بين قصور العقول وضرورة المعرفة
الشيخ حسين الأسدي
كثيرة هي معارف الإنسان التي نوّرت الحياة وجعلتها ذات بهجة، وكثيرة هي الخطوات التي تتابعت من العلماء والمفكرين حتى تمخّضت عن هذا التقدم الذي يعيشه الناس اليوم، وكثيرة هي التمحيصات التي مرت بها تلك المعارف والتي ازالت الكثير من الاخطاء وابقت الصحيح، وقد انتجت تلك المعارف _بخطواتها المتتابعة وتمحيصاتها الدقيقة_ عقولاً منفتحة، جيدة الإدراك وسريعة البديهة، وقوية الحجة والبرهان.
ولكن يوجد دائماً الى جنب كل ماذكرناه ما يمكن انْ يشوّش على العقول ويجعلها تعمل بشكل سيء، مما قد يجعلها ترى الحسن قبيحاً وبالعكس، وهذا ينتج بصورة تلقائية تيارات فكرية مختلفة كلها تدّعي ابتناء احكامها على قواعد العقل الرصينة، إلى الحد الذي قد تتحجّر عن قبول القول الآخر متلبّسة سروال التيبس، معلنة شعارها، صادحة به (اذا لم تكن معي فأنت عدوي) وقد يصل إلى حد الاختلاف بين ابناء الجلدة الواحدة، قال تعالى: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما).
وهذه الحقيقة طالت جميع معارف الإنسان، حتى تلك المعارف الفطرية، ولذا عبد فلاسفة بقراً، وعلماء فأراً، وبقي إنسان بسيط على فطرته فعبد الله وحده، ولذا قاتل الخوارج أمير المؤمنين رغم أنهم كانوا يعلّقون المصاحف على صدورهم، لكن القرآن كان لا يجاوز تراقيهم، ولذلك نفسه ستقاتل البترية الإمام المهدي عليه السلام والمصاحف على صدورهم معلقات.
ومن المعارف التي طالتها يد التّشويش هي المعارف المهدوية، رغم انّ كثيراً من مفرداتها لا تتنافى مع احكام العقل، ولا تتعارض مع اساسيات الدين والفطرة، لكن التشويش طالها، فرفضها قوم وسخر منها آخرون ولم يبق من الناس على الايمان بها الاّ صبابة كصبابة الإناء...
ومن تلك المفردات نذكر:
١. مسألة طول عمر الإمام عليه السلام: فإنّ طول العمر أمر لا يأباه العاقل، ولا يرفضه الدين، والواقع التاريخي يشهد بذلك، لكن نجد اليوم من لم يستسغ انْ يطول العمر بالإمام المهدي عليه السلام.
٢. مسألة متابعة الإمام عليه السلام لأمور رعاياه رغم غيبته، فإنّها صعبت على إدراك البعض، ولم يقبل الرعاية الابوية للإمام عليه السلام، ما لم يكن ظاهراً للعيان، ونسي (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) من خلف ستار الغيب، بل ونسي أنّ ربه جل وعلا يرعى أمور الكون ويدبّر أمور الوجود من دون أنْ يراه أحد.
٣. مسألة ظهور الإمام عليه السلام شاباً، فإنّ طول العمر يستلزم الهرم والشيب وتجاعيد الوجه وتقوّس الظهر، فكيف يخرج شاباً سوياً أقل من الأربعين.
٤. كيف سيقاوم المهدي عليه السلام هذه القوة الضخمة وترسانة الأسلحة التي ربما يصعب تصور قوتها التدميرية، بل كيف سيستطيع التغلب عليها في مدة قياسية لا تتجاوز البعض من الأشهر.
وهكذا تجد من يتوقف في بعض مسائل الغيبة أو الظهور من دون أنْ يستند إلى ركيزة عقلية، ومن دون انْ يتوكأ على مبدأ شرعي، بل يتوقف لمحض وجود تشويشات وتوهّمات وقعت فيها بعض العقول ممن لم يتنوّر أصحابها بنور أهل البيت عليهم السلام.
وأمام هذا الواقع علينا أنْ نلتفت إلى التالي:
١. ليكن معلوماً انّه كلما مضى الناس عاليا في مرقاة ما يسمى بالتقدم الحضاري، كلما كثرت أسباب التشويش على عقولهم، خصوصاً وأنّ التقدم الحضاري قد سبب انغلاقا على المصالح الشخصية لم يسبق له نظير، مما قد ابعد الناس عن النظر إلى سمو الهدف الذي وجدوا من اجله، وبالتالي الابتعاد عن مصادر الوحي.
إذن علينا أنْ نتريّث كثيراً في علاقتنا مع التقدم الحضاري وأنْ نقيّد علاقتنا به بما تمليه علينا الشريعة.
٢. علينا أنْ لا نعتمد كثيراً على عقولنا، فإنها مهما كملت يبقى للنقص فيها حيّز واسع، وعلينا أنْ لا نعوّل كثيراً على تخميناتنا واستنتاجاتنا، فإنّها مهما قاربت الصواب لكن يبقى للخطأ فيها مجال رحب، وكما قالوا في علم الرياضيات أنّه يمكن أنْ يكون للوصول إلى نفس النتيجة بعدة طرق.
٣. ديننا الحنيف لم يكن غافلا عن هذه الحقيقة لذلك زوّد اتباعه بما يحتاجون إليه، ليخوضوا غمار الحرب ضد مشوّشات العقل والاخطاء الشخصية، لذا علينا أنْ لا نغفل ضرورة المراجعة المستمرة للقائمين على حفظ الدين وأنْ لا نهمل آراءهم في هذا المجال.