خطبة البيان في الميزان (٣)
السيد جعفر مرتضى الحسيني العاملي
بعد ان تناولنا بالذكر ما عرج عليه الباحثون في الحديث واللغة العربية، والمتخصصون في البلاغة مما جاء في النصين الأول والثاني من خطبة البيان المنسوبة لأمير البلاغة والبيان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، المنشورين في العدديين ٣٧ و ٣٨ من (صدى المهدي عليه السلام).
وسنتناول بالبحث هذه الحلقة ما يخص النص الثالث من هذه الخطبة.
بقي علينا: أن نشير إلى بعض المؤاخذات التي سجلناها على النص الثالث والأخير، لما زعم انه خطبة ألقاها أمير المؤمنين عليه السلام على أصحابه في الكوفة وقد ذكر فيها عليه السلام طائفة من الملاحم التي تسبق ظهور حجة الله عليه آلاف التحية والسلام في آخر الزمان.
وهي الخطبة التي أطلقوا عليها اسم (خطبة البيان).
وقبل أن ندخل في تسجيل المؤاخذات المشار إليها، نودّ أن نشير إلى أن بعض الفقرات لما كانت مشتركة فيما بين هذا النص الثالث والأخير، وبين رفيقيه اللذين سبقاه، فإن من الطبيعي أن لا نتعرض لكثير من هذه الفقرات مكتفين بما سجلناه عليها فيما سبق..
وبالنسبة لما نريد الإلماح إليه بالنسبة في هذا النص نقول:
إن نقاط الضعف في هذا النص كثيرة، ولكننا نكتفي بالإلماح إلى ما يلي:
نظرة في سند هذا النص:
يقول الراوي في مطلع هذا النص: (وقد ثبت عنه علماء الطريقة، ومشايخ الحقيقة، بالنقل الصحيح، والكشف الصريح: أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قام على منبر الكوفة الخ..).
فنلاحظ على هذه الفقرة:
أولاً: إنه يظهر أن الراوي لها هو من أهل السنة الذين يختارون عبارة (كرم الله وجهه) في ثنائهم على أمير المؤمنين).
وثانياً: إن هذه الفقرة قد صرحت بأنّ سند هذه الخطبة: هو النقل الصحيح والكشف الصريح، ولكن هذا الصحيح، وذلك الصريح إنما ثبت لخصوص علماء الطريقة، ومشايخ الحقيقة، ولا ندري لماذا لم يثبت ذلك أيضاً عند العلماء والباحثين، أو نقاد الحديث والمحدثين.
وثالثاً: ولا ندري أيضاً كيف ثبتت هذه الخطبة بالكشف، الذي هو وسيلة غير عادية، ولماذا لم تثبت سائر أحكام الإسلام وحقائق الدين ومعارفه وتعاليمه بطريقة الكشف الصريح أيضاً.. وهكذا الحال بالنسبة إلى القرآن والسنة المطهرة، وحوادث التاريخ.
ويبدو أن واضع هذا النص للخطبة قد كان من الصوفية، كما يشير إليه هذا السند، ويشير إليه أيضاً العبارة التي وردت في نهاية الخطبة، حيث يقول: (والصلاة على قطب الأقطاب، ورسول ملك الوهاب، وعلى آله المنتجبين الأطياب، ما أشرقت شموس الغيوب من غياهب القلوب).
تقول الرواية: (فيظهر عند ذلك صاحب الراية المحمدية، والدولة الأحمدية، القائم بالسيف الحال، الصادق في المقال، يمهّد الأرض، ويحيي السنة والفرض. سيكون ذلك بعد ألف ومئة، وأربع وثمانين سنة من سني الفترة بعد الهجرة).
وحسبنا في تكذيب هذه المزعمة: أن نذكّر القارئ بالروايات التي تؤكد على تكذيب الوقاتين، وردّ مزاعمهم في ذلك، فنقول: تبعاً لما ورد عن الأئمة الأطهار عليهم السلام:
(كذّب الوقّاتون، كذب الوقّاتون، كذب الوقاتون).
كان ما ذكرناه من وجوه الإيراد على بعض فقرات خطبة البيان غيضاً من فيض، وقطرة من بحر، مما يمكن الإيراد به على هذه الفقرات، وسواها من المئات، مما حفلت بها نصوصها الثلاثة.
وكان لابدّ لنا من كبح جماح القلم، ومنعه عن الاسترسال في هذا المجال، من أجل الاهتمامات بمجالات لربما تكون أهم، ونفعها أعم، والله ولينا، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الاحتمالات المعقولة في خطبة البيان:
وأخيراً، فنحن أمام احتمالين:
أحدهما:
أن يكون البعض قد اطّلع على بعض علامات الظهور، ولاسيما ما روي من طرق الشيعة وغيرهم، فنسجها من عند نفسه على هذا النحو البديع، وضمنها ما راق له من تلك العلامات، التي ليس لها في الأغلب سند يعتمد عيه.
ثم نسب ذلك إلى علي أمير المؤمنين عليه السلام ليكون لها وقع في القلوب، ومكانة في النفوس. وقد يكون قد جرّب ذلك مرتين أو ثلاثاً، كما رأينا في نصوصها المختلفة.
والثاني:
أن يكون للخطبة أصل أصيل، ثم تلاعبت بها الأهواء، وحرّفها المحرفون، وزيد عليها ونقص منها، وحرفت إلى حدّ جعلها تفقد معظم معالمها الأصيلة، وخرجت عن الانسجام والبلاغة لتصبح على درجة من الركاكة والسقوط، مشحونة بالأباطيل، والأضاليل، وحتى أصبح من أبرز مميزاتها الخروج على أبسط قواعد اللغة، والنحو، والاشتقاق، وعن أصول الخطاب بصورة كلية.
وقد يكون لبعض الغلاة، والباطنية، والصوفية، وربما اليهود أيضاً اليد الطولى في هذا البلاء، الذي حاق بها، حيث وجد هؤلاء وأولئك فيها مرتعاً خصباً، ومادة صالحة لإشاعة أضاليلهم وأباطيلهم..
ولكن الشي الذي لاشك فيه هو: أن أولئك المتلاعبين والوضّاعين لم يكن لهم حظ وافر من العلم، ولا من المعرفة باللغة وقواعدها واشتقاقاتها فكانت لهم الفضيحة الردية، والنكبة والبلية. وذلك هو صنع الله بهم، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.