغيب الشمس.
* على باب مدينة العلم.
* وصاح ناعياً لسيِّد الشهداء (عليه السلام).
* مع السجَّاد (عليه السلام) سائلاً ومسلِّياً.
* وجاء للباقر (عليه السلام) سائلاً.
* وكان للصادق (عليه السلام) رسولاً.
* الزائر الدائم للرضا (عليه السلام).
* الخضر مع إمام في صباه.
* وأصبح مؤنساً لصاحب الزمان (عجّل الله فرجه).
* الخضر في الأوتاد.

↑صفحة ١١٧↑

وجاء سائلاً في محضر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم):
لم تكن الساحة الإسلاميَّة لتخلو من إشراقات الخضر (عليه السلام)، بل وما كان ليدع الأُمَّة دون أنْ يُنبِّهها على عظيم المنَّة التي حظيت بها، فهذا معلِّم الروح الأمين بينهم، والحبل المتين عندهم.
لقد أطلَّ على الناس يوماً، وكان شاهد الحدث سيِّد الشهداء (عليه السلام)، وسيِّد الموقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قد حفَّ به أصحابه في المسجد الشريف.
وتكلَّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فقال: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا اَلْبَابِ رَجُلٌ طَوِيلٌ مِنْ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ، يَسْأَلُ عَمَّا يَعْنِيهِ».
خصائص لا تحار العين في البحث عنها، ولا تشتبه العقول فيها، وما عليهم إلَّا أنْ يمدُّوا عيونهم نحو الباب ليروا ذلك الشخص العظيم.
فلم يطل الانتظار، فهذا الرجل قد جاء مسلِّماً على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وجلس معهم.
لقد رأت العيون تصديق كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وبقيت الأسماع تنتظر سؤاله عمَّا يعنيه، لتشهد بصدق الكلام.
وتكلَّم الرجل فاستمع لما يقول:
يَا رَسُولَ اَلله، سَمِعْتُ اَللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣]، فَمَا اَلْحَبْلُ اَلَّذِي أَمَرَ اَللهُ تَعَالَى بِالْاِعْتِصَامِ بِهِ؟
سؤال محوري، ومطلب مهمٌّ، يستدعي لفت أنظار الحاضرين ليُدركوا أهمّيَّة السؤال.

↑صفحة ١١٩↑

لقد أطرق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مليًّا، ثمّ رفع رأسه، ويده تتحرَّك لتشير إلى عليِّ ابن أبي طالب (عليه السلام)، وقال: «هَذَا حَبْلُ اَلله، مَنِ اِسْتَمْسَكَ بِهِ نَجَا وَاِعْتَصَمَ فِي دُنْيَاهُ، وَلَمْ يَضِلَّ فِي آخِرَتِهِ».
لقد بلغ السائل إلى مراده، ولكنَّه لم يكتفِ بذلك، وما غادر الجمع حتَّى لفت الأنظار بتصرُّفاته، لقد وثب الرجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، واحتضنه من ورائه، وهو يقول: اِعْتَصَمْتُ بِحَبْلِ اَلله، وَحَبْلِ رَسُولِهِ ، وَحَبْلِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام).
ولم يُطِل الرجل المقام هناك، بل قام وخرج، فقام فلان وقال: يَا رَسُولَ اَلله، أَلْحَقُهُ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي؟
لقد أذن له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فلحق بالرجل، وطلب منه أنْ يستغفر له، فكان الجواب في غاية المتانة، فقد قال: قَالَ: أَفَهِمْتَ مَا قَالَ لِي رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وَمَا قُلْتُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَتَمَسَّكُ بِذَلِكَ اَلْحَبْلِ يَغْفِرُ اَللهُ لَكَ، وَإِلَّا فَلَا غَفَرَ اَللهُ لَكَ.
لقد عاد فلان وسؤال على شفتيه، فمن يكون هذا الرجل الغريب، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «هُوَ أَبُو اَلْعَبَّاسِ اَلْخَضِرُ»(٢١٠).
عند مغيب الشمس:
لم يشهد مسرح الحياة على مرِّ العصور وتداول الأيَّام مصاباً يشبه فقد خاتم الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلم)، حيث خفت صوت جبرئيل، وانقطع وحي السماء، وغاب سراج الهدى.
ولا شكَّ أنَّ هذا الحدث قد أمضَّ قلوب من عرفوا قدره، وأدركوا قيمة وجوده بين أظهرهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٠) الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (ص ١٠٣ و١٠٤/ ح ٩٣).

↑صفحة ١٢٠↑

فها هم بعد أنْ نعموا بالوجود المقدَّس، يرون الرحمة الواسعة قد غابت عن الأنظار، ويشاهدون اللسان المعبِّر عن الله (عزَّ وجلَّ) قد صمت بعد طول الحديث.
ولم يبقَ لهم من ذلك سوى جسمه الممدود، وجثمانه الذي سيُودِّعونه؛ كي يغيب عنهم.
لقد كانت تلك القلوب بحاجة لمن يُعزِّيها، ويأخذ بخواطرها، مسلِّياً ومشاركاً لهم في المصاب، وهذا ما قام به الخضر (عليه السلام) حينما اجتمع الصحابة حول ذلك الجسد المعظَّم.
فقد روي أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) لَـمَّا قُبِضَ أَحْدَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ فَبَكَوْا حَوْلَهُ وَاِجْتَمَعُوا، وَدَخَلَ رَجُلٌ أَشْهَبُ اَللِّحْيَةِ جَسِيمٌ صَبِيحٌ، فَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ، فَبَكَى، ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: إِنَّ فِي اَلله عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَعِوَضاً مِنْ كُلِّ فَائْتٍ، وَخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، فَإِلَى اَلله فَأَنِيبُوا، وَإِلَيْهِ فَارْغَبُوا، وَنَظَرُهُ إِلَيْكُمْ فِي اَلْبَلَاءِ فَانْظُرُوا، فَإِنَّ اَلمُصَابَ مَنْ لَمْ يُجْبَرْ، وَاِنْصَرَفَ.
لم يكن الرجل معروفاً لديهم، وما سبقت لهم رؤيته، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعْرِفُونَ اَلرَّجُلَ؟
فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): «نَعَمْ، هَذَا أَخُو رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اَلْخَضِرُ (عليه السلام)»(٢١١).
وإذا كانت هذه تعزية من الخضر (عليه السلام) لأصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فما كان ليترك شرف التعزية لآل محمّد (عليهم السلام).
فإنَّ المصاب إذا كان وقعه على قلوب الأصحاب عظيماً، فهو على قلوب أهل بيته أشدّ وقعاً، وأعظم أثراً؛ لأنَّهم أعرف الناس به، وأشدّ الناس لصوقاً بجنابه، وأكثرهم بلاءً بفقده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١١) مستدرك الحاكم (ج ٣/ ص ٥٨)، دلائل النبوَّة (ج ٧/ ص ٢٦٩)، تاريخ مدينة دمشق (ج ١٦/ ص ٤٢٤)، البداية والنهاية (ج ١/ ص ٣٨٧)، إمتاع الأسماع (ج ١٤/ ص ٥٦٤).

↑صفحة ١٢١↑

لقد ضمَّ صوته إلى أصوات هتاف السماء، الذي جاء معزّياً لتلك القلوب، على لسان جبرئيل (عليه السلام)، وعلى ألسنة الملائكة، الذين تشرَّفوا برفع العزاء لأهل الكساء (عليهم السلام)(٢١٢).
وقد تشابه الخضر (عليه السلام) مع جبرئيل (عليه السلام) والملائكة الأبرار (عليهم السلام) في الطريقة التي جاء بها، حيث لم يبدُ بجسمه، ولا ظهر بشخصه، بل كان يُسمَع صوته، ولا يُرى له شخص(٢١٣)، وكذلك تشابه معهم في العبارات التي قالها معزّياً.
فقد روي عن الرضا (عليه السلام)، قال:
«لَـمَّا قُبِضَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) جَاءَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام) فَوَقَفَ عَلَى بَابِ اَلْبَيْتِ، وَفِيهِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَاَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ (عليهم السلام)، وَرَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قَدْ سُجِّيَ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٢) عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ اَلمُخْتَارِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «لَـمَّا قُبِضَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) جَاءَهُمْ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) وَاَلنَّبِيُّ مُسَجًّى وَفِي اَلْبَيْتِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَاَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ (عليهم السلام)، فَقَالَ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ اَلرَّحْمَةِ، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: ١٨٥]، إِنَّ فِي اَلله (عزَّ وجلَّ) عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكاً لِمَا فَاتَ، فَبِاَلله فَثِقُوا، وَإِيَّاه فَارْجُوا، فَإِنَّ اَلمُصَابَ مَنْ حُرِمَ اَلثَّوَابَ، هَذَا آخِرُ وَطْئِي مِنَ الدُّنْيَا، قَالُوا: فَسَمِعْنَا اَلصَّوْتَ وَلَمْ نَرَ اَلشَّخْصَ». الكافي (ج ٣/ ص ٢٢١/ باب التعزِّي/ ح ٥)
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَلله (رضي الله عنه)، قَالَ: لَـمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عَزَّتْهُمُ اَلمَلَائِكَةُ، يَسْمَعُونَ اَلْحِسَّ وَلَا يَرَوْنَ اَلشَّخْصَ، فَقَالُوا: اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اَلله (عزَّ وجلَّ) عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، فَبِاَلله فَثِقُوا، فَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّمَا اَلمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ اَلثَّوَابَ، وَاَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُهُ». مسكن الفؤاد (ص ١٠٩).
وصحَّحه الحاكم في مستدركه (ج ٣/ ص ٥٧ و٥٨).
(٢١٣) عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا (عليهما السلام)، قَالَ: «لَـمَّا قُبِضَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أَتَاهُمْ آتٍ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ اَلْبَيْتِ، فَعَزَّاهُمْ بِهِ، وَأَهْلُ اَلْبَيْتِ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): هَذَا هُوَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام)، أَتَاكُمْ يُعَزِّيكُمْ بِنَبِيِّكُمْ (صلّى الله عليه وآله وسلم)».
كمال الدِّين (ص ٣٩١/ باب ٣٨/ ح ٦).

↑صفحة ١٢٢↑

اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: ١٨٥]، إِنَّ فِي اَلله خَلَفاً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَدَرَكاً مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَثِقُوا بِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اَلله لِي وَلَكُمْ.
فَقَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): هَذَا أَخِي اَلْخَضِرُ (عليه السلام)، جَاءَ يُعَزِّيكُمْ بِنَبِيِّكُمْ (صلّى الله عليه وآله وسلم)»(٢١٤).
وفي رواية أُخرى، قال:
«اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا آلَ مُحَمَّدٍ، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: ١٨٥].
فِي اَلله (عزَّ وجلَّ) خَلَفٌ مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَعَزَاءٌ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَدَرَكٌ لِمَا فَاتَ، فَبِاَلله فَثِقُوا، وَعَلَيْه فَتَوَكَّلُوا، وَبِنَصْرِه لَكُمْ عِنْدَ اَلمُصِيبَةِ فَارْضَوْا، فَإِنَّمَا اَلمُصَابُ مَنْ حُرِمَ اَلثَّوَابَ، وَاَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُه.
ولَمْ يَرَوْا أَحَداً، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ فِي اَلْبَيْتِ: هَذَا مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ بَعَثَه اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْكُمْ لِيُعَزِّيَكُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا اَلْخَضِرُ (عليه السلام) جَاءَكُمْ يُعَزِّيكُمْ بِنَبِيِّكُمْ (صلّى الله عليه وآله وسلم)»(٢١٥).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٤) كمال الدِّين (ص ٣٩١/ باب ٣٨/ ح ٥).
(٢١٥) الكافي (ج ٣/ ص ٢٢٢/ باب التعزِّي/ ح ٨).

↑صفحة ١٢٣↑

على باب مدينة العلم:
لقد حفظ لنا التأريخ عدَّة مواقف جمعت بينهما، فيا ترى ما الحديث الذي دار بمحضرهما؟ إنَّ هذا ما سنقرؤه في الصفحات التالية:
أوَّلاً: اللقاء في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
أ - يا رابع الخلفاء:
إنَّها كلمة تحمل وراءها من الخفايا ما تحمل، فقائلها ليس شخصاً عاديًّا تخدعه المظاهر، ويستهويه الولاء لمن غلب، إنَّه الموصوف بالعلم، حتَّى أصبح رمز المعلِّم والهادي لأرباب المعارف.
فهلمَّ معي لنعرف الأجواء التي أُلقيت فيه هذه الكلمة، ولعلَّنا نقف على سرِّها.
لقد كان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) يسير في طُرُقات المدينة، ومعه أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ لقيا شيخاً طوالاً، كثُّ اللحية(٢١٦)، بعيد ما بين المنكبين، فسلَّم على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ورحَّب به، ثمّ التفت إلى عليٍّ (عليه السلام)، وقال: (اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَابِعَ اَلْخُلَفَاءِ وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُهُ)، ولم يكتفِ بما قال، بل طلب التأييد لكلامه، فقال: (أَلَيْسَ كَذَلِكَ هُوَ، يَا رَسُولَ اَلله؟).
وكان الأمر الأغرب أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أكَّد صحَّة كلامه، فقال: «بَلَى».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٦) كثَّ الشيء: أي كثف، وكثُّ اللحية معناه أنَّ لحيته قصيرة، كثيرة الشعر.
راجع: لسان العرب (ج ٢/ ص ١٧٩/ مادَّة كثث).

↑صفحة ١٢٤↑

لقد ألقى هذه العبارة ثمّ مضى، فلتفت عليٌّ (عليه السلام) قائلاً:
«يَا رَسُولَ اَلله، مَا هَذَا اَلَّذِي قَالَ لِي هَذَا اَلشَّيْخُ، وَتَصْدِيقُكَ لَهُ؟».
فأجاب النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: «أَنْتَ كَذَلِكَ، وَاَلْحَمْدُ لِله».
ثمّ أخذ يُفصِّل الإجابة بتعداد من سمَّوا خلفاء في القرآن الكريم، فقال: «إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) قَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]، وَاَلْخَلِيفَةُ اَلمَجْعُولُ فِيهَا آدَمُ (عليه السلام).
وَقَالَ: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: ٢٦]، فَهُوَ اَلثَّانِي.
وَقَالَ (عزَّ وجلَّ) حِكَايَةً عَنْ مُوسَى حِينَ قَالَ لِهَارُونَ (عليهما السلام): ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، فَهُوَ هَارُونُ إِذِ اِسْتَخْلَفَهُ مُوسَى (عليه السلام) فِي قَوْمِهِ، فَهُوَ اَلثَّالِثُ.
وَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ [التوبة: ٣]، فَكُنْتَ أَنْتَ اَلمُبَلِّغَ عَنِ اَلله وَعَنْ رَسُولِهِ، وَأَنْتَ وَصِيِّي وَوَزِيرِي وَقَاضِي دَيْنِي وَاَلمُؤَدِّي عَنِّي، وَأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، فَأَنْتَ رَابِعُ اَلْخُلَفَاءِ كَمَا سَلَّمَ عَلَيْكَ اَلشَّيْخُ، أَوَلَا تَدْرِي مَنْ هُوَ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: ذَاكَ أَخُوكَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام)، فَاعْلَمْ»(٢١٧).
ب - وجاء طيفه زائراً:
لقد ذكرت الروايات زمان هذه الرؤيا، فلم يكن في يوم رخاء، ولا في ساعة دعة، إنَّها أيَّام الحروب الطاحنة، والتي تكون حبلى بالمفاجآت، وكلَّما اقتربت ساعة الصفر اشتدَّ توجُّس الإنسان خيفةً، إلَّا أنَّ أولياء الله لا خوف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٧) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ١٢ و١٣/ باب ٣٠/ ح ٢٣).

↑صفحة ١٢٥↑

عليهم، ولا هم يحزنون، عرفوا حبَّ الله لهم فاطمأنُّوا أنَّه لن يصنع بهم إلَّا خيراً، ولو كان جيش العدوِّ قد ملأ القفار، وهم ثُلَّة قليلة قد استقرَّت في منطقة بدر.
لقد كانت تلك الرؤيا قبل الواقعة بليلة واحدة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) مخاطباً الخضر (عليه السلام): «عَلِّمْنِي شَيْئاً أُنْصَرْ بِهِ عَلَى اَلْأَعْدَاءِ».
فَقَالَ: قُلْ: يَا هُوَ، يَا مَنْ لَا هُوَ إِلَّا هُوَ.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فَقَالَ لِي: «يَا عَلِيُّ، عُلِّمْتَ اَلْاِسْمَ اَلْأَعْظَمَ».
فلمَّا أنْ جاء يوم القتال، كان ذلك الذِّكر على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام).
وتحدَّث الرواة بتفصيل، فقالوا: إِنَّ أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَرَأَ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «يَا هُوَ، يَا مَنْ لَا هُوَ إِلَّا هُوَ، اِغْفِرْ لِي وَاُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ».
لقد بقي هذا الذِّكر على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد فقد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فقد روي أنَّه كان يقول ذلك يوم صفِّين، وهو يطارد الصفوف، ولكن كانت هناك أُذُن واعية تسمع هذه الكلمات الغريبة في تركيبها، والتي ما سمعها منذ فجر الإسلام. إنَّه عمَّار بن ياسر (رضي الله عنه)(٢١٨)، فما كان ليُفوِّت على نفسه هذه اللحظات العظيمة، فبادر ليلتقط دُرَر سيِّده، وهو يعلم أنَّه يقف على باب مدينة العلم، فقال: مَا هَذِهِ اَلْكِنَايَاتُ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٨) أبو اليقظان، عمَّار بن ياسر، يُعتبَر من المسلمين الأوائل، وتمَّ إسلامه وعائلته في أحرج الظروف، وأقسى ما مرَّ به تأريخ صدر الإسلام، من حيث القلَّة، والضعف، والهوان، وقد هاجر الهجرتين، إلى الحبشة والمدينة، وصلَّى إلى القبلتين، وشهد بدراً، وأُحُداً، وبيعة الرضوان، وجميع المشاهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأبلى بلاءً حسناً، وقُتِلَ في صفِّين، وكان عمره أربعاً وتسعين سنة.
أعيان الشيعة (ج ٨/ ص ٣٧٢ و٣٧٣) بتصرُّف.

↑صفحة ١٢٦↑

وما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) ليردَّه، ولا لأنْ يحجب عنه ما طلب، هو من أهل الإيمان الشامخ، فأجابه قائلاً: «اِسْمُ اَلله اَلْأَعْظَمُ، وَعِمَادُ اَلتَّوْحِيدِ لِله، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]، وَآخِرَ اَلْحَشْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ اَلزَّوَالِ(٢١٩).
عزيزي القارئ، لا أعتقد أنَّك وضعت علامة استفهام، بل ولا علامة تعجُّب أمام هذه الحادثة.
إنَّك تعلم أنَّ الوحي يهبط به جبرئيل (عليه السلام) على قلب سيِّد الكائنات، فما كان لأحدٍ أنْ يظنَّ أنَّ لجبرئيل فضلاً في هذا الوحي، بل عليه أنْ يشكر خالقه إذ جعله في هذا المكان المكين.
وللخضر (عليه السلام) الشرف بمثوله بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وليس كلُّ سائل يجهل ما يسأل عنه، وهلمَّ معي للرواية التالية لتقف على الأمر بصورة أجلى، تُغنيك عن كثير من كلامي، وإنَّما أطلب منك أنْ تتأمَّل في ختامها. وهذه مواقف لم يُحدِّد التأريخ خصوصيَّاتها من حيث الزمان، ولا من حيث المكان، بل ذكرها دون الإشارة لهما، ولعلَّ ذلك لعدم مدخليَّتهما في دلالات الحدث.
ثانياً: اللقاءات العامَّة:
اللقاء الأوَّل:
يروي لنا التأريخ أنَّ الزمان قد جمع بين أمير المؤمنين (عليه السلام) - وهو سيِّد البلغاء وأفصح الحكماء - والخضر (عليه السلام)، وهو من عايش الدنيا سنين متطاولة، فخبر أهلها، فكان أهلاً لأنْ يُعلِّم الناس خلاصة تجاربه، ولكن لا بدَّ لهذه الخزانة من مفتاح، يكشف عمَّا حواه ذلك الصدر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢١٩) التوحيد للصدوق (ص ٨٩/ باب ٤/ ح ٢).

↑صفحة ١٢٧↑

لقد كان فاتح باب تجاربه للناس سيِّد الأوصياء (عليه السلام)، حيث قال له:
«قُلْ كَلِمَةَ حِكْمَةٍ»، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ اَلْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ قُرْبَةً إِلَى اَلله.
سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) مقالة الخضر (عليه السلام)، ففتح أصداف صدره عن مكنون جواهره، فعقَّب على مقالته قائلاً: «وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تَيْهُ اَلْفُقَرَاءِ عَلَى اَلْأَغْنِيَاءِ ثِقَةً بِالله».
لقد سمع الخضر(عليه السلام) كلاماً ما إنْ يخطر بباله، فقال: لِيُكْتَبْ هَذَا بِالذَّهَبِ(٢٢٠).
هكذا كان لقاء الحكيمين في عالم اليقظة، فلنسمع لما كان في عالم الرؤيا من حديث بينهما.
وَرَأَى أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ اَلْخَضِرَ (عليه السلام) فِي اَلمَنَامِ، فَسَأَلَهُ نَصِيحَةً، فما كان منه إلَّا عرض كفَّه أمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ بِالْخُضْرَةِ:

قَدْ كُنْتَ مَيْتاً فَصِـرْتَ حَيًّا * * * وَعَنْ قَلِيلٍ تَعُودُ مَيْتاً
فَابْنِ لِدَارِ اَلْبَقَاءِ بَيْتاً * * * وَدَعِ لِدَارِ اَلْفَنَاءِ بَيْتاً(٢٢١)

اللقاء الثاني: في رحاب مكَّة:
لقد جمعت هذه البقعة الطاهرة بين هاتين الشخصيَّتين العظيمتين، وروى لنا الحاضرون ما تمخَّض عن لقائهما من فوائد عديدة، وفي نواحٍ متعدِّدةٍ، فلنقرأ ما يُحدِّثنا به الرواة.
أ - وتحدَّث العالم بمحضر المعلِّم:
لقد كان راوي هذه الحادثة قطب من أقطاب المعرفة، وعظيم عاش في كنف سيِّد الأوصياء (عليه السلام)، فنما عوده وأورق، حتَّى آتى أُكُله، ألَا وهو محمّد بن الحنفيَّة (رضي الله عنه)، فقال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢٠) مناقب آل أبي طالب (ج ٢/ ص ٨٥).
(٢٢١) المصدر السابق.

↑صفحة ١٢٨↑

بَيْنَا أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذَا رَجُلٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَسْتَارِ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، يَا مَنْ لَا يُغَلِّطُهُ اَلسَّائِلُونَ، يَا مَنْ لَا يُبْرِمُهُ(٢٢٢) إِلْحَاحُ اَلمُلِحِّينَ، أَذِقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ، وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ.
لقد كان هذا الرجل المتعلِّق بأستار الكعبة الخضر (عليه السلام)، وكان سامعه سيِّد الأوصياء (عليه السلام)، فلنسمع لما دار بينهما من حديث:
لَقَدْ قَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «هَذَا دُعَاؤُكَ؟».
قَالَ لَهُ اَلْخِضْرُ: وَقَدْ سَمِعْتَهُ؟
قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ: «نَعَمْ».
قَالَ اَلْخِضْرُ (عليه السلام): فَادْعُ بِهِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَوَاَلله مَا يَدْعُو بِهِ أَحَدٌ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ فِي أَدْبَارِ اَلصَّلَاةِ إِلَّا غَفَرَ اَللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ عَدَدَ نُجُومِ اَلسَّمَاءِ وَقَطْرِهَا، وَحَصْبَاءِ اَلْأَرْضِ وَثَرَاهَا.
فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ عِلْمَ ذَلِكَ عِنْدِي، وَاَللهُ وَاسِعٌ كَرِيمٌ».
فَقَالَ لَهُ اَلْخَضِرُ (عليه السلام): صَدَقْتَ وَاَلله، يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦](٢٢٣).
إشارة واضحة يلمحها أرباب النهى، فإنَّ من حار موسى (عليه السلام) من فعله يخاطب أمير المؤمنين (عليه السلام) هكذا: وفوق كلِّ ذي علم عليم.. صدقتَ، فإنَّ العلم الذي حوته حنايا صدر أمير المؤمنين (عليه السلام) يُغرقك بموجه.
ب - وكشف السبط عن جواهره:
شاءت الأقدار أنْ تجمع أمير المؤمنين (عليه السلام)، وابنه الحسن (عليه السلام)، في بيت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢٢) برم به: سأمه. راجع: الصحاح للجوهري (ج ٥/ ص ١٨٦٩/ مادَّة برم).
(٢٢٣) أمالي المفيد (ص ٩١ و٩٢/ ح ٨).

↑صفحة ١٢٩↑

الله الحرام، وأنْ ينال سلمان المحمّدي (رضي الله عنه) شرف اتِّكاء أمير المؤمنين (عليه السلام) على يده وهم يسيرون.
وبعدما استقرَّ بهم الجلوس، أقبل رجل حسن الهيأة واللباس، فسلَّم على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فردَّ عليه السلام، فجلس.
ثمّ قال: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِنَّ عَلِمْتُ أَنَّ اَلْقَوْمَ رَكِبُوا مِنْ أَمْرِكَ مَا أَقْضِي عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَأْمُونِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا فِي آخِرَتِهِمْ، وَإِنْ تَكُنِ اَلْأُخْرَى عَلِمْتُ أَنَّكَ وَهُمْ شَرَعٌ سَوَاءٌ.
فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ؟».
وتوجَّه الرجل بالأسئلة التالية الواحد تلو الآخر، فَقَالَ:
١ - أَخْبِرْنِي عَنِ اَلرَّجُلِ إِذَا نَامَ أَيْنَ تَذْهَبُ رُوحُهُ؟
٢ - وَعَنِ اَلرَّجُلِ كَيْفَ يَذْكُرُ وَيَنْسَى؟
٣ - وَعَنِ اَلرَّجُلِ كَيْفَ يُشْبِهُ وَلَدُهُ اَلْأَعْمَامَ وَاَلْأَخْوَالَ؟
فَالْتَفَتَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِلَى وَلَدِهِ اَلْحَسَنِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَجِبْهُ».
وبدأ الإمام الحسن (عليه السلام) ينحدر في كلامه، فتفتَّق أصدافها عن جواهر علم مكنون، فلنستمع لهذه الإجابات:
السؤال الأوَّل:
قال الإمام الحسن (عليه السلام): «أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ اَلْإِنْسَانِ إِذَا نَامَ أَيْنَ تَذْهَبُ رُوحُهُ؟
فَإِنَّ رُوحَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرِّيحِ، وَاَلرِّيحُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْهَوَاءِ إِلَى وَقْتِ مَا يَتَحَرَّكُ صَاحِبُهَا لِلْيَقَظَةِ، فَإِنْ أَذِنَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِرَدِّ تِلْكَ اَلرُّوحِ إِلَى صَاحِبِهَا جَذَبَتْ تِلْكَ اَلرُّوحُ اَلرِّيحَ، وَجَذَبَتْ تِلْكَ اَلرِّيحُ اَلْهَوَاءَ، فَرَجَعَتِ اَلرُّوحُ فَأُسْكِنَتْ فِي بَدَنِ صَاحِبِهَا.
وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِرَدِّ تِلْكَ اَلرُّوحِ إِلَى صَاحِبِهَا جَذَبَ اَلْهَوَاءُ اَلرِّيحَ، وَجَذَبَتِ اَلرِّيحُ اَلرُّوحَ، فَلَمْ تُرَدَّ إِلَى صَاحِبِهَا إِلَى وَقْتِ مَا يُبْعَثُ.

