تمهيدنا
المواد الخام وبناء الأفكار
تمثّل المواد الخام أرضية لانطلاق الإنسان في البناء والتنمية على جميع الأصعدة ومختلف الميادين، وبمعزل عن تلك الخامات لا يمكن للبشرية أن تضمن ديمومتها.
وفي الجانب الفكري فإنّ المواد التي يستند إليها العقل في إنتاج الرؤى والنظريات هي تلك المقاطع التي ورثها عن أشخاص لهم قداسة، وهي تضيق وتتسع حسب الرؤى والمناهج في التلقّي ومصادر ذلك التلقّي.
وهذه الحالة التي يتمتع بها الذهن البشري في ضرورة تأمين المواد الأساسية لإنتاج الرؤى والأفكار أمّنتها التبعية للدين والانضواء تحت سلطان الإسلام بشكل وافر وعلى أصعدة مختلفة ولمختلف النظريات والأفكار.
بل تجاوز التأمين الإسلامي لهذه الخامات حدود المدركات البشرية ذات الطبيعة المحدودة والأفق الضيّق، ليؤمّن لها ما هو أبعد من أفقها وإطار ما تتناوله من أفكار في المساعدة على انطلاق الفكر في رحب واسع لتأمين الرؤى والنظريات تجاه القضايا والأحداث، فالمتتبّع للموروث الإسلامي، قرآنياً كان أو روائياً يجد ذلك بوضوح، حتى أنّ الكثير من المفكرين يستطيعون وبسهولة أن يشيروا من خلال جملة من الآيات أو الروايات إلى أصول النظريات المبتكرة حديثاً، والتنبيه إلى أنّ لهذا الموجود الحالي من رؤى وافكار خلفيات وخامات في ذاك الموروث.
ومن بين تلك القضايا التي لا يزال يلفّها الغموض والخلاف بحسب المدارس الاسلامية قضية الدابّة أو قل (دابّة الأرض) التي لا نجزم هل هي عنوان لحالة ستمر بها البشرية أو هي فرد مشخّص بمميزات وقابليات تفوق الإدراك البشري إلى الآن، فيقف العقل البشري عاجزاً عن توصيف هذا الموجود ضمن إمكانات الفكر المحدودة، من هنا تأتي لا بديّة النظر إلى هكذا قضايا بأفق رحب يحاول أن يلتمس لهذا الموروث أكثر من رؤية بشرط أن لا تخالف هذه الرؤى الأسس العقائدية والفكرية للمنظومة الإسلامية.
فإذا نظرنا إلى خامات _دابّة الأرض_ نجد أن بعضاً منها يسير باتجاه التشخيص الخارجي بل والتسّمية، فيسمّيها بأمير المؤمنين عليه السلام إذ قال نفسه عليه السلام عنها (أنا قسيم الجنة والنار ...وإنّي لصاحب الكرّات ودولة الدول... والدابّة التي تكلّم الناس) وفي خبر آخر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطب علياً عليه السلام وهو راقد في المسجد (يا دابّة الأرض)، وتعطي بعض الموروثات لدابّة الأرض صفة التمييز والتشخيص، فَيسِمُ أمير المؤمنين عليه السلام الكافر والمؤمن، ويميّز كلاّ منهما، وهذا مقبول جداً ولا غضاضة فيه، بل وله شواهد في موروثات أخرى كما في نص (قسيم الجنة والنار).
بينما يتجه البعض الآخر فيخرجها من حالتها البشرية ليدخلها في حالة الوجود المعنوي الذي سيؤمّن بعداً من أبعاد حركة الظهور وما بعد الظهور في الكشف والاستكشاف، وأغلب هذه الخامات تجدها في مصادر إسلامية عامة لا تعتمد على رؤية أهل البيت عليهم السلام، والغالب إنّما جيء بها للتمويه أو القضاء على ما يحمله الفكر الموالي تجاه هذه القضية من تشخيص، فأضفيت عليها أبعاد أخرجتها من حالتها المادية وأدخلتها في حالة معنوية فضفاضة، بل ادخلتها بناءً على بعض الخامات في حالة خرافية يصعب الإيمان بها، حيث أن بعض هذه الموروثات تتحدث عن أن خطوات هذه الدابة، الاولى منها في الصفا والثانية بانطاكية، بل أنّها تلتمس إبليس فتلطمه.
وهنا لابدّ _للتمييز والتشخيص وتحديد رؤية واضحة_ أنْ نعتمد على المواد النقيّة في بناء الأسس، وأن لا نعتمد على مواد إنّما عُرضت لأجل الاستهلاك أو لأجل القضاء وصرف النظر عن المواد الأصلية.
رئيس التحرير