عقيدة المخلّص في التراث الإنساني/ الحلقة الثانية
الاسعد بن علي قيدارة
بيّنا في الحلقة السابقة بعض استقراء للتاريخ الديني والثقافي للإنسانية فيما يخص موضوع المخلّص ومبدأ الخلاص، وسنستعرض هنا بعض ما جاء من هذه الفكرة في جانب آخر من جوانب التراث الإنساني الديني.
الديانة الجانتية:
نتيجة للنظام الطبقي الذي كرّسته الهندوسية والامتيازات التي خصّت بها البراهمة، واستبداد البراهمة وظهور تعسّفهم وطغيانهم أحياناً، وضجّ الناس من استبداد البراهمة وجورهم، وتَمنّوا ظهور قائد روحي جديد يخلّصهم من ظلم البراهمة وطغيانهم، وكانت طائفة -الكشتريا- أكثر الطوائف سخطاً وتبرّماً، وآمنت يوماً بعد آخر بضرورة الثورة، وقد تحقّق حلمهم بالفعل على يد مصلحين كبيرين، وديانتين جديدتين:
أوّلاً: مهاويرا مؤسّس الجينية أو الجانتية.
ثانياً: بوذا مؤسّس البوذية.
ولد -مهاويرا- ومعناه البطل العظيم سنة /٥٩٩/ ق.م، ونشأ في وسط ثري، ومالَ إلى الزهد والترهّب، وفي سن ّالثلاثين خلع ملابسه الفاخرة وحلق رأسه وبدأ حياة الزهد والتبتّل، ونتيجة الرياضات الروحية الشاقة والاستغراق في التفكير والتأمّل وصل إلى حالة من الذهول، وأدرك -كما يعتقد- درجات علية من العلم، إلى أنْ بلغ مرتبة -المرشد-، ومن هنا بدأ نشاطه الدَعَوي، ولاقت دعوته انتشاراً ونجاحاً.
ولماّ كانت الجانتية في جوهرها محاولة للخروج من تسلّط البراهمة لم يعترف -مهاويرا- بالآلهة؛ لأنّ هذا الاعتراف قد يؤدّي إلى إحداث طبقة جديدة أو كهنة جدّد يجعلون أنفسهم واسطة بين الناس وبين الآلهة ويخصّون أنفسهم بامتيازات معيّنة، ولذلك سمّي دينه دين إلحاد.
وتعتقد الجينية أنّ كلّ موجود إنساناً كان أم نباتاً أم حيواناً يتركّب من جسم وروح، وأنّ كلّ روح يجري فيها التناسخ، وهنا تلتقي الجانتية مع الهندوسية.
ونتيجة لمسالمتهم ومبالغتهم في عدم العنف لدرجة أنّهم يمنعون من قتل الهوام والحشرات، اعترفوا بآلهة الهندوس: براهما، فشنو، سيفا.
ومقابل -الانطلاق- كعنوان للخلاص لدى الهندوس نجد لديهم عنوان -النجاة-.
ومقابل -فشنو- المخلّص لدى الهندوس فإن المخلّص عند الجانتية هو -بارسفا-.
فما هي النجاة؟
للوصول إلى تخليص الروح من -الكارما- - الشهوات والميول - يظلّ الإنسان يولد ويموت حتّى تطهر نفسه وتنتهي رغباته، حينئذٍ تقف دائرة عمله ومعها حياته المادية فيبقى روحاً خالداً في نعيم خالد، وخلود الروح في النعيم بعد تخلّصها من المادة سمّي عند الجينين: النجاة، وهو ما يعادل الانطلاق في الهندوسية، والنرفانا في البوذية.
فالنجاة هي: تنزيه النفس عن الرغبات والشهوات للحيلولة دون تكرار الولادة، -ولابدّ للنجاة من قهر جميع المشاعر والعواطف والحاجات، ومؤدّى هذا ألاّ يحسّ الراهب بحبّ أو كره، بسرور أو حزن، لا بحرّ أو برد، ولا خوف أو حياة، ولا بجوع أو عطش، لا بخير أو شرّ، والجيني بذلك يصل إلى حالة من الجمود والخمود والذهول فلا يشعر بما حوله، ودليل ذلك أنْ يتعرّى فلا يحسّ بحياء، وينتف شعره فلا يتألّم، لأنّه لو أحسّ بما في الحياة من خير أو شرّ أو نظم متّفق عليها فمعنى هذا أنّه ما يزال متعلّقاً بها خاضعاً لمقاييسها، وهذا يبعده عن النجاة...-.
من هو بارسفا ؟
هو اترثانكارا (المرشد) الثالث والعشرون عند طائفة الجينيين، كان أبوه ملكاً حين أخبرته زوجته أنّ ابنها سيصبح ملك العالم ومخلّصه ومنقذه، وأنّها رأت ذلك في المنام.
وتقول الأسطورة: إنّ بارسفا تعب من عدم وجود الكمال في الوجود فاتجه إلى التناسل، وطلب منه الإلَه فتح طريق التعليم لبقية الكائنات، وقام بنزع ملابسه كعلامة لآخر تعلّق بالحياة الدنيا، ووقف ليتأمّل ويصوم دون توقّف، وطُلب منه أنْ يدرّس الناس طريق الخلاص.