شبهات في دائرة الضوء
السيد علي الميلاني
يقول السعد التفتازاني: (زعمت الأمامية من الشيعة أنّ محمّد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفاً من الأعداء، ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر عليه السلام. هذا رأي الشيعة. وأنكر ذلك سائر الفرق، لانّه ادّعاء أمر مستبعد جدّاً، ولانّ اختفاء إمام هذا القدر من الزمان بحيث لا يذكر منه إلاّ الاسم بعيد جدّاً، ولانّ بعثه مع هذا الاختفاء عبث، ولو سلّم فكان ينبغي أنْ يكون ظاهراً، فما قيل أو فما يقال : إنّ عيسى يقتدي بالمهدي أو بالعكس شيء لا مستند له، فلا ينبغي أنْ يعوّل عليه).
هذا غاية ما توصّل إليه متكلّمهم سعد الدين التفتازاني.
وهنا أقول : إن تطرح هذه الأسئلة كبحوث علمية ومناقشات، فلا مانع، ويا حبّذا لو تطرح كذلك ويلتزم فيها بالآداب والأخلاق والمتانة، ولا يكون هناك شتم وسبّ وتهجّم وتهريج واستهزاء، وهكذا فعل بعض العلماء وبعض الكتّاب المعاصرين.
إلاّ أنّنا إذا راجعنا (منهاج السنّة) وجدناه في فصل البحث عن المهدي عليه السلام قد ملا كتابه حقداً وبغضاً وعناداً وسبّاً وشتماً وتهريجاً وتكذيباً للحقائق! بحيث لو أنّكم أخرجتم من كتاب منهاج السنّة ما يتعلّق بالمهدي وما اشتمل عليه من السب والشتم لجاء كتاباً مستقلاً.
وقد تبعه أولياؤه في هذا المنهج من كتّاب زماننا، وفي خصوص المهدي عليه السلام واعتقاد الشيعة في المهدي عليه السلام، تراهم يتهجّمون ويسبّون وينسبون إلينا الأكاذيب، ويخرجون عن حدود الآداب، ومع الأسف يكون لكتبهم قرّاء ومن يروّج لها في بعض الأوساط.
والحقيقة، أنّه الباحث يشك تارة في أحاديث المهدي عليه السلام، أو يُناقش في أحاديث (الأئمّة الاثنا عشر)، أو لا يرتضي حديث (من مات ولم يعرف إمام زمانه)، فهذا له وجه، بمعنى أنّه يقول: بأنّي لا أُوافق على صحّة هذه الأحاديث، فيبقى على رأيه، ولا يتكلّم معه إن لم يقتنع بما في الكتب، لاسيّما بروايات أبناء مذهبه.
وأمّا بناءً على أنّ هذه الأحاديث مخرّجة في الصحاح، وفي السنن، والمسانيد، والكتب المعتبرة، وأنّها أحاديث متّفق عليها بين المسلمين، وأنّ الاعتقاد بالمهدي عليه السلام أو الاعتقاد بالإمام في كلّ زمان واجب، وأنّ المهدي هو الثاني عشر في الحديث المعروف المتفق عليه، فيكون البحث بنحو آخر، لانّه إنْ كان الباحث موافقاً على هذه الأحاديث، وعلى ما ورد من أنّ المهدي عليه السلام بن الحسن العسكري عليه السلام، فلا محالة أن يكون معتقداً بولادة المهدي عليه السلام، كما اعتقدوا.
نعم منهم من يستبعد طول العمر، بأنْ يبقى الإنسان هذه المدة في هذا العالم، وهذا مستبعد كما عبّر سعد التفتازاني، فإن التفتازاني لم يكذّب ولادة المهدي عليه السلام من الحسن العسكري عليه السلام، وإنّما استبعد أن يكون الإمام باقياً هذه المدة من الزمان، ولذا نرى بعضهم يعترف بولادة الامام عليه السلام ثمّ يقول: (مات)، أي يعترف بولادته بمقتضى الأدلّة الموجودة لكنّه يقول بموته، لعدم تعقّله بقاء الإنسان في هذا العالم هذا المقدار من العمر، لكن هذا يتنافى مع (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) حيث أنّ هذا الحديث يدلّ على وجود إمام في كلّ زمان.
ولذا نرى البعض الآخر منهم يلتفت إلى هذه النواحي، فلا يقول مات، بل يقول: (لا ندري ما صار)، ولد، إلاّ أنّه لا ندري ما صار، ما وقع عليه، لا يعترف ببقائه، لانّه يستبعد البقاء هذه المدة، ولا ينفي البقاء لانّه يتنافى مع الأحاديث، يعترف بالولادة فيقول: لا ندري ما صار، وأين صار، وما وقع عليه، ممّا يظهر أنّهم ملتزمون بهذه الأحاديث، ومن التزم بهذه الأحاديث لابدّ وأن يلتزم بولادة المهدي عليه السلام ووجوده.
