الغيبة و أسبابها
الشيخ محمد حسين الأنصاري
يتساءل الكثيرون: لِمَ غاب الامام المفترض الطاعة؟.
والعجب أنْ يصدر مثل هذا السؤال ممّن يدّعي العلم قبل غيره, و الأمر واضح وضوح الشمس.
إنّ الله سبحانه اختبر عباده بأوليائه.
إلى أنْ وصل الأمر لأشرفهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم فعانى ما عانى , إلى أنْ منّ الله على الأمّة جمعاء بالنصر المؤزّر.
وقد أوصى صلى الله عليه وآله وسلم بأهل بيته, وأوجب مودتهم وطاعتهم , فلم يقدَّم لهم بعده صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ السيّف والسّم.
ونسى القوم أو تناسوا أنّ المرء يكرم في ولده.
بل الأمر كان اخطر من ذلك. إذ جهر القوم بمخالفتهم له , وهو بعد في الدنيا , في حال مرضه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنْ لعن المتخلّفين عن جيش أسامة.
وتجرأ آخرون فرموه صلى الله عليه وآله وسلم بالهجر, وسببوا نزاعا عنده, و الأعجب أنّ هذه الأمور تنقل ولا نجد أحداً يعلّق عليها.
وانتقل صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى, والله اعلم بمقدار حزنه على هذه الأمّة المسكينة, وكيف ستتقاذفها الأهواء, وترمي بها الشهوات إلى بحار من الظلمات, بعد أن أخرجهم صلى الله عليه وآله وسلم من الظلمات إلى النور.
فكمدت الزهراء عليها السلام, وذبلت, باللتيا والتي, إلى أنْ فارقت الدنيا بعد أبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعدة شهور, واجدة على القوم.
وإظهارا لهذا الوجد أمرت أنْ لا يحضر أحد من المسلمين جنازتها, و ألاّ يحضر دفنها إلاّ ثلّة قليلة ممن ثبت, وتفهّم معنى الولاية, وبيعة علي في الغدير.
فضاع قبرها بين القبور, مع شدة ضيائها.
إلى أنْ جلس الإمام علي عليه السلام وهو ابن الإسلام البار, في بيته, ردحاً من الزمن.
وتنقل الأمر بين العرب دون العجم, وبين قريش العدو الأول للإسلام والمسلمين دون أهل البيت عليهم السلام.
ومن عجائب الأمور و غرائبها _وما أكثرها للمتتبع من تأريخ المسلمين والسيرة_ إنّ الكلّ يشهد بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: (الحسن والحسين عليهما السلام إمامان قاما أو قعدا) وإذا بالناس تحارب الحسن عليه السلام مع معاوية, فكيف يكون إماماً ويكون معاوية على الحق؟.
ثم يحارب الإمام الحسين عليه السلام لأجل يزيد, ويقتل بأشنع قتلة ويمثّل بجثته تمثيلاً, وهو إمام المسلمين وسيد شباب أهل الجنة.
ويسبي المسلمون أهل بيت نبيهم من بلد إلى بلد, إلى عاصمة الأمويين إلى يزيد أمير المسلمين وقائدهم, حيث كان يقبع يومها في دمشق.
وهكذا دواليك, الإثنا عشر إماماً الذين أشار إليهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم, مع حيرة أرباب التأريخ بهم, وهم من هم في زمان, يقتلون الواحد بعد الاخر من دون رادع, ويبقى أخيرهم، ولو وصلت أيديهم إليه لقتلوه.
وبهذا تبلغ حصيلة ما قتل المسلمون أمراؤهم من أهل البيت عليهم السلام المنصوص عليهم أحد عشر إماماً مفترض الطاعة, مع مصيبة سيدة نساء العالمين عليها السلام, وما جوبه به حبيب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بفترة قياسية لا تتجاوز المئتي عام.
فعلام السؤال، لِمَ غاب؟.
أيريدون أنْ يقتلوه كما قتلوا آباءه من قبل, ما لهم كيف يحكمون؟.
المهم:
أنّ الإمام المنتظر عليه السلام غاب في منتصف القرن الثالث الهجري,الغيبة الصغرى, ثم بعدها بسبعين سنة حصلت الغيبة الكبرى.
وقد عرفنا إجمالاً لماذا حصلت.
و لكن لِمَ ما زالت هذه الغيبة, ولقد ماتت دول, وتبدلت أخر؟
فمتى سيكون الفرج؟
نقل الشيخ المفيد قدس سره عن الشيخ الصدوق قدس سره أن الإمام الصادق عليه السلام قال لعبد الحميد بن أبي الديلم: (يا عبد الحميد, إنّ لله رسلاً مستعلنين, ورسلاً مستخفين, فاذا سألته بحق المستعلنين فسله بحق المستخفين).
ثم قال الصدوق: فكانت حجج الله تعالى كذلك من وقت وفاة آدم عليه السلام إلى وقت ظهور إبراهيم عليه السلام أوصياء مستعلنين ومستخفين.
