حكومة الإمام المهدي عليه السلام وأحكامه
الدكتور محمد حسين علي الصغير
من مؤشّرات آخر الزمان سيطرة الحكم الطاغوتي على العالم، وضياع الإسلام في البلاد الإسلامية وقلب مفاهيمه، وتفسير احكامه تبعاً للهوى والمصالح السياسية، حتى يعود الدين غريباً كما بدأ غريباً، فحدوده معطّلة وسننه لايعمل بها، والقرآن لايبقى إلاّ رسمه، ومؤدّى هذه الظواهر أنّ المناخ الجاهلي هو المنتشر بالآفاق، وأنّ رياح الردّة عن الإسلام بواقعه الحقيقي هي التي تعصف بالأجواء، وحين ذاك تكون ثورة الإمام المهدي عليه السلام على العرف السائد حدثاً غريباً في المبادئ المتوارثة عند الشعوب، إذ ينادي بقيم ومثل جديدة، تقلب فيها الموازين المتناحرة في الاتّجاهات والمبادئ، وتتأكد بقوة مفاهيم أخرى لاعهد لهم بها في ذلك العصر، فيدعو إلى الإسلام كما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويبعث الإسلام حياً نابضاً بعد أنْ رثّت معالمه، وينادي به شريعة ومنهاجاً حين اندرست آثاره، فعن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنّه قال:
(إنّ قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غربياً فطوبى للغرباء).
وفي توجه الإمام الجديد، ندرك ما سيلاقيه من العنت والعداء كما لاقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجاهلين أوّل الدعوة، وهذا ماتفرضه طبيعة الظروف المنحرفة عن الإسلام لدى الظهور المبارك.
فيقابل الإمام عليه السلام ذلك الزيغ بالعمل المضني والنضال الدامي، فيجعل القرآن أمامه في معارفه وتعاليمه وتشريعه، ويحيي السنة بثوابتها التي لا تتحول، فعن أمير المؤمنين عليه السلام:
(ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي، ويريهم كيف يكون عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنّة).
ويبعث الحركة في تشريعات القرآن بعد خمودها، ويطبق منهجه الأسمى في ضوئه، ويبدأ بتعليمه كما أنزل أول مرة، فعن جابر عن أبي جعفر الإمام محمد الباقر عليه السلام، أنّه قال:
(إذا قام قائم آل محمد عليه السلام، ضرب فساطيط، ويعلّم القرآن على ما أنزل الله عزوجل، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنّه يخالف فيه التأليف(المألوف)).
فإذا توافر التعليم الصحيح بأبهى مظاهره بدأ العمل تطبيقاً بأحكامه وفروضه كما عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنّه قال:
(...إنّ الدنيا لا تذهب حتى يبعث الله عزوجل رجلاً من أهل البيت عليهم السلام، يعمل بكتاب الله، لايرى فيكم منكراً إلاّ أنكره).
ويكون تعليم القرآن بأصوله قائماً على قدم وساق في حواضر الإسلام لاسيما في مسجد الكوفة، إذ تتشكل هيئات تعليمية في دورات منظمّة تعنى بتعليم القرآن، وقد تكون من التأهيل بحيث يوفد المتعلمون لاحقاً إلى الأقطار لأداء هذه المهمّة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال:
(كأنّي انظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة قد ضربوا الفساطيط يعلّمون القرآن كما أنزل).
ويبدو أنّ تطبيق القرآن كما أراد الله ديناً ودولة، يكون شديداً على الناس فيختلفون فيه كما اختلف في الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام فعن الإمام محمد الباقر عليه السلام في قوله تعالى:
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)
قال الإمام عليه السلام: (اختلفوا كما اختلفت هذه الأمّة في الكتاب، وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم عليه السلام الذي يأتيهم به ينكره ناس كثير، فيقدمهم فيضرب أعناقهم.
والقرآن هو القرآن، فلماذا ينكره الناس في عهد صاحب الأمر، المرجّح في هذا الموضوع أنّه عليه السلام يأتي بالتنزيل مع التأويل الصحيح فينكرون ذلك، لما يطلعون في التأويل من عوالم أهل البيت عليهم السلام المجهولة لدى أغلب الناس.
وتعلل رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام سبب تسمية صاحب الأمر بالمهدي بأنه يهدي إلى القرآن، وهو أمر مضلول عنه كأحد المصاديق التي تشير إليها الرواية، فعن محمد بن عجلان عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال:
(إذا قام القائم دعا الناس إلى الإسلام جديداً، وهداهم إلى أمر قد دثر، فضل عنه الجمهور، وإنّما سمّي القائم مهدياً لانه يهدي إلى أمر مضول عنه، وسمي بالقائم لقيامه بالحق).
ولهذا فإنّ معاناة الإمام في تطبيق احكام القرآن والعود بالناس اليه ستكون شديدة الأثر في الدعوة إليه، لانه عليه السلام سيكون صارماً في تنفيذ المهمات الشرعية دون تردد وبكل جدية معاملة الواثق الجريء، فلا يعطيهم إلا السيف، ففي رواية عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال: (ومن لم يسلم ضرب عنقه، حتى لايبقى في المشارق والمغارب أحد إلاّ وحدّ الله).
