كيفية دلالة قاعدة اللطف على ضرورة وجود إمام العصر
من منظار الكثير من متكلمي الشيعة كالشيخ المفيد (ت/٤١٣هـ) والشريف المرتضى (ت/٤٣٦هـ) وشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (ت/٤٦٠هـ) ونصير الدين الطوسي (ت/٦٧٢هـ)، أنّ من أهم مصاديق اللطف الإلهي هي صب الهداية العامة للبشر في قالب الإمامة، ومن الواجب على الله تعالى أنْ يختار أوصياء للنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم من أجل تحصيل الغرض من خلق الإنسان، حيث يأخذ هؤلاء الأوصياء على عاتقهم مهمة إرشاد الناس إلى الفلاح والفوز والسعادة.
وفي هذا يقول الشيخ المفيد (ت/٤١٣هـ): (فإن قيل حكمة الله تعالى تقتضي نصب الإمام وتوجبه أم لا؟ فالجواب الحكمة تقتضي ذلك وتوجبه.
فإن قيل ماحدّ الإمام؟ فالجواب الإمام هو الإنسان الذي له رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنْ قيل ما الدليل على انّ الإمامة واجبة في الحكمة؟ فالجواب الدليل على ذلك انها لطف واللطف واجب في الحكمة على الله تعالى فالإمامة واجبة في الحكمة ).
وأيضاً : (وأقول إنّ الله تعالى لايفعل بعباده ماداموا مكلفين إلاّ أصلح الأشياء لهم في دينهم ودنياهم وأنه لايدّخرهم لهم صلاحاً ولا نفعاً وإنّ من أغناه فقد فعل بهم الأصلح في التدبير، وكذلك من أفقره ومن أصحّه ومن أمرضه فالقول فيه كذلك).
وأقول إنّ ما أوجبه أصحاب اللطف انما وجب من جهة الجود والكرم لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه وانه لو لم يفعله لكان ظالماً.
وأيضاً: (فإن قيل من الإمام بعد علي؟ فالجواب ولده الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي الباقر ثم جعفر بن محمد الصادق ثم موسى بن جعفر الكاظم ثم علي بن موسى الرضا ثم محمد بن علي التقي الجواد ثم علي بن محمد الهادي ثم الحسن بن علي العسكري ثم الخلف القائم المهدي صلوات الله عليهم أجمعين.
فإن قيل ما الدليل على إمامة كل واحد من هؤلاء المذكورين؟ فالجواب الدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص عليهم نصاً متواتراً بالخلافة مثل قوله عليه السلام: (ابني هذا الحسين إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً).
قوله في حق القائم عليه السلام: (لو لم يبق من الدنيا إلا ساعة واحدة لطوّل الله تلك الساعة حتى يخرج رجل من ذريتي اسمه كاسمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً).
ويجب على كل مخلوق متابعته لأنّ كل إمام منهم نص على من بعده نصاً متواتراً بالخلافة ولانهم عليهم السلام ظهر عنهم معجزات وكرامات خارقة للعادة لم تظهر على يد غيرهم كعجن الحصى وختمه وامثال ذلك.
فإن قيل مَن إمام هذا الزمان؟ فالجواب القائم المنتظر المهدي محمد بن الحسن العسكري صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
فإن قيل هو موجود أم سيوجد؟ فالجواب هو موجود في زمان أبيه الحسن العسكري عليه السلام لكنّه مستتر إلى أن يأذن الله تعالى له بالخروج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
فإن قيل ما الدليل على وجوده؟ فالجواب الدليل على ذلك أن كل زمان لابد فيه من إمام معصوم وإلا لخلا الزمان من إمام معصوم مع أنه لطف واللطف واجب على الله تعالى في كل زمان.
فإن قيل ما وجه استتاره؟ فالجواب وجه استتاره لكثرة العدو وقلة الناصر وجاز أن يكون لمصلحة خفية استأثر الله تعالى بعلمها.
