غيبة الإمام عليه السلام غيبة شخص أم غيبة تشخيص؟
محمد الخاقاني
يتبنّى المسلمون، شيعتهم، والبعض من غيرهم ويعتقدون أنّ من سيصلح الكون ويظهر الدين هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام، محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام، وأنّه مولود موجود، لكنّه غائب عن معرفتهم وتشخيصهم له.
وانّهم بهذا الاعتقاد وهذا التبنّي انّما يحققون مصداق من قوله الصدق، من لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلاّ وحي يوحى. حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين:
(...لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).
إنّه بقوله هذا يؤكّد أنّ الثقلين اللذين خلّفهما بعده في المسلمين، كتاب الله وعترة رسوله الطاهرة عليهم السلام، لن يفترقا، أي أنّهما متلازمان حتى يوم الدين.
ولسنا هنا بصدد البحث في صحّة الرواية، فقد بلغت من الشهرة حداً لا يمكن معه التشكيك في صدورها بشبهة أو تضعيف، وإنّما نريد التأكيد على ما ذهبت إليه، أنّ كتاب الله لاينفكّ مؤولاً بالعترة الطاهرة، وأنّه لا يخلو زمن بعد الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، إلاّ وقد قيّض الله تعالى فيه من المعصومين ليكون رفيقاً للقرآن الحكيم، يعيّن المراد من آياته ويبيّن مرامي نزولها.
إنّ الروايات التي تؤكّد هذا المعنى كثيرة، وكلّها تؤكد التأهيل الإلهي، والإعداد السماوي لدور المعصومين، وتبين أنّ اللطف الإلهي اقتضى أنْ يكون في كل عصر _ومنذ أنْ خلق الله آدم عليه السلام_ قرين للقرآن مفترض الطاعة، ينقاد إليه الناس، لا يتقدمون عليه، ولا يتأخرون عنه في امور دينهم ودنياهم، يكون ولي الله في عباده، يتولّى أمر جميع الكائنات وما خلق الله في هذا الكون من إنس وجان. سواء تهيأت الظروف أنْ يكون ظاهراً مشهوراً، أو حتّمت تلك الظروف أنْ يظلّ غائباً مستوراً حيث اقتضت حكمة الباري أنْ ينحجب عن معرفة الناس وتشخيصهم، لسبب أو عدّة أسباب.
وهذا لا يعني أنّ غيابه واستتاره عليه السلام عن التشخيص يعدم الغرض من وجوده والفائدة.
وهل يمنع فائدة الشمس ستر من سحاب؟.
إنّ أيّ حجاب يحجب معرفة الناس لإمام الزمان لم يمنع عن الناس فيوضاته، لكنه يمنع كشف امره، لغاية أقرتها الإرادة الإلهية، حفاظاً على شخصه، ودواماً لبركته، أو لعلل أُخرى نجهل كنهها، لإنّها في مكنون علم الله تعالى.
إنّها سنّة الله في المصلحين الصالحين، وما حصل للأنبياء والمرسلين، في الغيبة أو طول العمر. فهي سنّة الله في آدم ونوح، وإبراهيم ويوسف، وموسى وعيسى، والصالح الخضر عليهم السلام.
وهل سنّة خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم بدعاً من سنة الله في الأولين، وهل تجد لسنة الله تبديلاً؟.
وهل بعد أنْ أقر الله أمراً، يكون لعبد أنْ يعصيه (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً).
إذا هو حكم الله في عباده، وهو أنْ يغيب وليه عن معرفتهم، وهل للعباد إلاّ أنْ يطيبوا نفساً بقبول هذا الحكم، مؤمنين به، منقادين له طائعين، منتظرين رحمة من الله وبركات.
لقد شاء الله أنْ لا ينفرط عقد أحكمه الله، وتقلّده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام. فكان أمانة في عنق الرسالة إلى قيام يوم الدين.
إنّه عقد وثيق عقده الله بين ثقلين لن يفترقا إلى يوم القيامة واقتران سماوي متين، وثقّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بين كتاب الله المجيد، وبين من يتولاه تبياناً وتفصيلاً.
إنّ مقتضى هذا الاقتران يفصح عن وجود إمام لكل عصر، وألاّ يخلو عصر من الأعصار من هذا الإمام.
من كل ذلك، فإنّ الحكمة تقول إنّ الإمام، أي صاحب العصر والزمان، _لا محالة قائم موجود_ رغم قول المتقولين وادّعاء المدّعين، بأنّه سوف يولد، أي أنّه الآن غير موجود، متظاهرين، كما يرون هم أو يزعمون، مردّدين استحالة الغياب، أو طول العمر، وغيرها بقول لايعون كنهه، ولا يفهمون، فهل لهم أسوة بسنة من سبق من الصالحين، أفلا يعون ولا يستوعبون.
وهل عدم معرفة أحد لبشر ما، دليل على عدم وجود من لا يعرفه؟.
أيكفي في هذا مجرّد التقول أفلا يبصرون، أو أنّ ذلك يحتاج إلى دليل ثابت وبرهان سديد؟ فإنهّا مسألة عقدية لاتقبل بمجرد ترديد ألفاظ قد تتلاشى في الفضاء فتكون هباءً منثوراً.
فأين هذا من قول صرّح به صادق العترة عليه السلام بأنّ من غاب بشخصه _أي الإمام عليه السلام_ عن معرفتنا، يعيش بيننا، يمشي في أسواقنا، بل يطأ فرشنا، فهل يقال لمثل هذا الشخص بأنه غائب، أو أنّ الذي غاب هو معرفتنا لمبارك شخصه، وتمييزه من بين الناس بأنّه هو مهديّ هذه الأُمّة لا غيره، من تشملنا فيوضاته، وتغمرنا بركاته.
فإذا قلنا إنّ غيبته عدم، فأين نحن من قوله صلى الله عليه وآله وسلم (لن يفترقا)؟.
فهل الغيبة إذن غيبة شخص، والشخص موجود، بل وجوده مؤكّد بكل أنواع التأكيد، وممّن؟ من الصادق الأمين، جدّه المصطفى المختار صلى الله عليه وآله وسلم، من جاء بشرعة الله.
ام أنّ الذي غاب هو تشخيص الأمّة لهذا الغائب الحاضر، ومعرفتها له عليه السلام، لأنّ ذلك مؤجل لحين يأذن الله بذلك، وإلى أنْ يأمر عزّوجل، بإطلالة الطلعة البهيّة لخاتم العترة المحمديّة على أهل العالم، ليُظهر دين الله على الدّين كلّه، ويقيم دولة العدل الإلهي.
فتخرُّ عروش، وتنمحي، ويهلك ملوك ويذهب آخرون، لينتشر الخير، وينشر العدل والقسط في العالمين.