قصة قصيرة
اليقين الأخضر
حسن حمزة الحميري
في أماسي الشتاء الباردة الحزينة.. تتكوّر أم زهراء على نفسها بحزن عميق عند عتبة الدار وتضيع عيناها في ذلك الأفق الغائم بالنخيل.. تراقب بأسى رفيف عشرات الطيور المسرعة التي تعود إلى أوكارها بجذل وطمأنينة، وكلما هاجت دواعي الأسى في هذا القلب الرقيق تتوغل في ذلك التيه اللذيذ الذي تتخلله نفحات من الأمل.. حزن يفتح في الأفق كوّة مشرقة.. تيه يفجرُ قوةً خفيةً وضياع في الظاهر يؤسس وجوداً تاماً.. تنخرط في نوبةٍ صافية وعميقة من التسبيح (يا الله يا محمد يا علي، يا صاحب الزمان أدركني...), وكلما اتسعت خفقة الضوء في الصدر، تستنشق روحها غيباً خفياً ترى من خلاله صورة أبي زهراء سعيداً مشرقاً صامداً كالجبل على وجهه سكينة وثقة وطمأنينة.
أبو زهراء يتألق على وجهه ذلك الخدر اللذيذ يشبه نعاس نجمة منسية في صفحة السماء البعيدة.. نظراته التي تتألق بودّ عميق وعناية غريبة تشيع جواً من الألفة هي مزيج من التوفيق الربّاني والرياضة الروحية المدهشة حلمٌ وسكينة وروح فيها خيط طرافة.. صمت طويل.. يتمخض أحياناً عن حلمةٍ تغسل جدار القلب، إبتسامة عذبة تشع صدقاً وعاطفة فيها عذوبة وحرارة.
في ليل الشتاء الطويل القاسي وغربة القرى المنسية في الظلام كانت أم زهراء تبتهل إلى الله.. تبتهل إلى الله وتردد بعذوبة ويقين (يا وصي الحسن والخلف الحجة أيها القائم المنتظر يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ........) ويرتفع في داخلها الشموخ كلّما ازدادت أوجاعها. تهيّج القولون، الصداع النصفي، صدى الذكريات البعيدة. منظــر الجنود المدججيــن بالسلاح.. منظر العَلَويــة والدة أبي زهراء التي جمّدها الرعب. هل تمتلك هذه المرأة ذاكرةً من شمع حتى لا تستوعب الأحداث الساخنة. ولتلك الأيام طعم لذيذ صوفي حزين لأن الحزين قريب من الله بين سندان الخوف ومطرقة الحرمان, كانت تردد (يا وصي الحسن.........).
بدأ الفجر يفكك مفردات الظلام التقليدية، نجوم تبهت وظلام ينسحب خلف الحقول، فتكشف أشباح الطبيعة شيئاً فشيئاً.. غبش الفجر الحلو يعانق صفحة الماء الرمادية.. موجة هائلة من التسبيح الكوني تلفّ الأرض، ويتسلل ذلك النشيد الرائع إلى الأرواح النقية فتفور بهذا الألق القدسي (يا وصيّ الحسن...........).
تتألق الشمس، بهجة تلفّ الوجوه ويستمر النشيدُ الكوني إلى ساعة الفرج العظيم (يا وصي الحسن..........).