شرح زيارة آل ياسين/ الحلقة الثالثة
ما زال الحديث متواصلاً وشرح فقرات الزيارة المهدوية المباركة، زيارة آل ياسين، وقد وصل بنا الحديث إلى شرح هذه الفقرة (...السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا دَاعِيَ اللهِ وَرَبَّانِيَ آيَاتِهِ).
والحديث فيها يتضمن جملة من الأبحاث:
البحث الأوّل: الذي يقرأ الزيارة الشريفة يلاحظ أنّها سجلت للإمام عليه السلام جملة من الألقاب بعضها اختصاصي وبعضها عام، ومعنى الاختصاصي أنّها ألقاب اختصّ بها هو عليه السلام دون بقية حجج الله عليهم السلام ممن سبقه، ولا يعني ذلك أنّ الاختصاص به وجود نقص أو عدم أهلية فيمن سبقه من الحجج عليهم السلام، فاختصت هذه الألقاب به، وانما هو لأجل الوظيفة، فوظيفته عليه السلام هي التي أوجبت له عليه السلام أنْ يتسم بهذه الصفات، ويتحلى بهذه الألقاب، فكون إظهار دين الله تعالى على يديه اقتضى أنْ يكون هو عليه السلام وعد الله المضمون وغير المكذوب.
أمّا الصفات العامة والتي سنقف عند كل واحدة منها فهي وإنْ كانت تشمل جميع الحجج عليه السلام، كخليفة الله إلاّ أنها بالنسبة إليه عليه السلام في زماننا هذا فعليّة خارجية، بمعنى أنّه الوحيد المتلبس بها في هذا الزمان، وأنّ تلبسه بها مصاحب للأثر وموجب للتأثير، وأنّه الحجة على جميع الخلق في هذا الزمان وهكذا بقية الألقاب.
فالمتحصّل من ذلك كلّه أنّ الصفات الواردة في الزيارة الشريفة والتي بعضها خاص والآخر عام إذا أضيفت للإمام عليه السلام كان كلها خاصاً به بملاحظة الجهة التي أشرنا إليها وهذه ملاحظة ينبغي الالتفات إليها، فإنّها ذات بعد حيوي في حياتنا، فإنّ الارتباط بالله عزوجل في زماننا منحصر بالإمام المهدي عليه السلام، وهو الواسطة الوحيدة للارتباط بالأئمة ممن سبقه والأنبياء كذلك، فلولاه لما كان لكل فرد منّا ارتباط بالأئمة عليهم السلام أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأنبياء عليهم السلام أو الله عزوجل.
وهذا يعني أنّ من لا يؤمن بأن الواسطة الرئيسة والوحيدة في تحقق الإيمان والتدين والالتزام بالشريعة تأتي عن طريق الإمام المهدي عليه السلام لا يكون مؤمناً وإن آمن بجميع من سبقه من الأئمة عليهم السلام أو آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
البحث الثاني: ويتضمن شرحاً واستكمالاً للصفات التي أوردتها الزيارة الشريفة حيث لقبته عليه السلام بـ (ربّاني آيات الله) فالإمام المهدي عليه السلام هو ربّاني آيات الله سبحانه وتعالى، ولأجل أنْ نقف مع هذه الفقرة الشريفة لابدّ أنْ نفهم ابتداءً معنى الربّاني والآيات ومراتب كل منهم، عند ذلك نفهم حقيقة هذا اللقب ومكانة هذه المنزلة التي أعطيت له عليه السلام، والربّاني على ما جاء في اللغة هو المنسوب إلى الرب المتصف بصفة العلم والمعلّم، وقد أكّدت هذا المعنى جملة من الآيات الشريفة حيث يقول تعالى: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) وفي آية أخرى يقول تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ).
وغير ذلك من الآيات، فالآيات الشريفة تتحدث عن مكانة الرباني، وأنّه خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدرّس الأمّة ومعلمها، وأنّه كان شاهداً على الأمّة في أعمالها، ومقتضى شهادته على الأمّة لابدّ أنْ يكون مطلعاً على أعمالها ظاهرها وباطنها.
