شرح دعاء الندبة/ الحلقة الحادية والعشرون
رابطة إحياء دعاء الندبة
ما زال الحديث متواصلا وشرح فقرات هذا الدعاء الشريف، دعاء الندبة، وقد وصل بنا الحديث إلى شرح الفقرة التالية:
(حَتّى قَتَلَ النّاكِثينَ وَالْقاسِطينَ وَالْمارِقينَ).
إنّ النتيجة الحتمية لشاخص الحق في ظل مجتمع يعيش تراكمات وبناءات معوجّة أنْ يبقى وحيداً وتنفلّ عنه الحلقات، الواحدة تلو الأخرى، وهذا ما حدث مع امير المؤمنين عليه السلام، وهي النتيجة الطبيعية لكونه بوصلة الحق ولكون المجتمع الذي كان فيه ميّالاً للباطل وشارباً له ومحباً لكل ما من شأنه أنْ يوثّق العرى القبلية والمصالح الشخصية والنتائج الآنيّة، بل انّ الحال في ذلك المجتمع لمن يقرأ تاريخ تلك الحقبة يرى الكثير من الافراد الذين كان بالإمكان التعويل على إيمانهم وعقولهم وافكارهم لم يتحملوا منهج الحق، حتى قال عليه السلام بمقولات متعددة كان جامعها انّ الحق لم يبقِ له صديقاً وانّ اتباعه انفضّوا عنه لانّهم كرهوا الحق وتطبيقه.
من هنا جاءت النتيجة طبيعية ومتوقعة في أنْ يخوض امير المؤمنين عليه السلام مجموعة من الحروب ضد فئات متنوعة ومتلونة عاشت في المجتمع الإسلامي، واستفادت من وجودها الديني بعد غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ انّ الكيفية التي كان ينبغي أنْ تسير عليها الادارة العليا لشأن المسلمين هي الانتقال الطوعي للسلطة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإمام عليه السلام لانّه هو الممثل الطبيعي والحامل للصفات المؤهلة له، وقد تحدّث عنها الدعاء بشكل وافر وكنّا شرحناه فيما سبق، ولكن هذه الكيفية لم تسر على وفق ما رسمه لها الوحي، لانّ هناك اطماعاً وبدائل كانت تدرس من قبل بعض السلطويين النفعيين، فكان أنْ آلت الامور الى انتقال انقلابي دموي راح ضحيته الثلّة الأقرب لصاحب الرسالة، حتى وصل الأمر إلى التضحية بالبضعة الطاهرة عليها السلام وسحقها وتكسير اجنحتها سبيلاً للوصول إلى الحكم، وكان من نتيجتها عزل الحق وتهميشه وجعله على الرّفّ يتبرك به القائد الانقلابي متى شاء،
، وتراكم الزمن فأنشأ جيلاً احبّ هذه الظاهرة واقتات عليها، لكنّ الإرادة الالهية عندما شاءت أنْ تسنح فرصة جديدة للحق ان يبرز شاهت وجوه من تراكم في نفوسهم حب الباطل وانزواء الحق فشكّلوا (وهو ما نؤكد أنه نتيجة طبيعية تخرج لمن يقرأ الواقع الاجتماعي لأناس تلك الحقبة) جماعات كان قد تحدّث عنها الوحي سابقاً في انّها ستحارب الحق، رغم انّ هناك حالة استبعاد لانْ تكون هذه الجماعات محاربة للحق في حقبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، اذ من البعيد تصور اشخاص بمثل من حارب تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخلصاً، أنْ يحارب في لواء سمته عداء وريث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد لوّن الحديث الوحياني هذه الجماعات على اشكال قلوبها، وترجمها بمسميات تنسجم ومعتقدها، فكانت ثلاث مجموعات، الناكثين الذين تركوا ما في ايديهم من الحق وتمسكوا بباطل محض، وقد قال الله تعالى في من لا يستقر الايمان في قلبه (وَ لا تَكُونُوا كَالَّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ).
فهؤلاء لا إيمان لهم وإنْ كانت صورهم وهيئاتهم هيئات أهل الإيمان، وإنْ كانت عناوينهم التي يدّعونها باسم الدفاع عن الدين وإعادته إلى قواعده، فصدقت التسمية عليهم حقاً.
ثم جاءت الفئة الثانية اولئك الذين احبوا السلطة والمال واحبوا الجاه والرفعة، وكانت تجري في دمائهم روح العنصرية والتعصّب، فهم لم يؤمنوا أصلاً لكي ينكثوا إيمانهم، لكن الظروف أجبرتهم على إظهار الإيمان، فما إنْ سنحت فرصة إبراز حقيقتهم حتى جاء وصف القاسطين خير مسمى لهم.
إلى انْ جاء دور الفئة الثالثة، اولئك الجهلاء الحمقى، فهم رجال آمنوا وأحبّوا الإيمان وسعوا إلى أن يتلبسوا به ويمارسوه طقساً يتقربون به الى الله سبحانه وتعالى، لكن في قلوبهم نباتات سامة لم يقلعوها فامرضت وسرطنت السليمة منها، فالجهل والحمق وقلّة البصيرة يؤديان بالإنسان إلى انْ ينزع ثوب الإيمان ويلبس ثوباً اخسّ مما يلبسه الشيطان، فيمارس رذائل قد يتبرأ منها الشيطان نفسه ويستحيي من ممارستها، اولئك هم المارقون، فبعد انْ عرفوا علياً حق معرفته وعاشروه، وقاتلوا تحت لوائه واكلوا من زاده، وعرفوا من هو وإلى م يرمي، رغم ذلك وقعوا فيما منه هربوا، لانّهم لم يسعوا إلى ما طلبوا صحيحاً، وانما تصوروا انهم يسعون إليه، فيما كانوا اشدّ الناس هرباً وابتعاداً عنه.