↑صفحة ١٣٠↑

السؤال الثاني:
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ اَلذُّكْرِ وَاَلنِّسْيَانِ..
فَإِنَّ قَلْبَ اَلرَّجُلِ فِي حُقٍّ، عَلَى اَلْحُقِّ طَبَقٌ، فَإِنْ صَلَّى اَلرَّجُلُ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَامَّةً اِنْكَشَفَ ذَلِكَ اَلطَّبَقُ عَنْ ذَلِكَ اَلْحُقِّ، فَأَضَاءَ اَلْقَلْبُ، وَذَكَرَ اَلرَّجُلُ مَا كَانَ نَسِيَهُ.
وَإِنْ هُوَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، أَوْ نَقَصَ مِنَ اَلصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ اِنْطَبَقَ ذَلِكَ اَلطَّبَقُ عَلَى ذَلِكَ اَلْحُقِّ، فَأَظْلَمَ اَلْقَلْبُ، وَنَسِيَ اَلرَّجُلُ مَا كَانَ ذَكَرَ.
السؤال الثالث:
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ اَلمَوْلُودِ اَلَّذِي يُشْبِهُ أَعْمَامَهُ وَأَخْوَالَهُ..
فَإِنَّ اَلرَّجُلَ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ فَجَامَعَهَا بِقَلْبٍ سَاكِنٍ وَعُرُوقٍ هَادِئَةٍ وَبَدَنٍ غَيْرِ مُضْطَرِبٍ، فَأَسْكَنَتْ تِلْكَ اَلنُّطْفَةُ فِي جَوْفِ اَلرَّحِمِ خَرَجَ اَلْوَلَدُ يُشْبِهُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَإِنْ هُوَ أَتَاهَا بِقَلْبٍ غَيْرِ سَاكِنٍ وَعُرُوقٍ غَيْرِ هَادِئَةٍ وَبَدَنٍ مُضْطَرِبٍ، اِضْطَرَبَتْ تِلْكَ اَلنُّطْفَةُ فَوَقَعَتْ فِي حَالِ اِضْطِرَابِهَا عَلَى بَعْضِ اَلْعُرُوقِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى عِرْقٍ مِنْ عُرُوقُ اَلْأَخْوَالِ أَشْبَهَ اَلرَّجُلُ أَخْوَالَهُ».
فَقَالَ اَلرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، وَلَمْ أَزَلْ أَشْهَدُ بِهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَلله، وَلَمْ أَزَلْ أَشْهَدُ بِهَا.
وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَصِيُّهُ وَاَلْقَائِمُ بِحُجَّتِهِ بَعْدَهُ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) -(٢٢٤)، وَلَمْ أَزَلْ أَشْهَدُ بِهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَصِيُّهُ وَاَلْقَائِمُ بِحُجَّتِهِ - وَأَشَارَ إِلَى اَلْحَسَنِ (عليه السلام) -.
ثمّ أخذ يشهد بمثل هذه الشهادة للأئمَّة واحداً بعد آخر، حتَّى قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢٤) إنَّ من الوضوح بمكان أنَّ الموقف كان تعليميًّا للآخرين، وفيه إظهار لمعرفة آل محمّد (عليهم السلام) أمام الناس، وليكون ذلك حجَّة عليهم.

↑صفحة ١٣١↑

وَأَشْهَدُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ وُلْدِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ لَا يُكَنَّى وَلَا يُسَمَّى حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيَمْلَأَ اَلْأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً، وَاَلسَّلَامُ عَلَيْكَ - يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ - وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ قَامَ فَمَضَى.
فَقَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، اِتَّبِعْهُ فَانْظُرْ أَيْنَ يَقْصِدُ؟».
فَخَرَجَ اَلْحَسَنُ (عليه السلام) فِي أَثَرِهِ..
قَالَ: «فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَضَعَ رِجْلَهُ خَارِجَ اَلمَسْجِدِ فَمَا دَرَيْتُ أَيْنَ أَخَذَ مِنْ أَرْضِ اَلله، فَرَجَعْتُ إِلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَأَعْلَمْتُهُ.
فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَتَعْرِفُهُ؟
فَقُلْتُ: اَللهُ وَرَسُولُهُ وَأَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ.
فَقَالَ: هُوَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام)»(٢٢٥).
اللقاء الثالث: في المدائن:
ما أعظمك يا سلمان، وما أجلّ مكانك، بل ومن حُظِي بمثل ما حظيت به، عشت بجوار صفوة الخلق، تتفيَّأ ظلالهم، وتتساقط عليك الثمار اليانعات، فمن دوحة نبوَّة إلى شجرة إمامة، فلمَّا آذنت شمسك بالمغيب كان لك من الشأن ما يعجز عنه اللسان.
فهلمَّ عزيزي القارئ إلى الرواية(٢٢٦)؛ لتشاركني الحيرة، ولنتقاسم الإعجاب سويًّا.
لَقَدْ صَلَّى أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) صَلَاةَ اَلصُّبْحِ بِاَلمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢٥) الإمامة والتبصرة (ص ١٠٦ - ١٠٨/ ح ٩٣).
(٢٢٦) الراوي هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، وقد تُوفِّي سنة (٧٣) من الهجرة، وقيل: سنة (٧٤)، أو (٧٧)، أو (٧٨)، أو (٧٩)، وقيل: تُوفِّي وهو ابن (٩٤) سنة، وكان آخر من بقي من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على قول.

↑صفحة ١٣٢↑

وهو يحمل لهم خبراً محزناً، فَقَالَ: «مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ، أَعْظَمَ اَللهُ أَجْرَكُمْ فِي أَخِيكُمْ سَلْمَانَ».
وبدأ المرجفون يديرون أعينهم، وعلامات الاستغراب واضحة عليهم، وأمَّا أرباب اليقين فقلوبهم مطمئنَّة.
فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومعه تراث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فالعمامة قد اعتمرها، ودُرَّاعته قد لبسها، وما ترك قضيبه ولا سيفه، ثمّ ركب ناقته العضباء(٢٢٧)، وخاطب قنبراً، فقال: «عُدَّ عَشْراً».
يقول قنبر: فَفَعَلْتُ، فَإِذَا نَحْنُ عَلَى بَابِ سَلْمَانَ.
لقد كان جسد سلمان قد سُجِّي داخل الدار، وإلى جواره عبد صالح اسمه زاذان(٢٢٨)، ينتظر المواعيد التي قالها سلمان، فقد سأله لـمَّا أدركته الوفاة: مَنِ اَلمُغَسِّلُ لَكَ؟ فَقَالَ: مَنْ غَسَّلَ رَسُولَ اَلله.
فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ فِي اَلمَدَائِنِ وَهُوَ بِالمَدِينَةِ، والمسافة بينهما شاسعة.
فَقَالَ: يَا زَاذَانُ، إِذَا شَدَدْتَ لِحْيَتِي تَسْمَعُ اَلْوَجْبَةَ(٢٢٩).
وأقبل زاذان على شؤون سلمان، فلمَّا شدَّ لحييه سمع الوجبة، وأدرك الباب، فإذا هو بأمير المؤمنين (عليه السلام).
فَقَالَ: «يَا زَاذَانُ، قَضَى أَبُو عَبْدِ اَلله سَلْمَانُ؟».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٢٧) ناقة عضباء: أي مشقوقة الأُذُن، والعضباء اسم ناقة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهو اسم لها عَلَم، وليس من العضب الذي هو الشقُّ في الأُذُن.
راجع: العين للفراهيدي (ج ١/ ص ٢٨٣/ مادَّة عضب).
(٢٢٨) أبو عمرو الفارسي: اسمه زاذان من خواصِّ عليٍّ (عليه السلام) من مضرّ.
أعيان الشيعة (ج ٢/ ص ٣٨٩/ الرقم ٢٦٢٧) بتصرُّف.
(٢٢٩) في الصحاح للجوهري (ج ١/ ص ٢٣٢/ مادَّة وجب): (الوجبة: السقطة مع الهدَّة).

↑صفحة ١٣٣↑

قُلْتُ: نَعَمْ، يَا سَيِّدِي، فَدَخَلَ وَكَشَفَ اَلرِّدَاءَ عَنْ وَجْهِهِ، فَتَبَسَّمَ سَلْمَانُ إِلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ: «مَرْحَباً، يَا أَبَا عَبْدِ اَلله، إِذَا لَقِيتَ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فَقُلْ لَهُ مَا مَرَّ عَلَى أَخِيكَ مِنْ قَوْمِكَ».
وتولَّى أمير المؤمنين (عليه السلام) تجهيزه، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهِ كَانَ مَنْ حَضَرَ يَسْمَعُ مِنْهُ تَكْبِيراً شَدِيداً.
لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) وحده، بل كان معه شخصان آخران، فلم يشأ زاذان أنْ تظلَّ شخصيَّتاهما مجهولتين، فيا ترى من كانا؟
لقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كَانَ أَحَدُهُمَا جَعْفَرٌ أَخِي، وَاَلْآخَرُ اَلْخَضِرُ (عليه السلام)، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعُونَ صَفًّا مِنَ اَلمَلَائِكَةِ، فِي كُلِّ صَفٍّ أَلْفُ أَلْفِ مَلَكٍ»(٢٣٠).
فهنيئاً لك سلمان، بما لقيت في حياتك، وبما حظيت به عند وفاتك، فمن مثلك وكفَّا أمير المؤمنين (عليه السلام) تُقلِّبانك.
اللقاء الرابع: بعد البيعة:
يا لفرحة الأولياء، حينما يعود الحقُّ لأهله، ويشاهدون خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يعلو منبره، فيعيد للناس صوت السماء.
إنَّه مشهد فريد، قد لا يجود الزمان بمثله، فليس غريباً أنْ يكون الخضر (عليه السلام) حاضراً يوم مُدَّت الأكفُّ لتبايع أمير المؤمنين (عليه السلام).
لقد خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك اليوم إلى المسجد، متعمِّماً بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لابساً بردته، منتعلاً نعله، متقلِّداً سيفه، فَصَعِدَ اَلْمِنْبَرَ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ مُتَمَكِّناً، ثُمَّ شَبَكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَوَضَعَهَا أَسْفَلَ بَطْنِهِ، ثُمَّ قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣٠) مناقب آل أبي طالب (ج ٢/ ص ١٣١).

↑صفحة ١٣٤↑

«يَا مَعْشَرَ اَلنَّاسِ، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، هَذَا سَفَطُ(٢٣١) اَلْعِلْمِ، هَذَا لُعَابُ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، هَذَا مَا زَقَّنِي رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) زَقًّا زَقًّا.
سَلُونِي؛ فَإِنَّ عِنْدِي عِلْمَ اَلْأَوَّلِينَ وَاَلْآخِرِينَ، أَمَا وَاَلله لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ اَلْوِسَادَةُ، فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا؛ لَأَفْتَيْتُ أَهْلَ اَلتَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، حَتَّى تَنْطِقَ اَلتَّوْرَاةُ، فَتَقُولَ: صَدَقَ عَلِيٌّ، مَا كَذَبَ، لَقَدْ أَفْتَاكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللهُ فِيَّ.
وَأَفْتَيْتُ أَهْلَ اَلْإِنْجِيلِ بِإِنْجِيلِهِمْ، حَتَّى يَنْطِقَ اَلْإِنْجِيلُ، فَيَقُولَ: صَدَقَ عَلِيٌّ، مَا كَذَبَ، لَقَدْ أَفْتَاكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللهُ فِيَّ.
وَأَفْتَيْتُ أَهْلَ اَلْقُرْآنِ بِقُرْآنِهِمْ، حَتَّى يَنْطِقَ اَلْقُرْآنُ، فَيَقُولَ: صَدَقَ عَلِيٌّ، مَا كَذَبَ، لَقَدْ أَفْتَاكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللهُ فِيَّ.
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْقُرْآنَ لَيْلاً وَنَهَاراً، فَهَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ يَعْلَمُ مَا نَزَلَ فِيهِ؟ وَلَوْ لَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اَلله لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا كَانَ، وَبِمَا يَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ هَذِهِ اَلْآيَةُ: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩]».
ثُمَّ قَالَ: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْ أَيَّةِ آيَةٍ، فِي لَيْلٍ أُنْزِلَتْ، أَوْ فِي نَهَارٍ أُنْزِلَتْ، مَكِّيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا، سَفَرِيِّهَا وَحَضَرِيِّهَا، نَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، مُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا، وَتَأْوِيلِهَا وَتَنْزِيلِهَا، لَأَخْبَرْتُكُمْ».
ما أعظمها من كلمات، توقف طُلَّاب الحقيقة على بابها، ومن أراد الامتحان فليقبل، ومن طلب اليقين فليدنُ.
وقام ذِعلب(٢٣٢)، ثمّ قام الأشعث، وسألاه ما أرادا، ولم يكن السؤال منهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣١) في لسان العرب (ج ٧/ ص ٣١٥/ مادَّة سفط): (السفط: الذي يُعبى فيه الطيب، وما أشبهه من أدوات النساء).
(٢٣٢) ذِعلب اليمان - بكسر الذال، وسكون العين، وكسر اللَّام -، الذعلب في الأصل الناقة السريعة، ثمّ نُقِلَ فسُمِّي به الإنسان، وصار عَلَماً، كما نقلوا بكراً عن فتى الإبل إلى بكر بن وائل. واليمان نسبة إلى اليمن.
وهو من أصحاب أمير المؤمنين وكان ذرب اللسان، بليغاً في الخُطَب، شجاع القلب، وفي خبره السابق تختلف العبارات في نقله، مع اتِّفاقها على أنَّه سأله: هل رأيت ربَّك؟ فأجابه بأنَّه لم يكن ليعبد ما لا يرى، فطلب منه أنْ يصفه له كيف رآه، أي يذكر كيفيَّته، فأجابه بما مضمونه أنَّه لا يُرى بالعين الباصرة، بل يُرى بالقلب والاعتقاد. وفي بعض تلك النقولات ما يقتضي سوء الأدب في حقِّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويدلُّ على جهله بقدره، وهو قوله: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة، لأُخجلنَّه اليوم لكم في مسألتي إيَّاه، إلَّا أنَّ غشيته وقوله: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عدت إلى مثلها، يمكن أنْ يكون توبة منه.
أعيان الشيعة (ج ٦/ ص ٤٣١) بتصرُّف.

↑صفحة ١٣٥↑

سؤال تفهُّم، فلمَّا أجاب على سؤالهما، قال: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي».
فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلمَسْجِدِ، مُتَوَكِّئاً عَلَى عَصَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَخَطَّى اَلنَّاسَ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَنَا إِذَا عَمِلْتُهُ نَجَّانِيَ اَللهُ مِنَ اَلنَّارِ.
فَقَالَ لَهُ: «اِسْمَعْ يَا هَذَا، ثُمَّ اِفْهَمْ، ثُمَّ اِسْتَيْقِنْ..
قَامَتِ اَلدُّنْيَا بِثَلَاثَةٍ: بِعَالِمٍ نَاطِقٍ مُسْتَعْمِلٍ لِعِلْمِهِ، وَبِغَنِيٍّ لَا يَبْخَلُ بِمَالِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِ اَلله، وَبِفَقِيرٍ صَابِرٍ، فَإِذَا كَتَمَ اَلْعَالِمُ عِلْمَهُ، وَبَخِلَ اَلْغَنِيُّ، وَلَمْ يَصْبِرِ اَلْفَقِيرُ، فَعِنْدَهَا اَلْوَيْلُ وَاَلثُّبُورُ، وَعِنْدَهَا يَعْرِفُ اَلْعَارِفُونَ بِالله، أَنَّ اَلدَّارَ قَدْ رَجَعَتْ إِلَى بَدْئِهَا - أَيِ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ اَلْإِيمَانِ - أَيُّهَا اَلسَّائِلُ، فَلَا تَغْتَرَّنَّ بِكَثْرَةِ اَلمَسَاجِدِ، وَجَمَاعَةِ أَقْوَامٍ، أَجْسَادُهُمْ مُجْتَمِعَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.
أَيُّهَا السَّائِلُ، إِنَّمَا اَلنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: زَاهِدٌ، وَرَاغِبٌ، وَصَابِرٌ؛ فَأَمَّا اَلزَّاهِدُ فَلَا يَفْرَحُ بِشَيْءٍ مِنَ اَلدُّنْيَا أَتَاهُ، وَلَا يَحْزَنُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَاتَهُ. وَأَمَّا اَلصَّابِرُ فَيَتَمَنَّاهَا بِقَلْبِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَ مِنْهَا شَيْئاً صَرَفَ عَنْهَا نَفْسَهُ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهَا. وَأَمَّا اَلرَّاغِبُ فَلَا يُبَالِي مِنْ حِلٍّ أَصَابَهَا أَمْ مِنْ حَرَامٍ».
قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، فَمَا عَلَامَةُ اَلمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ اَلزَّمَانِ؟

↑صفحة ١٣٦↑

قَالَ: «يَنْظُرُ إِلَى مَا أَوْجَبَ اَللهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ فَيَتَوَلَّاهُ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَا خَالَفَهُ فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ حَمِيماً قَرِيباً».
قَالَ: صَدَقْتَ وَاَلله، يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ.
ثمّ غاب الرجل عن أنظار من حضر، فلم يرَه أحد منهم، فطلبه الناس، فلم يجدوه، فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ (عليه السلام) عَلَى اَلْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا لَكُمْ؟ هَذَا أَخِي اَلْخَضِرُ (عليه السلام)».
ثمّ عاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي»، فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ(٢٣٣).
اللقاء الخامس: اللقاء في الكوفة:
لقد نقل أمير المؤمنين (عليه السلام) دار خلافته إلى الكوفة، ليتَّقي وثبات معاوية المتوقَّعة عليها، وكانت الكوفة - وخصوصاً مسجدها - سجلًّا تاريخيًّا، حفظ كثيراً من تراثه، فقد بقيت الآثار تتحدَّث عمَّا جرى عندها، وتُنبي عمَّا شهدته.
فطوبى لتلك التربة التي وطأها عليٌّ (عليه السلام) فصافحت قدمه، وحفظت آثاره، فارتفع شأنها، وشاهدت حياته، فعبق ريحها.
ولقد حفظ التأريخ لقاءين مع الخضر (عليه السلام)، فدونك فاقرأ ما تقرُّ به عيناك، ويثلج به فؤادك.
الحدث الأوَّل:
كَانَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي مَسْجِدِ اَلْكُوفَةِ يَوْماً، فَلَمَّا جَنَّهُ اَللَّيْلُ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ اَلْفِيلِ(٢٣٤) عَلَيْهِ ثِيَابٌ بُيضٌ، فَجَاءَ اَلْحَرَسُ وَشُرْطَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣٣) التوحيد للصدوق (ص ٣٠٤ - ٣٠٧/ باب ٤٣/ ح ١).
(٢٣٤) لهذا الباب تسميتان، وقد اقترنت بكلِّ تسمية منهما حادثة، فالتسمية الأُولى باب الفيل، وسبب ذلك - كما رجَّحه البلاذري في (فتوح البلدان) بعد ذكره عدَّة احتمالات - أنَّ المسلمين لـمَّا فتحوا المدائن، أصابوا بها فيلاً، وقد كانوا قتلوا ما لقيهم قبل ذلك من الفيلة، فكتبوا فيه إلى عمر، فكتب إليهم أنْ بيعوه إنْ وجدتم له مباعاً، فاشتراه رجل من أهل الحيرة، فكان عنده يُريه الناس، ويُجلِّله، ويطوف به في القرى، فمكث عنده حيناً، ثمّ إنَّ أُمَّ أيُّوب بنت عمرة بن عقبة بن أبي معيط امرأة المغيرة بن شعبة - وهي التي خلف عليها زياد بعده - أحبَّت النظر إليه، وهي تنزل دار أبيها، فأتى به، ووقف على باب المسجد الذي يُدعى اليوم باب الفيل، فجعلت تنظر إليه، ووهبت لصاحبه شيئاً، وصرفته، فلم يخط إلَّا خطى يسيرة حتَّى سقط ميِّتاً. فسُمِّي الباب باب الفيل. راجع: موسوعة النجف الأشرف (ج ١/ ص ٧٥).
والتسمية الثانية: باب الثعبان، وسبب التسمية ما ذُكِرَ في الخرائج والجرائح (ج ١/ ص ١٨٩/ ح ٢٣)، إذ روي أَنَّ عَلِيًّا (عليه السلام) بَيْنَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى اَلْمِنْبَرِ، إِذْ أَقْبَلَتْ حَيَّةٌ مِنْ بَابِ اَلْفِيلِ، مِثْلُ اَلْبُخْتِيِّ اَلْعَظِيمِ، فَنَادَاهُمْ عَلِيٌّ: «أَفْرِجُوا لَهَا، فَإِنَّ هَذَا رَسُولُ قَوْمٍ مِنَ اَلْجِنِّ»، فَجَاءَتْ حَتَّى وَضَعَتْ فَاهَا عَلَى أُذُنِهِ، وَإِنَّهَا لَتَنِقُّ كَمَا يَنِقُّ اَلضِّفْدِعُ، وَكَلَّمَهَا بِكَلاَمٍ شَبِيهِ نَقِيقِهَا، ثُمَّ وَلَّتِ اَلْحَيَّةُ، فَقَالَ اَلنَّاسُ: مَا حَالُهَا؟ قَالَ: «هُوَ رَسُولُ قَوْمٍ مِنَ اَلْجِنِّ، أَخْبَرَنِي أَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَ بَنِي عَامِرٍ وَبَنِي عَنَزَةَ شَرٌّ وَقِتَالٌ، فَبَعَثُوهُ لِآتِيَهُمْ أُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَوَعَدْتُهُمْ أَنْ آتِيَهُمُ اَللَّيْلَةَ».
وقد نصَّ على التسمية العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج ١٠٠/ ص ٤٠٦) حينما تكلَّم عن أبواب مسجد الكوفة، فقال: (فأمَّا الذي في دُبُر القبلة فهو باب الثعبان، المشتهر بباب الفيل).
وهناك رأي مهمٌّ في التسميتين، وهو أنَّ أهل الكوفة يُسَمُّون الباب الذي دخل منه الثعبان باب الثعبان، فأراد بنو أُميَّة إطفاء هذه الفضيلة، فنصبوا على ذلك الباب فيلاً مدَّة طويلة، حتَّى سُمِّي باب الفيل، ذكر ذلك محمّد بن الحسن القمِّي (رحمه الله) في العقد النضيد (ص ٢١)، والسيِّد البراقي (قدس سره) في تأريخ الكوفة (ص ٥٨).

↑صفحة ١٣٧↑

اَلْخَمِيسِ(٢٣٥)، فَقَالَ لَهُمْ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ: «مَا تُرِيدُونَ؟!».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣٥) الخميس: الجيش، وسُمِّي به لانقسامه خمسة أقسام: المقدَّمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب.
والشرطة: أوَّل طائفة من الجيش تشهد الوقعة.
وشرطة الخميس: جماعة من خُلَّص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهم ستَّة آلاف رجل.
وقال رجل للأصبغ - وكان منهم -: كيف سُمّيتم شرطة الخميس؟ قال: لأنَّنا ضمنَّا له الربح، وضمن لنا الفتح، يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي رواية قال لنا: «تشرَّطوا، فوَالله ليس اشتراطكم لذهب ولا فضَّة، وما اشتراطكم إلَّا للموت». أعيان الشيعة (ج ٧/ ص ٣٣٥) بتصرُّف.

↑صفحة ١٣٨↑

فَقَالُوا: رَأَيْنَا هَذَا اَلرَّجُلَ أَقْبَلَ إِلَيْنَا، فَخَشِينَا أَنْ يَغْتَالَكَ.
فَقَالَ: «كَلَّا، اِنْصَرِفُوا - رَحِمَكُمُ اَللهُ -، أَتَحْفَظُونِّي مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَنْ يَحْفَظُنِي مِنْ أَهْلِ اَلسَّمَاءِ؟».
وَمَكَثَ اَلرَّجُلُ عِنْدَهُ مَلِيًّا يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ أَلْبَسْتَ اَلْخِلَافَةَ بَهَاءً وَزِينَةً وَكَمَالاً وَلَمْ تُلْبِسْكَ، وَلَقَدِ اِفْتَقَرَتْ إِلَيْكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ وَمَا اِفْتَقَرْتَ إِلَيْهَا، وَلَقَدْ تَقَدَّمَكَ قَوْمٌ وَجَلَسُوا مَجْلِسَكَ فَعَذَابُهُمْ عَلَى اَلله، وَإِنَّكَ لَزَاهِدٌ فِي اَلدُّنْيَا، وَعَظِيمٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ، وَإِنَّ لَكَ فِي اَلْآخِرَةِ لَمَوَاقِفَ كَثِيرَةً تَقَرُّ بِهَا عُيُونُ شِيعَتِكَ، وَإِنَّكَ لَسَيِّدُ اَلْأَوْصِيَاءِ، وَأَخُوكَ سَيِّدُ اَلْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ اَلْأَئِمَّةَ اَلْاِثْنَيْ عَشَرَ، فَانْصَرَفَ.
وَأَقْبَلَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَلَى اَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام)، فَقَالَ: «تَعْرِفَانِهِ؟».
قَالَا: «وَمَنْ هُوَ، يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ؟».
قَالَ: «هَذَا أَخِي اَلْخَضِرُ (عليه السلام)»(٢٣٦).
الحدث الآخر:
أمَّا الحدث الآخر، فقد كان مسرحه كذلك مسجد الكوفة، فقد روي أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ اَلْأُسْطُوَانَةِ اَلسَّابِعَةِ مِنْ بَابِ اَلْفِيلِ، ممَّا يلي الصحن، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، عَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، وَلَهُ عَقِيصَتَانِ(٢٣٧) سَوْدَاوَانِ، أَبْيَضَ اَللِّحْيَةِ.
فَلَمَّا سَلَّمَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِنْ صَلَاتِهِ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣٦) مناقب آل أبي طالب (ج ٢/ ص ٨٤ و٨٥).
(٢٣٧) العقيصة: الخصلة، والعقص أنْ تلوي الخصلة من الشعر، ثمّ تعقدها، ثمّ تُرسِلها.
راجع: لسان العرب (ج ٧/ ص ٥٦/ مادَّة عقص).

↑صفحة ١٣٩↑

يقول الأصبغ(٢٣٨) - وهو راوي الحديث -: فَخَرَجْنَا مُسْرِعِينَ خَلْفَهُمَا، وَلَمْ نَأْمَنْ عَلَيْهِ، فَاسْتَقْبَلَنَا (عليه السلام) فِي جَهارسُوج(٢٣٩) كِنْدَةَ، قَدْ أَقْبَلَ رَاجِعاً.
فَقَالَ: «مَا لَكُمْ؟».
فَقُلْنَا: لَمْ نَأْمَنْ عَلَيْكَ هَذَا اَلْفَارِسَ.
فَقَالَ: «هَذَا أَخِي اَلْخَضِرُ، أَلَمْ تَرَوْا حَيْثُ أَكَبَّ عَلَيَّ؟».
قُلْنَا: بَلَى.
فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ قَالَ لِي: إِنَّكَ فِي مَدَرَةٍ(٢٤٠) لَا يُرِيدُهَا جَبَّارٌ بِسُوءٍ إِلَّا قَصَمَهُ اَللهُ، وَاِحْذَرِ اَلنَّاسَ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ لِأُشَيِّعَهُ لِأَنَّهُ أَرَادَ اَلظَّهْرَ»(٢٤١).
وعاد الخضر (عليه السلام) مَرَّةً ثَانِيَةً، فَإِذَا مِيثَمٌ(٢٤٢) يُصَلِّي إِلَى تِلْكَ اَلْأُسْطُوَانَةِ، فَقَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٣٨) الأصبغ بن نُباتة بن الحارث بن عمرو بن فاتك بن عامر بن مجاشع بن دارم...، وأصبغ بفتح الهمزة، وسكون المهملة، وفتح الموحَّدة، ونُباتة بنون مضمومة، فباء موحَّدة مخفَّفة، ومجاشع قبيل من تميم.
وكان من خواصِّ أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وشهد معه صفِّين، وكان على شرطة الخميس، وكان شاعراً.
راجع: أعيان الشيعة (ج ٣/ ص ٤٦٤/ الرقم ١٢٩٣) بتصرُّف.
(٢٣٩) أي في مفترق أربع جهات.
(٢٤٠) العرب تُسمِّي القرية المبنيَّة بالطين واللبن المدرة، وكذلك المدينة الضخمة يقال لها: المدرة.
(٢٤١) أمالي الطوسي (ص ٥١/ ح ٦٧/٣٦).
(٢٤٢) ميثم بن يحيى التمَّار، خطيب الشيعة بالكوفة، ومتكلِّمها، وكان عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه عليٌّ (عليه السلام) منها وأعتقه، وحجَّ في السنة التي قُتِلَ فيها، وقَدِمَ الكوفة، فأُخِذَ، وأُدخل على عبيد الله بن زياد، وقيل له: هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب، قال: ويحكم، هذا الأعجمي؟! فحبسه ابن زياد، ثمّ أُخرج ليُصلَب، فجعل يُحدِّث بفضائل بني هاشم، ومخازي بني أُميَّة، وهو مصلوب على الخشبة، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فكان أوَّل خلق الله أُلجم في الإسلام، فلمَّا كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمُّه دماً، فلمَّا كان في اليوم الثالث طُعِنَ بحربة، فمات، وكان قتله قبل قدوم الحسين (عليه السلام) العراق بعشرة أيَّام، وكان محبوساً عند قتل مسلم بن عقيل (عليه السلام). أعيان الشيعة (ج ١٠/ ص ١٩٨) بتصرُّف.

