شرح دعاء الندبة/ الحلقة الرابعة عشر
ما زال الحديث متواصلا وشرح فقرات هذا الدعاء الشريف، وقد وصل بنا الحديث إلى شرح الفقرة التالية:
(...وَجَعَلْتَ لَهُ وَلَهُمْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمينَ، فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً...).
قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمينَ) (٩٦: آل عمران).
والحديث يقع في هذه الفقرة ضمن محاور:
المحور الأوّل: تحدثنا في حلقات سابقة عن إظهار دين الإسلام على الأديان الأخرى وقلنا إنّه بمقتضى هذا الدعاء المبارك فقد أعدّ الله سبحانه مجموعة من الآليات والبرامج التي تكون سبباً وراء هذا الإظهار وذلك بعد اختيار الشخصية الإلهية التي تقوم بهذا الإظهار، وتحدثنا عن بعض نماذج ذلك.
ويقع الحديث في هذه الفقرة عن آلية أخرى من آليات الإظهار وهي المكانة المعنوية التي يتمتع بها الشخص الذي سيقع على عاتقه إظهار هذا الدين على الأديان الأخرى، إذ لابدّ لهذا الشخص الإلهي، صاحب الصفات الفريدة والذي القي على عاتقه مهمة لم تلق على عاتق أي من البشر من مكانة معنوية تشرئب إليها الأعناق، ولا يمكن تحصيلها بتقادم الزمان او على وفق حسابات مادية او مصالح فئوية أو شخصية، وهذه المكانة هي أنّ البيت الذي هو مقصد الناس في التوجّه للعبادة والتقرّب الى الله إنما جُعل لهذه العائلة المباركة التي سيقوم قائمها بنشر هذا الدين.
فمقصد التوجّه الإسلامي لأمثل حالة معنوية لدى المسلمين، وهي التخضّع والعبودية والتذلل الذي هو لله سبحانه من خلال التوجه إلى ذلك البيت المبارك، هذه الحالة لها خلفية ولها أساس قانوني ودستوري وتشريعي إلهي، في أنّ هذا البيت المجعول قبلة للناس إنّما جعل ابتداءً لأهل البيت عليهم السلام، فهو بيت أهل البيت عليهم السلام والناس مأمورون بالتوجه إليهم عليهم السلام، وهنا يكمن سر القضية ومركز الايمان، فإنّ الناس إنّما أمروا بالتوجه في العبادة التي هي عمود الدين إلى بكّة لأجل شيء وراء هذا التوجه، وهو إبداء الطاعة والعبودية لله سبحانه، والله تعالى بمقتضى هذا الدعاء المبارك يقول إنّ الواسطة في قبول هذه العبادة وعدم إرجاعها على العبد وضرب وجهه بها أنْ يكون التوجه الظاهري مقروناً بالتوجه المعنوي لأصحاب هذا البيت عليهم السلام، ولعل واحداً من إسرار تسميتهم بآل البيت، أنّهم أصحاب بيت العبادة والطاعة والتوجه الإلهي.
ويوجد عندنا في الروايات مجموعة من الاخبار تشير الى هذا المعنى، فعن أبي جعفر عليه السلام (...نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية إنما أمروا أنْ يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم...).
وفي حديث آخر عنه عليه السلام قال: (...فعال كفعال الجاهلية أما والله ما أمروا بهذا وما أمروا إلاّ أنْ يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم...).
وفي ثالث عنه عليه السلام: (...إنّما أمر الناس أنْ يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا...) وقد صنّفت كثير من معاجمنا الروائية أبواباً مستقلة في أنّ الواجب على الناس بعد قضاء مناسكهم إتيان الإمام.
فالواجب وراء إظهار الدين أنْ يكون الشخص المهيّأ لهذه القيادة متمتعاً بهذه المكانة ولعلها سر العبادة وسر التقرب وسر القبول.
المحور الثاني: إنّ هذا البيت الإلهي له مميزات كثيرة، فميزته الأولى أنّه مفتاح القبول وواسطة القرب، والميزة الأخرى أنّه مركز الدين وقطبه، لذلك أُمر الناس بالتزاحم عنده والتوجّه إليه ولعل منه سميت مكة بـ(بكّة)، ومن مميزاته كذلك أنّه بيت يقود الناس للهداية ويتصف بحمله الآيات البينات، وكذلك هو محط الأمن لمن دخله.
ولعل البعض يقول إنّ الأمن هو الأمن الاجتماعي أو الفردي، ولابدّ من الاستغراب من هذا التضييق بعد أنْ اقتضى إطلاق لفظ الأمن لكل مراتبه، ولعل أشرفها واجلها هو الأمن العقائدي المنتج للأمن الأخروي، فهذا البيت المبارك يقدم للداخل إليه امنا عقائدياً معرفيا فكريا يؤهل من يستقر فيه بعد الدخول أنْ يصلح ويستقيم وينجو.
ولعل نسبة المقام والاستقرار لإبراهيم عليه السلام أنّه مركز التوحيد وأنّ فيه عنصر الجمع الديني، فجميع العالمين يكنّون لإبراهيم عليه السلام احتراما وتقديسا ويؤمنون بالتبعية له، فيأتي هذا المقطع الندبي المبارك ويقول: لعل السر وراء هذا الرقي الإبراهيمي تبعيته لأهل البيت عليهم السلام، فالتبعية والإذعان لهم أولى، لأنّ إبراهيم دخل فأقام فيه فصار له مقاماً، وذلك لاخلاصه وفرط تبعيته، ومع ذلك يجمع الناس على تبعية إبراهيم، فالأولى بهم أنْ يتبعوا أهل البيت عليهم السلام لا شخصاً دخل البيت وأقام فيه، ومن شدة تبعيته لأهل البيت شرفّه الله بمقام في البيت، لكن هذا المقام لم يصيّره من أهل البيت عليهم السلام.