شرح دعاء الندبة/ الحلقة الثالثة عشر
رابطة إحياء دعاء الندبة
ما زال الحديث متواصلا وشرح فقرات هذا الدعاء الشريف، وقد وصل بنا الحديث إلى الفقرة التالية:
(...ثُمَّ نَصَرْتَهُ بِالرُّعْبِ، وَحَفَفْتَهُ بِجَبْرَئيلَ وَميكائيلَ وَالْمُسَوِّمينَ مِنْ مَلائِكَتِكَ وَوَعَدْتَهُ اَنْ تُظْهِرَ دينَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَذلِكَ بَعْدَ اَنْ بَوَّأتَهُ مَبَوَّأَ صِدْقٍ مِنْ اَهْلِهِ...).
وتتحدث هذه الفقرة المتصلة مع الفقرة التي سبقتها عن أسباب النصرة وسبلها وعن نماذج التسخير الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قلنا هناك إنّ هذه السلطة وهذه الأسباب التي توطّيء لهذه السلطة الإلهية، وإنْ كانت قد نسبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة إلاّ انها تنسحب على الأئمة عليهم السلام كما فصّلناه في شرح الفقرة السابقة.
أمّا هذه الفقرة فالحديث فيها عن نماذج من التسخير الإلهي للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وللإمام عليه السلام، ولنقل نماذج التسخير الإلهي لخليفة الله في الأرض سواء كان نبياً أو وصياً، نعم هناك تفاوت بين ما يسخره الله سبحانه وتعالى لخليفته بحسب مقتضيات الحال والحاجة الفعلية من هذا التسخير، وحيث أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُعمل ويفعّل جميع الإمكانات المتاحة له والمسخرة من قبل الله سبحانه وتعالى إلاّ في بعض الحالات النادرة، بل أنّ الوعد الإلهي بإظهار دينه على الأديان كلها وكما يشهد الواقع الخارجي على ذلك لم يتحقق إلى الآن، وحيث أنّه وعد إلهي قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْميعادَ) فلابدّ أنْ يكون في القادم من الزمان مساحة تحقق هذا الوعد، وحيث أنّه ليس إلاّ الإمام المهدي من خلفاء الله موجود فينحصر وعد التحقق الالهي به، ولا ينافى هذا نسبة إظهار الدين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهما واحد من حيث الوظيفة وإنْ اختلفا شخصاً وفي بعض الخصائص.
يحدثنا المقطع الندبي المبارك عن أنّه بعد أنْ وطّأ الله سبحانه للنبي الأكرم المشارق والمغارب وأودعه علم ما كان وما يكون إلى انقضاء الخلق، فقد احتاج هذا إلى آليات وأدوات قسم منها يرتبط بالخارج والحركة الميدانية، وقسم منها يرتبط بالروح والحركات النورانية والعلمية، فذكر المقطع بعض هذه النماذج والتي منها (النصر بالرعب)، وقد تحدثت كثير من الأخبار عن هذا المعنى، إذ أشير في بعض منها إلى أنّ الرعب يسير قبل الإمام المهدي عليه السلام مسيرة شهر كامل، ولك أنْ تتصور جيشاً يقوده الإمام يخترق أسوار النفوس قبل أسوار البلدان، ويرعب الأعداء فيزلزل أهم وجود لديهم يمكن أنْ يحقق لهم النصر، ذلك هو الوجود المعنوي الذي يعتبر العمود الفقري في انتصار الجيش أو انهزامه، وفُسر الرعب في اللغة أنّه الفزع والخوف من القادم.
ثم ذكر المقطع نحواً آخر من أدوات التسخير وهو (الحف) والذي يعني الإحاطة، وهو من أفضل أنواع أسباب الانتصار، فلك أنْ تتصور القائد وهو محاط بأشخاص ذوي كفاءة وحنكة وبسالة وشجاعة، فكيف تكون تلك الروح المعنوية التي يلقيها على الآخرين من خلال ما يتمتع به من مركزية بسبب حالة الحف والإحاطة، وانظر إلى من هم الذين يقومون بهذه الحالة، إنّهم جبرائيل، وميكائيل، و(المسومّين) من الملائكة، وحيث أنّ المُسوّم يراد منه ذو العلامة التي لابدّ أنْ نلحظها بمقتضى سياقات الدعاء، إنّه مجهّز ومستعد ومعد بكافة الاستعدادات التي تؤهله لتحقيق الهدف، هذا من حيث البعد الميداني، أمّا من حيث البعد المعنوي فتلاحظ إنّما سخره الله سبحانه هو حالة الإظهار والإبراز والبيان، وهو وعد لايخلف ولن يخلف وهو وعد الإظهار، فبمجموع هذه العوامل، عوامل التجهّز الظاهري والمعنوي لابدّ أنْ تتحقق النتيجة، وهي الإظهار، ليأتي بعد ذلك المقطع ويرفد هذه الحالة بما يركّزها بشكل أقوى وأوفر، حيث يقول كل ذلك لم يأت إلى أنْ جاءت حالة التبوّء الصدقي التي هي حالة الاستحكام والتمكّن بصدق من أقرب شيء إليه وهم الأهل.
فيريد أنْ يحدّثنا المقطع الآنف الذكر إنّ أسباب النصر والإظهار للدين من جميع نواحيها هي مهيئة من أول حالة وهي حالة الاستمكان والسيطرة والتبوّء الصدقي التي تمثل القاعدة للانطلاق إلى حالة التمكن من الوسائل الخارجية والميدانية وتجهيزها بكل ما من شأنه تحقيق الهدف إلى حالة القدرة المعنوية والثبات والرسوخ الداخلي إلى حالة الزلزلة عند الأعداء وإيجاد الروح الانهزامية والانكسار النفسي، فهنا يتحقق الهدف لا محالة، مهما كان الهدف المراد تحقيقه ومهما كانت المساحة المراد نشر الهدف فيها.