↑صفحة ١٤٠↑

يَا صَاحِبَ اَلسَّارِيَةِ، اِقْرَأْ صَاحِبَ اَلدَّارِ اَلسَّلَامَ - يَعْنِي عَلِيًّا -، وَأَعْلَمَهُ أَنِّي بَدَأْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُهُ نَائِماً(٢٤٣).
اللقاء السادس: في النخيلة (٢٤٤):
يذكر لنا التأريخ لقاءً شهدته منطقة النخيلة، يُحدِّثنا عنه الحارث الأعور الهمداني(٢٤٥)، فيقول:
رَأَيْتُ مَعَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) شَيْخاً بِالنُّخَيْلَةِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، مَنْ هَذَا؟
قَالَ: «هَذَا أَخِيَ اَلْخَضِرُ، جَاءَنِي يَسْأَلُنِي عَمَّا بَقِيَ مِنَ اَلدُّنْيَا، وَسَأَلْتُهُ عَمَّا مَضَى مِنَ اَلدُّنْيَا، فَأَخْبَرَنِي وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا سَأَلْتُهُ مِنْهُ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٤٣) مناقب آل أبي طالب (ج ٢/ ص ٨٤).
(٢٤٤) النخيلة: قريبة من (ذي الكفل)، وتُعرَف اليوم بالعبَّاسيَّات.
راجع: موسوعة كربلاء (ج ١/ ص ٤٦٩/ الرقم ٥٣٦).
(٢٤٥) وكان من خواصِّ أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) وأوليائه، ومحلِّ عنايته والتفاته، وأَمْرُ عليٍّ (عليه السلام) له بالمناداة بالناس في الكوفة وفي المدائن بالخروج حينما أراد الخروج إلى صفِّين، يدلُّ على نوع اختصاص، وإدخاله إيَّاه منزله، وتبسُّط عليٍّ (عليه السلام) معه، وامتناع الحارث من أنْ يجيء بشيء من خارج داره، وإرشاد عليٍّ (عليه السلام) له إلى طريقة في التخلُّص من ذلك، كلُّ هذا يدلُّ على اختصاصه به، وكتابته له صُحُفاً فيها علم كثير، ائتمنه عليه، وتفرَّد الحارث بإجابته من بين أهل الكوفة لـمَّا قال: من يشتري علماً بدرهم؟ وكتابه إليه الكتاب الذي في (نهج البلاغة)، المشتمل على وصايا جليلة، كلُّ ذلك يدلُّ على مزيد اختصاص، مضافاً إلى كونه من همدان المعروفة بولاية عليٍّ (عليه السلام) - وهي قبيلة من اليمن نزلت الكوفة -، حتَّى قال فيها:

فلو كنتُ بوَّاباً على باب جنَّة * * * لقلتُ لهمدانَ اُدخلوا بسلام

وكان من أوعية العلم، ومن كبار علماء التابعين، ومن أفقه علماء عصره، وتعلَّم من باب مدينة العلم علماً جمًّا، ولاسيّما علم الفرائض، والحساب، وكان من القُرَّاء، قرأ على عليٍّ (عليه السلام) وابن مسعود.
راجع: أعيان الشيعة (ج ٤/ ص ٣٦٦) بتصرُّف.

↑صفحة ١٤١↑

قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «فَأُوتِينَا بِطَبَقِ رُطَبٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ، فَأَمَّا اَلْخَضِرُ فَرَمَى بِالنَّوَى، وَأَمَّا أَنَا فَجَمَعْتُهُ فِي كَفِّي».
قَالَ اَلْحَارِثُ: قُلْتُ: فَهَبْهُ لِي، يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ.
فَوَهَبَهُ لِي، فَغَرَسْتُهُ، فَخَرَجَ مِنْهُ مُشَاناً(٢٤٦) جَيِّداً، بَالِغاً عَجَباً، لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ(٢٤٧).
اللقاء السابع: بين يدي الإمام المبين:
إنَّ علماً حمله الخضر (عليه السلام) لعلمٌ جمٌّ، وإنَّ صدراً حوى كلَّ هذه الأسرار لصدر عظيم، ولكن ذلك يصغر إذا ما قارنَّاه بما وُهِبَ الصفوة من العترة الطاهرة.
ولكي تقف على مقربة من ذلك، تأمَّل فيما تقوله هذه الرواية، وقف عند كلماتها الجليلة.
لقد روي أنَّ رجلاً جاء إلى عليٍّ (عليه السلام)، فسأله عن مسائل، فأجابه عنها، فمضى.
فخاطب عليٌّ (عليه السلام) من حضر قائلاً: «أتعرفون هذا؟ هذا أبو العبَّاس الخضر، ولقد أخبرني أنَّه كان مع موسى (عليه السلام) على البحر، فسقط عصفور، فأخذ بمنقاره قطرة من البحر، ثمّ جاء حتَّى وضعها على يد موسى، فقال موسى: ما هذا؟ فقال: هذا العصفور يقول: والله، ما علمكما في علم وصيِّ النبيِّ الذي يأتي في آخر الزمان إلَّا كما أخذت بمنقاري هذا من هذا البحر»(٢٤٨).
خاتمة اللقاءات:
لقد عايش الخضر (عليه السلام) أمير المؤمنين (عليه السلام) في مراحل عدَّة من حياته،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٤٦) المشان: نوع من أطيب الرُّطَب. راجع: لسان العرب (ج ١٣/ ص ٤٠٩/ مادَّة مشن).
(٢٤٧) قَصَص الأنبياء للراوندي (ص ١٦٠ و١٦١/ ح ١٧٢).
(٢٤٨) نهج الإيمان (ص ٦٣٥ و٦٣٦)، وأسندها لكتاب أبي الحسن البصري.

↑صفحة ١٤٢↑

فكان من الوفاء بعد طول اللقاء أنْ يُودِّع ذلك النور، وأنْ يُذيِّل لقاءاته بهذه العبارات، فيقف مؤبِّناً، بعد أنْ لملمت الشمس خيوطها، وتأهَّبت للمغيب.
لقد كان ذلك اليوم مشهوداً، فالناس يرون سيِّد الأوصياء (عليه السلام) قد أغمض جفنيه وملؤهما القذى.
خَطْب جلل اِرْتَجَّ لَهُ اَلمَوْضِعُ بِالْبُكَاءِ، وَدَهِشَ اَلنَّاسُ، فَكَانَ كَيَوْمَ قُبِضَ اَلنَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وَجَاءَ رَجُلٌ(٢٤٩) بَاكِياً، وَهُوَ مُسْرِعٌ مُسْتَرْجِعٌ، وَهُوَ يَقُولُ: اَلْيَوْمَ اِنْقَطَعَتْ خِلَافَةُ اَلنُّبُوَّةِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ اَلْبَيْتِ اَلَّذِي فِيه أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ:
رَحِمَكَ اَللهُ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ، كُنْتَ أَوَّلَ اَلْقَوْمِ إِسْلَاماً، وَأَخْلَصَهُمْ إِيمَاناً، وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً، وَأَخْوَفَهُمْ لِله...، وانحدر في كلامه، واسترسل في بيانه، بما يكشف عن عظيم معرفته، وعلوِّ كعبه في البلاغة والبيان.
وَسَكَتَ اَلْقَوْمُ حَتَّى اِنْقَضَى كَلَامُهُ، وَبَكَى، وَبَكَى أَصْحَابُ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ثُمَّ طَلَبُوهُ، فَلَمْ يُصَادِفُوهُ(٢٥٠).
لقد قال الخضر (عليه السلام) كلماته، وأبان للناس معرفته، وجليل الخَطْب بفقد مولاه، ثمّ غاب عن أنظارهم.
فيا ترى هل كان هذا آخر عهده بأمير المؤمنين (عليه السلام)، أم كان له لقاء آخر؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٤٩) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج ١٠٠/ ص ٣٥٦): (إنَّما أوردنا هذا الخبر هنا لأنَّ المتكلِّم كان الخضر (عليه السلام) كما يظهر من إكمال الدِّين).
(٢٥٠) الكافي (ج ١/ ص ٤٥٤ - ٤٥٦/ باب مولد أمير المؤمنين (عليه السلام)/ ح ٤)، كمال الدِّين (ص ٣٨٧ - ٣٩٠/ باب ٣٨/ ح ٣)، أمالي الصدوق (ص ٣١٢ - ٣١٤/ ح ٣٦٣/١١)، وسيأتي في (ص ٢٠٥ - ٢٠٨).

↑صفحة ١٤٣↑

إنَّ بعض الروايات تشير إلى أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أوصى أنْ لا يُسلَّم جسده المطهَّر إلَّا إلى أحد شخصين: جبرئيل (عليه السلام) أو الخضر (عليه السلام)(٢٥١).
فلعلَّ الخضر (عليه السلام) لم يطب نفساً دون أنْ يكون من المشاركين في مواراة هذا الجسد المعظَّم، وليكون ذلك آخر عهده به.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥١) روي أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لـمَّا حمله الحسن والحسين (عليهما السلام) على سريره إلى مكان البئر المختلف فيه إلى نجف الكوفة، وجدا فارساً يتضوَّع منه رائحة المسك، فسلَّم عليهما، ثمّ قال للحسن (عليه السلام): «أنت الحسن بن عليٍّ رضيع الوحي والتنزيل، وفطيم العلم والشرف الجليل، خليفة أمير المؤمنين وسيِّد الوصيِّين؟»، قال: «نعم»، قال: «وهذا الحسين بن أمير المؤمنين وسيِّد الوصيين، سبط الرحمة، ورضيع العصمة، وربيب الحكمة، ووالد الأئمَّة؟»، قال: «نعم»، قال: «سلمَّاه إليَّ وأمضيا في دعة الله»، فقال له الحسن (عليه السلام): «إنَّه أوصى إلينا أنْ لا نُسلِّم إلَّا إلى أحد رجلين: جبرئيل أو الخضر، فمن أنت منهما؟»، فكشف النقاب، فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ قال للحسن (عليه السلام): «يا أبا محمّد، إنَّه لا تموت نفس إلَّا ويشهدها، أفما يشهد جسده؟».
بحار الأنوار (ج ٤٢/ ص ٣٠٠ و٣٠١).

↑صفحة ١٤٤↑

وصاح ناعياً لسيِّد الشهداء (عليه السلام)
كان يوم عاشورا يوماً استثنائيًّا في عمر الدنيا، فإنْ رفعتَ رأسك للسماء، ستراها قد ارتدَت رداء الحزن، وأطلَّ منها جبرئيل (عليه السلام) حزيناً باكياً، ليشاهد ما تصنع الأُمَّة المتحيِّرة بفرخ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
ودوَّى صوت من الغيب صارخاً في كربلاء والمدينة: قُتِلَ الفرخ النحول...
وهلمَّ لتفاصيل الخبر؛ لنسمعه من ابن عبَّاس (رضي الله عنه)، والذي كان يترقَّب الحادثة آناً بعد آنٍ، يتفقَّد الآثار التي حملها معه عند مروره مع أمير المؤمنين (عليه السلام) بأرض كربلاء، فقد كان موعوداً بفوران الدم منها.
يقول ابن عبَّاس: فَوَاَلله، لَقَدْ كُنْتُ أَحْفَظُهَا أَشَدَّ مِنْ حِفْظِي لِبَعْضِ مَا اِفْتَرَضَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَيَّ، وَأَنَا لَا أَحُلُّهَا مِنْ طَرَفِ كُمِّي.
فَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ فِي اَلْبَيْتِ، إِذِ اِنْتَبَهْتُ فَإِذَا هِيَ تَسِيلُ دَماً عَبِيطاً، وَكَانَ كُمِّي قَدِ اِمْتَلَأَ دَماً عَبِيطاً، فَجَلَسْتُ وَأَنَا بَاكٍ، وَقُلْتُ: قَدْ قُتِلَ - وَاَلله - اَلْحُسَيْنُ، وَاَلله مَا كَذَبَنِي عَلِيٌّ قَطُّ فِي حَدِيثٍ حَدَّثَنِي، وَلَا أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ قَطُّ أَنَّهُ يَكُونُ إِلَّا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كَانَ يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ لَا يُخْبِرُ بِهَا غَيْرَهُ.
فَفَزِعْتُ وَخَرَجْتُ - وَذَلِكَ عِنْدَ اَلْفَجْرِ -، فَرَأَيْتُ - وَاَلله - اَلمَدِينَةَ كَأَنَّهَا ضَبَابٌ لَا يَسْتَبِينُ مِنْهَا أَثَرُ عَيْنٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ اَلشَّمْسُ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّهَا مُنْكَسِفَةٌ، وَرَأَيْتُ كَأَنَّ حِيطَانَ اَلمَدِينَةِ عَلَيْهَا دَمٌ عَبِيطٌ، فَجَلَسْتُ وَأَنَا بَاكٍ، فَقُلْتُ: قَدْ قُتِلَ - وَاَلله - اَلْحُسَيْنُ، وَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنْ نَاحِيَةِ اَلْبَيْتِ، وَهُوَ يَقُولُ:

↑صفحة ١٤٥↑

اِصْبِرُوا آلَ اَلرَّسُولِ * * * قُتِلَ اَلْفَرْخُ اَلنُّحُولُ
نَزَلَ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ * * * بِبُكَاءٍ وَعَوِيلٍ

ثُمَّ بَكَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَبَكَيْتُ.
فَأَثْبَتُّ عِنْدِي تِلْكَ اَلسَّاعَةَ، وَكَانَ شَهْرُ اَلمُحَرَّمِ، يَوْمُ عَاشُورَاءَ، لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْهُ، فَوَجَدْتُهُ قُتِلَ يَوْمَ وَرَدَ عَلَيْنَا خَبَرُهُ وَتَارِيخُهُ كَذَلِكَ.
فَحَدَّثْتُ هَذَا اَلْحَدِيثَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَاَلله لَقَدْ سَمِعْنَا مَا سَمِعْتَ، وَنَحْنُ فِي اَلمَعْرَكَةِ، وَلَا نَدْرِي مَا هُوَ، فَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ اَلْخَضِرُ (عليه السلام)(٢٥٢).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥٢) أمالي الصدوق (ص ٦٩٤ - ٦٩٦/ ح ٩٥١/٥).

↑صفحة ١٤٦↑

مع السجَّاد (عليه السلام) سائلاً ومسلّياً
الحجَّة البالغة:
لم يكن هيِّناً على الخضر (عليه السلام) أنْ يرى الناس تستبدل الذنابى بالقوادم، وما كفاهم السعي الحثيث لإبعاد الحقِّ عن أهله، حتَّى قاسوا النور بالديجور.
ولم يكن من الهيِّن عليه أنْ يرى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) تعصف بهم رياح التشكيك العاتية؛ لتُبعدهم عن معين العلم وفراته، فلا يُنبِّههم على النعمة التي قد ظفروا بها.
لقد حدَّث أَبُو حَازِمٍ عن رَجُلٍ جاء لِزَيْنِ اَلْعَابِدِينَ (عليه السلام) سائلاً، فقال له: تَعْرِفُ اَلصَّلَاةَ؟
يا له من سؤال غريب، يُوجَّه لابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وربَّما استشعر السامع أنَّ فيه تجاهلاً لمقامه الشامخ. وهذا ما حدث لأبي خازم، فإنَّه لم يتمالك دون أنْ حمل عليه، فالتفت إليه معدن الحكمة والحلم (عليه السلام)، قائلاً: «مَهْلاً يَا أَبَا حَازِمٍ، فَإِنَّ اَلْعُلَمَاءَ هُمُ اَلْحُلَمَاءُ اَلرُّحَمَاءُ»، ثُمَّ وَاجَهَ اَلسَّائِلَ، فَقَالَ: «نَعَمْ أَعْرِفُهَا».
لقد اندفع القادم يُوجِّه السؤال تلو الآخر، فَسَأَلَهُ عَنْ أَفْعَالِهَا، وَتُرُوكِهَا، وَفَرَائِضِهَا، وَنَوَافِلِهَا، حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: مَا افْتِتَاحُهَا؟ قَالَ: «اَلتَّكْبِيرُ».
قَالَ: مَا بُرْهَانُهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «اَلْقِرَاءَةُ(٢٥٣)».
قَالَ: مَا خُشُوعُهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «اَلنَّظَرُ إِلَى مَوْضِعِ اَلسُّجُودِ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥٣) البرهان: الحجَّة، وكون القراءة برهان الصلاة لكونها حجَّة لصحَّتها وقبولها، أو بها نورها وظهورها، أو بها يتميَّز المؤمن عن المخالف الذي لا يعتقد وجوبها.

↑صفحة ١٤٧↑

قَالَ: مَا تَحْرِيمُهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «اَلتَّكْبِيرُ».
قَالَ: مَا تَحْلِيلُهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «اَلتَّسْلِيمُ».
قَالَ: مَا جَوْهَرُهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «اَلتَّسْبِيحُ».
قَالَ: مَا شِعَارُهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «اَلتَّعْقِيبُ(٢٥٤)».
قَالَ: مَا تَمَامُهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «اَلصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ».
قَالَ: مَا سَبَبُ قَبُولِهَا؟ فَقَالَ (عليه السلام): «وَلَايَتُنَا وَاَلْبَرَاءَةُ مِنْ أَعْدَائِنَا».
فَقَالَ السائل: مَا تَرَكْتَ لِأَحَدٍ حُجَّةً، ثُمَّ نَهَضَ يَقُولُ: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، وَتَوَارَى(٢٥٥).
لم يكن السائل مستخفًّا، ولا كان سؤاله استخفافاً، بل كان حكيماً، وكان سؤاله عميقاً، يبدو لسامعه بوجه، ويحمل في أعماقه لُجَجاً غامرة، تُغرق وارديه، إلَّا أنْ يكون ممَّن هم كسفينة نوح (عليه السلام)(٢٥٦).
حديث التسلية:
لقد حاز الخضر شرف القرب من مهابط الوحي، فسلامه لهم واصل، ولقاؤه بهم متجدِّد، والحديث معهم ممكن، أفلا يزيده الله شرفاً، فيبعثه لهم مسلّياً، ومذكِّراً، لينال شرف خدمتهم، كما شرَّف الله سبحانه وتعالى ملائكته حينما بعثهم لأنبيائه مذكِّرين(٢٥٧).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥٤) إنَّما جُعِلَ التعقيب شعار الصلاة لشدَّة ملابسته لها، ومدخليَّته في كمالها، لحفظها من الضياع.
(٢٥٥) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ٢٧٤)، ونقلت شرح المعاني من بحار الأنوار (ج ٨١/ ص ٢٤٥).
(٢٥٦) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله): (الظاهر أنَّ السائل كان الخضر (عليه السلام)).
(٢٥٧) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج ٤٦/ ص ١٤٥): (إنَّما بعث الله الخضر ليُسلِّيه ويُذكِّره (عليه السلام)، وهذا لا ينافي كونه (عليه السلام) أفضل من الخضر (عليه السلام)، كما أنَّ الملائكة يبعثهم الله لتعليم أنبيائه وتذكيرهم، مع كونهم أفضل منهم).

↑صفحة ١٤٨↑

رَوَى أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ(٢٥٨)، وَمُنْذِرٌ اَلثَّوْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)، قَالَ:
«خَرَجْتُ، حَتَّى اِنْتَهَيْتُ إِلَى هَذَا اَلْحَائِطِ، فَاتَّكَيْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ، يَنْظُرُ فِي تُجَاهِ وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ:
يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، مَا لِي أَرَاكَ كَئِيباً حَزِيناً؟ عَلَى اَلدُّنْيَا حُزْنُكَ؟ فَرِزْقُ اَلله حَاضِرٌ لِلْبَرِّ وَاَلْفَاجِرِ.
قُلْتُ: مَا عَلَى هَذَا حُزْنِي، وَإِنَّهُ لَكَمَا تَقُولُ.
قَالَ: فَعَلَى اَلْآخِرَةِ؟ فَهُوَ وَعْدٌ صَادِقٌ، يَحْكُمُ فِيهِ مَلِكٌ قَاهِرٌ، فَعَلَامَ حُزْنُكَ؟».
قَالَ: «قُلْتُ: اَلْخَوْفُ مِنْ فِتْنَةِ اِبْنِ اَلزُّبَيْرِ».
قَالَ: «ثَمَّ ضَحِكَ وَقَالَ: يَا عَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ، هَلْ رَأَيْتَ أَحَداً تَوَكَّلَ عَلَى اَلله فَلَمْ يَكْفِهِ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، هَلْ رَأَيْتَ أَحَداً خَافَ اَللهَ فَلَمْ يُنْجِهِ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، هَلْ رَأَيْتَ أَحَداً سَأَلَ اَللهَ فَلَمْ يُعْطِهِ؟ قُلْتُ: لَا.
ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ قُدَّامِي أَحَدٌ، وَكَانَ اَلْخَضِرَ (عليه السلام)»(٢٥٩).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٥٨) أبو حمزة ثابت بن دينار، من الأزد، روي عن الإمام الرضا (عليه السلام): «أَبُو حَمْزَةَ اَلثُّمَالِيُّ فِي زَمَانِهِ كَسَلْمَانَ فِي زَمَانِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَدَمَ أَرْبَعَةً مِنَّا: عَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَبُرْهَةً مِنْ عَصْرِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهم السلام)»، رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٢٨١/ ح ٩١٩).
(٢٥٩) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ٢٧٩ و٢٨٠)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في التوحيد (ص ٣٧٣ و٣٧٤/ باب ٦٠/ ح ١٧)، والمفيد (رحمه الله) في أماليه (ص ٢٠٤ و٢٠٥/ ح ٣٤)، وفي الإرشاد (ج ٢/ ص ١٤٨)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ١/ ص ٢٦٩ و٢٧٠/ ح ١٣)، وليس فيها: (وكان الخضر (عليه السلام)).

↑صفحة ١٤٩↑

وجاء للباقر (عليه السلام) سائلاً
حدَّثنا التأريخ عن لقاءات عديدة شهدها بين الإمام الباقر والخضر (عليهما السلام)، وكانت جميعاً في بيت الله الحرام، وفي كلِّ لقاء يكون الحديث باباً من المعارف.
طريق التوبة:
رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) كَانَ فِي اَلْحِجْرِ، وَمَعَهُ ولده الإمام الصادق (عليه السلام)، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ، قَالَ: «سَلْ اِبْنِي جَعْفَراً»، قَالَ: فَتَحَوَّلَ اَلرَّجُلُ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَسْأَلُ؟ قَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ»، قَالَ: أَسْأَلُكَ عَنْ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذَنْباً عَظِيماً عَظِيماً عَظِيماً، قَالَ: «أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّداً؟»، قَالَ: أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَزَنَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؟»، قَالَ: أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «قَتَلَ اَلنَّفْسَ؟»، قَالَ: أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «إِنْ كَانَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) مَشَى إِلَى بَيْتِ اَلله اَلْحَرَامِ مِنْ مَنْزِلِهِ، ثُمَّ لْيَحْلِفْ عِنْدَ اَلْحَجَرِ أَنْ لَا يَعُودَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ فَلَا بَأْسَ»، فَقَالَ لَهُ اَلرَّجُلُ: رَحِمَكُمُ اَللهُ يَا وُلْدَ فَاطِمَةَ - ثَلَاثاً -، هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ثُمَّ قَامَ اَلرَّجُلُ، فَذَهَبَ، فَالْتَفَتَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) إِلَى جَعْفَرٍ، فَقَالَ: «عَرَفْتَ اَلرَّجُلَ؟»، قَالَ: «لَا»، قَالَ: «ذَلِكَ اَلْخَضِرُ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُعَرِّفَكَهُ»(٢٦٠).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٠) الخرائج والجرائح (ج ٢/ ص ٦٣١ و٦٣٢/ ح ٣٢)، عنه بحار الأنوار (ج ٦/ ص ٣٠ و٣١/ح ٣٧)، وقال (رحمه الله) معلِّقاً على الخبر: (لعلَّ في الخبر سقطاً، وإنَّما أوردته كما وجدته، ويحتمل أنْ يكون السائل غرضه السؤال عن حال من جمع بين تلك الأعمال، ويكون سؤاله (عليه السلام) على الإعجاز، لعلمه بالمراد، ويكون المراد بالجواب أنَّ المقتول إنْ كان من الشيعة فليمشِ إلى البيت لكمال قبول التوبة وإلَّا فلا بأس، ولو كان الضمير راجعاً إلى القاتل فلا بدَّ من ارتكاب تكلُّف في قوله (عليه السلام): «فلا بأس به»).

↑صفحة ١٥٠↑

وللكعبة تاريخ:
يرى الطائفون بناءً شامخاً، ويقفون عند آيات بيِّنات، فيعظمون المقام، ويستلمون الحجر، ولكن وراء الظاهر ما لا يعلمون، وفي الغيب ما يجهلون، فهلمَّ لنقف على خزانة علم ستفتح للطالبين.
لقد جاء رجل يسأل الإمام الباقر (عليه السلام) عن بدء خلق البيت، فقال (عليه السلام):
«إِنَّ اَللهَ تَعَالَى لَـمَّا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾، فَرَدُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠ - ٣٣]، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي اَلْخَطِيئَةِ، فَعَاذُوا بِالْعَرْشِ، فَطَافُوا حَوْلَهُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، يَسْتَرْضَوْنَ رَبَّهُمْ (عزَّ وجلَّ)، فَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: اِهْبِطُوا إِلَى اَلْأَرْضِ، فَابْنُوا لِي بَيْتاً، يَعُوذُ بِهِ مَنْ أَذْنَبَ مِنْ عِبَادِي، وَيَطُوفُ حَوْلَهُ كَمَا طُفْتُمْ حَوْلَ عَرْشِي، فَأَرْضَى عَنْهُمْ كَمَا رَضِيتُ عَنْكُمْ، فَبَنَوْا هَذَا اَلْبَيْتَ».
فَقَالَ لَهُ اَلرَّجُلُ: صَدَقْتَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، فَمَا بَدْوُ هَذَا اَلْحَجَرِ؟

↑صفحة ١٥١↑

قَالَ: «إِنَّ اَللهَ تَعَالَى لَـمَّا أَخَذَ مِيثَاقَ بَنِي آدَمَ، أَجْرَى نَهَراً أَحْلَى مِنَ اَلْعَسَلِ، وَأَلْيَنَ مِنَ اَلزُّبْدِ، ثُمَّ أَمَرَ اَلْقَلَمَ فَاسْتَمَدَّ مِنْ ذَلِكَ اَلنَّهَرِ، وَكَتَبَ إِقْرَارَهُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْقَمَ ذَلِكَ اَلْكِتَابَ هَذَا الْحَجَرَ، فَهَذَا اَلْاِسْتِلَامُ اَلَّذِي تَرَى إِنَّمَا هُوَ بَيْعَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِمْ، وَكَانَ أَبِي إِذَا اِسْتَلَمَ اَلرُّكْنَ قَالَ: اَللَّهُمَّ أَمَانَتِي أَدَّيْتُهَا، وَمِيثَاقِي تَعَاهَدْتُهُ؛ لِيَشْهَدَ لِي عِنْدَكَ بِالْوَفَاءِ».
فَقَالَ اَلرَّجُلُ: صَدَقْتَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ اَلْإِمَامُ اَلْبَاقِرُ (عليه السلام) لِابْنِهِ اَلصَّادِقِ (عليه السلام): «اُرْدُدْهُ عَلَيَّ»، فَتَبِعَهُ إِلَى اَلصَّفَا، فَلَمْ يَرَهُ، فَقَالَ اَلْإِمَامُ اَلْبَاقِرُ (عليه السلام): «أَرَاهُ اَلْخَضِرَ»(٢٦١).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦١) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ٣٣٣)؛ ورواه بتفاوت يسير القاضي النعمان في شرح الأخبار (ج ٣/ ص ٢٧٨ و٢٧٩/ ح ١١٨٨).
وفي تفسير العيَّاشي (ج ١/ ص ٣٠/ ح ٦) رواية مشابهة مع بعض الاختلاف، وهي: عَنْ مُحَمَّدِ اِبْنِ مَرْوَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «كُنْتُ مَعَ أَبِي فِي اَلْحِجْرِ، فَبَيْنَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اِنْصَرَفَ سَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا أَنْتَ وَرَجُلٌ آخَرُ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: أَخْبِرْنِي أَيُّ شَيْءٍ كَانَ سَبَبَ اَلطَّوَافِ بِهَذَا اَلْبَيْتِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَـمَّا أَمَرَ اَلمَلَائِكَةَ أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ رَدَّتِ اَلمَلَائِكَةُ، فَقَالَتْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠]، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ اَلتَّوْبَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطُوفُوا بِالضُّرَاحِ، وَهُوَ اَلْبَيْتُ اَلمَعْمُورُ، فَمَكَثُوا بِهِ يَطُوفُونَ بِهِ سَبْعَ سِنِينَ يَسْتَغْفِرُونَ اَللهَ مِمَّا قَالُوا، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ، فَكَانَ هَذَا أَصْلَ اَلطَّوَافِ، ثُمَّ جَعَلَ اَللهُ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ حِذَاءَ اَلضُّرَاحِ تَوْبَةً لِمَنْ أَذْنَبَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَطَهُوراً لَهُمْ، فَقَالَ: صَدَقْتَ.
ثُمَّ ذَكَرَ اَلمَسْأَلَتَيْنِ نَحْوَ اَلْحَدِيثِ السابق، ثُمَّ قَامَ اَلرَّجُلُ، فَقُلْتُ: «مَنْ هَذَا اَلرَّجُلُ يَا أَبَهْ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، هَذَا اَلْخَضِرُ (عليه السلام)».

