عقيدة المخلص في التراث الإنساني
الاسعد بن علي قيدارة
في فقرة المخلّص في الأديان لا نتحدّث عن المخلّص في الإسلام كما هو الحال في سائر الأديان الأخرى؛ لأنّنا نعتقد أنّ عقيدة الإسلام في المهدي عليه السلام ليست فرضيّة في مقابل الفرضيّات الأخرى؛ بل الرؤية الإسلامية الإمامية هي الرؤية الواقعية، خاصّة بعد كذب مدّعي المهدوية في كلّ الاتجاهات الأخرى.
إنّ الإسلام صدّق ما بين يديه من البشارات عن المخلّص؛ لأنّ أصل الفكرة كما أشرنا هو الوحي الإلهي، ولا توجد فرضيّة أخرى تفسّر لنا هذا الإطراد لهذه الفكرة، وهذا التواطؤ والاتّفاق العام بين عموم الديانات والفلسفات والمذاهب على فكرة المخلّص.
لكنّ الخصوصيات الزائدة على أصل الفكرة جاءت مضطربة ومتناقضة أحياناً هي نتيجة شوائب وعناصر غريبة أقحمت إقحاماً بحكم قصور الوعي البشري وعدم بلوغه الدرجة التي تؤهّله لمعرفة كلّ التفاصيل.
فرسالة الإسلام أكّدت المبدأ واستمراريته في تاريخ الأديان:
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء).
ومن جهة أخرى أعطت هذه الرسالة للفكرة كلّ التفاصيل الضرورية، وهذا ما تتضمّنه الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام، هذه التفاصيل هي التي تخوّل البشرية معرفة قائدها وتمييزه عن كلّ مدّعٍ كذّاب؛ بل تعطي للمسلمين وعياً تاريخياً عن شرائط الظهور، وتمنحهم الأسس النظريّة الضرورية لتحديد أدوارهم ومسؤولياتهم زمن الغيبة في انتظار الإمام المخلّص المهدي عليه السلام.
وهناك ميزة أخرى للرؤية الإسلامية تنفرد بها: وهي أنّها تفسّر تكامل الفكرة في التاريخ وتنفرد بذلك، فحسب التفسير الإسلامي للتاريخ لم تنبت فكرة المخلّص دفعة واحدة بجميع أبعادها، وإنّما هي حقيقة عقائدية راعت تطوّر الذهن البشري، وأعطته في كلّ مرحلة ما يناسبه من مفاهيم عن الخلاص والمخلّص وفق تخطيط إلهي دقيق يأخذ بعين الاعتبار سنن التاريخ والإرادة الإنسانية، ويمكن أنْ نرصد أهمّ مراحل هذا التطوّر في تكامل فكرة المخلّص في التاريخ.
المرحلة الأولى: في هذه المرحلة من فجر الإنسان ركّزت النبوّات على ضرورة الإصلاح النفسي؛ ولأنّه الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع وإصلاح العالم بقيام المخلّص وتأسيس الدولة العالمية.
ومن أهمّ الأنبياء الذين أكّدوا ذلك نوح عليه السلام، يقول تعالى على لسان نوح عليه السلام: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ*أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ*يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح)،كما ركّزت النبوّات في هذه المرحلة على ضرورة الإصلاح الاجتماعي والعلاقة القائمة بين العدل في التشريع وبين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي تحفيزاً للذهن البشري وإعداده لمعرفة عصر المخلّص، وما يمنحه من عطاءات حضارية ورفاه لا متناه نتيجة قيام العدل، من ذلك قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام أيضاً: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا).
المرحلة الثانية: وتتميّز بالإشارة، وإنْ كان بغموض، إلى المخلّص ودولته المهدية، يقول تعالى على لسان شعيب عليه السلام: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (هود)، والمراد من بقيّة الله المهدي عليه السلام على ما جاء في الروايات، وروي أنّه إذا قام الإمام عليه السلام حيّاه المؤمنون بقولهم: (السلام عليك يا بقيّة الله في أرضه)، والمراد بالبقيّة كونه المتبقّي في الأرض من خطّ الأنبياء والأوصياء، وهذا يؤكّد أنّ عمله هو النتيجة النهائية لجهود كلّ الأنبياء والأولياء.
المرحلة الثالثة: التصريح بوضوح بوجود مخلّص يظهر في آخر الزمان، من ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء).
ونرى كيف ينقل (العهد الجديد) البشارة بالمهدي عليه السلام في (مزامير داوود عليه السلام)، ومن ذلك بشارة عيسى عليه السلام بالنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه الرسول الذي ستقوم دولة المهدي على أساس رسالته ودعوته: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الصف).
المرحلة الرابعة: مع الإسلام بلغت فكرة المخلّص أوجهاً، ومنحت كلّ الأبعاد وكلّ التفاصيل الدقيقة، خاصّة في ظلال مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وأصبح المهدي عليه السلام مشخّصاً معروفاً في ذاته وصفاته وآفاق حركته وانتصاراته، إنّه الإمام الثاني عشر: محمّد بن الحسن العسكري عليه السلام _ولسنا في معرض الاستدلال بالروايات على ذلك، فمن أراد فليراجع الكتب العديدة التي كتبت لذلك_.
هذا هو المخلّص الذي جاهد خطّ الأنبياء عبر التاريخ في إيصال البشرية إلى المستوى الذهني والروحي لتكون قادرة على تحمّل فكرته بجميع دقائقها.