معنى النيابة وأقسامها
السيد ضياء الخباز
النيابة لغةً تعني: قيام شخص مقام شخص آخر في أداء مهمة معينة أو مهام متعددة، ويشهد لذلك قول ابن منظور: (ونابَ عني فلانٌ يَنُوبُ نَوْباً ومَناباً أَي قام مقامي؛ ونابَ عَني في هذا الأَمْرِ نيابةً إِذا قام مقامَك).
وليس مرادنا من النيابة غير ذلك، ولكنّنا نضيّق الدائرة في خصوص ما يرتبط بالقيام مقام إمام الزمان المهدي بن الحسن عليهما السلام، فنقول هي: قيام شخص مقام الإمام صاحب العصر والزمان عليه السلام في حدود ما يسمح به الدليل.
ومن هنا، فإن النيابة عندنا معاشر الإمامية على قسمين:
الأول: النيّابة الخاصّة.
الثاني: النيّابة العامّة.
والفرق بينهما:
أنّ النيابة الخاصة: استنابة الإمام عليه السلام لشخص بخصوصه منصوص على اسمه وأوصافه ليقوم مقامه في شأن أو شؤون متعددة.
وأما النيابة العامة فهي : استنابة الإمام عليه السلام لشخص بوصفه ليقوم مقامه في شأن أو شؤون متعددة.
فجوهر الفرق بينهما هو: أنّ قوام النيابة الخاصة بالتنصيص العيني، بينما قوام النيابة العامة بانطباق الأوصاف على المعيّن ولا تنصيص فيها.
إذا اتضح ذلك قلنا:
أجمع علماء الفرقة المحقة على أنّ النيابة الخاصة للإمام عليه السلام منحصرة في أربعة أشخاص، وهم المشائخ الأجلاء، والأولياء الصلحاء المعروفون بالسفراء، وإليك أسماءهم الشريفة:
الأول: الشيخ عثمان بن سعيد العمري قدس سره.
الثاني: ولده الشيخ محمد بن عثمان العمري قدس سره.
الثالث: الحسين بن روح النوبختي قدس سره.
الرابع: علي بن محمد السمري قدس سره.
وانقطعت بموت الأخير منهم قدس سره، في سنة ٣٢٩ هـ _أي النيابة الخاصة_.
أدلّة انقطاع النيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى:
ويمكن أنْ يستدل لانقطاع النيابة الخاصة بدليلين:
الأوّل: ضرورة المذهب
وهذا دليل واضح لا يحتاج إلى بيان، فإنّك لو راجعت كلمات أعلام الطائفة (أعلى الله مقامهم) في جميع الأعصار، لوجدت هذه الحقيقة جلية واضحة كالشمس في كلماتهم الشريفة، ولكنّنا ابتلينا بزمان احتجنا فيه أنْ نوضح الواضحات...
وندلّل على المسائل، وإنْ كانت من الضرورات، صيانةً لعقائد المؤمنين ودفعاً للشبهات.
وكيفما كان، فكلمات الأعلام في هذا الشأن كثيرة، إلاّ أنّنا نكتفي بنقل كلمة واحدة، تكشف عن كون مسألة انقطاع النيابة الخاصة من الضرورات في مذهبنا.
وهذه الكلمة المهمّة، نقلها شيخ الطائفة الطوسي، عن معلّم الشيعة الشيخ المفيد قدس سره، عن الثقة الجليل علي بن بلال المهلبي، عن وجه الطائفة وشيخها بلا منازع في زمانه جعفر بن محمد بن قولويه(رضي الله عنهم) أنّه قال في حق أبي دلف الكاتب: (فلعناه وبرئنا منه ، لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري قدس سره فهو كافر منمس ضال مضل، وبالله التوفيق).
ولم يعلّق الشيخ الطوسي قدس سره والشيخ المفيد قدس سره على قوله، مما يعني إقرارهما له.
ووجه دلالة هذه الكلمة الشريفة على ما ذكرناه هو: حكم الشيعة بالكفر على مدعي السفارة، ولا وجه لهذا الحكم إلا كون المدعي قد أنكر ضرورياً من ضروريات المذهب، وقد قُرر أن المنكر للضروري إن كان ملتفتاً للملازمة بين إنكاره وتكذيب المعصوم فهو محكوم بالكفر، بل ظاهر كلمات الأعلام المتقدمين كفاية مطلق إنكار الضروري للحكم بكفر منكره.
والمهم عندنا هنا أننا قد أثبتنا من خلال هذا النص الخالد، الذي ينقله الأكابر عن الأكابر، أن ضرورة المذهب، وإجماع الفرقة المحقة قد قام على انقطاع النيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى.
الثاني: التوقيع الخارج لعلي بن محمد السمري قدس سره
وهذا الدليل هو أهم الأدلة في المقام، ونصه: ( بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلا بعد إذن الله عز وجل وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب ، وامتلاء الأرض جورا ، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة ، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
وقد تلقّاه أعلام الطائفة بالقبول، ولم يغمز أحد منهم في سنده، بل عدّوا صدوره من المسلّمات.
ووجه دلالته على المطلوب يمكن استفادته من خلال فقرات ثلاث:
الفقرة الأولى: (فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة الثانية)
ودلالتها واضحة، إذ أنّ مقام علي بن محمد السمري هو مقام النيابة الخاصة عن مولانا الحجة عليه السلام، وقد أوصاه عليه السلام بجمع أمره، ونهاه عن الوصاية لأحد من بعده ليقوم هذا المقام، وعلّل ذلك بوقوع الغيبة الثانية وفي بعض النسخ (التامة)، وتعليل النهي بوقوع الغيبة كاشف عن عليّة الغيبة لامتناع هذا المقام على أحد فيها.