↑صفحة ١٥٢↑

وكان للصادق (عليه السلام) رسولاً
ذكر التاريخ لنا حادثة جليلة، تُبيِّن مقداراً ممَّا حباه الله أهل البيت (عليهم السلام)؛ إذ جعلهم حُجَجاً على الخلق، فلم تحجبهم الجدران عن الناس، ولم يغيبهم بُعد المكان.
وستفتح لنا هذه الرواية نافذة نرى منها شعاعاً يُعرِّفنا بنوع العلاقة التي تربط بين الخضر والإمام الصادق (عليهما السلام)، إنَّها علاقة المأموم بإمامه، يأتمر بأمره، وينتهي بنهيه.
قال داود الرقِّي:
خَرَجَ أَخَوَانِ لِي يُرِيدَانِ اَلمَزَارَ، فَعَطِشَ أَحَدُهُمَا عَطَشاً شَدِيداً حَتَّى سَقَطَ مِنَ اَلْحِمَارِ، وَسُقِطَ اَلْآخَرُ فِي يَدِهِ.
فَقَامَ، فَصَلَّى، وَدَعَا اَللهَ، وَمُحَمَّداً، وَأَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، وَاَلْأَئِمَّةَ، كَانَ يَدْعُو وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ، حَتَّى بَلَغَ إِلَى آخِرِهِمْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُوهُ، وَيَلُوذُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا هَذَا، مَا قِصَّتُكَ؟
فَذَكَرَ لَهُ حَالَهُ، فَنَاوَلَهُ قِطْعَةَ عُودٍ، وَقَالَ: ضَعْ هَذَا بَيْنَ شَفَتَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ؛ فَإِذَا هُوَ قَدْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَاِسْتَوَى جَالِساً، وَلَا عَطَشَ بِهِ، فَمَضَى حَتَّى زَارَ اَلْقَبْرَ.
فَلَمَّا اِنْصَرَفَا إِلَى اَلْكُوفَةِ، أَتَى صَاحِبُ اَلدُّعَاءِ اَلمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى اَلصَّادِقِ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ: «اِجْلِسْ، مَا حَالُ أَخِيكَ؟ أَيْنَ اَلْعُودُ؟».
فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، إِنِّي لَـمَّا أُصِبْتُ بِأَخِي اِغْتَمَمْتُ غَمًّا شَدِيداً، فَلَمَّا رَدَّ اَللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ نَسِيتُ اَلْعُودَ مِنَ اَلْفَرَحِ.

↑صفحة ١٥٣↑

فَقَالَ اَلصَّادِقُ (عليه السلام): «أَمَا إِنَّهُ سَاعَةَ صِرْتَ إِلَى غَمِّ أَخِيكَ، أَتَانِي أَخِي اَلْخَضِرُ، فَبَعَثْتُ إِلَيْكَ عَلَى يَدَيْهِ قِطْعَةَ عُودٍ، مِنْ شَجَرَةِ طُوبَى».
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خَادِمٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «عَلَيَّ بِالسَّفَطِ»، فَأَتَى بِهِ، فَفَتَحَهُ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ اَلْقِطْعَةَ اَلْعُودَ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ أَرَاهَا إِيَّاهُ حَتَّى عَرَفَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى اَلسَّفَطِ(٢٦٢).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٢) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ٣٦٦).

↑صفحة ١٥٤↑

الزائر الدائم للرضا (عليه السلام)
إنَّ من ذاق حلاوة محضرهم الشريف، لا يحتمل فراقهم، ومن عرف شرف القرب منهم، لا يرتضي بغيرهم، ومن يتشرَّف بالسلام عليهم، لا يقدر أنْ يغيب عنهم، بل ومتى غاب نجم منهم تعلَّق بالآخر.
لقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال:
«إِنَّ اَلْخَضِرَ (عليه السلام) شَرِبَ مِنْ مَاءِ اَلْحَيَاةِ، فَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، حَتَّى يُنْفَخَ فِي اَلصُّورِ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِينَا، فَيُسَلِّمُ، فَنَسْمَعُ صَوْتَهُ، وَلَا نَرَى شَخْصَهُ، وَإِنَّهُ لَيَحْضُرُ حَيْثُ مَا ذُكِرَ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْكُمْ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيَحْضُرُ اَلمَوْسِمَ كُلَّ سَنَةٍ، فَيَقْضِي جَمِيعَ اَلمَنَاسِكِ، وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ، فَيُؤَمِّنُ عَلَى دُعَاءِ اَلمُؤْمِنِينَ، وَسَيُؤْنِسُ اَللهُ بِهِ وَحْشَةَ قَائِمِنَا فِي غَيْبَتِهِ، وَيَصِلُ بِهِ وَحْدَتَهُ»(٢٦٣).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٣) كمال الدِّين (ص ٣٩٠ و٣٩١/ باب ٣٨/ ح ٤).

↑صفحة ١٥٥↑

الخضر مع إمام في صباه
وامتدَّ العمر بالخضر (عليه السلام) طويلاً، فمرَّت عليه مواكب الأنبياء والمرسَلين، فكلَّما أطلَّ رسول من رُسُل السماء على الدنيا ابتهج قلبه، فقد انبعث أمل جديد، فربَّما رجع الناس إلى رشدهم.
لقد كانت لكلِّ رسول طلعة خاصَّة، ولكلِّ نبيٍّ بهجة تميُّزه، فلمَّا أذنت السماء بإشراقة خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم) شاهد ما لم تبصر عيناه من قبل، فهذا موكب النور يتلو بعضه بعضاً، ويقتفي الأبناء فيه مسيرة الآباء.
فإنْ غابت شمس النبوَّة، فقد بزغ قمر الإمامة، وإنْ مضى سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فقد أتى موكب الأوصياء، فما كان - وهو العارف - ليُخلي نفسه من قبسات النور.
السلام المستمرُّ:
وتُحدِّثنا الروايات عن عمل لم يتركه الخضر (عليه السلام) يوماً من الأيَّام، ولم يتثاقل عنه ساعة من الساعات، فقد كان محظوظاً عندما أُذِنَ له بالتشرُّف بمحضرهم، وبإلقاء السلام على مسامعهم، فإنْ كانوا في مهابط الوحي زارهم، وإنْ كانوا في القفار طوى البيد نحوهم.
حدث يرويه شخصان، وهما: إبراهيم بن أدهم(٢٦٤)، وفتح الموصلي(٢٦٥)، فقد قال كلُّ واحدٍ منهما:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٤) إبراهيم بن أدهم زاهد مشهور، مختلف فيه من حيث ارتباطه بأهل البيت (عليهم السلام).
راجع: الكنى والألقاب (ج ١/ ص ٣٩٣).
(٢٦٥) ذكره علماء العامَّة، واعتبروه من الزُّهَّاد، ولم أجد له ترجمة، ويبدو أنَّه كان معاصراً للإمام الكاظم (عليه السلام).

↑صفحة ١٥٦↑

كُنْتُ أَسِيحُ فِي اَلْبَادِيَةِ مَعَ اَلْقَافِلَةِ، فَعَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ، فَتَنَحَّيْتُ عَنِ اَلْقَافِلَةِ، فَإِذَا أَنَا بِصَبِيٍّ يَمْشِي، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اَلله، بَادِيَةٌ بَيْدَاءُ وَصَبِيٌّ يَمْشِي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ اَلسَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «أُرِيدُ بَيْتَ رَبِّي»، فَقُلْتُ: حَبِيبِي، إِنَّكَ صَغِيرٌ، لَيْسَ عَلَيْكَ فَرْضٌ، وَلَا سُنَّةٌ، فَقَالَ: «يَا شَيْخُ، مَا رَأَيْتَ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنِّي مَاتَ؟»، فَقُلْتُ: أَيْنَ اَلزَّادُ وَاَلرَّاحِلَةُ؟ فَقَالَ: «زَادِي تَقْوَايَ، وَرَاحِلَتِي رِجْلَايَ، وَقَصْدِي مَوْلَايَ»، فَقُلْتُ: مَا أَرَى شَيْئاً مِنَ اَلطَّعَامِ مَعَكَ، فَقَالَ: «يَا شَيْخُ، هَلْ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يَدْعُوَكَ إِنْسَانٌ إِلَى دَعْوَةٍ فَتَحْمِلَ مِنْ بَيْتِكَ اَلطَّعَامَ؟»، قُلْتُ: لَا، قَالَ: «اَلَّذِي دَعَانِي إِلَى بَيْتِهِ هُوَ يُطْعِمُنِي، وَيَسْقِينِي»، فَقُلْتُ: اِرْفَعْ رِجْلَكَ حَتَّى تُدْرِكَ، فَقَالَ: «عَلَيَّ اَلْجِهَادُ، وَعَلَيْهِ اَلْإِبْلَاغُ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩]؟»، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ شَابٌّ حَسَنُ اَلْوَجْهِ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ حَسَنَةٌ، فَعَانَقَ اَلصَّبِيَّ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَأَقْبَلْتُ عَلَى اَلشَّابِّ، وَقُلْتُ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِالَّذِي حَسَّنَ خَلْقَكَ، مَنْ هَذَا اَلصَّبِيُّ؟ فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُهُ؟ هَذَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَتَرَكْتُ اَلشَّابَّ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى اَلصَّبِيِّ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ بِآبَائِكَ، مَنْ هَذَا اَلشَّابُّ؟ فَقَالَ: «أَمَا تَعْرِفُهُ؟ هَذَا أَخِي اَلْخَضِرُ، يَأْتِينَا كُلِّ يَوْمٍ، فَيُسَلِّمُ عَلَيْنَا»(٢٦٦).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٦) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ٢٨٠)؛ وفي المصدر تصريح بأنَّ الإمام كان زين العابدين (عليه السلام)، ولعلَّ في الرواية سقطاً، فإنَّ بين شهادة الإمام السجَّاد (عليه السلام) ووفاة إبراهيم بن أدهم سبعاً وستِّين سنة، ولكن الذي يبدو أنَّها كانت مع الإمام الكاظم (عليه السلام)، فقد كانت شهادته عام (١٨٣هـ)، وأمَّا ابن أدهم فموته سنة (١٦١هـ).

↑صفحة ١٥٧↑

وأصبح مؤنساً لصاحب الزمان (عجّل الله فرجه)
وأخيراً، شاءت الأقدار أنْ يصبح المتبوع تابعاً، وأنْ يلوذ غائب بغائب، قد استكملت حلقات الكمال، وبلغت الأدوار الختام، وانكشف سرٌّ من أسرار صاحب العمر المديد، وكما قال الإمام الرضا (عليه السلام): «وَسَيُؤْنِسُ اَللهُ بِهِ وَحْشَةَ قَائِمِنَا فِي غَيْبَتِهِ، وَيَصِلُ بِهِ وَحْدَتَهُ»(٢٦٧).
ولن يكون الخضر (عليه السلام) وحده في هذه المهمَّة، وإنَّما سيكون واحداً ضمن مجموعة، فقد قال الإمام الباقر (عليه السلام): «وَمَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ»(٢٦٨)، ومن بين هؤلاء الثلاثين الخضر (عليه السلام).
وقفة تأمُّل:
نظرة واحدة لركب الحجَّة المنتظَر (عجّل الله فرجه) يمكن أنْ نرجع منها بكنز معرفي ثمين.
سنشاهد في الركب شخصين عظيمين، يسيران معه، ويأتمران بأمره، وهما بعض جنوده.
لقد عرضت الروايات صوراً سيراها الحاضرون في عصر الظهور،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٧) قد مرَّ في (ص ١٥٥)، فراجع.
(٢٦٨) الغيبة للطوسي (ص ١٦٢/ ح ١٢١)؛ ورواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ١/ ص ٣٤٠/ باب في الغيبة/ ح ١٦)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص ١٩٤/ باب ١٠/ فصل ٤/ ح ٤١).

↑صفحة ١٥٨↑

وسيكون في بعضها روح الله (عليه السلام) مقتدياً بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في صلاته، ومنتظراً لأوامره، وفي بعضها الآخر سترى الخضر (عليه السلام) حافًّا به، يرفع به الله وحشته.
ولا تعجل على الحكم على ما طرحته بين يديك، وهلمَّ إلى الروايات فاقرأها متأمِّلاً.
لقد روى البخاري في صحيحه أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ»(٢٦٩).
وروي عن حذيفة أنَّه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «فيلتفت المهدي، وقد نزل عيسى (عليه السلام)، كأنَّما يقطر من شعره الماء، فيقول المهدي: تقدَّم، صلِّ بالناس، فيقول عيسى: إنَّما أُقيمت الصلاة لك، فيُصلِّي عيسى خلف رجل من ولدي، فإذا صُلِّيت قام عيسى حتَّى جلس في المقام، فيُبايعه، فيمكث أربعين سنة»(٢٧٠).
تأمَّل - عزيزي القارئ - في الرواية، وتوقَّف عند كلمة (فيُبايعه)، فإنَّها تحمل دلالة أوسع ممَّا يُصوِّره الاقتداء في الصلاة، إنَّها البيعة، وما البيعة إلَّا دليل الاتِّباع والاقتداء.
وأمَّا الخضر (عليه السلام) فقد تكفَّلت رواياتنا بالحديث عنه، فنصَّت على كونه مؤنساً للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومؤتمراً بأوامره.
لقد جمعت رواية واحدة بين الخضر وعيسى (عليهما السلام)، وهما يأتمران بآمر واحد، وقد سبق أنِ اجتمع مع موسى (عليه السلام)، فلم يستطع معه صبراً، فلقد كُلِّف كلُّ واحدٍ منهما بأمر يختلف عن الآخر، فذاك ابن عمران (عليه السلام) قد كُلِّف بنظام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٦٩) صحيح البخاري (ج ٥/ ص ٤٠١/ ح ٣٠٨٧)؛ ورواه مسلم في صحيحه (ج ١/ ص ٩٤).
(٢٧٠) البيان في أخبار صاحب الزمان (عليه السلام) (ص ٤٩٧).

↑صفحة ١٥٩↑

تشريعي، وهذا الخضر (عليه السلام) قد كُلِّف بأمر تكويني، فموسى (عليه السلام) قد كُلِّف بالظواهر، والخضر (عليه السلام) قد كُلِّف بالبواطن.
الباطن والظاهر والتكوين والتشريع خطَّان متناسقان، يوصلان الإنسان إلى الكمال، ولكلِّ خطٍّ رجاله، والمهمُّ في الأمر أنَّ رجال الخطَّين التشريعي والتكويني سيصبحون منقادين لآمرٍ واحدٍ، وهو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
حقًّا لقد طأطأ كلُّ شريف لشرفكم، وحقًّا إنَّ الطير لينحدر من قمَّتكم كليلاً.
إنَّ التفكُّر في هذه الصورة يكفي الباحث في معرفة عظمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويوقفه على شيء ممَّا حازوه من الشرف.
وسيتَّضح أنَّ الوصول إلى هدف الأنبياء - وهو إقامة العدل في كلِّ شبر من الأرض - يستلزم هذه القيادة المتعدِّدة الجهات، بحيث ينطوي تحتها الخطَّان.
وستنفتح نافذة نشرف من خلالها على أهمّيَّة البحث عن تفضيل أهل البيت (عليهم السلام)، وسنرى أنَّه ليس أمراً ترفيًّا، بل هو أمر متعلِّق بالواقع الذي يعيشه الإنسان، ويؤمل الخروج منه إلى عالم من السعادة والعدالة.
تعقيب:
إنَّ من دواعي إبقاء شخصيَّة بهذا العمر الطويل إيجاد البرهان الحيِّ على إمكانيَّة بقاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مدَّة طويلة.
فأنت ترى بوضوح وجود عناصر مشتركة بين الشخصيَّتين، وتجد نقاط التقاء كثيرة بينهما، ويمكن أنْ نشير إلى بعضها:
- العمر الطويل.
- الغيبة عن الأنظار.

↑صفحة ١٦٠↑

- الظهور لبعض الناس حينما تقتضي المصلحة.
- الغيبة الفجائيَّة عمَّن يلتقي معه.
- السرّيَّة في التحرُّك والعمل.
- التشابه في بعض الأعمال، كإرشاد الحائر.
وقد أشار الأئمَّة (عليهم السلام) إلى وجود نوع من التشابه بين الشخصيَّتين، بل وأصبح طول عمر الخضر (عليه السلام) دليلاً على عمر الحجَّة المنتظَر (عجّل الله فرجه)، فقد روي عن سدير الصيرفي أنَّه قال:
دَخَلْتُ أَنَا، وَاَلمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو بَصِيرٍ، وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، عَلَى مَوْلَانَا أَبِي عَبْدِ اَلله اَلصَّادِقِ (عليه السلام)، فَرَأَيْنَاهُ جَالِساً عَلَى اَلتُّرَابِ، وَعَلَيْهِ مِسْحٌ خَيْبَرِيٌّ مُطَوَّقٌ بِلَا جَيْبٍ، مُقَصَّرُ اَلْكُمَّيْنِ، وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ اَلْوَالِهِ اَلثَّكْلَى، ذَاتِ اَلْكَبِدِ اَلْحَرَّى، قَدْ نَالَ اَلْحُزْنُ مِنْ وَجْنَتَيْهِ، وَشَاعَ اَلتَّغَيُّرُ فِي عَارِضَيْهِ، وَأَبْلَى اَلدُّمُوعُ مَحْجِرَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
«سَيِّدِي، غَيْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي، وَضَيَّقَتْ عَلَيَّ مِهَادِي، وَاِبْتَزَّتْ مِنِّي رَاحَةَ فُؤَادِي. سَيِّدِي، غَيْبَتُكَ أَوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِعِ اَلْأَبَدِ، وَفَقْدُ اَلْوَاحِدِ بَعْدَ اَلْوَاحِدِ يُفْنِي اَلْجَمْعَ وَاَلْعَدَدَ...»، إلى أنْ قال: «إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَارَ لِلْقَائِمِ مِنَّا ثَلَاثَةً أَدَارَهَا فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ (عليهم السلام):
- قَدَّرَ مَوْلِدَهُ تَقْدِيرَ مَوْلِدِ مُوسَى (عليه السلام).
- وَقَدَّرَ غَيْبَتَهُ تَقْدِيرَ غَيْبَةِ عِيسَى (عليه السلام).
- وَقَدَّرَ إِبْطَاءَهُ تَقْدِيرَ إِبْطَاءِ نُوحٍ (عليه السلام).
وَجَعَلَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُمُرَ اَلْعَبْدِ اَلصَّالِحِ - أَعْنِي اَلْخَضِرَ (عليه السلام) - دَلِيلاً عَلَى عُمُرِهِ»(٢٧١).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧١) كمال الدِّين (ص ٣٥٢ - ٣٥٤/ باب ٣٨/ ح ٥٠)، الغيبة للطوسي (ص ١٦٧ - ١٦٩/ ح ١٢٩).

↑صفحة ١٦١↑

من مشاهدات الأولياء:
هناك مشاهدات للأولياء تدلُّ على وجود العلاقة بين الخضر والإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومن ذلك ما نُقِلَ عن الشيخ العفيف الصالح حسن بن مثلة الجمكراني، في علَّة بناء مسجد جمكران.
فإنَّه قد حظي بشرف الدعوة والمثول بين يدي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وقد نقل ما شاهده، فقال: لـمَّا أمعنت النظر رأيت أريكة، فُرِشَت عليها فُرُش حسان، وعليها وسائد حسان.
ورأيت فتى في زيِّ ابن ثلاثين، متَّكأً عليها، وبين يديه شيخ، وبيده كتاب يقرؤه عليه، وحوله أكثر من ستِّين رجلاً، يُصلُّون في تلك البقعة، وعلى بعضهم ثياب بيض، وعلى بعضهم ثياب خضر.
وكان ذلك الشيخ هو الخضر (عليه السلام)، فأجلسني ذلك الشيخ (عليه السلام)، ودعاني الإمام (عليه السلام) باسمي...(٢٧٢).
ولابن العرندس (رحمه الله) في هذا المعنى كلام جليل في رائيَّته المشهورة، فقد قال:

تحفُّ به الأملاكُ من كلِّ جانبٍ * * * ويَقْدِمُهُ الإقبالُ والعِزُّ والنصـرُ
عوامِلُهُ في الدارِعينَ شوارعٌ * * * وحاجِبُهُ عيسى وناظِرُهُ الخِضْـرُ(٢٧٣)
* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧٢) النجم الثاقب (ج ٢/ ص ٥١ و٥٢/ الحكاية ١)، جنَّة المأوى (ص ٥٤ و٥٥/ الحكاية ٨).
(٢٧٣) الغدير (ج ٧/ ص ١٧).

↑صفحة ١٦٢↑

الخضر في الأوتاد
حينما نتتبَّع الروايات التي ورد فيها ذكر الأوتاد، سنجدها تُصنَّف في مجموعتين: إحداهما قد أُطلقت فيها كلمة الأوتاد على رسول الله والأئمَّة (عليهم السلام)، والأُخرى قد حدَّدت صفاتٍ لمن يُطلَق عليهم اسم (الأوتاد)، ودونك الروايات فتأمَّلها.
روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: «أَنَا وَاِثْنَا عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوَّلُهُمْ - أَوْتَادُ اَلْأَرْضِ، فَإِذَا ذَهَبُوا مَاجَتِ اَلْأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَلَمْ يُنْظَرُوا»(٢٧٤).
وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه خاطب قتادة بن دعامة البصري، فقال له: «وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، إِنَّ اَلهَ (جَلَّ وَعَزَّ) خَلَقَ خَلْقاً مِنْ خَلْقِهِ، فَجَعَلَهُمْ حُجَجاً عَلَى خَلْقِهِ، فَهُمْ أَوْتَادٌ فِي أَرْضِهِ، قُوَّامٌ بِأَمْرِهِ، نُجَبَاءُ فِي عِلْمِهِ...»(٢٧٥).
وروي عنه كذلك قوله: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ شَرَّفَهُمُ اَللهُ بِكَرَامَتِهِ، وَأَعَزَّهُمْ بِهُدَاهُ، وَاِخْتَصَّهُمْ لِدِينِهِ، وَفَضَّلَهُمْ بِعِلْمِهِ، وَاِسْتَحْفَظَهُمْ، وَأَوْدَعَهُمْ عِلْمَهُ عَلَى غَيْبِهِ، [فَهُمْ] عِمَادٌ لِدِينِهِ، شُهَدَاءُ عَلَيْهِ، وَأَوْتَادٌ فِي أَرْضِهِ، قُوَّامٌ بِأَمْرِهِ»(٢٧٦).
لقد قرأنا بوضوح إطلاق الأوتاد على النبيِّ الأكرم وأهل بيته (عليهم السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧٤) الصراط المستقيم (ج ٢/ ص ١٣٢).
(٢٧٥) الكافي (ج ٦/ ص ٢٥٦/ باب ما يُنتفَع به من الميتة.../ ح ١).
(٢٧٦) تفسير فرات (ص ٣٣٧ و٣٣٨/ ح ٤٦٠/٣).

↑صفحة ١٦٣↑

وأمَّا الرواية المتحدِّثة عن صفات من يصحُّ إطلاق كلمة (أوتاد) عليهم، فقد وردت في حديث قدسي، وإليك المقتطف منه:
«يَا أَحْمَدُ، هَلْ تَدْرِي لِأَيِّ شَيْءٍ فَضَّلْتُكَ عَلَى سَائِرِ اَلْأَنْبِيَاءِ؟».
قَالَ: «اَللَّهُمَّ لَا».
قَالَ: «بِالْيَقِينِ، وَحُسْنِ اَلْخُلُقِ، وَسَخَاوَةِ اَلنَّفْسِ، وَرَحْمَةٍ بِالْخَلْقِ، وَكَذَلِكَ أَوْتَادُ اَلْأَرْضِ، لَمْ يَكُونُوا أَوْتَاداً إِلَّا بِهَذَا»(٢٧٧).
فنرى أنَّ الحديث القدسي حدَّد صفاتٍ لمن يستحقُّ أنْ يُطلَق عليه أنَّه من الأوتاد.
والذي يبدو أنَّ الحديث القدسي أشار إلى صفات تنطوي تحتها درجات، ويمكن أنْ تنطبق على عدَّة من الصلحاء الأتقياء، ولكن أجلى مصاديقها هم آل محمّد (عليهم السلام)، حيث بلغوا المرتبة العليا في الاتِّصاف بتلك الصفات.
ولهذا حينما يُطلَق على الخضر (عليه السلام) أنَّه من الأوتاد، فإنَّ ذلك لا يكون ادِّعاءً في حقِّه، بل من باب كونه أحد مصاديق الحديث القدسي، ولكن موقعه ليس في الدرجة العالية.
رأي وجيه:
لعلَّ المقصود بالأوتاد فيما يتعلَّق بمحمّد وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) الجهتان التكوينيَّة والتشريعيَّة، فهم أوتاد الأرض، إذ بهم تُحفَظ من أنْ تسيخ بأهلها، وهم أوتاد الدِّين، إذ هم حماته وحفظته.
وأمَّا ما يُوصَف به غيرهم فإنَّما يعني به الدور الفاعل لحفظ الدِّين وأهله، بالإرشاد ونحوه، وهم في هذا الدور مختلفون بحسب مقاماتهم ورُتَبهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧٧) إرشاد القلوب (ج ١/ ص ٢٠٥).

↑صفحة ١٦٤↑

وقفة تأمُّل:
ورد في دعاء أُمِّ داود عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «... اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى اَلْأَوْصِيَاءِ، وَاَلسُّعَدَاءِ، وَاَلشُّهَدَاءِ، وَأَئِمَّةِ اَلْهُدَى. اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى اَلْأَبْدَالِ، وَاَلْأَوْتَادِ، وَاَلسُّيَّاحِ، وَاَلْعُبَّادِ، وَاَلمُخْلَصِينَ، وَاَلزُّهَّادِ، وَأَهْلِ اَلْجِدِّ وَاَلاِجْتِهَادِ...»(٢٧٨).
وهذا يدلُّ على مغايرة الأوتاد للأئمَّة (عليهم السلام)، فقد وردت الصلوات عليهم، ثمّ عطفت بالصلاة على آخرين.
ويُجاب على هذا القول بأنَّ الدعاء ليس صريحاً في المغايرة، فيمكن حمله على التأكيد.
ويحتمل أنْ يكون المراد به في الدعاء خواصُّ أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام)، وبما أنَّنا في عصر الحجَّة (عجّل الله فرجه)، والخضر (عليه السلام) من خواصِّه، فلا يبعد انطباق هذا المصطلح على الخضر (عليه السلام)(٢٧٩).
وقفة مع (مصباح) الكفعمي:
ورد إطلاق كلمة (الوتد) على الخضر في نسقٍ خاصٍّ عند الشيخ الكفعمي (رحمه الله)، وبالتحديد في هامش (جنَّته)، عند ذكره لدعاء أُمِّ داود، فدونك كلامه:
تقسيم المقامات:
(قيل: إنَّ الأرض لا تخلو من القطب، وأربعة أوتاد، وأربعين أبدالاً، وسبعين نجيباً، وثلاثمائة وستِّين صالحاً، فالقطب هو المهدي (عليه السلام).
ولا تكون الأوتاد أقلّ من أربعة؛ لأنَّ الدنيا كالخيمة، والمهدي كالعمود، وتلك الأربعة أطنابها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٧٨) مصباح المتهجِّد (ص ٨٠٩)، إقبال الأعمال (ج ٣/ ص ٢٤٤)، المصباح للكفعمي (ص ٥٣٢).
(٢٧٩) راجع: بحار الأنوار (ج ٢٧/ ص ٤٨)؛ وقد استخرجت هذه الفائدة من تعليق العلَّامة المجلسي (رحمه الله) على كلمة (الأبدال)؛ فإنَّه لا يخفى أنَّ الكلام فيها مشابه لما يرد في كلمة (الأوتاد).

↑صفحة ١٦٥↑

وقد تكون الأوتاد أكثر من أربعة، والأبدال أكثر من أربعين، والنجباء أكثر من سبعين، والصلحاء أكثر من ثلاثمائة وستِّين، والظاهر أنَّ الخضر وإلياس من الأوتاد؛ فهما ملاصقان لدائرة القطب).
صفات أصحاب كلِّ مقام:
(أمَّا صفة الأوتاد، فهم قوم لا يغفلون عن ربِّهم طرفة عين، ولا يجمعون من الدنيا إلَّا البلاغ، ولا تصدر منهم هفوات الشرِّ، ولا يُشترَط فيهم العصمة من السهو والنسيان، بل من فعل القبيح، ويُشترَط ذلك في القطب.
وأمَّا الأبدال فدون هؤلاء في المراقبة، وقد تصدر منهم الغفلة، فيتداركونها بالتذكُّر، ولا يتعمَّدون ذنباً.
وأمَّا النجباء دون الأبدال.
وأمَّا الصلحاء فهم المتَّقون الموصوفون بالعدالة، وقد يصدر منهم الذنب، فيتداركونه بالاستغفار والندم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١].
جعلنا الله من القسم الأخير؛ لأنَّا لسنا من الأقسام الأُوَل، لكن ندين الله بحبِّهم وولايتهم، ومن أحبَّ قوماً حُشِرَ معهم).
سُلَّم الترقِّي في المقامات:
(وقيل: إذا نقص أحد من الأوتاد الأربعة وُضِعَ بدله من الأربعين، وإذا نُقِصَ أحد من الأربعين وُضِعَ بدله من السبعين، وإذا نقص أحد من السبعين وُضِعَ بدله من الثلاثمائة وستِّين، وإذا نقص أحد من الثلاثمائة وستِّين وُضِعَ بدله من سائر الناس)(٢٨٠).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٠) راجع: النجم الثاقب (ج ٢/ ص ٤٢٨ و٤٢٩) عنه.