فإمكان ظهور الحجة كان معتذراً في زمانه, وذلك أنَّ (نمرود) كان يقتل أولاد رعيته, وأهل مملكته في طلبه.
ولذلك ستر الله وجوده عليه السلام, وأخفى ولادته.
وبعد أنْ بلغت الغيبة أمدها, دلهم إبراهيم على نفسه, وأظهر لهم أمره الذي أراد الله من إثبات حجته, واكمال دينه.
فلما كان وقت وفاة إبراهيم عليه السلام كان له أوصياء حججا لله عز وجل في أرضه, يتوارثون الوصية كذلك, مستعلنين ومستخفين إلى وقت موسى عليه السلام وفي وقت موسى كان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل, في طلب موسى عليه السلام الذي كان قد شاع ذكره, وخبر وجوده.
فستر الله ولادته, حتى قذفت به أمّه في اليم, كما اخبر الله عز وجل في كتابه, ثم كان من أمره بعد أنْ ظهرت دعوته, ودلّهم على نفسه, ما قصّه الله في كتابه كذلك.
ولما كان وقت وفاة موسى عليه السلام كان له أوصياء حججاً لله كذلك, مستعلنين ومستخفين, إلى وقت ظهور عيسى عليه السلام.
وعيسى عليه السلام ظهر منذ ولادته معلناً لدلائله, مظهراً لشخصه, شاهراً لبراهينه, غير مخف لنفسه, لأنّ زمانه كان زمان امكان ظهور الحجة كذلك.
ثم كان له من بعده أوصياء, حججا لله عز وجل كذلك, مستعلنين و مستخفين إلى وقت ظهور نبين صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد ظهور نبين صلى الله عليه وآله وسلم كان مما قيل له _على سنن من تقدمه من الرسل_ أن يقيم لنفسه أوصياء كإقامة من تقدم لأوصيائهم.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصياء كذلك.
ومن المعروف المتسالم عليه بين الخاص والعام من أهل هذه الملة: أن الأمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام والد إمام زمانن عليه السلام كان قد و كل به طاغية زمانه حتى وفاته, فلما توفي وكلّ بحاشيته وأهل بيته, وحبست جواريه, وطلب مولوده هذا الطلب أشدّ الطلب.
فجرت السنة في غيبته بما جرى من سنن غيبته من ذكرنا من الحجج المتقدمين, وثبت من الحكمة في غيبتنا ماثبت من الحكمة في غيبتهم).
وكان قد قال قبلها: (أي الصدوق: إنّه قد ثبت أنّ ظهور حجج الله تعالى في مقامهم في دول الباطل, على سبيل التدبير والإمكان لأهل ذلك الزمان؛ فإن كانت الحال ممكنه لوجود الحجة بين الخاص والعام, كان ظهور الحجة كذلك.
وإن كانت الحال غير ممكنة لوجود الحجة بين الخاص والعام, وكان مما توجب الحكمة ويقتضيه التدبير استتاره, ستره الله وحجبه إلى وقت بلوغ الكتاب أجله. كما قد وجدنا ذلك في حجج الله المتقدمين من عصر آدم عليه السلام إلى حين زماننا هذا.
فمنهم المستعلنون, ومنهم المستخفون, وبذلك نطق الكتاب العزيز (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) .
وبناءً على كل ما ذكر نقول:
إننا نعلم علم اليقين من أنّ ذلك صلاح للمؤمنين في الجملة:
يقول عليه السلام في رسالته الأولى للشيخ المفيد رحمه الله: (نحن وإن كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين, حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من صلاح, و لشيعتنا المؤمنين في ذلك, مادامت دولة الدنيا للفاسقين) وإن من وراء ذلك حكمة عظيمة.
وهذا هو الشيخ الكليني رحمه الله قد أورد في (اصول الكافي) ما يقرب من ستين رواية حول الإمام المهدي عليه السلام, يمكن أن يقتنص منها أسباب الغيبة ظاهراً.
ويمكن إجمالها بما يلي:
١. المحنة والتمحيص.
٢. الخوف على النفس.
٣. وأن لا تكون عليه بيعة.
وقد جاء من بعده الشيخ النعماني فكتب أول كتاب مستقل في (الغيبة).
وقد بيّن في كتابه أنّ (غيبة الإمام في هذا الزمان الذي نحن فيه لتمحيص من يمحص, وهلكة من يهلك, تجاه من ينجو بالثبات على الحق, ونفي الريب والشك, والإيقان بما ورد عليهم السلام من أنّه: لابدّ من كون هذه الغمة ثم انكشافها عند مشيئة الله, لا مشيئة خلقه واقتراحهم.
جعلنا الله من المؤمنين, المتمسكين بحبله, وممن ينجو من فتنة الغيبة, التي يهلك فيها من اختار لنفسه, ولم يرض باختيار ربه, واستعجل تدبير الله, ولم يصبر كما أمر).
وليس من الضرورة معرفة أسباب الغيبة على وجه التحديد والتعيين, ولا حتى على الإجمال. بل يكفي الإيمان بالغيبة نفسها.