ثمّ الاستبعاد دائماً وفي كلّ شيء يزول إنْ حدث له نظير، لو أنّك تيقّنت عدم شيء أو عدم إمكانه، فوقع فرد واحد ومصداق واحد لذلك الشيء، ذلك الاعتقاد بالعدم الذي كنت تجزم به مائة بالمائة سيكون تسعين بالمائة، فإذا وقع فرد آخر، وثالث، ورابع، هذا الاعتقاد الذي كان مائة بالمائة ثمّ أصبح تسعين بالمائة، ينزل على ثمانين، وسبعين، و، و، إلى خمسين وتحت الخمسين، فحينئذ، نقول للسعد التفتازاني:
إنّ الله سبحانه وتعالى أمكنه أنْ يعمّر نوحاً هذا العمر، أمكنه أن يبقي خضراً في هذا العالم هذه المدة، أمكنه سبحانه وتعالى أنْ يبقي عيسى عليه السلام في العالم الآخر هذه المدّة، الذي هو من ضروريات عقائد المسلمين، ومن يمكنه أنْ ينكر وجود عيسى؟! إضافة إلى أنهم في رواياتهم يثبتون وجود الدجال الآن، فيقولون بوجوده منذ ذلك الزمان، فإذا تعدّدت الأفراد، وتعدّدت المصاديق، وتعدّدت الشواهد، يقلّ الاستبعاد يوماً فيوماً، وهذه الاكتشافات والاختراعات التي ترونها يوماً فيوماً تبدل المستحيلات إلى ممكنات، فحينئذ ليس لسعد التفتازاني أو لغيره إلاّ الإستبعاد، وقد ذكرنا أنّ الإستبعاد يزول شيئاً فشيئاً.
يمثّل بعض علمائنا ويقول : لو أنّ أحداً ادّعى تمكّنه من المشي على الماء ، يكذّبه الحاضرون ، وكلّ من يسمع هذه الدعوى يقول : هذا غير ممكن ، فإذا مشى على الماء وعبر النهر مرّةً يزول الاستغراب أو الاستبعاد من السامعين بمقدار هذه المرّة ، فإذا كرّر هذا الفعل وكرّره وكرّره أصبح هذا الفعل أمراً طبيعياً وسهل القبول للجميع ، حينئذ يزول هذا الاستبعاد بوجود نظائر ذلك.
إلاّ انّ ابن تيميّة ملتفت إلى هذه الناحية، فنراه يكذّب أصل حياة الخضر ويقول: بأنّ أكثر العلماء يقولون بأنّ الخضر قد مات، فيضطرّ إلى هذه الدعوى، لانّ هذه النظائر إذا ارتفعت رجع الإستبعاد مرة أُخرى.
لكنّك إذا رجعت مثلاً إلى (الإصابة) لابن حجر العسقلاني لرأيته يذكر الخضر من جملة الصحابة، ولو رجعت إلى كتاب (تهذيب الأسماء) و(اللغات) للحافظ النووي الذي هو من علماء القرن السادس أو السابع يصرّح بأنّ جمهور العلماء على أنّ الخضر حي ، فكان الخضر حيّاً إلى زمن النووي ، وإذا نزلت شيئاً فشيئاً تصل إلى مثل القاري في المرقاة وتصل إلى مثل شارح (المواهب اللدنيّة)، هناك يصرّحون كلّهم ببقاء الخضر إلى زمانهم، وحتّى أنّهم ينقلون قصصاً وحكايات ممن التقى بالخضر وسمع منه الأخبار والروايات، فحينئذ يكون تكذيب وجود الخضر من قبل ابن تيميّة إنّما هو لعلة ولحساب ، وهو يعلم بأنّ وجود الخضر خير دليل على أنّ هذا الإستبعاد ليس في محلّه.
على أنّ الله سبحانه وتعالى إذا اقتضت الحكمة أنْ يبقي أحداً في هذا العالم آلاف السنين إذا اقتضت الحكمة، فقدرته سبحانه وتعالى تطبّق تلك الإرادة ، ومشيّته تطبَّق ، وهو قادر على كلّ شيء.
فمسألة طول العمر أصبحت الآن مسألة بسيطة الحل ، وصار الجواب عن هذا السؤال سهلاً جداً في مثل زماننا .
وأمّا أنّ الامام عليه السلام متى يظهر ، وأنّه عليه السلام كيف يستفاد منه في زمن الغيبة ؟
يقول ابن تيميّة ويقول سعد التفتازاني أيضاً: (بأنّ المهدي لم يبق منه إلاّ الاسم ، ولم ينتفع منه أحد حتّى القائلون بوجوده).
وهؤلاء لا يعلمون ، لانّ هذه الأُمور لا يتوصّلون إليها ولا يمكنهم الاطّلاع عليها ، إنّ الثقات من أبناء هذه الطائفة من علماء وغير علماء ، لهم قضايا وحوادث وقصص وحكايات، تلك القضايا الثابتة المروية عن طرق الثقات مدوّنة في الكتب المعنيّة ، وكم من قضية رجع الشيعة، عموم الشيعة، أو في قضايا شخصية، رجعوا إلى الإمام عليه السلام وأخذوا منه حلّ تلك القضية ورفع تلك المشكلة، إلاّ أنّ أعداء الأئمّةK والمنافقين لا يوافقون على مثل هذه الأخبار، وطبيعي أن لا يوافقوا، ومن حقّهم أن لا يعتقدوا.
مضافاً ، إلى أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما ينصب الامام في كلّ أُمة، ويرسل الرسول إلى كلّ أُمّة ، ليتمّ به الحجة، وكم من نبي قتلوه في أوّل يوم من نبوّته ودعوته، وكم من رسول صلبوه في اليوم الأوّل من رسالته، وكم من الأنبياء حاربهم قومهم وشرّدوهم وطردوهم، أفيمكن أن يقال لله سبحانه وتعالى: بأنّ إرسالك هؤلاء الرسل والأنبياء كان عبثاً.
وأمّا أين يعيش؟ فتقول فأين يعيش الخضر عليه السلام؟ نحن نسأل القائلين ببقاء الخضر وغير الخضر ممّن يعتقدون بحسب رواياتهم بقاءهم، هؤلاء أين يعيشون؟ وهذه ليست مسألة، إنّ الإمام أين يعيش!
وأمّا الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره.
فتلك حوادث وقضايا مستقبلية وردت بها أخبار، وتلك الأخبار مدوّنة في الكتب المعنية.