↑صفحة ١٦٦↑

تعليق:
إنَّ هذا التقسيم للمقرَّبين من ساحة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وتحديد طريقة ترقِّيهم من مقام لآخر لم يُستدَلّ له برواية معروفة، بل صدَّره الشيخ بكلمة (قيل).
بل أجد في هذا التقسيم مشابهة لما يوجد عند الصوفيَّة، فكلاهما يقسمان المقامات إلى قطب وأوتاد وأبدال.
وكلا التقسيمين قائمان على القُرب والبُعد من القطب، بل وإنَّ عمليَّة الترقِّي من مجموعة لأُخرى مشابهة عندهما.
لقد ذكر ابن أبي الحديد أنَّ الصوفيَّة عندهم أنَّ الدنيا لا تخلو عن الأبدال، وهم أربعون، وعن الأوتاد، وهم سبعة، وعن القطب، وهو واحد، فإذا مات القطب صار أحد السبعة قطباً عوضه، وصار أحد الأربعين وتداً عوض الوتد، وصار بعض الأولياء الذي يصطفيهم الله تعالى أبدالاً عوض ذلك البدل(٢٨١).
ولا شكَّ أنَّك لاحظت مقداراً من التشابه، ومقداراً من الاختلاف، وهما لا يخفيان على القارئ.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ١٠/ ص ٩٦).

↑صفحة ١٦٧↑

الفصل الثامن: اللقاءات والنوادر

* لقاءات عامَّة.
* نوادر وطرائف.
* غرائب.

↑صفحة ١٦٩↑

لقاءات عامَّة:
هناك كثير من القَصَص التي تدور حول شخصيَّة غريبة، تأتي إلى الناس، فتُعلِّمهم بعضاً ممَّا عندها، أو تُرشدهم إلى أمر من الأُمور.
وهذه الشخصيَّة تحمل طابع الغيبيَّة، حيث تكون غير معروفة لدى الحاضرين، ويُلاحَظ توفُّر قدرات غريبة لديها ممَّا هو غير متاح لغيرها، فهي باستطاعتها أنْ تسدل على شخصها ستار الغيب لتحجب نفسها عن الحاضرين، بعد أنْ تبلغ ما تريد، بدون أنْ تترك أثراً يدلُّ على جهة انطلاقها وتوجُّهها، فكأنَّما الأرض انشقَّت عنها أو صعدت إلى السماء.
وفي بعض تلك المواقف تُصرِّح هذه الشخصيَّة عن هويَّتها، فتُعلِن أنَّه الخضر (عليه السلام)، وأحياناً يترك الأمر بدون أنْ يفصح عن هويَّتها، ممَّا يجعل التحديد غير دقيق، حيث إنَّ القضيَّة تدلُّ على أنَّ صاحبها رجل من رجال الغيب، ولكن هل هو الخضر (عليه السلام)؟ أم هو إلياس (عليه السلام)؟ أم أنَّه صاحب الأمر (عجّل الله فرجه)؟ أم أنَّه من رجال الغيب الذين لا نعرفهم؟
ولهذا فإنَّ قسماً من التحديد لهويَّة الشخصيَّة الغيبيَّة يعتمد على حدس الشاهد لمجريات الأحداث(٢٨٢)، وإنَّما يمكن التعويل على ذلك التحديد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٢) وخير شاهد على ما نقول ما ذكره السيِّد عليُّ بن طاوس (رحمه الله) في إقبال الأعمال (ج ٣/ ص ٢١١ و٢١٢)، عن كتاب (معالم الدِّين)، قال في أواخره: (ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي اَلرَّوَّادِ اَلرَّوَاسِيُّ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ اَلدَّهَّانِ إِلَى مَسْجِدِ اَلسَّهْلَةِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَجَبٍ، فَقَالَ: مِلْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ صَعْصَعَةَ، فَهُوَ مَسْجِدٌ مُبَارَكٌ، وَقَدْ صَلَّى بِهِ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (صلوات الله عليه وآله)، وَوَطِئَهُ الْحُجَجُ بِأَقْدَامِهِمْ، فَمِلْنَا إِلَيْهِ، فَبَيْنَا نَحْنُ نُصَلِّي إِذَا بِرَجُلٍ قَدْ نَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ، وَعَقَلَهَا بِالظِّلَالِ، ثُمَّ دَخَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَقَالَ.. وَذَكَرَ الدُّعَاءَ اَلَّذِي يَأْتِي ذِكْرُهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى رَاحِلَتِهِ وَرَكِبَهَا، فَقَالَ لِي اِبْنُ جَعْفَرٍ اَلدَّهَّانُ: أَلَا نَقُومُ إِلَيْهِ فَنَسْأَلُهُ مَنْ هُوَ؟ فَقُمْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا لَهُ: نَاشَدْنَاكَ اَللهَ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَاشَدْتُكُمَا اَللهَ مَنْ تَرَيَانِي؟»، قَالَ اِبْنُ جَعْفَرٍ اَلدَّهَّانُ: نَظُنُّكَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام)، فَقَالَ: «وَأَنْتَ أَيْضاً؟»، فَقُلْتُ: أَظُنُّكَ إِيَّاهُ، فَقَالَ: «وَاَلله إِنِّي لَـمَنِ اَلْخَضِرُ مُفْتَقِرٌ إِلَى رُؤْيَتِهِ، اِنْصَرِفَا فَأَنَا إِمَامُ زَمَانِكُمَا».

↑صفحة ١٧١↑

إذا حملت القضيَّة تصريحاً من قِبَل تلك الشخصيَّة، أو كانت هناك قرائن تدلُّ على ذلك.

* * *

↑صفحة ١٧٢↑

أوَّلاً: لقاءات صريحة:
وعاد الأعمى بصيراً:
عَنِ اَلْأَعْمَشِ، قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا، فَرَأَيْتُ بِالْبَادِيَةِ أَعْرَابِيًّا أَعْمَى، وَهُوَ يَقُولُ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِالْقُبَّةِ اَلَّتِي اِتَّسَعَ فِنَاؤُهَا، وَطَالَتْ أَطْنَابُهَا، وَتَدَلَّتْ أَغْصَانُهَا، وَعَذُبَ ثَمَرُهَا، وَاِتَّسَقَ فَرْعُهَا، وَأَسْبَغَ وَرَقُهَا، وَطَابَ مَوْلِدُهَا، إِلَّا رَدَدْتَ عَلَيَّ بَصَرِي.
قَالَ اَلْأَعْمَشُ: فَخَنَقَتْنِي اَلْعَبْرَةُ، فَدَنَوْتُ إِلَيْهِ، وَقُلْتُ: يَا أَعْرَابِيٌّ، لَقَدْ دَعَوْتَ فَأَحْسَنْتَ، فَمَا اَلْقُبَّةُ اَلَّتِي اِتَّسَعَ فِنَاؤُهَا؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلم).
قُلْتُ: فَقَوْلُكَ: طَالَتْ أَطْنَابُهَا؟ قَالَ: أَعْنِي فَاطِمَةَ (عليها السلام).
قُلْتُ: وَتَدَلَّتْ أَغْصَانُهَا؟ قَالَ: عَلِيٌّ وَصِيُّ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
قُلْتُ: وَعَذُبَ ثَمَرُهَا؟ قَالَ: اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ (عليهما السلام).
قُلْتُ: وَاِتَّسَقَ فَرْعُهَا؟ قَالَ: حَرَّمَ اَللهُ ذُرِّيَّةَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) عَلَى اَلنَّارِ.
قُلْتُ: وَأَسْبَغَ وَرَقُهَا؟ قَالَ: بِأَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام).
فَأَعْطَيْتُهُ دِينَارَيْنِ، وَمَضَيْتُ، وَقَضَيْتُ اَلْحَجَّ، وَرَجَعْتُ، فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى اَلْبَادِيَةِ رَأَيْتُهُ، فَإِذَا عَيْنَاهُ مَفْتُوحَتَانِ، كَأَنَّهُ مَا عَمِيَ قَطُّ.
قُلْتُ: يَا أَعْرَابِيٌّ، كَيْفَ كَانَ حَالُكَ؟
قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو بِمَا سَمِعْتَ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ، وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَنَّكَ تُحِبُّ نَبِيَّكَ وَأَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى عَيْنَيْكَ.

↑صفحة ١٧٣↑

فَوَضَعْتُهَا عَلَيْهِمَا، ثُمَّ كَشَفْتُ عَنْهُمَا، وَقَدْ رَدَّ اَللهُ عَلَيَّ بَصَرِي، فَالْتَفَتُّ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَلَمْ أَرَ أَحَداً، فَصِحْتُ: أَيُّهَا اَلْهَاتِفُ، بِالله مَنْ أَنْتَ؟
فَسَمِعْتُ: أَنَا اَلْخَضِرُ، أَحِبَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؛ فَإِنَّ حُبَّهُ خَيْرُ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ(٢٨٣).
وناجى ربَّه بأسمائه العظام:
وروي عن عليِّ بن الحسين (عليه السلام) أنَّ مولى لهم ركب في البحر، فكسر به، فبينما هو يسير على ساحله، إذ نظر إلى رجل على شاطئ البحر، ونظر إلى مائدة نزلت من السماء، فوُضِعَت بين يديه، فأكل منها، ثمّ رُفِعَت، فقال له: بالذي وفَّقك لما أرى، أيُّ عباد الله أنت؟
قال: الخضر الذي تسمع به.
قال: بماذا جاءك هذا الطعام والشراب؟
فقال: بأسماء الله العظام(٢٨٤).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٣) الدعوات للراوندي (ص ١٩٥ و١٩٦/ ح ٥٣٧).
(٢٨٤) الإصابة (ج ٢/ ص ٢٧٢).

↑صفحة ١٧٤↑

ثانياً: وتوقَّعوا لقاءه:
وعلَّمنا كيف يكون الدعاء:
وهناك من الحوادث ما يصمت فيها رجل الغيب عن البوح بهويَّته، وإنَّما يُصرِّح الشاهد باسمه؛ لاعتقاده بذلك، أو لأنَّه شاهد من الدلالات ما تعرَّف بها على هويَّته، ومن ذلك ما روي عَنْ أَبِي هِشَامٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِساً فِي مَسْجِدِ وَاسِطٍ، وَصَدِيقٌ لِي كَانَ جَالِساً عِنْدِي، إِذْ دَخَلَ فِي اَلمَسْجِدِ رَجُلٌ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ اَلسَّفَرِ، فَأَتَى إِلَى أُسْطُوَانَةٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى إِلَيْنَا، وَجَلَسَ عِنْدَنَا، وَقَالَ: إِنَّ فِي مَسْجِدِكُمْ هَذَا تَيَامُناً إِلَى اَلْقِبْلَةِ.
قُلْتُ: كَذَا يَقُولُونَ.
قَالَ: مَا صَلَّيْتُ هُنَا قَطُّ قَبْلَ هَذَا اَلْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَى رِجَالاً يَقُولُونَ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ اَلمَكْتُومِ.
إِنَّ لِله تَعَالَى اِسْماً مَكْتُوماً عَنِ اَلْعِبَادِ، أَلَا تَرَى آدَمَ وَحَوَّاءَ لَـمَّا اُضْطُرَّا دَعَوَا اَللهَ تَعَالَى بِأَيِّ اِسْمٍ، ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣]، فَقَبِلَ اَللهُ تَوْبَتَهُمَا.
وَنُوحٌ (عليه السلام) لَـمَّا اُضْطُرَّ مِنَ اَلْكُفَّارِ، دَعَا اَللهَ بِهَذَا اَلْاِسْمِ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦]، فَأَجَابَ اَللهُ دُعَاءَهُ، وَأَهْلَكَ اَلْكَافِرِينَ.
وَإِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) مَهْمَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ، دَعَا اَللهَ بِهَذَا اَلْاِسْمِ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء: ٨٣]، فَاسْتُجِيبَ لَهُ.

↑صفحة ١٧٥↑

وَمُوسَى (عليه السلام) لَـمَّا قَتَلَ اَلْقِبْطِيَّ، قَالَ: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾، فَأَجَابَهُ اَللهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَغَفَرَ لَهُ﴾ [القَصَص: ١٦].
وَسُلَيْمَانُ (عليه السلام) لَـمَّا أَرَادَ مِنْ اَلله تَعَالَى اَلمُلْكَ وَاَلمَغْفِرَةَ، دَعَا اَللهَ تَعَالَى بِهَذَا اَلْاِسْمِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ [ص: ٣٥]، فَأَجَابَهُ اَللهُ تَعَالَى.
وَزَكَرِيَّا لَـمَّا أَرَادَ مِنَ اَلله تَعَالَى اَلْوَلَدَ، دَعَا اَللهَ تَعَالَى بِهَذَا اَلْاِسْمِ، قَالَ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٩]، فَأَجَابَهُ اَللهُ تَعَالَى، وَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى.
وَسَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، دَعَا اَللهَ تَعَالَى بِهَذَا اَلْاِسْمِ، قَالَ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ [المؤمنون: ١١٨]، فَأَجَابَهُ اَللهُ تَعَالَى، وَقَالَ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢].
وَاَلصَّالِحُونَ مِنْ أُمَّتِهِ لَـمَّا دَعَوُا اَللهَ تَعَالَى بِهَذَا اَلْاِسْمِ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً...﴾ إِلَى آخِرِ اَلْآيَاتِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: ١٩١ - ١٩٥].
وَاَلرَّجِيمُ اَلمَطْرُودُ، شَرُّ خَلْقِ اَلله، دَعَا اَللهَ تَعَالَى بِهَذَا اَلْاِسْمِ: ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، فَاسْتَجَابَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ [الحجر: ٣٦ و٣٧]، فَلَيْسَ لِله تَعَالَى اِسْمٌ أَجَلُّ مِنْ هَذَا.
قَالَ هَذَا وَغَابَ عَنَّا، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ اَلْخَضِرُ (عليه السلام)(٢٨٥).
ودلَّنا على آثار مسجد السهلة:
روي خبر جليل عن أحد الرواة الأكابر للحديث، وهو إبراهيم بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٥) مستدرك الوسائل (ج ٥/ ص ٢٧٩ - ٢٨١/ ح ٥٨٥٥/٩).

↑صفحة ١٧٦↑

هاشم(٢٨٦)، وكان قد شاهده بنفسه حينما حجَّ إلى بيت الله الحرام، فقد وردوا عند نزولهم الكوفة، فدخلوا إلى مسجد السهلة، فإذا هم بشخص راكع وساجد، فلمَّا فرغ دعا بدعاءٍ خاصٍّ، أوَّله: «أَنْتَ اَللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ...».
ثمّ أخذ يتنقَّل في أنحاء المسجد، ويُبيِّن معالمه، فقد وقف في زَاوِيَةِ اَلمَسْجِدِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا اِنْفَتَلَ مِنَ اَلصَّلَاةِ سَبَّحَ، ثُمَّ دَعَا بدعاء خاصٍّ أوَّله: «اَللَّهُمَّ بِحَقِّ هَذِهِ اَلْبُقْعَةِ اَلشَّرِيفَةِ...».
ثُمَّ نَهَضَ، فَسَأَلُوهُ عَنِ اَلمَكَانِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا اَلمَوْضِعَ بَيْتُ إِبْرَاهِيمَ اَلْخَلِيلِ (عليه السلام)، اَلَّذِي كَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى اَلْعَمَالِقَةِ.
ثُمَّ مَضَى إِلَى اَلزَّاوِيَةِ اَلْغَرْبِيَّةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، ودعا بدعاء خاصٍّ، ثُمَّ قَامَ وَمَضَى إِلَى اَلزَّاوِيَةِ اَلشَّرْقِيَّةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَسَطَ كَفَّيْهِ، ودعا بدعاء خاصٍّ، وَقَامَ فَخَرَجَ، فَسَأَلُوهُ: بِمَ يُعْرَفُ هَذَا اَلمَكَانُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مَقَامُ اَلصَّالِحِينَ وَاَلْأَنْبِيَاءِ وَاَلمُرْسَلِينَ (عليهم السلام).
وقام فاتَّبعوه، وَإِذَا بِهِ قَدْ دَخَلَ إِلَى مَسْجِدٍ صَغِيرٍ بَيْنَ يَدَيِ اَلسَّهْلَةِ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، كَمَا صَلَّى أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ بَسَطَ كَفَّيْهِ، ودعاء بالدعاء الذي أوَّله: «إِلَهِي قَدْ مَدَّ إِلَيْكَ اَلْخَاطِئُ...»، ثُمَّ خَرَجَ، فَاتَّبَعَهُ إبراهيم قائلاً: يَا سَيِّدِي، بِمَ يُعْرَفُ هَذَا اَلمَسْجِدُ؟
فَقَالَ: إِنَّهُ مَسْجِدُ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، صَاحِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، وَهَذَا دُعَاؤُهُ وَتَهَجُّدُهُ، ثُمَّ غَابَ عَنَّا، فَلَمْ نَرَهُ، فَقَالَ لِي صَاحِبِي: إِنَّهُ اَلْخَضِرُ (عليه السلام)(٢٨٧).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٦) إبراهيم بن هاشم أبو إسحاق الكوفي ثمّ القمِّي، من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام)، يقال: إنَّه أوَّل من نشر حديث الكوفيِّين بقمّ، كثير الرواية، واسع الطريق، سديد النقل، مقبول الحديث، له كُتُب، روى عنه أجلَّاء الطائفة وثقاتها.
راجع: أعيان الشيعة (ج ٢/ ص ٢٣٤ و٢٣٥) بتصرُّف.
(٢٨٧) مستدرك الوسائل (ج ٣/ ص ٤٤٣ و٤٤٤/ ح ٣٩٥٥/١٣).

↑صفحة ١٧٧↑

وجاء الخضر واعظاً:
لَـمَّا حَجَّ اَلمَنْصُورُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، نَزَلَ بِدَارِ اَلنَّدْوَةِ، وَكَانَ يَطُوفُ لَيْلاً، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ أَحَدٌ، فَإِذَا طَلَعَ اَلْفَجْرُ صَلَّى بِالنَّاسِ، وَرَاحَ فِي مَوْكِبِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ.
فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَطُوفُ، إِذْ سَمِعَ قَائِلاً يَقُولُ: اَللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ ظُهُورَ اَلْبَغْيِ وَاَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَ اَلْحَقِّ وَأَهْلِهِ مِنَ اَلظُّلْمِ.
قَالَ: فَمَلَأَ اَلمَنْصُورُ مَسَامِعَهُ مِنْهُ، ثُمَّ اِسْتَدْعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا اَلَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْكَ؟ قَالَ: إِنْ أَمَّنْتَنِي عَلَى نَفْسِي نَبَّأْتُكَ بِالْأُمُورِ مِنْ أَصْلِهَا.
قَالَ: أَنْتَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِكَ.
قَالَ: أَنْتَ اَلَّذِي دَخَلَهُ اَلطَّمَعُ، حَتَّى حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَلْحَقِّ، وَحُصُولِ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْبَغْيِ وَاَلْفَسَادِ، فَإِنَّ اَللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اِسْتَرْعَاكَ أُمُورَ اَلمُسْلِمِينَ فَأَغْفَلْتَهَا، وَجَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَاباً وَحُصُوناً مِنَ اَلْجِصِّ وَاَلْآجُرِّ، وَأَبْوَاباً مِنَ اَلْحَدِيدِ، وَحَجَبَةً مَعَهُمُ اَلسِّلَاحُ، وَاِتَّخَذْتَ وُزَرَاءَ ظَلَمَةً، وَأَعْوَاناً فَجَرَةً، إِنْ أَحْسَنْتَ لَا يُعِينُوكَ، وَإِنْ أَسَأْتَ لَا يَرُدُّوكَ، وَقَوَّمْتَهُمْ عَلَى ظُلْمِ اَلنَّاسِ، وَلَمْ تَأْمُرْهُمْ بِإِعَانَةِ اَلمَظْلُومِ وَاَلْجَائِعِ وَاَلْعَارِي، فَصَارُوا شُرَكَاءَكَ فِي سُلْطَانِكَ، وَصَانَعْتَهُمُ اَلْعُمَّالَ بِالْهَدَايَا، خَوْفاً مِنْهُمْ، فَقَالُوا: هَذَا قَدْ خَانَ اَللهَ، فَمَا لَنَا لَا نَخُونُهُ، فَاخْتَزَنُوا اَلْأَمْوَالَ، وَحَالُوا دُونَ اَلمُتَظَلِّمِ وَدُونَكَ، فَامْتَلَأَتْ بِلَادُ اَلله فَسَاداً وَبَغْياً وَظُلْماً، فَمَا بَقَاءُ اَلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ عَلَى هَذَا؟!
وَقَدْ كُنْتُ أُسَافِرُ إِلَى بِلَادِ اَلصِّينِ، وَبِهَا مَلِكٌ قَدْ ذَهَبَ سَمْعُهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ وُزَرَاؤُهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لَسْتُ أَبْكِي عَلَى مَا نَزَلَ مِنْ ذَهَابِ سَمْعِي، وَلَكِنَّ اَلمَظْلُومَ يَصْرَخُ بِالْبَابِ، وَلَا أَسْمَعُ نِدَاءَهُ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ سَمْعِي قَدْ ذَهَبَ فَبَصَرِي بَاقٍ، فَنَادَى فِي اَلنَّاسِ: لَا يَلْبَسْ ثَوْباً أَحْمَرَ إِلَّا مَظْلُومٌ، فَكَانَ يَرْكَبُ اَلْفِيلَ فِي كُلِّ طَرَفِ نَهَارٍ، هَلْ يَرَى مَظْلُوماً فَلَا يَجِدُهُ.

↑صفحة ١٧٨↑

هَذَا وَهُوَ مُشْرِكٌ بِالله، وَقَدْ غَلَبَتْ رَأْفَتُهُ بِالمُشْرِكِينَ عَلَى شُحِّ نَفْسِهِ، وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ بِالله، وَاِبْنُ عَمِّ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وَلَا تَغْلِبُكَ رَأْفَتُكَ بِالمُسْلِمِينَ عَلَى شُحِّ نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَجْمَعُ اَلمَالَ إِلَّا لِوَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ:
إِنْ قُلْتَ: إِنَّكَ تَجْمَعُ لِوُلْدِكَ، فَقَدْ أَرَاكَ اَللهُ تَعَالَى اَلطِّفْلَ اَلصَّغِيرَ، يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، لَا مَالَ لَهُ فَيُعْطِيهِ، فَلَسْتَ بِالَّذِي تُعْطِيهِ، بَلِ اَللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ اَلَّذِي يُعْطِي.
وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُهَا لِتَشْيِيدِ سُلْطَانِي، فَقَدْ أَرَاكَ اَللهُ اَلْقَدِيرُ عِبَراً فِي اَلَّذِينَ تَقَدَّمُوا، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا جَمَعُوا مِنَ اَلْأَمْوَالِ، وَلَا مَا أَعَدُّوا مِنَ اَلسِّلَاحِ.
وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُهَا لِغَايَةٍ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ اَلْغَايَةِ اَلَّتِي أَنَا فِيهَا، فَوَاَلله مَا فَوْقَ مَا أَنْتَ فِيهِ مَنْزِلَةٌ إِلَّا اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ.
يَا هَذَا، هَلْ تُعَاقِبُ مَنْ عَصَاكَ إِلَّا بِالْقَتْلِ؟ فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِالله اَلَّذِي لَا يُعَاقِبُ إِلَّا بِأَلِيمِ اَلْعَذَابِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْكَ مَا أَضْمَرَ قَلْبُكَ، وَعَقَدَتْ عَلَيْهِ جَوَارِحُكَ، فَمَاذَا تَقُولُ إِذَا كُنْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِلْحِسَابِ عُرْيَاناً؟ هَلْ يُغْنِي عَنْكَ مَا كُنْتَ فِيهِ شَيْئاً؟
قَالَ: فَبَكَى اَلمَنْصُورُ بُكَاءً شَدِيداً، وَقَالَ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُخْلَقْ، وَلَمْ أَكُ شَيْئاً، ثُمَّ قَالَ: مَا اَلْحِيلَةُ فِيمَا حَوَّلْتُ؟
قَالَ: عَلَيْكَ بِأَعْلَامِ اَلْعُلَمَاءِ اَلرَّاشِدِينَ، قَالَ: فَرُّوا مِنِّي.
قَالَ: فَرُّوا مِنْكَ مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى ظَهْرٍ مِنْ طَرِيقَتِكَ، وَلَكِنِ اِفْتَحِ اَلْبَابَ، وَسَهِّلِ اَلْحِجَابَ، وَخُذِ اَلشَّيْءَ مِمَّا حَلَّ وَطَابَ، وَاِنْتَصِفْ لِلْمَظْلُومِ، وَأَنَا ضَامِنٌ عَمَّنْ هَرَبَ مِنْكَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْكَ، فَيُعَاوِنَكَ عَلَى أَمْرِكَ.
فَقَالَ اَلمَنْصُورُ: اَللَّهُمَّ وَفِّقْنِي لِأَنْ أَعْمَلَ بِمَا قَالَ هَذَا اَلرَّجُلُ.

↑صفحة ١٧٩↑

ثُمَّ حَضَرَ اَلمُؤَذِّنُونَ، وَأَقَامُوا اَلصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ، فَطَلَبُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ أَثَراً، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ اَلْخَضِرَ (عليه السلام)(٢٨٨).
وجاء خديجة (عليها السلام) زائراً:
نقل العلَّامة الشيخ فرج العمران (قدس سره) أنَّ السيِّد مهدي آل طعمة من أهالي كربلاء حكى لهم في عصر يوم الجمعة (٢٢) من ذي الحجَّة حكاية طريفة ظريفة.
وذلك أنَّه قبل خمس سنوات، حجَّ مكَّة المكرَّمة، فجاء يزور خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها)، مع جماعة من الحُجَّاج، فوجدوا رجلاً جميل الصورة، بهيَّ الشيبة، ثيابه كلُّها بيض، جالساً عند قبر خديجة، وهو يبكي، ودموعه تسيل على خدَّيه، فلم يُسلِّموا عليه، بل زاروا خديجة، وقرؤوا الفاتحة والإخلاص، وأهدوا ثوابهما إليها، ثمّ دعوا بما تيسَّر من الدعاء، وانصرفوا.
وبعد دقيقة تقريباً، رجعوا ليعرفوا الرجل، فلم يجدوه، فأسفوا أسفاً شديداً، حيث إنَّهم لم يُسلِّموا عليه.
فوصفوه عند العلَّامة الشيخ محمّد طاهر آل شبير الخاقاني، فقال: هذه أوصاف العبد الصالح الخضر(٢٨٩).
وأرسله الرضا (عليه السلام) مغيثاً:
ويُحكى عن أحد الأتقياء - وهو الشيخ حسن عليّ الأصفهاني (قدس سره)، والذي يُعَدُّ من أصحاب الكرامات الكثيرة - أنَّه غادر مدينة أصفهان بمفرده، وهو في سنِّ الرابعة والعشرين، ميمِّماً وجهه صوب مدينة مشهد المقدَّسة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٨٨) بحار الأنوار (ج ٧٢/ ص ٣٥١ و٣٥٢/ ح ٦٠).
(٢٨٩) الأزهار الأرجيَّة (ج ١٣/ ص ٢٧٧ و٢٧٨).

↑صفحة ١٨٠↑

وكان ذلك أوَّل سفر يقوم به لتلك المدينة المشرَّفة، بقصد زيارة المرقد الطاهر لسلطان الأولياء عليِّ بن موسى الرضا (عليه آلاف التحيَّة والثناء)، إلَّا أنَّه ضلَّ الطريق في أوَّل أيَّام سفره، وتاه قبيل غروب الشمس في الجبال والبراري، فالتجأ إلى التوسُّل بثامن الحُجَج (عليه السلام)، قائلاً: مولاي، أنت تعلم أنَّني قاصد لزيارتك، إلَّا أنَّني ضللت الطريق، وتهت في هذا الوادي، وأنت قادر على إعانتي، فأعنِّي وأنقذني ممَّا أنا فيه.
وبعد دقائق، وإذا به يرى الخضر، يحضر عنده، ويُرشِده ظاهريًّا وباطنيًّا، ويرى نفسه قد طوى الأرض بمدد المولى خلال عدَّة دقائق، ودخل مدينة كاشان، التي كانت تبعد عن ذك الموضع بمسافة (١٨) فرسخاً(٢٩٠).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٠) سيماء الأولياء وكراماتهم (ص ٢٥ و٢٦).

