شرح دعاء العهد/ الحلقة الخامسة
الشيخ حميد الوائلي
ما زال حديثنا متواصلاً في شرح دعاء العهد المبارك، ووصل الحديث فيه إلى:
الفقرة الثالثة: (وَمُنْزِّلَ التَّوْراةِ وَالاِْنْجيلِ وَالزَّبُورِ، وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ).
إنّ هذا المقطع يتحدّث عن نماذج ثلاثة من الكتب السماوية يريد الداعي بهذا الدعاء المبارك أنْ يجعلها واحدة من موارد الثناء على الله سبحانه وتعالى يقرّبها بين يدي دعائه، تمهيداً لطلب الحضوة برضا الإمام عليه السلام بعد عقد البيعة معه، وكأنّ هذا المقطع والذي سبقه وبعض المقاطع الذي تليه تتحدث عن صفات لله سبحانه وتعالى، بأنّك يا ربي يا خالق النور ومدبّره ومنزّل هذه الكتب العظيمة على خير من خلقت من البشر، وهكذا في المقاطع الآتية، فيا ربي أنا بمقدار ما مكّنتني اعرف أنّك خالق هذه الأشياء العظيمة فأسألك بحق هذه الصفة التي قدرت بها على خلق هذه العظائم أنْ تمكّنني من أنْ أكون من أهل ولاية الإمام المهدي عليه السلام وممن يبايع ويفي ببيعته.
والظاهر أنّ هذا الكتب الثلاثة بل وكل الكتب المساوية التي ذكرها الوحي وهي: (صحف إبراهيم عليه السلام، وتوراة موسى عليه السلام، وزبور داوود عليه السلام، وإنجيل عيسى عليه السلام، وقرآن محمد صلى الله عليه وآله وسلم). لها مراتب متعددة، وعلى سبيل المثال تحدّث القرآن الكريم عن بعض مراتب القران فقال:
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ لَهُ الْجِبَال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) مع اننا لو اخذنا القرآن لا نجد انه يصدع الجبال أو نشاهد خشعة الجبال أو أنْ نستطيع أنْ نكلم بالقرآن الموتى، اذن هناك مراتب للقرآن، وليس أوضح من ذلك قوله تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمّ الْكِتَاب لَدَيْنَا لَعَلِيّ حَكِيم).
وكذلك بقية الكتب السماوية لها مراتب، مرتبة عند الله سبحانه وتعالى، ومرتبة عند الأنبياء والرسل، ومرتبة عند الناس، وأقل ما يمكن أنْ يشاهد من عظمة هذه الكتب السماوية هي مرتبتها التي بين أيدينا، وما أعظمها من مرتبة، وترتبت على هذه المرتبة جملة من الأحكام الفقهية، من عدم جواز تنجيس هذه الكتب، ومن التطهّر لتلاوتها ومسها.
فإنّ الداعي بهذا الدعاء وحسب الظاهر يتقرّب إلى الله بالمرتبة النازلة من هذه الكتب، ولعله لذلك قدّم كلمة و(منزل) ولا شك أنّ المراتب الأعلى أعظم، والقسم بها أجل وأكرم، إلا اننا في الأدعية لابد أنْ نلتزم بما ورد به النص، لانّ ضبط فصول وجمل الكلام مع جميع الدعاء نعتقد انّه يؤدي إلى نتيجة معينة، فالتقرّب إلى الله تعالى بهذه المرتبة من الكتب مع بقية المقاطع الأخرى من الدعاء ينتهي إلى نتيجة معينة، وليس من شأننا ولا من صلاحيتنا أنْ نطلب مرتبة أعلى في دعاء ورد عن المعصوم وتحدّث عن مرتبة وسطى أو دنيا، فلابدّ أنْ نلاحظ في الأدعية ونظمها ونسقها، وأنْ لا ندخل ونخرج فيها من تلقاء أنفسنا، ونتصور أنّ ذلك لا يؤثر، انّنا نعتقد أنّ نظم الدعاء وهيكليته خاضع لرؤية متكاملة من قبل المعصوم تؤدي إلى نتيجة محددة، وإنّ إيجاد خلل في تركيبة الدعاء ومنظومته سيؤدي إلى خلل حتما في تلك النتيجة.
ثم إنّ هذه الكتب الثلاثة ليست حصرية، فهناك صحف إبراهيم عليه السلام ولم يتحدث عنها الدعاء، ولا نعلم سبب ذلك، وهذا يؤيد ما قلناه آنفاً، ولعل الدعاء اكتفى بتوراة موسى عليه السلام التي هي احكام وقوانين جزئية، وإنجيل عيسى عليه السلام الذي هو آداب ومعارف ذوقية، وصحف إبراهيم عليه السلام شاملة لكلا الأمرين، فيما زبور داوود عليه السلام لعله يتحدث عن القوة والبأس والسلاح، فتكون هذه العناصر الثلاثة أحكاماً وآداباً وقوة مجتمعة، وتؤخذ كلها من صحف إبراهيم، والقرآن الكريم وهو خامسها يتناول هذه الثلاثة بشكل هيمني، قال تعالى: (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)، فالقرآن تناول ما في الثلاثة وما في صحف إبراهيم، ولكن على نحو العموم الفوقاني المهيمن على كل الكتب.
اذن نحن في هذا المقطع المبارك نتقرب الى الله تعالى بالثناء عليه من خلال ذكر نماذج قدرته في الكتب السماوية، وهنا إشارة إلى ارتباط الإمام عليه السلام الذي سيأتي الحديث عنه في الدعاء لاحقا بالكتب وبالسماء لما لهذه الكتب من ارتباط وثيق بالسماء والوحي، فنحن نتحدث في هذا الدعاء عن منظومة سماوية، وعن شخص سماوي هو وريث لها، ونطلب من الله تعالى بحقها أنْ يأخذ دوره من خلال ما نقدمه نحن كبيعة وبذل لما عندنا وما نملك من تضحية في سبيل إقامتها، فما أعظم ما نقسم به وما أعظم ما نريد أنْ نصل إليه.
والسؤال هنا لماذا فصل الدعاء المبارك بين هذه الكتب الثلاثة وبين القرآن الكريم بالظل والحرور، ولعله إشارة إلى مرحلتي الظهور والغيبة، فإنّ الدين الإلهي استمر لقرون طويلة في مرحلة ظهور، فلم يستفد منه الناس، ولم يقيموا أحكامه بل فرطوا فيه، فذهب صوب الغيبة لقرون طويلة حتى يعتبر الناس ويحتاج إليه ويلجأ إلى الله تعالى ليرجع ظهوره لهم من جديد، ولعل في الآية الكريمة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) إشارة لذلك.
ومعنى (الظل) يؤدي هذا المعنى باعتبار كونه عتمة تغشي وتحجب وتحجز النور، فيما يرشد (الحرور) إلى أنّ هذا البعد والابتعاد والخفاء والغياب يوجب عذاباً وألماً وحسرةً يوجب حرارة وحروراً وحرقة، فيكون سبباً لفوز المؤمنين، لما يتحرّقون من ألم فراق إمامهم وغياب دينهم، وخفاء معالم الكتب السماوية التي لم تظهر، بل والقران الكريم الذي لم يظهر، ويظهر كل حقائقه للناس انتظاراً لقيام القائم عليه السلام، فيما تكون هذه الظلة حرارة تسوّد وجوه الكفّار والمنافقين، وتحرق قلوبهم، بما أوجبوا وذلك بسبب فعالهم من تضييع وإخفاء وإبعاد لتعاليم الله المُنزَلَة.