رصدنا
الفوضى قبل ظهور المخلّص المنتظر بين خلاّقة وهدّامة
هيئة التحرير
بين حين وآخر يبزغ نجم مصطلحات جديدة في الفكر السياسي المعاصر، ويأفل نجم مصطلحات أخرى، وغالبا ماتكون مطلية بطلاء الدّين لتوظّف في خدمة السياسة، لا لأن أصحابها متدينون وإنما لأنهم يريدون دس السم في العسل، لتنفير أتباع الدين عن دينهم.
ولا تريد رصدنا فهرسة تلك المصطلحات ومعجمتها وإنما تحاول الوقوف عند مصطلح كثر الحديث عنه، حتى جعل أساساً ضروريا في التمهيد لظهور المخلص المنتظر وهو ما يعرف ب(الفوضى الخلاقة)، فما هي الفوضى الخلاقة؟ وماهي أصولها؟ وماعلاقتها بالمهدي المنتظر عليه السلام؟
وهذا ما ستحاول (رصدنا) بيانه في الأسطر الآتية.
الفوضى الخلاقة المفهوم والأصول
والفوضى الخلاقة مصطلح سياسي عقدي يقصد به تكون حالة سياسية أو إنسانية مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث، وعلى الرغم من وجود هذا المصطلح في أدبيات الماسونية القديمة، حيث أشار إليه الباحث الأمريكي (دان براون)، وتمثل كتابات (اليوت كوهين) أحد المصادر المهمة لنظرية الفوضى الخلاقة وخصوصا كتابه (القيادة العليا، الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب) ويرى كوهين: أن الحملة على الإرهاب هي الحرب العالمية الرابعة باعتبار أن الحرب الباردة هي الثالثة، ويؤكد بأن على الولايات المتحدة أن تنتصر في الحرب على الإسلام الأصولي. وهناك من يرى أن الفوضى الخلاقة مبدأ أساسي (لميكافيللي) صاحب النظرية الشائعة التي ترتكز على مقولة (إن الغاية تبرر الوسيلة) دون النظر الى القيم الدينية والأخلاقية المطلوبة.
وهناك رأي آخر يقول: بأن الأساس الأيديولوجي لنظرية الفوضى الخلاقة يعود إلى الثورة الفرنسية باعتبارها مرجعاً قابلاً للدرس، والمقارنة بشعاراتها المعروفة، الحرية والعدالة والمساواة.
ومهما تكن أصول هذا المصطلح إلا أنه لم يظهر على الساحة الفكرية المعاصرة إلا بعد الغزو الأمريكي للعراق وذلك في تصريح وزيرة الخارجية الامريكية (كوندوليزا رايس) في حديث لها أدلت به إلى صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية في شهر نيسان ٢٠٠٥ بقولها: إن مبدأ الفوضى الخلاقة يتم تطبيقه بحذافيره في حرب أمريكـا على الإرهـاب.
سيناريو استراتيجية الفوضى الخلاقة
إن إستراتيجية الفوضى الخلاقة تقوم على مبدأ الهدم الكامل، لإعادة البناء الكامل، ويعتبر (مايكل ليدين) العضو البارز فى معهد (أمريكا انتربرايز)، أول مَن وظّف هذه الإستراتيجية توظيفًا سياسيًّا بحتًا من خلال مشروع التغيير الكامل في الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، الذي أعد عام ٢٠٠٣م، وارتكز على تغيير مجموعة من منظومات وإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية في الشرق الأوسط، من خلال هدم الموجود، وقيام البناء الجديد.
ويقول (جوزيف شامبتر): (بأن الإزاحة التامة لما هو قديم يقوم بها ذلك المقاول المبدع الذي يسعى خلف السلعة الجديدة)، بل إن (ديف فلمنج) أب الكنيسة البنسلفانية يقول: (إن الإنجيل يؤكد بأن الفوضى خطوة هامة في عملية الخلق)، بينما يؤكد (هنتنغتون) بأن نظرية الفوضى الخلاقة ترتكز على (فجوة الاستقرار) التي يجب أن يشعر فيها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر، فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، وبذلك يثور المجتمع في كل اتجاه!..
علاقة الفوضى الخلاقة بنظرية المؤامرة
تختلف تعريفات مصطلح نظرية المؤامرة باختلاف وجهات نظر أصحابها، إلا انه يمكن القول بأن المؤامرة فيها طرفان رئيسان، هما المتآمِر والمُتآمَر عليه، وهي تحدث في كل مكان ووقت، بغض النظر عن المساحة المكانية والتنفيذية والزمنية لها، فقد تحدث في المنزل، وقد تحدث في العمل، وقد تحدث في الدولة، وقد تحدث على مستوى عالمي، فقد يتم تنفيذ المؤامرة بشكلٍ كامل ابتداءً من التخطيط وانتهاء بالوصول للنتائج، حتى وان استغرقت وقتا طويلا. والمؤامرة أقسام فمنها مؤامرة فكرية يمكن أن يطلق عليها: (الغزو الفكري، إسلام فوبيا، الإرهاب الإسلامي) بهدف تشويه الحقائق وطمس معالم الدين، ومؤامرة عسكرية.
إن الفوضى الخلاقة هي تطبيق من تطبيقات نظرية المؤامرة ولكن لابد من الالتفات إلى أمر مهم، وهو أنَّه من القصور الفكري، والانحراف المنهجي القول بأنَّ الفوضى في مجتمع ما سببها المجتمعات المعادية لها فقط؛ بل المجتمع الذي تنتشر فيه تلك الفوضى أيضا يتحمل المسؤولية ؛ ويرجع ذلك لضعف العقيدة، وقصور الهمَّة، ودونيَّة الإرادة لتغيير ما في النفوس، والواقع المزري من مظاهر الضعف، والتشتت وانفكاك الوحدة. ولعل القارئ ينتابه تساؤل شديد الإلحاح وهو: ماعلاقة هذه الفوضى والتنظير لها بالمخلص المنتظر، وهو بالفعل تساؤل مشروع، وتكمن الإجابة عنه فيما يأتي.