والملفت للنظر في الروايات شدّة الإمام في أحكامه الصارمة مع قريش، وقد يكون المراد من قريش السائرين بركاب قريش، والمنتمين إلى كبريائهم وجبروتهم، والحاملين لأفكارهم تعنتاً وجاهلية، وقد يكون بهؤلاء وبقريش خاصة، إذ يقابل الإمام بالتّسفيه والتّكذيب والعناد كما قوبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فقد ورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، أنه قال:
(لو يعلم الناس ما يصنع القائم عليه السلام إذا خرج لأحبّ أكثرهم أنّ لا يروه مما يقتل من الناس، أما أنه لا يبدأ الاّ بقريش، فلا يأخذ منها الاّ السيف ، ولا يعطيها الاّ السيف، حتى ليقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمد لرحم).
ولسائل أنْ يسأل عن شدة هذه الاحكام لدى الإمام عليه السلام في حكومته: دليلها، شرعيتها، كيفيتها!
وللإجابة عن هذا السؤال، يرى البحث أنّ الإمام المهدي عليه السلام في قضائه على الفجرة والكفرة إنّما يتبع في ذلك الحكم الواقعي الذي يلهمه الله إياه فيسير في ضوئه، فللإمام ما ليس لغيره، وله أنْ يحكم بعلمه، فقد روى عبد الله بن عجلان عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال:
(إذا قام قائم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حكم بين الناس بحكم داوود عليه السلام، لايحتاج إلى بيّنة، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه، ويخبر كل قوم بما استبطنوه، ويعرف وليّه من عدوّه بالتوسّم، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ*وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ).
وفي ذلك روايات كثيرة تحمل هذا المضمون، في كون الإمام عليه السلام يحكم بحسب علمه، كما حكم بذلك داوود عليه السلام، فعن الإمام محمد الباقر عليه السلام، أنّه قال:
(إذ قام قائم آل محمد حكم بحكم داوود، ولا يسأل البيّنة).
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
(لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منّي، يحكم بحكومة آل داوود، ولا يسأل البيّنة، يعطي كل نفس حقّها).
وذلك أنّ الحقائق تتجلّى للإمام عليه السلام كما هي، وتكشف له خبايا الضمائر والسرائر، فيغربل حسيكة النفاق، فيلتقط المنافقين على حين غرة منهم، وقد يكون بعضهم ممن هو في اعوانه بالفعل، فيقيم عليه حكم الله بهذا التجلي الفريد، فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنّه قال:
(بينا الرجل على رأس القائم يأمره وينهاه، اذ قال: اديروه، فيديرونه إلى قدّامه، فيأمر بضرب عنقه، فلا يبقى في الخافقين شيء إلاّ خافه).
إنّ هذا النوع من الاحكام والقضاء الفصل جزء من ذلك العلم اللدني الذي وهبه الله للإمام عليه السلام، فهو ينظر بنور الله تعالى، ويسير وفق خطة مرسومه لا يحيد عنها ، وهي بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن الإمام محمد الباقر عليه السلام انّ المهدي يقوم إليه رجل من صلب أبيه معترضاً على احكام القتل من المجرمين قائلاً للإمام عليه السلام:
(ياهذا ما تصنع ؟ فو الله انك لتجفل الناس إجفال النعم!!
أفبعهد من رسول الله؟ أم بماذا؟
فيقول القائم... إي والله إنّ معي عهداً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... فيقرأ العهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول الرجل:
جعلني الله فداك: اعطني رأسك اقبله، فيعطيه رأسه، فيقبل ما بين عينيه، ثم يقول: جعلني الله فداك، جدد لنا بيعة، فيجدد لهم بيعة).
وهذا الموقف من قبل اقرب الناس إليه، يمكن أنْ يؤّول بأحد أمرين:
الأول: أنْ يكون الغرض استراتيجياً لاشعار الناس: ان ما يقوم به الإمام إنّما هو من صميم تكليفه الشرعي الذي لا مناص منه، وهو مأذون أو مأمور بإجرائه بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليهم التسليم المطلق بمثل هذا الواقع، ذلك لئلا يشك احد منهم بماهية هذا القضاء أو شرعية تلك الاحكام.
الثاني: إنّ الرجل مع صلابة ايمانه قد اعترته الدهشة واخذه الاضطراب النفسي وهو يرى الإمام يستأصل المئات قتلاً وتنكيلاً، فأراد الاطّلاع على حقيقة الامر بنفسه، ليدرأ عنها الشك والارتياب، وحينما يرى العهد المعهود للامام من الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ينعطف على الإمام قيقبّل ما بين عينيه اعتذاراً واعتزازاً بوقت واحد، ويطلب تجديد البيعة لئلا تكون هذه المداخلة مما يتقاطع مع طاعة الإمام.
وهذا العهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذو شهرة واسعة في أحاديث قضاء الإمام الذي لا يستتيب أحداً من ذوي العقوبات المقررة، وهو ما يصرح به الإمام محمد الباقر عليه السلام بما روي أنه قال:
(إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (بعث) في امّته باللّين والمنّ، وكان يتألّف الناس، والقائم يسير بالقتل ولايستتيب أحداً!! بذلك أمر في الكتاب الذي معه، ويل لمن ناوأه).
وفي ضوء ما تقدّم ندرك جزءاً يسيراً من فلسفة الإمام عليه السلام في حكومته وأحكامه، حتى تعلو كلمة الله في الأرض.