وهنا لابد من وقفة نستجلي بها الصورة أكثر فنقول: إنّ عقيدة الشيعة الإمامية في كون الحجة والشاهد على أعمال الناس يجب أنّ يكون معصوماً متأتٍ من أنّ الوظيفة التي عهدت إليه يجب فيها أنْ يكون كذلك.
ومعنى ذلك أنّ مكانة الربّاني مكانة مقدسة لكنّها تحتاج إلى أدوات وآليات، فاقتضت حكمة الله سبحانه أنْ لا يتلبس في هذا المقام في مرتبته العليا إلاّ المعصوم، لأنّ معنى الرباني وإنْ كان له مراتب متعددة إلاّ أنّ الحديث في الآيات، فضلاً عن المقطع في الزيارة الشريفة يتحدث عن المرتبة العليا أو ما يستشرفها، إذن فالربّاني ذلك العالم المعلم الهادي إلى النور والحاكم بالكتاب والحكمة، وهو مقام الهي مختص بالمعصوم عليه السلام بمرتبته العليا، وحيث أنّ لا معصوم في زماننا بمقتضى الأدلّة الكثيرة المتنوعة إلاّ الإمام المهدي عليه السلام فيكون هو الربّاني وحده دون غيره.
وحيث أضيف (الربّاني) في الزيارة الشريفة إلى آيات الله اقتضى تميزاً واختصاصية أكثر، فلابد هنا أنْ نفهم معنى الآيات ونسبتها إلى الله لتتوضّح لدينا صورة الربّاني بشكل أكبر ليكون اعتقادنا بهذا المقام المنسوب إلى الإمام عليه السلام عن بصيرة وعلم.
فإذا طالعنا الآيات القرآنية الشريفة التي تتحدث عن آيات الله وهي كثيرة جداً نجد أنّها تتحدث عن ألوان ومراتب كثيرة من آيات الله، فتارة تتحدث عن البعد التكويني للآيات، وتارة تتحدث عن البعد المعنوي لها، وتارة تتحدث عن البعد اللفظي أو الكتبي، وكل واحدة منها مرتبة من مراتب آيات الله ومقام من مقام الآيات، فتلاوة الآيات الموجبة لتزكية النفس والتعلم للكتاب والحكمة الذي هو من مقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو واحد من تلك المقامات والمراتب، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ) فتلاوة الآيات على الضالين موجب لهدايتهم واستبصارهم وتزكيتهم وتعليمهم وهو مقام رسالي إلهي.
فيما المقام الآخر مقام تكويني للآيات، قال تعالى: (وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمينَ).
وهو مقام أعطاه الله لحججه بمقتضى وظيفتهم وقد ذكرنا بعض الروايات في الحلقة السابقة من هذا الشرح متحدثة عن هذا الإعطاء الإلهي للحجج، وهناك مقامات أخرى تحدثت عنها الآيات القرآنية عن آيات الله وهي كثيرة كما قلنا.
وهنا وحيث أنّ الآيات الإلهية لها مقامات واسعة وكبيرة، وحيث أنّ الزيارة الشريفة جعلت للإمام المهدي عليه السلام مقام القيادة والريادة والرئاسة والولاية على الآيات مطلقاً، فإنّ المقطع الشريف يريد أنّ يقول لنا: إنّ الرباني والعالم والمعلم لآيات الله بجميع مراتبها هو الإمام عليه السلام، فكل آية من آيات الله، صغيرة كانت أم كبيرة، العالم بها هو الإمام ومن يريد أنْ يعلم بها أو يتعلم عنها شيئاً لابدّ أنْ يذهب إلى الإمام، فهو ربّانيها.
ومن هنا نتمكن أنْ نفهم بعض المقولات الإلهية التي جاءت على لسان أمير المؤمنين عليه السلام: (ما لله آية أكبر مني) وحيث أنّه وبلا شك لايقصد نفسه الشريفة بمعزل عن مقامه الإلهي، فتكون هذه المكانة للأئمة من بعده فهي للحجة بن الحسن عليه السلام فهو أكبر الآيات وهو ربّانيها.
ومن هنا نستخلص ونتمكن أنْ نقول إنّ كل أمر يصدق عليه أنّه آية من آيات الله _وأي شيء لا يصدق عليه ذلك_ فإن ربّانيه وقائده والعالم به والمعلّم له هو الإمام الحجة عليه السلام.