الفوضى الخلاقة والمخلّص المنتظر
إن التنبؤات التراثية تقول إن القادم من الأيام ومن حوادث الزمان يحمل الشرور والفتن والمخاطر، حيث تتفاقم الأمور سوءاً ويسود الإحباط وتنقلب الأوضاع ويغيب العدل، ويزداد المسلمون فرقة وانقساماً وينتشر الظلم وتنهار القيم ويضعف الإيمان ويسود الفساد، ويظهر أهل الفجور والمعاصي والمنكرات والبدع، وتشتد الصراعات والحروب بين المسلمين،
حتى إذا أطبق الظلام وهيمن الظلم والجور، وطال انتظار الناس للخلاص، واستنجدوا وطال بهم البلاء، ظهر المنقذ المخلّص المنتظر الذي يملأ الأرض عدلاً، فينصر الحق ويعيد الحقوق لأصحابها وينتقم من الظلمة ويطبق الشريعة وينقذ العالم من الظلم والجور ويحقّق الأمن والأمان والاستقرار. وهذا الأمر يكاد يكون محل اتفاق بين المسلمين بكل طوائفهم، وكذلك أتباع الأديان الثلاثة والمذاهب الأخرى على اختلاف في التصورات وبعض التفاصيل. إلا ان الغريب في الأمر هو العمل بشكل مقصود لزيادة تلك الفوضى من أجل التمهيد لمجيء المخلص المنتظر.
ففي عام ٢٠٠٦ نشرت مجلة (القوات المسلحة الأمريكية) مقالا بعنوان (حدود الدم) (Blood Borders) يتحدث فيه كاتب المقال (رالف بيتر)عن الخرائط المعدة من قبل وزارة الدفاع الأمريكية تم تسريبها , فيقول إن حدود الشرق الأوسط الحالية كانت سببا لنزاعات مذهبية وعرقية ضمن الدولة الواحدة, أو بين دول المنطقة حيث نتج عن ذلك ممارسات لا أخلاقية ضد الأقليات القومية والدينية لذلك يقترح فصل المذاهب أو القوميات التي لا يمكنها التعايش مع بعضها وتأسيس دولة خاصة لكل منها وإن إعادة التفكيك هذه تحتاج إلى حدود فاصلة بالدماء أي أن الشعوب تتقاتل إلي أن تصل إلى التفكيكية، و هي نفس الفكرة الماسونية (الفوضى الخلاقة) التي تقول عنها رايز: أن الدماء بين الشعوب لابدّ منه لأنها تهيء للمخلص المنتظر، وهي الرؤية الدينية عند اليهود، التي تقوم على أساس الشرط القائل إذا أردتم عودة المسيح المخلص يجب التمهيد لمجيئه بنشر المفاسد والمظالم والفوضى وامتلاء الأرض بها وهذا ما ينفذ حرفيا تحت اسم (الفوضى الخلاقة!) أي أنها مقصودة ومبرّرة في سبيل تحقيق الإصلاح، بعبارة أخرى كان لابد من بعثرة الأوضاع -طوعاً أو كُرهاً- ثم إعادة ترتيبها تمهيداً لمجيء المخلص المنتظر. وهذا المنطق يبين بوضوح هوية الجهات التي تقف وراء ظهور التيارات السلوكية التي تحاول نشر الفساد والإنحراف الاخلاقي فهي تعتمد على تغيير المجتمعات من خلال فوضى سلوكية عارمة وموجهة، بذريعة التعجيل لظهور المهدي المنتظر، وهذا يعني أن تلك الفوضى هي جزء من نظام دولي جديد تتعولم فيه السياسات والحضارات بل حتى المعتقدات.
لرصدنا وقفة لابد منها:
هل يمكن أن يرتكز العدل على ظلم؟ وهل يمكن أن يستند الصدق على الكذب؟ وهل يمكن أن تنتج الفوضى غير الهدم؟ وهل لعاقل ان يطيع الله سبحانه وتعالى من حيث يعصى؟ وهل سمعتم يوما أن الحق يحتاج للباطل كي يظهره؟ إنها المتناقضات التي لا تلتقي ولا تنسجم ولا تتوافق، لا بالمعنى اللفظي، ولا بالواقع الإجرائي على الإطلاق ومن هنا فإن الفوضى لا يمكن أن تكون خلاقة أو بناءة في يوم من الأيام، بقدر ما هي هدامة ومدمرة بكل المقاييس، لما تنتجه من تدمير وخراب وتحطيم للبنى التحتية وعلى جميع الاصعدة الدينية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية ، بمعول الذين يسعون بشكل حثيث، ويخططون بشكل خبيث لخلق هذه الفوضى من أجل تحقيق أهدافهم الاستراتيجية، والتي اهمها ضرب الاديان من داخلها وتشويه معتقداتها وتشكيك أتباعها بها هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المخلص المنتظر في جميع المعتقدات لاسيما السماوية، وبمراجعة بسيطة للنصوص المتعلقة بذلك نجده يؤكد على ضرورة البر والصلاح والعمل على نشر الفضيلة تمهيدا لظهوره مما يعني أن ما تقدم أعلاه لاحقيقة ولا شرعية له في النصوص الدينية وإنما هي أفكار وممارسات إلحادية تنافي الفطرة الإنسانية التي تقبح الظلم والفساد وتستحسن العدل والصلاح.