↑صفحة ١٨١↑

نوادر وطرائف:
الخضر في الرقيق:
من يُصدِّق أنَّ رجل الغيب يقع في العبوديَّة فيصبح رقيقاً يُباع ويُشترى؟!
ولو كان وقوعه في العبوديَّة من باب الجبر والإكراه لكان موضع تعجُّب، ولكن إذا تمَّ ذلك بطوعه واختياره فلا غرابة في الأمر، فإنَّ للخضر (عليه السلام) في تصرُّفاته أسراراً وغايات تخفى على صاحب الفكر الدقيق، فلننظر لما جرى على هذا العبد الصالح.
لقد روي أَنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ اَلْخَضِرِ (عليه السلام)؟».
قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اَلله.
قَالَ: «بَيْنَا هُوَ يَمْشِي فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ بَصُرَ بِهِ مِسْكِينٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ عَلَيَّ بَارَكَ اَللهُ فِيكَ.
قَالَ اَلْخَضِرُ: آمَنْتُ بِالله، مَا يَقْضِي اَللهُ يَكُونُ، مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ أُعْطِيكَهُ.
قَالَ اَلْمِسْكِينُ: بِوَجْهِ اَلله لَـمَّا تَصَدَّقْتَ عَلَيَّ، إِنِّي رَأَيْتُ اَلْخَيْرَ فِي وَجْهِكَ، وَرَجَوْتُ اَلْخَيْرَ عِنْدَكَ.
قَالَ اَلْخَضِرُ: آمَنْتُ بِالله، إِنَّكَ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ أُعْطِيكَهُ، إِلَّا أَنْ تَأْخُذَنِي فَتَبِيعَنِي.
قَالَ اَلْمِسْكِينُ: وَهَلْ يَسْتَقِيمُ هَذَا؟!

↑صفحة ١٨٢↑

قَالَ: اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ، إِنَّكَ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، سَأَلْتَنِي بِوَجْهِ رَبِّي (عزَّ وجلَّ)، أَمَا إِنِّي لَا أُخَيِّبُكَ فِي مَسْأَلَتِي بِوَجْهِ رَبِّي، فَبِعْنِي.
فَقَدَّمَهُ إِلَى اَلسُّوقِ، فَبَاعَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَكَثَ عِنْدَ اَلمُشْتَرِي زَمَاناً لَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي شَيْءٍ؛ فَقَالَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام): إِنَّمَا اِبْتَعْتَنِي اِلْتِمَاسَ خِدْمَتِي؛ فَمُرْنِي بِعَمَلٍ.
قَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، إِنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ.
قَالَ: لَسْتَ تَشُقُّ عَلَيَّ.
قَالَ: فَقُمْ، فَانْقُلْ هَذِهِ اَلْحِجَارَةَ».
قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «وَكَانَ لَا يَنْقُلُهَا دُونَ سِتَّةِ نَفَرٍ فِي يَوْمٍ، فَقَامَ فَنَقَلَ اَلْحِجَارَةَ فِي سَاعَتِهِ.
فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنْتَ، وَأَجْمَلْتَ، وَأَطَقْتَ مَا لَمْ يُطِقْهُ أَحَدٌ».
قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «ثُمَّ عَرَضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْسَبُكَ أَمِيناً، فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي خِلَافَةً حَسَنَةً، وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ.
قَالَ: لَسْتَ تَشُقُّ عَلَيَّ.
قَالَ: فَاضْرِبْ مِنَ اَللَّبِنِ شَيْئاً حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ».
قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «فَخَرَجَ اَلرَّجُلُ لِسَفَرِهِ، وَرَجَعَ وَقَدْ شَيَّدَ بِنَاءَهُ.
فَقَالَ لَهُ اَلرَّجُلُ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اَلله، مَا حَسَبُكَ؟ وَمَا أَمْرُكَ؟
قَالَ: إِنَّكَ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، بِوَجْهِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَوَجْهُ اَلله (عزَّ وجلَّ) أَوْقَعَنِي فِي اَلْعُبُودِيَّةِ، وَسَأُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا، أَنَا اَلْخَضِرُ اَلَّذِي سَمِعْتَ بِهِ، سَأَلَنِي مِسْكِينٌ صَدَقَةً، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيهِ، فَسَأَلَنِي بِوَجْهِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، فَأَمْكَنْتُهُ مِنْ رَقَبَتِي، فَبَاعَنِي.
فَأُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اَلله (عزَّ وجلَّ) فَرَدَّ سَائِلَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَفَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لَيْسَ لِوَجْهِهِ جِلْدٌ وَلَا لَحْمٌ وَلَا دَمٌ إِلَّا عَظْمٌ يَتَقَعْقَعُ.
قَالَ اَلرَّجُلُ: شَقَقْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أَعْرِفْكَ.

↑صفحة ١٨٣↑

قَالَ: لَا بَأْسَ، أَبْقَيْتَ، وَأَحْسَنْتَ.
قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، اُحْكُمْ فِي أَهْلِي وَمَالِي بِمَا أَرَاكَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)، أَمْ أُخَيِّرُكَ فَأُخَلِّي سَبِيلَكَ؟
قَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلِي، فَأَعْبُدَ اَللهَ عَلَى سَبِيلِهِ.
فَقَالَ اَلْخَضِرُ (عليه السلام): اَلْحَمْدُ لِله اَلَّذِي أَوْقَعَنِي فِي اَلْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْجَانِي مِنْهَا»(٢٩١).
هلمَّ فاقرأ للعجائب:
سُئِلَ الخضر (عليه السلام) عن أعجب شيء رأيته، فقال:
أعجب ما رأيت أنِّي مررت على مدينة لم أرَ على وجه الأرض أحسن منها، فسألت بعضهم: متى بُنيت هذه المدينة؟ فقالوا: سبحان الله، ما يذكر آباؤنا وأجدادنا متى بُنيت، وما زالت كذلك من عهد الطوفان.
ثمّ غبت عنها خمسمائة سنة، وعبرت عليها بعد ذلك، فإذا هي خاوية على عروشها، ولم أرَ أحداً أسأله، وإذا برعاة غنم، فسألتهم عنها، فقالوا: لا نعلم.
فغبت نحواً من خمسمائة عام، ثمّ أتيت إليها، فإذا موضع تلك المدينة بحر، وإذا غوَّاصون يُخرجون منها اللؤلؤ، فقلت لبعض الغوَّاصين: منذ كم هذا البحر هاهنا؟ فقالوا: سبحان الله، ما يذكر آباؤنا إلَّا أنَّ هذا البحر منذ بعث الله الطوفان.
ثمّ غبت عنها نحواً من خمسمائة عام، ثمّ انتهيت إليها، فإذا ذلك البحر قد غاض ماؤه، وإذا مكانه أجمة، ملتفَّة بالقصب والبرد والسباع، وإذا صيَّادون يصيدون السمك في زوارق صغار، فقلت لبعضهم: أين البحر الذي قد كان هاهنا؟ فقالوا: سبحان الله، ما يذكر آباؤنا وأجدادنا أنَّه كان هاهنا بحر قطُّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩١) بحار الأنوار (ج ١٣/ ص ٣٢١ و٣٢٢/ ح ٥٥).

↑صفحة ١٨٤↑

فغبت عنها نحواً من خمسمائة عام، ثمّ أتيت إلى ذلك الموضع، فإذا هو مدينة على حالته الأُولى، والحصون والقصور والأسواق قائمة، فقلت لبعضهم: أين الأجمة التي كانت هاهنا؟ ومتى بُنيت هذه المدينة؟ فقالوا: سبحان الله، ما يذكر آباؤنا إلَّا أنَّ هذه المدينة على حالها منذ بعث الله الطوفان.
فغبت عنها نحواً من خمسمائة عام، ثمّ انتهيت إليها، فإذا عاليها سافلها، وهي تدخن بدخان شديد، فلم أرَ أحد أسأله عنها، ثمّ رأيت راعياً فسألته عن المدينة التي كانت هاهنا، ومتى حدث هذا الدخان؟ فقال: سبحان الله، وما يذكر آباؤنا وأجدادنا إلَّا أنَّ هذا الموضع كان هكذا منذ كان.
فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي(٢٩٢).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٢) كشكول البحراني (ج ١/ ص ٢٧٥ و٢٧٦)، عن الأنوار النعمانيَّة (ج ٣/ ص ٢١٨ و٢١٩).

↑صفحة ١٨٥↑

غرائب وأساطير:
ليس من المستغرب أنْ ينسج بعض الناس القَصَص، لأنَّ ما تتمتَّع به شخصيَّة الخضر (عليه السلام) يكون مادَّة خصبة، ومسرحاً واسعاً للخيال.
وسيجد الانتهازيُّون فرصة لتسويق شخصيَّات يعتقد قداستها، فيربط بينها وبين الخضر (عليه السلام).
(١)
قال بعضهم: اعلم أنَّ الله­ قد خصَّ أبا حنيفة بالشريعة والكرامة، ومن كراماته أنَّ الخضر (عليه السلام) كان يجيء إليه كلَّ يوم، وقت الصبح، ويتعلَّم منه أحكام الشريعة، إلى خمس سنين، فلمَّا تُوفِّي أبو حنيفة ناجى الخضر ربَّه، قال:
إلهي إنْ كان لي عندك منزلة، فأذن لأبي حنيفة حتَّى يُعلِّمني من القبر على حسب عادته، حتَّى أعلم شرع محمّد (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) على الكمال، ليحصل لي الطريقة والحقيقة.
فنودي: أنِ اذهب إلى قبره، وتعلَّم منه ما شئت، فجاء الخضر، وتعلَّم منه ما شاء كذلك إلى خمس وعشرين سنة أُخرى، حتَّى أتمَّ الدلائل والأقاويل، ثمّ ناجى الخضر ربَّه، وقال: إلهي، ماذا أصنع؟
فنودي: أنِ اذهب إلى صعالك، واشتغل بالعبادة إلى أنْ يأتيك أمري...
إلى أنْ قال له: اذهب إلى البقعة الفلانيَّة، وعلِّم فلاناً علم الشريعة، ففعل الخضر (عليه السلام) ما أُمِرَ.
ثمّ بعد مدَّة ظهر في مدينة ما وراء النهر شابٌّ، وكان اسمه أبا القاسم القشيري، وكان يخدم أُمَّه، ويحترمها، ثمّ إنَّه قال وقتاً من الأوقات لأُمِّه: يا أُمَّاه، قد حصل لي الحرص على طلب العلم، وقد قال عليٌّ (كرَّم الله وجهه): «من كان في طلب العلم كانت الجنَّة في طلبه»، فأذني لي بالسفر إلى بخارى؛ لأتلقَّى العلم، فقدَّرت والدته أنَّها إنْ لم تأذن له ستكون مانعة للخير، وإنْ أذنت له لا تصبر على فراقه، فلم يكن لها بدٌّ حتَّى أذنت له.
فودَّع القشيري أُمَّه، وعزم على السفر مع شابٍّ صاحب له، يطلبان العلم.
فقعدت أُمُّه على الباب باكية حزينة، وقالت: إلهي، اشهد أنِّي حرَّمت على نفسي الطعام والمنزل، ولا أقوم من مقامي حتَّى أرى ولدي.
فمضى القشيري ليقضي حاجته، فتلوَّثت ثيابه ببوله، وقال لصاحبه: اذهت أنت، فإنِّي أُريد أنْ أرجع إلى المنزل، وأخاف أنْ تصيب النجاسة جسمي في المنزل الثاني، ويصيب روحي في المنزل الثالث، فقعودي عند والدتي أولى، ورجع إلى أُمِّه، فوجدها في مكانها الذي ودَّعها منه، فقامت، وصافحت ولدها، وقالت: الحمد لله.
فأمر الله تعالى الخضر أنِ اذهب إلى القشيري، وعلِّمه ما تعلَّمت من أبي حنيفة (رضي الله عنه)، لأنَّه أرضى أُمَّه.
فجاء الخضر إلى أبي القاسم، وقال: أنت أردت السفر لأجل طلب العلم، وقد تركته لرضا أُمِّك، وقد أمرني الله تعالى أنْ أجيء إليك كلَّ يوم على الدوام وأُعلِّمك، فكلُّ يوم يجيء إليه الخضر، حتَّى ثلاث سنين، وعلَّمه العلوم التي تعلَّم من أبي حنيفة في ثلاثين سنة، حتَّى علَّمه علم الحقائق، والدقائق، ودلائل

↑صفحة ١٨٧↑

العلم، وصار مشهور دهره، وفريد عصره، حتَّى صنَّف ألف كتاب، وصار صاحب كرامة، وكثر مريدوه وتلاميذه(٢٩٣).
وهذه الحكاية كما تراها لا تحتاج إلى تعليق، وقد ردَّ على هذه الحكاية الشيخ عليٍّ القاري الهروي الحنفي بما فيه الكفاية، ومن شاء فليرجع للمصادر.
(٢)
قال الشعراني: كان الشيخ عبد القادر (الجيلاني) (رضي الله عنه) يقول: قمت في صحراء العراق وخرائبه خمساً وعشرين سنة، مجرَّداً، سائحاً، لا أعرف الخلق ولا يعرفوني، يأتيني طوائف من رجال الغيب والجانِّ، أُعلِّمهم الطريق إلى الله (عزَّ وجلَّ)، ورافقني الخضر في أوَّل دخولي العراق، وما كنت عرفته، وشرط أنْ لا أُخالفه.
وقال لي: اقعد هنا، فجلست في الموضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين، يأتيني كلَّ سنة مرَّة، ويقول لي: مكانك حتَّى آتيك(٢٩٤).
ولعلَّك تلاحظ أنَّ هذا الخيال قد استوحي من حال موسى والخضر (عليه السلام)، مع فارق وهو أنَّ موسى لم يتحمَّل، وهذا تحمَّل الشرط، وبقي صابراً ثلاث سنين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٣) الخضر بين الواقع والتهويل (ص ١٩٧ - ١٩٩)، وذُكِرَت مختصرةً في الغدير (ج ١١/ ص ١٣٢ و١٣٢)، وهي منقولة عن السيِّد محمّد البرزنجي المدني من كتابه الإشاعة لأشراط الساعة (ص ٢٢١ - ٢٢٥)، وهذا السيِّد نقلها عن كتاب (أنيس الجلساء)، وهي منقولة من كلام ملَّا عليٍّ القاري.
(٢٩٤) الغدير (ج ١١/ ص ١٧١ و١٧٢)، نقلها عن الشعراني من كتابه الطبقات الكبرى (ج ١/ ص ٢٣١).

↑صفحة ١٨٨↑

(٣)
وذُكِرَ أنَّ اليافعي حلف على وجود الخضر، ولقائه بالناس، وقال: ووالله، لقد أخبرني غير واحدٍ من الأولياء أنَّهم اجتمعوا به، بل والله لقد أخبروني أنَّه اجتمع بي، وسألني عن شيء فأجبته، ولم أعرفه، لأنَّه لا يعرفه إلَّا صاحب نور(٢٩٥).
(٤)
وذكر ابن بشكوال(٢٩٦) في كتاب (المستغيثين بالله تعالى)، عن عبد الله بن المبارك، أنَّه قال: كنت في غزوة، فوقع فرسي ميِّتاً، فرأيت رجلاً حسن الوجه، طيِّب الرائحة، قال: أتُحِبَّ أنْ تركب فرسك؟
قلت: نعم، فوضع يده على جبهة الفرس، حتَّى انتهى إلى مؤخَّره، وقال: أقسمت عليكِ أيَّتها العلَّة، بعزَّة عزَّة الله، وبعظمة عظمة الله، وبجلال جلال الله، وبقدرة قدرة الله، وبسلطان سلطان الله، وبلا إله إلَّا الله، وبما جرى به القلم من عند الله، وبلا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، إلَّا انصرفت.
فوثب الفرس قائماً بإذن الله تعالى، وأخذ الرجل بركابي، وقال: اركب، فركبت ولحقت بأصحابي، فلمَّا كان من غداة غدٍ، وظهرنا على العدوِّ، فإذا هو بين أيدينا، فقلت: ألست صاحبي بالأمس؟ قال: بلى، فقلت: سألتك بالله تعالى من أنت؟ فوثب قائماً، فاهتزت الأرض تحته خضراء، فقال: أنا الخضر(٢٩٧).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٥) الخضر بين الواقع والتهويل (ص ٢٠٢).
(٢٩٦) خلف بن عبد المَلِك بن مسعود بن بشكوال الخزرجي (ت ٥٧٨هـ).
(٢٩٧) تفسير الآلوسي (ج ١٥/ ص ٣٢٤).

↑صفحة ١٨٩↑

الفصل التاسع: آثاره المعنويَّة

* أدعية ومناجاة.
* نوادر من آثاره.

↑صفحة ١٩١↑


أدعية ومناجاة:
هناك عدَّة أدعية تُنسَب للخضر (عليه السلام)، وسأذكر عدداً منها:
أوَّلاً: دعاء كميل:
وهو دعاء الخضر (عليه السلام)، وقد أملاه أمير المؤمنين (عليه السلام) على كميل بن زياد، فنسبة الدعاء لكميل؛ لأنَّه راوي الحديث، وصاحب فضل استخراجه من معدن الكرم، وجوهر الفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام).
رواية الدعاء:
لرواية كميل بن زياد (رضي الله عنه) لهذا الدعاء خبران، ذكرهما السيِّد ابن طاوس (رحمه الله) في (الإقبال)، فقال: رُوِيَ أَنَّ كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ اَلنَّخَعِيَّ رَأَى أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) سَاجِداً يَدْعُو بِهَذَا اَلدُّعَاءِ فِي لَيْلَةِ اَلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ.
وقال: وَوَجَدْتُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَا هَذَا لَفْظُهَا:
قَالَ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ مَوْلَايَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي مَسْجِدِ اَلْبَصْرَةِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا مَعْنَى قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤]؟
قَالَ (عليه السلام): «لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ، إِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَجَمِيعُ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ مَقْسُومٍ لَهُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، إِلَى آخِرِ اَلسَّنَةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ اَللَّيْلَةِ اَلمُقْبِلَةِ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يُحْيِيهَا، وَيَدْعُو بِدُعَاءِ اَلْخَضِرِ (عليه السلام) إِلَّا أُجِيبَ لَهُ».

↑صفحة ١٩٣↑

فَلَمَّا انْصَرَفَ طَرَقْتُهُ لَيْلاً، فَقَالَ (عليه السلام): «مَا جَاءَ بِكَ، يَا كُمَيْلُ؟».
قُلْتُ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، دُعَاءُ اَلْخَضِرِ.
فَقَالَ: «اِجْلِسْ - يَا كُمَيْلُ -، إِذَا حَفِظْتَ هَذَا اَلدُّعَاءَ فَادْعُ بِهِ كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ، أَوْ فِي اَلشَّهْرِ مَرَّةً، أَوْ فِي اَلسَّنَةِ مَرَّةً، أَوْ فِي عُمُرِكَ مَرَّةً، تُكْفَ، وَتُنْصَرَ، وَتُرْزَقَ، وَلَنْ تُعْدَمَ اَلمَغْفِرَةَ.
يَا كُمَيْلُ، أَوْجَبَ لَكَ طُولُ اَلصُّحْبَةِ لَنَا أَنْ نَجُودَ لَكَ بِمَا سَأَلْتَ، ثُمَّ قَالَ: اُكْتُبْ:
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ اَلَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ...» إلى آخر الدعاء(٢٩٨)، وهو دعاء مشهور لا داعي لذكره.
وقفة مع هذا الدعاء:
ترد عدَّة احتمالات في نسبة الدعاء إلى الخضر (عليه السلام)، وهي:
١ - أنْ يكون الدعاء بمعانيه وألفاظه من إنشاء الخضر (عليه السلام)، وأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مجرَّد ناقل لما سمعه منه.
٢ - أنْ تكون معاني الدعاء من إنشاء الخضر (عليه السلام)، وأمَّا الألفاظ التي صيغت بها المعاني، فهي من صنع أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا ما يرجح لدى بعض علمائنا؛ لمشابهته لما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من أدعية(٢٩٩).
٣ - أنْ يكون الدعاء من إنشاء أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد علَّمه الخضر (عليه السلام)، فنُسِبَ إليه.
أهمّيَّته:
ويمكن لنا أنْ نلمس أهمّيَّة هذا الدعاء الشريف من خلال ناحيتين، هما:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٢٩٨) إقبال الأعمال (ج ٣/ ص ٣٣١).
(٢٩٩) أشار إلى هذا المعنى السيِّد عزُّ الدِّين بحر العلوم (قدس سره) في كتابه أضواء على دعاء كميل (ص ٨٨).

↑صفحة ١٩٤↑

الناحية الأُولى:
ما نشاهده من مواظبة العلماء والمؤمنين على قراءته كلَّ ليلة جمعة، وتكفي نظرة واحدة لمرقد الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام)، حيث تراهم يزدحمون ليلة الجمعة، متقرِّبين إلى الله (عزَّ وجلَّ) بهذا الدعاء.
والملاحَظ في هذا الدعاء - وفي غيره ممَّا ورد عن آل محمّد (عليهم السلام) - الطواعية في المعاني الواردة فيه، ففيه ما يتلاءم مع أصحاب المعاصي، الذين آبوا لرشدهم، طالبين مغفرة الله (عزَّ وجلَّ)، ففيه الكفاية من معاني التضرُّع والخضوع والتوبة والندم.
ويلائم كذلك أرباب النفوس المقدَّسة، وأصحاب الأنفاس الطاهرة، ممَّن لم يعرف الشيطان لنفوسهم مدخلاً، ولم يطأ بقدمه في ساحة قدسيَّتهم، ففيه من المعاني التي يتذوَّقونها، ولا ينهل منها غيرهم.
الناحية الثانية:
ما نجده من انكباب العلماء على شرح لهذا الدعاء، وتوضيح لمقاصده الشريفة، ومن ترجمته إلى لغات مختلفة، ونظمه في الأشعار، وإليك بعض الاهتمامات التي انصبَّت على هذا الدعاء:
أ - البحث في سند الدعاء:
وفيه رسالة في سند دعاء الخضر وبيان اعتباره، للشيخ محمّد حسن الاسترآبادي الشريعتمدار(٣٠٠).
ب - الشروح:
أوَّلاً: من الشروح ما تعرَّضت للدعاء بكامله، وهي خمسة عشر كتاباً، ومنها: أضواء على دعاء كميل، ومؤلِّفه السيِّد عزُّ الدِّين بحر العلوم (قدس سره).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٠٠) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ١٢/ ص ٢٣٥/ الرقم ١٥٣٨).

↑صفحة ١٩٥↑

ثانياً: وهناك كُتُب تعرَّضت لمقاطع من هذا الدعاء، ومنها:
رسالة في شرح قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء كميل: «فَهَبْنِي...»، للشيخ آحمد آل طعَّان (قدس سره)، سأله عنه الشيخ حسن ابن الشيخ عليِّ بن عصفور البحراني (قدس سره)، فكتب شرحها معنًى، وإعراباً، وأرسلها إليه، فكتب عليها بعض الاعتراضات، فأجابه عنها برسالة أُخرى(٣٠١).
ج - الترجمة:
لقد حظي هذا الدعاء بعدَّة ترجمات وإلى عدَّة لغات، ومنها:
١ - الفارسيَّة، وممَّن ترجمه العلَّامة المجلسي (رحمه الله)(٣٠٢).
٢ - الأُوردو، وممَّن ترجمه المولى مقبول أحمد المستبصر(٣٠٣).
٣ - الإنجليزيَّة، وممَّن ترجمه السيِّد رضا الهندي(٣٠٤).
د - النظم:
لقد قام بعض الشعراء بنظم ما ورد في دعاء كميل من معانٍ، ومن تلك المنظومات ما يلي:
١ - نجم سهيل در نظم دعاء كميل، نظمه بالفارسيَّة لطيف الصلواتي(٣٠٥).
٢ - نظم دعاي كميل، منظومة فارسيَّة لمحمّد حسن الهراتي(٣٠٦).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٠١) أعيان الشيعة (ج ٢/ ص ٦٠٦)، وقد طُبِعَت أخيراً ضمن الرسائل الأحمديَّة.
(٣٠٢) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ٤/ ص ١٠٢).
(٣٠٣) المصدر السابق.
(٣٠٤) المصدر السابق.
(٣٠٥) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ٢٤/ ص ٧٠/ الرقم ٣٥٩).
(٣٠٦) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ٢٤/ ص ٢١٢/ الرقم ١٠٩٧).

↑صفحة ١٩٦↑

ثانياً: دعاء للأمن من الوسوسة:
«يَا شَامِخاً فِي عُلُوِّهِ، يَا قَرِيباً فِي دُنُوِّهِ، يَا مُتَدَانِياً فِي بُعْدِهِ، يَا رَءُوفاً فِي رَحْمَتِهِ، يَا مُخْرِجَ اَلنَّبَاتِ، يَا دَائِمَ اَلثَّبَاتِ، يَا مُحْيِيَ اَلْأَمْوَاتِ، يَا ظَهْرَ اَللَّاجِينَ، يَا جَارَ اَلمُسْتَجِيرِينَ، يَا أَسْمَعَ اَلسَّامِعِينَ، يَا أَبْصَرَ اَلنَّاظِرِينَ، يَا صَرِيخَ اَلمُسْتَصْرِخِينَ، يَا عِمَادَ مَنْ لَا عِمَادَ لَهُ، يَا سَنَدَ مَنْ لَا سَنَدَ لَهُ، يَا ذُخْرَ مَنْ لَا ذُخْرَ لَهُ، يَا حِرْزَ مَنْ لَا حِرْزَ لَهُ، يَا كَنْزَ اَلضُّعَفَاءِ، يَا عَظِيمَ اَلرَّجَاءِ، يَا مُنْقِذَ اَلْغَرْقَى، يَا مُحْيِيَ اَلمَوْتَى، يَا أَمَانَ اَلْخَائِفِينَ، يَا إِلَهَ اَلْعَالَمِينَ، يَا صَانِعَ كُلِّ مَصْنُوعٍ، يَا جَابِرَ كُلِّ كَسِيرٍ، يَا صَاحِبَ كُلِّ غَرِيبٍ، يَا مُونِسَ كُلِّ وَحِيدٍ، يَا قَرِيباً غَيْرَ بَعِيدٍ، يَا شَاهِداً غَيْرَ غَائِبٍ، يَا غَالِباً غَيْرَ مَغْلُوبٍ، يَا حَيًّا حِينَ لَا حَيَّ، يَا مُحْيِيَ اَلمَوْتَى، يَا حَيًّا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ».
لقد ذُكِرَ أنَّ من قاله قولاً أو سمعه سمعاً أمن الوسوسة أربعين سنة(٣٠٧).
ثالثاً: دعاء للحفظ في الأسفار:
ورد هذا الدعاء، وذُكِرَ أنَّ الخضر (عليه السلام) كان يدعو به، وذكروا أنَّ من آثار المواظبة عليه أنَّ من كان في السفر كان في حفظ الله تعالى، ويرجع إلى وطنه سالماً، والدعاء هو:
حَسْبُنَا اَللهُ وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ، هُوَ أَقْوَى مُعِينٍ، وَأَهْدَى دَلِيلٍ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اَللَّهُمَّ اِكْفِنَا شَرَّ كَلِّ ذِي بَأْسٍ، فَإِنَّكَ أَعْظَمُ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً(٣٠٨).
رابعاً: دعاؤه لحصوله على عين الحياة:
يُذكر أنَّ الخضر (عليه السلام) حصل على هذه العين المباركة بسبب دعاء كان قد ناجى ربَّه به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٠٧) مهج الدعوات (ص ٣١٠ و٣١١)، المصباح للكفعمي (ص ٢٩٧ و٢٩٨).
(٣٠٨) المخلاة (ص ٣٧٨).