الفقرة الثانية: (فلا ظهور إلا بعد إذن الله عز وجل)
وهنا نكتة دقيقة، فدلالة هذه الفقرة على نفي السفارة والنيابة الخاصة يمكن تقريبه بتقديم مقدمتين:
المقدمة الأولى: أنّ الإمام عليه السلام له نحوان من الظهور:
الأول: ظهور عام لجميع الناس.
الثاني: ظهور خاص لنوّابه فقط.
ولا يخفى أنَّ النحو الأول من الظهور فقد كان ثابتاً له عليه السلام منذ ولادته وحتى اختفائه عن أنظار الناس في الغيبة الصغرى، أي أنّه استمر لمدة خمس سنوات.
وأمّا النحو الثاني فهو الذي كان لخصوص سفرائه عند ابتداء الغيبة الصغرى حتى انتهائها.
المقدمة الثانية: أنّ الظهور المنفي في هذا التوقيع الشريف هو الظهور بالنحو الثاني لا الأوّل، إذ الأوّل منتفٍ بحسب الفرض، فنفيه يكون لغوا، وتحصيلاً للحاصل، وكلام المعصوم عليه السلام يجلّ عنه.
وإذا كان الظهور الخاص المرتبط بالنّواب منفياً، فوجود النوّاب منفيٌ تبعاً له أيضاً، وبهذا يتمّ الاستدلال بهذه الفقرة على امتناع النيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى.
الفقرة الثالثة: (وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة ، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر)
وتقريب الاستدلال بها: أنّ المشاهدة إمّا يراد بها المشاهدة البصرية، وإمّا يراد بها النيابة الخاصة.
فإنْ أريد الثانية: ثبت المطلوب.
وإن أُريد الأولى، فالثانية منتفية بالأولوية، وثبت المطلوب أيضاً.
وعليه فالدلالة على المطلوب في كلتا الحالتين تامّة.
التوفيق بين مفاد التوقيع ورؤية بعض الأعلام للإمام عليه السلام
ولكن بناءً على الأوّل تبرز عندنا إشكاليةٌ مفادها تكذيب الأعلام والثقات الذين نقلت لنا رؤيتهم لبقية الله الأعظم عليه السلام في زمن الغيبة الكبرى بالتواتر.
وهنا توجد عدّة أجوبة لدفع هذا الإشكال، ولكنْ قبل عرضها لابد أنْ يتّضح أنّ أعلامنا يقررون أنّ المراد من المشاهدة هاهنا هو إدعاء النيابة الخاصة لا المشاهدة البصرية.
ولكن عرضنا للأجوبة هو من باب دفع توهّم إرادة المعنى الأول ليس إلا.
الجواب الأوّل: أن المشاهدة بمعنى الرؤية القطعية اليقينية
وحاصله: أنَّ المراد من المشاهدة هاهنا ليس مطلق الرؤية، وإنما خصوص الرؤية القطعية اليقينية، وشاهد ذلك أنه لو أنّ شخصاً شك في رؤية الهلال فإنه لا يصح أن يُقال عنه أنه شاهده، وأما إذا قطع وتيقّن من مشاهدته له صحّ أن يُقال أنه شاهده.
وبناءً على ذلك: فسيرة علماء الطائفة لا تتنافى مع هذا التوقيع الشريف حتى يلزم تكذيبهم، إذ هم لا يقطعون ويجزمون بأن الذي رأوه هو الإمام المنتظر، وإنما يقولون من خلال القرائن والامارات نحتمل أنه هو (بأبي هو وأمي)، فالتوقيع ينفي شيئاً، وما عليه علماء الطائفة شيء آخر، فينحل الإشكال.
الجواب الثاني: أن التكذيب لادعاء المشاهدة، لا للمشاهدة.
وحاصله: أن التكذيب في التوقيع الشريف متوجهٌ لمن يدّعي المشاهدة، لا لأصل المشاهدة، إذ أنه عليه السلام لم يقل: (وسيأتي شيعتي من يشاهد) وإنما قال: (وسيأتي شيعتي من يدّعـي المشاهدة)، وهذا يستدعي الكلام في معنى الإدعاء.
فالإدّعاء: هو الإخبار الذي تتساوى فيه نسبة الصدق والكذب، كأن يكون فاقداً للبينة.
وبناءً على ذلك: فالتكذيب في التوقيع متوجه للمدعي الذي تتساوى نسبة الصدق والكذب في كلامه، وهذا لا ينطبق على علماء الطائفة العظام الذين نحرز ثقتهم وورعهم وتقواهم كأصحاب الكرامات مثل السيد بحر العلوم والمقدس الأردبيلي (رضوان الله تعالى عليهما)، فإنَّ نسبة الصدق هي الراجحة له ولأمثاله على أقل التقادير، إن لم نقل إنها فيهم يقينية.
وعليه: فالنص لا يشمل علماء الطائفة.
الجواب الثالث: المراد من المشاهدة هي النيابة الخاصة.
وأُشكل عليه بمخالفته للمتفاهم العرفي، إذ المتفاهم من المشاهدة هو الرؤية.
ويُجاب عنه أنَّ من المقرر في علم الأصول أن التمسّك بالمتفاهم العرفي لا يكون إلا عند انعدام القرينة، وأما عند وجودها فترفع اليد عن هذا الظهور البدوي، ويُمنع حمله عليه، بل يجب صرفه عن ظاهره.
وبما أن القرائن الصارفة موجودة في المقام -وتكفيك منها المذكورتان في الفقرتين الأوليين- فهذا يكفي لحمل اللفظ على النيابة الخاصة.