فإن قيل قد تقدم أن الإمام لطف واللطف واجب على الله تعالى فإذا كان الإمام مستترا كان الله تعالى مخلاً بالواجب تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً؟ فالجواب اللطف الواجب على الله تعالى في الإمام هو نصبه وتكليفه بالإمامة والله تعالى قد فعل ذلك فلم يكن مخلاً بالواجب وإنما الإخلال بالواجب من قبل الرعية فإنهم يجب عليهم أن يتابعوه ويمتثلوا أوامره ونواهيه ويمكّنوه من أنفسهم فحيث لم يفعلوا ذلك كانوا مخلين بالواجب فهلاكهم من قبل أنفسهم.
ويقول السيد الشريف المرتضى (ت/٤٣٦هـ):
فإن قالوا: ما هذا الأمر الذي فعله الظالمون فمنعوا منه الإمام من الظهور، بينوه لنعلم صحة ما ادعيتموه من تمكنهم من إزالته، والانصراف عنه؟
قيل له: المانع _في الحقيقة_ عندنا من ظهوره هو اعلام الله تعالى أن الظالمين متى ظهر أقدموا على قتله وسفك دمه، فبطل الحجة بمكانه...
فإن قال: إذا كان المانع هو ماذكرتموه فيجب في كل من كان في المعلوم أن رعيته تقتله من إمام أو نبي أن يوجب الله تعالى عليه الاستتار والغيبة، ويحظر عليه الظهور وإلاّ فإن جاز أن يبيح الله تعالى لبعض (من) يعلم أنه يقتل من حججه الظهور جاز مثل ذلك في كل إمام،فبطل أن يكون المانع ما ذكرتموه.
قيل له: انما أوجبنا أن يكون ما بيناه مانعا بشرط أن تكون مصلحة المكلفين مقصورة على ذلك الامام بعينه، ويكون في معلوم الله تعالى أن أحداً من البشر لا يقوم في مصلحة الخلق بإمامته مقامه، ومن اباحة الله تعالى التصبر على القتل من حججه وأنبيائه لم يتجه ذلك إلا مع العلم بأنه إذا قتل (قام) مقامه غيره من الحجج فهذا واضح لمن تأمله.
وشيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ت/٤٦٠هـ) يقول:
فإن قيل: فما تقولون: في هذا الرئيس الذي ذكرتم انه لطف: أذاته هي لطف للمكلفين أم تصرفه وأمره ونهيه؟ وإن قلتم: ذاته هي اللطف، قيل لكم فما الفرق بين ذاته وذات غيره...؟ وإن قلتم: تصرفه وأمره ونهيه هو اللطف، قيل لكم: كيف يمكنكم إدعاء ذلك _وهو لم يوجد منذ سنين كثيرة عندكم_ وهلّا دلّكم ذلك على أنّ الرئاسة ليست لطفا أصلا....؟
قيل له: الذي نقول في ذلك: إن تصرف الإمام وأمره ونهيه وزجره ووعده ووعيده هو اللطف. وإنما أوجبنا وجوده من حيث لم يتم هذا التصرف إلاّ به، فجرى مجراه في تمام حصول شرائط التكليف.
والشيخ مثّل في كتابه (الاقتصاد فيم يتعلق بالاعتقاد) بأن (الصلاة لطف لكل مكلف، فمن لم يصلّ لم يجب سقوط تكليفه لأنه أتي من قبل نفسه، وكذلك ههنا).
وللمحقق الطوسي هنا كلام في الأسلوب والنظام في غاية الفصاحة والتمام كانّه كرامة وإلهام وهو:
(والمفاسد معلومة الانتفاء وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ووجوده لطف وتصرفه آخر وعدمه منّا).
الاستنتاج:
يدرك الإنسان الباحث عن الحقيقة أن وجود الإمام المعصوم في كل عصر وزمان، لطف من قبل الله تعالى. وأن هذا اللطف واجب على الله تعالى أيضاً، لأنّ الإمامة استمرار للنبوة، ولا يتاح تبيين الوحي بشكل كامل إلاّ عن هذا الطريق، وبما أن الوحي وتفسيره الصحيح يمثّل الطريق الوحيد لمعرفة الإنسان بسعادته الحقيقية وطريق بلوغها، لذلك يعدّ عدم تنصيب الامام مساويا لإغلاق طريق التكامل والصد عن الانطلاق نحو الهدف النهائي للخلق. وعليه ينبغي أن يعين الله تعالى إماماً في كل عصر، كي يرشد البشرية للغاية التي لابدّ أن تسعى لها وتثابر من أجل بلوغها.