↑صفحة ١٩٧↑

ولهذا الدعاء عدَّة مزايا، ومن ضمنها ما نُقِلَ عن كعب الأحبار، وهو قوله: (ولقد دعا بها الخضر (عليه السلام) فوقع في عين الحياة)(٣٠٩).
وأمَّا الدعاء فهو:
بِسْمِ اَلله وَبِالله، أَخَذْتُ اَلْأَوَّلِينَ، وَأَخَذْتُ اَلْآخِرِينَ، وَأَخَذْتُ اَلْقَائِمِينَ، وَأَخَذْتُ اَلْقَاعِدِينَ، تَغْشَى أَبْصَارَهُمْ ظُلْمَةٌ، وَتُرْسِلُ اَلسَّمَاءُ عَلَيْهِمْ لَهَباً، وَاَلْأَرْضُ شُهُباً، فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ، اَللهُ يَرْعَانِي وَيُقَوِّينِي عَلَى اَلْخَلْقِ، بِنُورِ اَلله أَسْتَبْصِرُ، وَبِقُوَّةِ اَلله اَلْقُدُّوسِ أَسْتَعِينُ، اَللهُ يُعْطِينِي، وَاَللهُ اَلمَلِكُ اَلْجَبَّارُ يَرْفَعُنِي عَلَى أَجْنِحَةِ اَلْكَرُوبِيِّينَ وَاَلصِّدِّيقِينَ وَاَلصَّافِّينَ وَاَلمُسَبِّحِينَ، لَكَ اَللهُ أَدْعُو وَأَنْتَ اَللهُ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ، لَكَ اَللهُ أَدْعُو إِلَهَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ، لَكَ اَللهُ أَدْعُو إِلَهَ اَلمَلَائِكَةِ اَلمُقَرَّبِينَ، لَكَ اَللهُ أَدْعُو إِلَهَ اَلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، لَكَ اَللهُ أَدْعُو إِلَهَ اَلشَّمْسِ وَاَلْقَمَرِ، لَكَ اَللهُ أَدْعُو إِلَهَ اَلْكَوَاكِبِ، لَكَ اَللهُ أَدْعُو إِلَهَ اَلمَشَارِقِ وَاَلمَغَارِبِ، لَكَ اَللهُ أَدْعُو إِلَهاً مُقَدَّساً، أَنْتَ اَللهُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبَّارُ اَلمُتَكَبِّرُ اَلرَّحْمَنُ اَلرَّحِيمُ اَلْوَاسِعَةُ رَحْمَتُهُ اَلْخَالِقُ كُرْسِيَّ عَظَمَتِهِ اَلْعَزِيزُ اَلْعَظِيمُ اَلْجَلِيلُ تَبَارَكَ اِسْمُ اَلله مَلِكُ اَلمُلُوكِ تَكُونُ أَسْمَاؤُكَ هَذِهِ [لِي] عَضُداً وَنَصْراً وَفَتْحاً وَهَيْبَةً وَنُوراً وَعَظَمَةً أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي، وَتَكُونُ لِي حِفْظاً وَخَلَاصاً وَنَجَاحاً، أَنَا عَبْدُكَ وَاِبْنُ عَبْدِكَ، تَغْشَانِي رَحْمَتُكَ وَيَغْشَانِي عِقَابُكَ، بِعِزَّتِكَ وَهَيْبَتِكَ نَجِّنِي مِنَ اَلْآفَاتِ كَمَا نَجَّيْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ مِنَ اَلنَّارِ، وَكَمَا كَبَسَ كَلِيمُكَ فِرْعَوْنَ، وَبِأَسْمَائِكَ هَذِهِ فَنَجِّنِي بِهَا، وَكَمَا اَلْأَرْضُ مَكْبُوسَةٌ تَحْتَ اَلسَّمَاءِ، وَكَمَا بَنُو آدَمَ مَكْبُوسُونَ تَحْتَ اَلسَّمَاءِ، وَتَحْتَ مَلَكِ اَلمَوْتِ، وَكَمَا مَلَكُ اَلمَوْتِ مَكْبُوسٌ بَيْنَ يَدَيِ اَلله رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، كَذَلِكَ يَكُونُ اَلْخَلَائِقُ مَكْبُوسِينَ تَحْتَ قَدَمَيَّ أَبَداً مَا أَحْيَيْتَنِي، يَا نَاصِرَ اَلمُسْلِمِينَ، وَيَا صَرِيخَ اَلمُسْتَصْرِخِينَ، وَيَا أَرْحَمَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٠٩) جمال الأُسبوع (ص ٢١٨).

↑صفحة ١٩٨↑

اَلرَّاحِمِينَ، أَنْتَ لِي حِرْزٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ، وَمِنْ بَنِي آدَمَ، وَبَنَاتِ حَوَّاءَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَمِنْ شَرِّ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ، أَنْ لَا يَسْطُوَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، عَزَّ جَارُكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، تَمَسَّكْتُ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى اَلَّتِي لَا اِنْفِصَامَ لَهَا، اَلَّتِي لَا يُجَاوِزُهَا بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، اِعْتَصَمْتُ بِحَبْلِ اَلله اَلمَتِينِ، أَعُوذُ بِالله مِنْ شَرِّ فَسَقَةِ اَلْعَرَبِ وَاَلْعَجَمِ، وَمِنْ شَرِّ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ، وَمِنْ شَرِّ مَنْ يُرِيدُ بِي سُوءاً، أَوْ يُرِيدُ بِي شَرًّا، تَوَكَّلْتُ عَلَى اَلله، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ [الطلاق: ٣]، حَسْبِيَ اَللهُ، بِسْمِ اَلله وَبِالله أُومِنُ، وَبِالله أَثِقُ، وَبِالله أَتَعَوَّذُ، وَبِالله أَعْتَصِمُ، وَبِالله اَلْعَظِيمِ أَسْتَجِيرُ مِنَ اَلشَّيْطَانِ اَلرَّجِيمِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اَلله اَلتَّامَّاتِ اَلَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِمَّا ذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ مَا يَطْرُقُ بِاللَّيْلِ وَاَلنَّهَارِ، إِلَّا طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ.
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ عَيْنٍ نَاظِرَةٍ وَأُذُنٍ سَامِعَةٍ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ مَارِدٍ وَجَبَّارٍ عَنِيدٍ.
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، وَتَوَكَّلْتُ فِي أُمُورِي عَلَيْكَ، أَنْتَ وَلِيِّي وَمَوْلَايَ، إِلَهِي فَلَا تُسَلِّمْنِي، وَلَا تَخْذُلْنِي، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا تُؤَاخِذْنِي بِذُنُوبِي وَإِسْرَافِي عَلَى نَفْسِي، وَأَعِنِّي عَلَى شُكْرِ نِعْمَتِكَ، يَا مُحْسِنُ يَا جَبَّارُ اِجْعَلْنِي عَبْداً شَكُوراً، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، أَنْتَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اَلله رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا فَوْقَهُنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَرَبِّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ، اَلْحَمْدُ لِله رَبِّ اَلْعَالَمِينَ.
اَللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إِلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ حَتَّى لَا يَكُونَ لِي فِي قَلْبِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ غِلْظَةٌ، وَلَا يُعَارِضُونِّي، وَاِجْعَلْهُمْ يَسْتَقْبِلُونِّي بِوُجُوهٍ بَسِيطَةٍ، وَيَقْضُونَ حَوَائِجِي،

↑صفحة ١٩٩↑

وَيَطْلُبُونَ مَرْضَاتِي، وَيَخْشَوْنَ سَخَطِي، بِاسْمِكَ اَلْقُدُّوسِ اَلْعَظِيمِ اَلْأَعْظَمِ أَدْعُوكَ، يَا اَللهُ، يَا نُوراً فِي نُورٍ، وَنُوراً إِلَى نُورٍ، وَنُوراً فَوْقَ نُورٍ، وَنُوراً تَحْتَ نُورٍ، وَنُوراً يُضِيءُ بِهِ كُلُّ نُورٍ وَكُلُّ ظُلْمَةٍ، وَيُطْفَى بِهِ شِدَّةُ كُلِّ شَيْطَانٍ وَسُلْطَانٍ، وَبِاسْمِكَ [اَلَّذِي] تَكَلَّمَ بِهِ اَلمَلَائِكَةُ فَلَا يَكُونُ لِلْمَوْجِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَ[بِهِ] يَذِلُّ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، يَكُونُ اَلْخَلَائِقُ تَحْتَ قَدَمَيَّ بِاسْمِكَ اَلَّذِي سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، وَاِسْتَقْرَرْتَ بِهِ عَلَى عَرْشِكَ وَعَلَى كُرْسِيِّكَ، بِاسْمِكَ اَلْعَظِيمِ اَلْأَعْظَمِ يَكُونُ لِي نُوراً وَهَيْبَةً عِنْدَ جَمِيعِ اَلْخَلْقِ، بِأَسْمَائِكَ اَلمُقَدَّسَةِ اَلْمُبَارَكَةِ، أَنْتَ اَلْجَوَادُ اَلْكَرِيمُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبَّارُ اَلمُتَكَبِّرُ اَلْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، يَا رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَوَارِثَهُ، يَا اَللهُ أَنْتَ اَلمَحْمُودُ فِي كُلِّ فِعَالِهِ، يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ، يَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، اَلرَّفِيعُ فِي جَلَالِهِ، يَا اَللهُ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ، يَا رَحْمَنَ كُلِّ [شَيْءٍ] وَرَاحِمَهُ، يَا مُمِيتَ كُلِّ شَيْءٍ وَوَارِثَهُ، يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ فِي دَيْمُومِيَّةِ مُلْكِهِ وَبَقَائِهِ، يَا رَافِعُ اَلمُرْتَفِعُ فَوْقَ سَمَائِهِ بِقُدْرَتِهِ، يَا قَيُّومُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، يَا آخِرُ يَا بَاقِي يَا أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ وَآخِرَهُ، يَا دَائِمُ بِغَيْرِ فَنَاءٍ وَلَا زَوَالٍ لِمُلْكِهِ، يَا صَمَدُ مِنْ غَيْرِ شَبِيهٍ فَلَا شَيْءَ كَمِثْلِهِ، يَا مُبْدِئَ كُلِّ شَيْءٍ وَمُعِيدَهُ، يَا مَنْ لَا يَصِفُ اَلْوَاصِفُونَ كُنْهَ جَلَالِهِ فِي مُلْكِهِ وَعِزِّهِ وَجَبَرُوتِهِ، يَا كَبِيرُ أَنْتَ اَلَّذِي لَا تَهْتَدِي اَلْعُقُولُ لِصِفَتِهِ فِي عَظَمَتِهِ، يَا بَاعِثُ يَا مُنْشِئُ بِلَا مِثَالٍ، يَا زَاكِي اَلطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ آفَةٍ، يَا كَافِي اَلمُتَوَسِّعُ لِمَا خَلَقَ مِنْ عَطَايَا فَضْلِهِ اَلَّذِي لَا يَنْفَدُ، يَا نَقِيُّ مِنْ كُلِّ سُوءٍ لَمْ يُخَالِطْهُ فِعَالُهُ، يَا جَبَّارُ أَنْتَ اَلَّذِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَتُهُ، يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَاَلْإِكْرَامِ، أَنْتَ [اَلَّذِي] قَدْ عَمَّ اَلْخَلَائِقَ مَنُّهُ وَفَضْلُهُ، يَا دَيَّانَ اَلْعِبَادِ وَكُلٌّ يَقُومُ خَاضِعاً لِهَيْبَتِهِ، يَا خَالِقَ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرَضِينَ وَكُلٌّ إِلَيْهِ مِيعَادُهُ، يَا رَحِيمَ كُلِّ صَرِيخٍ وَمَكْرُوبٍ، يَا صَادِقَ اَلْوَعْدِ، فَلَا تَصِفُ اَلْأَلْسُنُ جَلَالَ مُلْكِهِ وَعِزِّهِ، يَا مُبْدِئَ اَلْبَدَائِعِ [لَمْ] يَبْتَغِ فِي إِنْشَائِهَا عَوْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، يَا عَالِمَ اَلْغُيُوبِ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، يَا مُعِيدَ مَا أَفْنَى إِذَا بَرَزَ اَلْخَلَائِقُ لِدَعْوَتِهِ مِنْ مَخَافَتِهِ، يَا

↑صفحة ٢٠٠↑

حَلِيماً ذَا أَنَاةٍ فَلَا شَيْءَ يُعَادِلُهُ مِنْ خَلْقِهِ، يَا حَمِيدَ اَلْفِعَالِ فِي خَلْقِهِ بِلُطْفِهِ، يَا عَزِيزُ اَلْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ فَلَا شَيْءَ يُعَادِلُهُ، يَا ظَاهِرَ اَلْبَطْشِ اَلشَّدِيدِ [اَلَّذِي] لَا يُطَاقُ اِنْتِقَامُهُ، يَا عَالِي اَلْقَرِيبُ فِي عُلُوِّهِ وَاِرْتِفَاعِهِ وَدَوَامِهِ، يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ فَلَا شَيْءَ يَقْهَرُ سُلْطَانَهُ، يَا نُورَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدَاهُ أَنْتَ اَلَّذِي أَضَاءَتِ اَلظُّلْمَةُ بِنُورِهِ، يَا قُدُّوسُ اَلطَّاهِرُ فَلَا شَيْءَ كَمِثْلِهِ، يَا قَرِيبُ اَلمُجِيبُ اَلمُتَدَانِي دُونَ كُلِّ شَيْءٍ، يَا عَالِي اَلشَّامِخُ فِي اَلسَّمَاءِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ عُلُوُّهُ وَاِرْتِفَاعُهُ، يَا بَدِيعَ اَلْبَدَائِعِ وَمُعِيدَهَا بَعْدَ فَنَائِهَا بِقُدْرَتِهِ، يَا مَلِكُ يَا مُتَكَبِّرُ، يَا مَنِ اَلْعَدْلُ أَمْرُهُ، وَاَلصِّدْقُ وَعْدُهُ، يَا مَحْمُوداً فِي أَفْعَالِهِ فَلَا تَبْلُغُ اَلْأَوْهَامُ كُنْهَ جَلَالِهِ فِي مُلْكِهِ وَعِزِّهِ، [يَا] كَرِيمَ اَلْعَفْوِ أَنْتَ اَلَّذِي مَلَأَ كُلَّ شَيْءٍ عَدْلُهُ وَفَضْلُهُ، يَا عَظِيمَ اَلمَفَاخِرِ وَاَلْكِبْرِيَاءِ فَلَا يُدْرَكُ عِزُّ مُلْكِهِ، يَا عَجِيبُ فَلَا تَنْطِقُ اَلْأَلْسُنُ بِكُلِّ آلَائِهِ وَثَنَائِهِ، أَسْأَلُكَ يَا اَللهُ أَمَاناً مِنْ عُقُوبَتِكَ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ، وَأَسْأَلُكَ نُوراً وَنَصْراً وَرِفْعَةً عِنْدَ جَمِيعِ خَلْقِكَ مِنْ بَنِي آدَمَ وَبَنَاتِ حَوَّاءَ، رَبَّ اَلْأَرْوَاحِ اَلْفَانِيَةِ، وَاَلْأَجْسَادِ اَلْبَالِيَةِ، وَاَلْأَرْوَاحِ اَلمُرْتَفِعَةِ، وَأَسْأَلُكَ بِطَاعَةِ اَلْعُرُوقِ اَلمُلْتَئِمَةِ إِلَى أَمَاكِنِهَا، وَبِطَاعَةِ اَلْقُبُورِ اَلمُتَشَقِّقَةِ عَنْ أَهْلِهَا، وَبِدَعْوَتِكَ اَلصَّادِقَةِ فِيهِمْ، وَأَخْذِكَ اَلْحَقَّ مِنْهُمْ إِذَا بَرَزَ اَلْخَلَائِقُ، فَهُمْ مِنْ مَخَافَتِكَ وَشِدَّةِ سُلْطَانِكَ يَنْتَظِرُونَ قَضَاءَكَ، وَيَخَافُونَ عَذَابَكَ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَكَ، اِجْعَلْنِي مِنَ اَلمُقَرَّبِينَ اَلْفَائِزِينَ، وَأَلْقِ عَلَيَّ مَحَبَّةً وَنُوراً وَنِعْمَةً وَهَيْبَةً، وَاِجْعَلْنِي مِمَّنْ يُسْمَعُ قَوْلِي وَيُرْفَعُ أَمْرِي عَلَى كُلِّ أَمْرٍ، أَنَا عَبْدُكَ وَاِبْنُ عَبْدِكَ، اَلْفَقِيرُ إِلَى رَحْمَتِكَ، اِجْعَلْنِي اَللَّهُمَّ عَالِياً مُتَعَالِياً، يَا نُورَ اَلنُّورِ، يَا مِصْبَاحَ اَلنُّورِ، أَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ، وَأَسْتَعِينُ بِكَ عَلَيْهِمْ، فَاكْفِنِي أَمْرَهُمْ بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، يَا اَللهُ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ، ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [العشراء: ٤]، ﴿إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ [هود: ٨١]، ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ [القَصَص: ٣١]،

↑صفحة ٢٠١↑

﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: ٢١]. اَللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ يَا دَائِمَ اَلْبَقَاءِ، أَسْأَلُكَ بِالْاِسْمِ اَلَّذِي أَحَطْتَهُ بِحِجَابِ اَلنُّورِ، نُورِ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ، تُضِيءُ بِهِ أَبْصَارُ اَلنَّاظِرِينَ، عُذْتُ بِرُبُوبِيَّتِكَ يَا اَللهُ، وَبِاسْمِكَ اَلَّذِي تَقُولُ بِهِ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، إِلَّا قَضَيْتَ حَاجَتِي، وَأَنْجَحْتَ طَلِبَتِي، وَيَسَّرْتَ أَمْرِي، وَسَتَرْتَ عَوْرَتِي، وَآمَنْتَ رَوْعَتِي، وَرَزَقْتَنِي نُوراً وَعِزًّا وَهَيْبَةً وَقَبُولاً وَرِفْعَةً عِنْدَ جَمِيعِ خَلْقِكَ، بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَبِاسْمِكَ اَلَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُ، يَا دَائِمَ اَلْبَقَاءِ، أَدِمْ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ نِعْمَتِكَ وَعَافِيَتِكَ، وَاِجْعَلْ أُمُورِي أَوَّلَهَا صَلَاحاً، وَآخِرَهَا فَلَاحاً، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ.
ثُمَّ اُدْعُ بِمَا أَحْبَبْتَ، فَإِنَّهُ يُسْتَجَابُ إِنْ شَاءَ اَللهُ تَعَالَى(٣١٠).
مع الدعاء:
نقل هذا الدعاء السيِّد ابن طاوس (رحمه الله) في كتابه (جمال الأُسبوع)، وذكر أنَّه يُروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّه قال: «وَجَدْتُ هَذِهِ اَلْأَسْمَاءَ فِي لَوْحٍ مِنْ نُورٍ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، وَلَيْسَ بَيْنَ اَللَّوْحِ وَاَلْعَرْشِ حِجَابٌ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام): يَا مُحَمَّدُ، لَوْ لَا أَنْ تَطْغَى أُمَّتُكَ لَأَخْبَرْتُكَ بِشَأْنِ هَذِهِ اَلْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: مَنْ تَكَلَّمَ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ مَرَّةً بِهَا، ثُمَّ كَادَهُ أَهْلُ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ، لَمْ يَقْدِرُوا لَهُ عَلَى مَسَاءَةٍ، وَمَنْ تَكَلَّمَ بِهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ اَلله وَجِوَارِهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ لَهُ أَحَدٌ عَلَى مَكْرُوهٍ»...
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «وَلَقَدْ دَعَا مُوسَى (عليه السلام) لَـمَّا دَخَلَ عَلَى فِرْعَوْنَ بِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ».
وَيُذْكَرُ أَنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم) دَعَا بِهَا يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ يَوْمَ اَلْأَحْزَابِ، فَنَصَرَهُ اَللهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَهِيَ أَسْمَاءُ اَلله اَلمُقَدَّسَةُ اَلمُبَارَكَةُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٠) جمال الأُسبوع (ص ٢١٩ - ٢٢٣).

↑صفحة ٢٠٢↑

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إِلَّا فَرَّجَ اَللهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ، وَلَا مَغْمُومٌ إِلَّا وَنَفَّسَ اَللهُ غَمَّهُ، وَلَا لِحَاجَةٍ إِلَّا قُضِيَتْ لَهُ مِنْ حَوَائِجِ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ».
وَقَالَ كَعْبُ اَلْأَحْبَارِ: (وَلَقَدْ دَعَا بِهَا اَلْخَضِرُ (عليه السلام)، فَوَقَعَ فِي عَيْنِ اَلْحَيَاةِ)(٣١١).
خامساً: دعاء الخضر وإلياس (عليهما السلام):
تتحدَّث الروايات عن اجتماع يكون بينهما، ثمّ يفترقان عن هذا الدعاء، وقد ورد بلفظين بينهما بعض الاختلاف؛ ولهذا أوردت الروايتين:
الرواية الأُولى:
بِسْمِ اَلله مَا شَاءَ اَللهُ، لَا يَصْرِفُ اَلسُّوءَ إِلَّا اَللهُ، بِسْمِ اَلله مَا شَاءَ اَللهُ، لَا يَسُوقُ اَلْخَيْرَ إِلَّا اَللهُ، بِسْمِ اَلله مَا شَاءَ اَللهُ، مَا يَكُونُ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَلله، بِسْمِ اَلله مَا شَاءَ اَللهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ، بِسْمِ اَلله مَا شَاءَ اَللهُ، صَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ اَلطَّيِّبِينَ(٣١٢).
الرواية الثانية:
بِسْمِ اَلله، مَا شَاءَ اَللهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، مَا شَاءَ اَللهُ، كُلُّ نِعْمَةٍ مِنَ اَلله، مَا شَاءَ اَللهُ، اَلْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، مَا شَاءَ اَللهُ، لَا يَصْرِفُ اَلسُّوءَ إِلَّا اَللهُ(٣١٣).
آثار الدعاء:
ورد في الرواية أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال لزيد بن أرقم: «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُؤْمِنَكَ [اَللهُ] بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اَلْغَرَقِ وَاَلْحَرَقِ وَاَلسَّرَقِ؛ فَقُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١١) راجع: جمال الأُسبوع (ص ٢١٨ و٢١٩).
(٣١٢) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ١٩/ ح ٤).
(٣١٣) مهج الدعوات (ص ٣١٠)؛ وورد في ذيلها: (فَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَمِنَ مِنَ اَلْحَرَقِ وَاَلشَّرَقِ وَاَلْغَرَقِ) [الشرق: وهو الغَصَّة بالريق أو الماء].

↑صفحة ٢٠٣↑

فَإِنَّ مَنْ قَالَهَا ثَلَاثاً إِذَا أَصْبَحَ أَمِنَ مِنَ الْحَرَقِ وَالْغَرَقِ وَالسَّرَقِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثاً إِذَا أَمْسَى أَمِنَ مِنَ الْحَرَقِ وَالْغَرَقِ وَالسَّرَقِ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ (عليهما السلام) يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، فَإِذَا تَفَرَّقَا تَفَرَّقَا عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَإِنَّ ذَلِكَ شِعَارُ شِيعَتِي، وَبِهِ يَمْتَازُ أَعْدَائِي مِنْ أَوْلِيَائِي يَوْمَ خُرُوجِ قَائِمِهِمْ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ)»(٣١٤).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٤) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ١٩ و٢٠/ ح ٤).

↑صفحة ٢٠٤↑

نوادر من آثاره
أوَّلاً: زيارته لأمير المؤمنين (عليه السلام):
يُحدِّث المؤرِّخون عمَّا رأوه بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد جاء رجل باكياً، وَهُوَ مُسْرِعٌ مُسْتَرْجِعٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
اَلْيَوْمَ انْقَطَعَتْ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ اَلْبَيْتِ اَلَّذِي فِيه أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ:
رَحِمَكَ اَللهُ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ، كُنْتَ أَوَّلَ اَلْقَوْمِ إِسْلَاماً، وَأَخْلَصَهُمْ إِيمَاناً، وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً، وأَخْوَفَهُمْ لِله، وَأَعْظَمَهُمْ عَنَاءً، وَأَحْوَطَهُمْ(٣١٥) عَلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وَآمَنَهُمْ عَلَى أَصْحَابِه، وَأَفْضَلَهُمْ مَنَاقِبَ، وَأَكْرَمَهُمْ سَوَابِقَ، وَأَرْفَعَهُمْ دَرَجَةً، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأَشْبَهَهُمْ بِه هَدْياً، وَخَلْقاً، وَسَمْتاً(٣١٦)، وَفِعْلاً، وَأَشْرَفَهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْه، فَجَزَاكَ اَللهُ عَنِ اَلْإِسْلَامِ وَعَنْ رَسُولِهِ وَعَنِ اَلمُسْلِمِينَ خَيْراً.
قَوِيتَ حِينَ ضَعُفَ أَصْحَابُهُ، وَبَرَزْتَ حِينَ اِسْتَكَانُوا، وَنَهَضْتَ حِينَ وَهَنُوا، وَلَزِمْتَ مِنْهَاجَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، إِذْ هَمَّ أَصْحَابُهُ(٣١٧)، وكُنْتَ خَلِيفَتَهِ حَقًّا، لَمْ تُنَازَعْ(٣١٨)، وَلَمْ تَضْرَعْ، بِرَغْمِ اَلمُنَافِقِينَ، وَغَيْظِ اَلْكَافِرِينَ، وَكُرْهِ اَلْحَاسِدِينَ، وَصِغَرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٥) يقال: حاطه، يحوطه حوطاً وحياطةً، إذا حفظه، وصانه، وذبَّ عنه، وتوفَّر على مصالحه.
(٣١٦) الهدي بالفتح السيرة، والسمت هيأة أهل الخير.
(٣١٧) أي قصد كلٌّ منهم مسلكاً مخالفاً للحقِّ لمصالح دنياهم.
(٣١٨) أي لم تكن محلَّ النزاع، لوضوح الأمر، أو المعنى أنَّهم جميعاً كانوا بقلوبهم يعتقدون حقّيَّتك وخلافتك، وإنْ أنكروا ظاهراً لأغراضهم الفاسدة.

↑صفحة ٢٠٥↑

اَلْفَاسِقِينَ، فَقُمْتَ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَنَطَقْتَ حِينَ تَتَعْتَعُوا(٣١٩)، وَمَضَيْتَ بِنُورِ اَلله إِذْ وَقَفُوا، فَاتَّبَعُوكَ فَهُدُوا، وَكُنْتَ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً، وَأَعْلَاهُمْ قُنُوتاً(٣٢٠)، وَأَقَلَّهُمْ كَلَاماً، وَأَصْوَبَهُمْ نُطْقاً، وَأَكْبَرَهُمْ رَأْياً، وَأَشْجَعَهُمْ قَلْباً، وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً، وَأَحْسَنَهُمْ عَمَلاً، وَأَعْرَفَهُمْ بِالْأُمُورِ، كُنْتَ وَاَلله يَعْسُوباً لِلدِّينِ، أَوَّلاً وَآخِراً(٣٢١)؛ اَلْأَوَّلَ حِينَ تَفَرَّقَ اَلنَّاسُ، وَاَلْآخِرَ حِينَ فَشِلُوا، كُنْتَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَباً رَحِيماً، إِذْ صَارُوا عَلَيْكَ عِيَالاً، فَحَمَلْتَ أَثْقَالَ مَا عَنْه ضَعُفُوا، وَحَفِظْتَ مَا أَضَاعُوا، وَرَعَيْتَ مَا أَهْمَلُوا، وَشَمَّرْتَ إِذَا اِجْتَمَعُوا، وَعَلَوْتَ إِذْ هَلِعُوا، وَصَبَرْتَ إِذْ أَسْرَعُوا، وَأَدْرَكْتَ أَوْتَارَ(٣٢٢) مَا طَلَبُوا، وَنَالُوا بِكَ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوا، كُنْتَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ عَذَاباً صَبًّا وَنَهْباً، وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَمَداً(٣٢٣) وَحِصْناً، فَطِرْتَ وَاَلله بِغَمَّائِهَا(٣٢٤)، وَفُزْتَ بِحِبَائِهَا، وَأَحْرَزْتَ سَوَابِغَهَا، وَذَهَبْتَ بِفَضَائِلِهَا، لَمْ تُفْلَلْ(٣٢٥) حُجَّتُكَ، وَلَمْ يَزِغْ قَلْبُكَ، وَلَمْ تَضْعُفْ بَصِيرَتُكَ، وَلَمْ تَجْبُنْ نَفْسُكَ، وَلَمْ تَخِرَّ(٣٢٦)، كُنْتَ كَالْجَبَلِ لَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣١٩) التعتعة في الكلام: التردُّد من حصرٍ أو عيٍّ.
(٣٢٠) أي طاعةً وخضوعاً، وفي نهج البلاغة: «وأعلام فوتاً»، أي سبقاً.
(٣٢١) يحتمل أنْ يكون المراد بالأوَّل زمان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وبالآخر بعده، أو كلًّا منهما في كلٍّ منهما.
(٣٢٢) الأوتار: جمع وتر - بالكسر -، وهو الجناية.
(٣٢٣) العَمَد - بالتحريك -: جمع العمود.
(٣٢٤) الغمَّاء: الداهية، وفي بعض النُّسَخ: (بنعمائها). وقوله: (فطرتَ) يمكن أنْ يُقرَأ على بناء المجهول من الفطر بمعنى الخلق، أي كنت مفطوراً على البلاء والنعماء، ويحتمل أنْ يكون الفاء عاطفة، والطاعة مكسورة من الطيران، أي ذهبت إلى الدرجات العلى، مع الدواهي التي أصابتك من الأُمَّة، أو طرت وذهبت بنعمائهم وكراماتهم، ففقدوها بعدك. وبعضهم قرأ: (فُطِّرت) على بناء المجهول، وتشديد الطاء، من قولهم: (فطَّرتُ الصائم)، إذا أعطاه الفطور.
(٣٢٥) فلول السيف: كسور في حدِّه.
(٣٢٦) بالخاء المعجمة والراء المشدَّدة، من الخرور، وهو السقوط من علوٍّ إلى سفل. وفي بعض النُّسَخ: بالحاء المهملة من الحيرة. وفي بعضها: (لم تخن) من الخيانة، وهو أظهر.

↑صفحة ٢٠٦↑

تُحَرِّكُهُ اَلْعَوَاصِفُ، وَكُنْتَ كَمَا قَالَ (عليه السلام): آمَنَ النَّاسِ فِي صُحْبَتِكَ وَذَاتِ يَدِكَ، وَكُنْتَ كَمَا قَالَ (عليه السلام): ضَعِيفاً فِي بَدَنِكَ، قَوِيًّا فِي أَمْرِ اَلله، مُتَوَاضِعاً فِي نَفْسِكَ، عَظِيماً عِنْدَ اَلله، كَبِيراً فِي اَلْأَرْضِ، جَلِيلاً عِنْدَ اَلمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيكَ مَهْمَزٌ، وَلَا لِقَائِلٍ فِيكَ مَغْمَزٌ(٣٢٧)، وَلَا لِأَحَدٍ فِيكَ مَطْمَعٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عِنْدَكَ هَوَادَةٌ، اَلضَّعِيفُ اَلذَّلِيلُ عِنْدَكَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، حَتَّى تَأْخُذَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَاَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ عِنْدَكَ ضَعِيفٌ ذَلِيلٌ، حَتَّى تَأْخُذَ مِنْه اَلْحَقَّ، وَاَلْقَرِيبُ وَاَلْبَعِيدُ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، شَأْنُكَ اَلْحَقُّ وَاَلصِّدْقُ وَاَلرِّفْقُ، وَقَوْلُكَ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَأَمْرُكَ حِلْمٌ وَحَزْمٌ، وَرَأْيُكَ عِلْمٌ وَعَزْمٌ فِيمَا فَعَلْتَ، وَقَدْ نَهَجَ اَلسَّبِيلُ وَسَهُلَ اَلْعَسِيرُ، وَأُطْفِئَتِ اَلنِّيرَانُ، وَاِعْتَدَلَ بِكَ اَلدِّينُ، وَقَوِيَ بِكَ اَلْإِسْلَامُ، فَظَهَرَ أَمْرُ اَلله وَلَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ، وَثَبَتَ بِكَ اَلْإِسْلَامُ وَاَلمُؤْمِنُونَ، وَسَبَقْتَ سَبْقاً بَعِيداً(٣٢٨)، وَأَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ تَعَباً شَدِيداً، فَجَلَلْتَ عَنِ اَلْبُكَاءِ(٣٢٩)، وَعَظُمَتْ رَزِيَّتُكَ فِي اَلسَّمَاءِ، وَهَدَّتْ مُصِيبَتُكَ اَلْأَنَامَ، فَإِنَّا لِله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، رَضِينَا عَنِ اَلله قَضَاهُ، وَسَلَّمْنَا لِله أَمْرَهُ، فَوَاَلله لَنْ يُصَابَ اَلمُسْلِمُونَ بِمِثْلِكَ أَبَداً، كُنْتَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَهْفاً وَحِصْناً وَقُنَّةً(٣٣٠) رَاسِياً، وَعَلَى اَلْكَافِرِينَ غِلْظَةً وَغَيْظاً، فَأَلْحَقَكَ اَللهُ بِنَبِيِّهِ، وَلَا أَحْرَمَنَا أَجْرَكَ، وَلَا أَضَلَّنَا بَعْدَكَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٢٧) الهمز: الغيبة، والوقيعة في الناس، وذكر عيوبهم. والغمز: الإشارة بالعين والحاجب، وهو أيضاً كناية عن إثبات المعائب.
(٣٢٨) سبقت سبقاً بعيداً: أي ذهبت بالشهادة إلى الآخرة، بحيث لا يمكننا اللحوق بك، أو سبقت إلى الفضائل والكمالات، بحيث لا يمكن لأحد أنْ يلحقك فيها. وكذا الفقرة الثانية تحتمل الوجهين، وإنْ كان الأوَّل فيها أظهر.
(٣٢٩) أي أنت أجلُّ من أنْ يُقضى حقُّ مصيبتك والجزع عليك بالبكاء، بل بما هو أشدّ منه، أو أنت أجلُّ من أنْ يكون للبكاء عليك حدٌّ، والأوَّل أظهر.
(٣٣٠) القُنَّة - بالضمِّ -: الجبل، أو قُلَّته.

↑صفحة ٢٠٧↑

وَسَكَتَ اَلْقَوْمُ حَتَّى اِنْقَضَى كَلَامُهُ، وَبَكَى، وَبَكَى أَصْحَابُ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ثُمَّ طَلَبُوه، فَلَمْ يُصَادِفُوه(٣٣١).
ثانياً: صلاته:
ذكرت الروايات أنَّ للخضر (عليه السلام) صلاة تُسمَّى بـ (صلاة الخضر)، وهي ذات خصوصيَّات، ومنها: أنَّ وقتها ليلة الجمعة، وركعاتها أربع بتسليمتين.
وأمَّا كيفيَّتها فهي: أنْ تقرأ في كلِّ ركعة الحمد مرَّة، ومائة مرَّة ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنبياء: ٨٧ و٨٨)، ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ﴾ (غافر: ٤٤ و٤٥).
فإذا فرغت من صلاتك قلت مائة مرَّة: (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ)، ثمّ تسأل حاجتك فإنَّها مقضيَّة إنْ شاء الله تعالى(٣٣٢).
ثالثاً: التوسُّل به:
١ - ذكرت الروايات صورة توسُّل بالنبيِّ الأكرم وآله (عليهم السلام)، وورد فيها ذكر لاسم الخضر (عليه السلام)، مقروناً باسم محمّد وعليٍّ (صلَّى الله عليهما وآلهما).
وطريقة ذلك التوسُّل كما يلي:
نسخة رقعة: تَكْتُبُ بِقَلَمٍ لَا شَيْءَ فِيهِ، بَيْنَ سُطُورِ اَلْكِتَابِ، أَوِ اَلرُّقْعَةِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣١) قد مرَّ تخريجه في (ص ١٤٣) فراجع؛ وقد نقلت التعليقات وشرح المعاني من بحار الأنوار (ج ١٠٠/ ص ٣٥٤ - ٣٥٦).
(٣٣٢) جمال الأُسبوع (ص ٨٩).

↑صفحة ٢٠٨↑

اَلمُشْتَمِلَةِ عَلَى اَلْحَاجَةِ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ سَطْرٌ مِنْهَا مِنْ حَرْفٍ مِنْ هَذِهِ اَلْحُرُوفِ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَاَلْخَضِرُ (عليهم السلام) أَبُو تُرَابٍ.
بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، اَلمَلِكِ اَلْحَقِّ اَلمُبِينِ، إِنَّ اَللهَ وَعَدَ اَلصَّابِرِينَ مَخْرَجاً مِمَّا يَكْرَهُونَ، وَرِزْقاً مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، إِنَّ اَللهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ، جَعَلَنَا اَللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ اَلَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَاَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ وَعَلِيٍّ...، إِلَى أَنْ تَقُولَ: وَاَلْحُجَّةِ اَلْخَلَفِ اَلْقَائِمِ اَلمُنْتَظَرِ، صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تُيَسِّرَ أَمْرِي، وَتُسَهِّلَهُ لِي، وَتَغْلِبَهُ لِي، وَتَرْزُقَنِي خَيْرَهُ، وَتَصْرِفَ عَنِّي شَرَّهُ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ(٣٣٣).
٢ - وهناك توسُّل آخر؛ ذكرته ليكون معلوماً لدى القارئ، ومن باب الاطِّلاع على ما ورد في بعض الكُتُب.
وهو توسُّل لم يرد النصُّ فيه على اسم الخضر (عليه السلام)، ولكن صاحب كتاب (الاختيارات)(٣٣٤) ذكر أنَّه من ضمن أُولئك المتوسَّل بهم، والذين أسماهم برجال الغيب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣٣) مكارم الأخلاق (ص ٣٤٢).
(٣٣٤) هناك رسالتان باسم (اختيارات الأيَّام)، وهما مطبوعتان، وتُنسَبان إلى العلَّامة المجلسي (رحمه الله)، وهناك من يُشكِّك في نسبتهما إليه، ويرى أنَّهما لسميِّه المولى محمّد باقر بن محمّد تقي اللَّاهيجي، الذي كان من معاصريه، ويشاركه في الاسم واسم الوالد. راجع مقدَّمة بحار الأنوار من الطبعة الجديدة، و(ج ١٠٢/ ص ٤٩)، لتجد الاختلاف في التقييم والنسبة، وقد ذكر الشيخ آغا بزرك (قدس سره) في الذريعة إلى تصانيف الشيعة (ج ١٠/ ص ٢٨/ الرقم ١٣٥) أنَّ للشيخ محمّد صالح آل طعَّان كتاباً اسمه الذريعة فيما يخصُّ الشيعة، قد ذكر في مقدَّمته اختيارات الأيَّام، وما يُعمَل فيها من الفصد وغيره، وأهوال الرؤيا، ومواضع رجال الغيب، ونجم الدوَّار، وغير ذلك، وتشبه هذه النقاط ما عُرِضَ في كتاب (الاختيارات) المنسوب للمجلسي (رحمه الله).

↑صفحة ٢٠٩↑

وله تعليق على ذلك التوسُّل جدير بذكره، وهو أنَّ أحوال رجال الغيب لم تتناولها الأحاديث، ولكن المعروف لدى الشيعة - وهذا ما أظنُّه وأعتقده أنا أيضاً - أنَّ المقصود بالأرواح المقدَّسة وأرواح الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، وخضر النبيِّ، والنبيُّ إلياس (عليهم السلام)، إلَّا أنَّ أحوال رجال الغيب لها شهرة عظيمة لدى جمع من أهل السُّنَّة والمتصوِّفة وأهل النجوم، وقد قام ثقات المنجِّمين بإعداد جداول بأسماء رجال الغيب.
وأمَّا طريقة التوسُّل فقائمة على تحديد اليوم، وتحديد الجهة المناسبة لذلك اليوم، والتي تُعتبَر جهة رجال الغيبة.
ثمّ ذكر الترتيب التالي لجهاتهم:
في السابع والرابع عشر والتاسع والعشرين في جهة المشرق.
في الحادي والعشرين والسادس والعشرين والثامن والعشرين بين المشرق والشمال.
في الرابع والثاني عشر والسابع والعشرين في المغرب.
في الثامن والثامن عشر والثاني والعشرين بين المغرب والجنوب.
في الأوَّل والتاسع والسادس عشر والثالث والعشرين بين المشرق والجنوب(٣٣٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣٥) يُلاحَظ هنا أنَّه لم يذكر إلَّا ستَّة عشر يوماً، وقد وجدت في صورة مخطوطة، مجهولة المؤلِّف، موجودة في قرص كمبيوتري مدمج، باسم (مكتبة الذخائر)، في القرص الأوَّل منها، تحت عنوان حول الطلاسم (ص ١٥٦) كلاماً حول هذا التوسُّل، وفيه اختلاف في صيغة التوسُّل، وفيه تحديد لبقيَّة الأيَّام، وهي كما يلي:
الشرق (٧/١٤/٢٢/٢٩)، شمال شرق (٦/٢١/٢٨)، شمال (٣/١٥/٢٣/٣٠)، شمال غرب (٥/١٣/٢٠)، غرب (٤/١٢/١٩/٢٧)، جنوب غرب (٢/١٠/١٧/٢٥)، جنوب (٨/١١/١٨/٢٦)، جنوب شرق (١/٩/١٦/٢٤).

↑صفحة ٢١٠↑

وأمَّا طريقة التوسُّل، فقد ذكر أنَّ من أراد أنْ يستمدَّ من أرواحهم، عليه أنْ ينظر في أيِّ يوم هو، ويُحدِّد جهتهم، ثمّ يضع يده على صدره، ويتوجَّه نفس الاتِّجاه، ويقول:
بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، والصلاة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، سلَّمكم الله يا رجال الغيب، يا أرواح المقدَّسة، أجيبوني، وأغيثوني بغوثة، وانظروني بنظرة، وارحموني برحمة، وحصِّلوني مقصودي، وقوموا بحوائجي، سلَّمكم الله في الدنيا والآخرة، يا نقباء، يا رقباء، يا أبدال، يا أوتاد، يا أقطاب، يا غوث، أغيثوني بغوثكم، بحرمة محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)، السلام عليكم يا رجال الغيب، يا أرواح المقدَّسة، أغيثوني بغوثكم، بحرمة محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم).
ثمّ يستدير؛ ليُعطي ظهره لذاك الاتِّجاه، ويقول:
السلام عليكم يا أرواح المقدَّسة، أغيثوني بقوَّة، وانظروني بنظرة.
ثمّ يذكر اسمه مستغيثاً بخشوع، حقَّق الله سبحانه وتعالى مراده، ويسَّر أمره، وإذا ما خرج لقتال عدوٍّ وأدار ظهره للأرواح المقدَّسة فسوف يُهزَم، والأفضل أنْ لا يخرج لقتال في ذلك اليوم، أمَّا إذا أراد الدخول على السلاطين فليُعطِ ظهره لهم، وسيكون معزَّزاً محترماً(٣٣٦).
رابعاً: من المجرَّبات:
لقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّهُ - أي الخضر (عليه السلام) - لَيَحْضُرُ حَيْثُ مَا ذُكِرَ، فَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْكُمْ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ»(٣٣٧).
وقد علَّق على هذا القول السيِّد الجزائري (رحمه الله) في كتابه (قَصَص الأنبياء)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣٦) كتاب الاختيارات في كلِّ ما يتعلَّق بأحوال الكائنات (ص ١٤٧ و١٤٨).
(٣٣٧) كمال الدِّين (ص ٣٩٠/ باب ٣٨/ ح ٤).

↑صفحة ٢١١↑

بقوله: (في قوله: «وَإِنَّهُ لَيَحْضُرُ حَيْثُ مَا ذُكِرَ» دلالة على حضوره في الأمكنة التي يذكرونها)(٣٣٨).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(٣٣٨) قَصَص الأنبياء (ص ٢٩٨ و٢٩٩).

↑صفحة ٢١٢↑

نتائج البحث

يمكننا أنْ نُلخِّص النتائج التي تمخَّض عنها البحث في عدَّة نقاط، وهي:
* أنَّ شخصيَّة الخضر (عليه السلام) شخصيَّة يؤمن بها المسلمون، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام، فبين من يرى حياته للآن، وبين من يرى موته قبل انقضاء مائة من الهجرة، وبين من يراه شخصيَّة عاديَّة عاشت في زمن موسى (عليه السلام).
* اختُلِفَ في اسمه، ويرجح كونه (تاليا)، ولقبه الخضر، ووالده ملكان، وكان مَلِكاً، وجدُّه نبيُّ الله هود (عليه السلام).
* أراد والده تزويجه باقتراح من رعيَّته؛ ليبقى الحكم فيه، فجرت أحداث نتج عنها غيابه، وكانت بداية مشواره.
* العلماء فريقان، فهم بين من يقول بنبوَّته، وبين من ينفيها عنه ويعتقد أنَّه عبد صالح.
* مسكنه السهلة، ومصلَّاه مسجد الكوفة.
* أعطاه الله سبحانه وتعالى مِنَحاً، منها: الاحتجاب عن الأنظار، وطيُّ الأرض، والمشي على الماء.
* يُعزى طول عمره لشربه من ماء الحياة.
* تُنسَب له عدَّة أدعية وزيارات، أشهرها الدعاء المعروف بدعاء كميل، وله صلاة تُسمَّى باسمه.
* يُذكر أنَّ له علاقة بنبي الله إلياس (عليه السلام).

↑صفحة ٢١٣↑

* من أشهر لقاءاته ما ورد من لقائه مع موسى (عليه السلام)، وقد اجتمعا عند مجمع البحرين، وصحب موسى الخضر (عليهما السلام)، فرأى منه أعمالاً عجيبةً دلَّت على أنَّ لكلٍّ منهما تكليفاً خاصًّا به.
* له ظهور متكرَّر ولقاءات عدَّة بالأئمَّة (عليهم السلام)، وكذلك له لقاء مع غيرهم.
* له (عليه السلام) علاقة بخاتم الحُجَج (عجّل الله فرجه)، فهو مؤنس له.

* * *

وفي الختام نسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يرزقنا بركات دعائه، ويجعلنا ممَّن يحظى بشرف لقائه، ويُشرَّف بالسير معه تحت راية الإمام المنتظَر (عجّل الله فرجه).
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

* * *

↑صفحة ٢١٤↑

المصادر والمراجع

١ - القرآن الكريم.
٢ - إحياء علوم الدِّين: أبو حامد الغزالي/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
٣ - الاختصاص: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري والسيِّد محمود الزرندي/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ دار المفيد للطباعة والنشر/ بيروت.
٤ - إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط ٢/ ١٤١٥هـ/ مطبعة أمير/ انتشارات الشريف الرضي/ قم.
٥ - الأزهار الأرجيَّة في الآثار الفرجيَّة: الشيخ فرج العمران.
٦ - الإشاعة لأشراط الساعة: محمّد بن رسول البرزجي الحسيني/ ١٤٢٥هـ/ مطبعة السعادة/ مصر.
٧ - الإصابة: ابن حجر العسقلاني/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٨ - أضواء على دعاء كميل بن زياد: السيِّد عزُّ الدِّين بحر العلوم/ ط ١/ ١٤١١هـ/ دار الزهراء/ بيروت.
٩ - إعلام الورى بأعلام الهدى: الفضل بن الحسن الطبرسي/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
١٠ - أعيان الشيعة: السيِّد محسن الأمين/ تحقيق وتخريج: حسن الأمين/ دار التعارف للمطبوعات/ بيروت.

↑صفحة ٢١٥↑

١١ - إقبال الأعمال: السيِّد عليُّ بن طاوس/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط ١/ ١٤١٤هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
١٢ - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ مركز الطباعة والنشر في مؤسَّسة البعثة/ قم.
١٣ - الأمالي: الشيخ الطوسي/ تحقيق: مؤسَّسة البعثة/ ط ١/ ١٤١٤هـ/ دار الثقافة/ قم.
١٤ - الأمالي: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين الأُستادولي وعليّ أكبر الغفاري/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ دار المفيد/ بيروت.
١٥ - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط ١/ ١٤٠٤هـ/ مدرسة الإمام الهادي (عليه السلام)/ قم.
١٦ - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
١٧ - الأنبياء (حياتهم، قَصَصهم): عبد الصاحب الحسني العاملي/ ط ١/ ٢٠٠٢م/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
١٨ - الأنوار النعمانيَّة: السيِّد نعمة الله الجزائري/ قدَّم له وعلَّق عليه: محمّد عليّ القاضي الطباطبائي/ ط ١/ ١٤٣١هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
١٩ - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط ٢/ ١٤٠٣هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
٢٠ - البحر المحيط: أبو حيَّان الأندلسي/ تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعليّ محمّد معوض/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٢١ - البداية والنهاية: ابن كثير/ تحقيق وتدقيق وتعليق: عليّ شيري/ ط ١/ ١٤٠٨هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

↑صفحة ٢١٦↑

٢٢ - بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد (عليهم السلام): محمّد بن الحسن ابن فرُّوخ (الصفَّار)/ تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي/ ١٤٠٤هـ/ منشورات الأعلمي/ طهران.
٢٣ - بغية الطلب في تاريخ حلب: عمر بن أحمد العقيلي الحلبي (ابن العديم)/ حقَّقه وقدَّم له: الدكتور سهيل زكار/ ١٤٠٨هـ/ مؤسَّسة البلاغ/ بيروت.
٢٤ - البيان في أخبار صاحب الزمان: محمّد بن يوسف الكنجي الشافعي/ (مطبوع ضمن كفاية الطالب)/ ط ٢/ ١٤٠٤هـ/ دار إحياء تراث أهل البيت (عليهم السلام)/ طهران.
٢٥ - تاج العروس: مرتضى الزبيدي/ تحقيق: عليّ شيري/ ١٤١٤هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٢٦ - تاريخ الطبري (تاريخ الأُمَم والملوك): محمّد بن جرير الطبري/ ط ٤/ ١٤٠٣هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
٢٧ - تأريخ الكوفة: السيِّد البراقي/ تحقيق: ماجد أحمد العطيَّة/ ط ١/ ١٤٢٤هـ/ المكتبة الحيدريَّة.
٢٨ - تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ تحقيق: عليّ شيري/ ١٤١٥هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٢٩ - التبيان في تفسير القرآن: الشيخ الطوسي/ تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي/ ط ١/ ١٤٠٩هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
٣٠ - تفسير ابن أبي حاتم: ابن أبي حاتم الرازي/ تحقيق: أسعد محمّد الطبيب/ دار الفكر/ بيروت.
٣١ - تفسير الآلوسي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم): شهاب

↑صفحة ٢١٧↑

الدِّين محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي/ تحقيق: عليّ عبد الباري عطيَّة/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٣٢ - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): المنسوب إلى الإمام العسكري(عليه السلام)/ ط ١ محقَّقة/ ١٤٠٩هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)/ قم.
٣٣ - التفسير الصافي: الفيض الكاشاني/ صحَّحه وقدَّم له وعلَّق عليه: الشيخ حسين الأعلمي/ ط ٢/ ١٤١٦هـ/ مكتبة الصدر/ طهران.
٣٤ - تفسير العيَّاشي: محمّد بن مسعود العيَّاشي/ تحقيق: السيِّد هاشم الرسولي المحلَّاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.
٣٥ - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن): أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي/ تصحيح: أحمد عبد العليم البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
٣٦ - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب الموسوي الجزائري/ ط ٣/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
٣٧ - التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط ٣.
٣٨ - تفسير الميزان (الميزان في تفسير القرآن): العلَّامة الطباطبائي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٣٩ - تفسير النسائي: أحمد بن شعيب بن عليّ النسائي/ ط ١/ ١٤١٠هـ/ مؤسَّسة الكُتُب الثقافيَّة/ بيروت.
٤٠ - تهذيب اللغة: أبو منصور محمّد بن أحمد الأزهري/ تعليق: عمر سلامي وعبد الكريم حامد/ ط ١/ ١٤٢١هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
٤١ - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق وتصحيح: هاشم حسيني طهراني/ ط ١/ جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميَّة/ قم.

↑صفحة ٢١٨↑

٤٢ - جنَّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجَّة (عجّل الله فرجه): ميرزا حسين النوري الطبرسي/ ط ١/ ١٤٢٧هـ/ مؤسَّسة السيِّد المعصومة (عليها السلام)/ قم.
٤٣ - حياة الحيوان الكبرى: كمال الدِّين الدميري/ ط ٢/ ١٤٢٤هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٤٤ - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ بإشراف: السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي/ ط ١/ ١٤٠٩هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)/ قم.
٤٥ - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ١٣٦٢ش/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٤٦ - الخضر بين الواقع والتهويل: محمّد خير رمضان يوسف/ ط ٢/ ١٤١٥هـ/ دار العلم/ دمشق.
٤٧ - الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.
٤٨ - الدعوات (سلوة الحزين): قطب الدِّين الراوندي/ ط ١/ ١٤٠٧هـ/ مطبعة أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)/ قم.
٤٩ - الذريعة إلى تصانيف الشيعة: آغا بزرك الطهراني/ ط ٣/ ١٤٠٣هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
٥٠ - رجال الكشِّي (اختيار معرفة الرجال): الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
٥١ - الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): شاذان بن جبرئيل القمِّي (ابن شاذان)/ تحقيق: عليّ الشكرجي/ ط ١/ ١٤٢٣هـ.
٥٢ - الزاهر في معاني كلمات الناس: محمّد بن القاسم ابن الأنباري/ تحقيق: الدكتور يحيى مراد/ ط ١/ ١٤٢٤هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.

↑صفحة ٢١٩↑

٥٣ - شرح الأخبار في فضائل الأئمَّة الأطهار: القاضي النعمان المغربي/ تحقيق: السيِّد محمّد الحسيني الجلالي/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٥٤ - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط ١/ ١٣٧٨هـ/ دار إحياء الكُتُب العربيَّة/ بيروت.
٥٥ - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربيَّة): إسماعيل بن حمَّاد الجوهري/ تحقيق: أحمد عبد الغفور العطَّار/ ط ٤/ ١٤٠٧هـ/ دار العلم للملايين/ بيروت.
٥٦ - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي/ ط ٢/ ١٤١٠هـ/ أوقاف مصر.
٥٧ - صحيح مسلم: مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
٥٨ - الصراط المستقيم إلى مستحقِّي التقديم: عليُّ بن يونس العاملي النباطي البياضي/ تصحيح وتعليق: محمّد باقر البهبودي/ ط ١/ ١٣٨٤هـ/ المكتبة المرتضويَّة لإحياء الآثار الجعفريَّة.
٥٩ - الطبقات الكبرى: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.
٦٠ - الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: السيِّد عليُّ بن طاوس/ ط ١/ ١٣٩٩هـ/ مطبعة الخيَّام/ قم.
٦١ - العقد النضيد والدُّرُّ الفريد: محمّد بن الحسن القمِّي/ تحقيق: عليّ أوسط الناطقي/ ط ١/ ١٤٢٣هـ/ دار الحديث/ قم.
٦٢ - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ ١٣٨٥هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.

↑صفحة ٢٢٠↑

٦٣ - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
٦٤ - الغدير في الكتاب والسُّنَّة والأدب: الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي/ ط ٤/ ١٣٩٧هـ/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
٦٥ - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ أنوار الهدى.
٦٦ - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط ١/ ١٤١١هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
٦٧ - فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني/ ط ٢/ دار المعرفة/ بيروت.
٦٨ - قَصَص الأنبياء: السيِّد نعمة الله الجزائري/ ١٤٠٤هـ/ منشورات مكتبة المرعشي/ قم.
٦٩ - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط ٥/ ١٣٦٣ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
٧٠ - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ١٤٠٥هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٧١ - الكواكب الزاهرة في اجتماع الأولياء يقظةً بسيِّد الدنيا والآخرة (صلّى الله عليه وآله وسلم): عبد القادر الشاذلي/ تحقيق وتصحيح: أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق عليّ وهبة/ ط ١/ ١٤٣١هـ/ مكتبة الثقافة الدِّينيَّة/ القاهرة.
٧٢ - لسان العرب: أبو الفضل جمال الدِّين محمّد بن مكرم الإفريقي المصري (ابن منظور)/ ١٤٠٥هـ/ نشر أدب الحوزة/ قم.

↑صفحة ٢٢١↑

٧٣ - مجمع البحرين: الشيخ فخر الدِّين الطريحي/ ط ٢/ ١٣٦٢ش/ مرتضوي.
٧٤ - مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي/ قدَّم له: السيِّد محسن الأمين العاملي/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
٧٥ - المحتضر: حسن بن سليمان الحلِّي/ تحقيق: سيِّد عليّ أشرف/ ط ١/ ١٤٢٤هـ/ انتشارات المكتبة الحيدريَّة/ مطبعة شريعت.
٧٦ - المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطيَّة الأندلسي/ تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمّد/ ط ١/ ١٤١٣هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٧٧ - المخلاة: الشيخ بهاء الدِّين العاملي/ تحقيق: محمّد خليل باشا/ ط ١/ ١٩٨٥م/ عالم الكُتُب.
٧٨ - المزار الكبير: محمّد بن جعفر المشهدي/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط ١/ ١٩١٩هـ/ نشر القيُّوم/ قم.
٧٩ - المسائل العكبريَّة: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الإلهي الخراساني/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ دار المفيد/ بيروت.
٨٠ - المستدرك على الصحيحين (وبذيله التلخيص للذهبي): الحاكم النيسابوري/ إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي/ دار المعرفة/ بيروت.
٨١ - معجم البلدان: شهاب الدِّين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي/ ١٣٩٩هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
٨٢ - المقفى الكبير: المقريزي/ تحقيق: محمّد يعلاوي/ ط ٢/ ١٤٢٧هـ/ دار الغرب الإسلامي/ بيروت.

↑صفحة ٢٢٢↑

٨٣ - مناقب آل أبي طالب: محمّد بن عليِّ بن شهرآشوب المازندراني/ ١٣٧٦هـ/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
٨٤ - منية المريد: الشهيد الثاني/ تحقيق: رضا المختاري/ ط ١/ ١٤٠٩هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
٨٥ - موسوعة النجف الأشرف: جعفر الدجيلي/ ١٤١٣هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
٨٦ - النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجَّة الغائب (عجّل الله فرجه): ميرزا حسين الطبرسي النوري/ تقديم وترجمة وتحقيق وتعليق: السيِّد ياسين الموسوي/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ أنوار الهدى.

↑صفحة ٢٢٣↑

التحميلات التحميلات:
التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016