تأصيل مرجعية الفقهاء
الدكتور محمد حسين علي الصغير
مني التشريع الإسلامي بنكسة كبرى ارتفعت إلى مستوى الكوارث الإنسانية، ذلك حينما أقصي أهل البيت عليهم السلام عن قيادة الأمة، وأقصي معهم فقههم في التشريع، واستعيض عن ذلك بمرجعية الصحابة وفقاهة التابعين، وهذا يعني إبعاد أئمة أهل البيت عليه السلام ابتداء من أمير المؤمنين وحتى الحجة المنتظر عليه السلام عن مضمارهم في نشر حضارة الإسلام، ودورهم في الإفتاء بفروع الحلال والحرام واعلاء كلمة الله في الأرض، وهذا ما حدث فعلاً.
وقد حظر على الفقهاء تداول الائمة صراحة، وربما كان رأي أهل البيت عليهم السلام أحياناً يمزج بغيره لئلا يعرف مصدره، وربما كنّي به عن أعلامهم كأمير المؤمنين عليه السلام: بأبي زينب أو الشيخ، وعن بقية الائمة بقال الرجل، أو قال العلَم... وهكذا.
ولعل من أطرف ما مر بأبي حنيفة النعمان بن ثابت (١٥٠هـ) انَّه سُئل عن مسألة فقهية.. قال: فاسترجعت في نفسي لأنني أقول فيها برأي علي بن أبي طالب عليه السلام، وأين الله به، فما أصنع؟.
ثم عزمت أنْ اصدقه (أي السائل) وافتيه بالدين الذي أُدين الله به... فافتاه، ومضى يقول:
إنَّ بني أُمية كانوا لايفتون بقول علي عليه السلام ولا يأخذون به، وكان علي لا يذكر باسمه بين الفقهاء، والعلامة بين المشايخ أنْ يقولوا: قال الشيخ.
وهكذا الحال زمن العباسيين، وكان ذلك اتجاهاً سياسياً يراد في محاولة لإخماد اللهب المتوهج من عطاء اهل البيت الفكري. وكان البديل زعامات مرجعية لا نصيب لأغلبها من ورع، ولا أثارة من علم ولا سابقة في إيمان.
وكان نتيجة هذا الخلط العجيب أنْ استطال فريق من المستشرقين على التراث الإسلامي يصفونه بالعي والعجز حيناً، ويتهمونه بالتخلف عن ركب الحضارة حيناً آخر، ضالعين في هذه الدعوى عن وعي ولا وعي، وكأنَّهم في منأى عن معرفة ما خطط أدعياء السياسة المنحرفة من مخططات رهيبة لمناهضة الاسلام، ولم يشاؤوا أنْ يقرُّوا بذلك مع عرفانهم به، ولكنهم اتجهوا نحو الاسلام يصمونه بتصرفات الملوك والسلاطين.
إنَّ مما ينوء به التاريخ الرسمي عبئاً، ذلك الصدى الحاكي لصوت الحق، وليس هو من الحق في شيء، لانَّه استغلال للاسم والموقع فحسب دون الغوص في الأعماق، لاستقراء الحقائق الغائبة، فلا هو بواصل إلى البعد المؤثر حقاً، ولا هو بتارك الميدان لأهله الفعليين.
وكان للعباسيين لا سيما أبي جعفر المنصور الدور الفاعل في ابتكار المذهبية على أساس الولاء الحاكم، واختيار الفقهاء المتجاوبين مع سياسته الخرقاء في القتل والتدمير وسفك الدماء، والاعتداء على الهاشميين من ابناء امير المؤمنين بصنوف العذاب الذي لا مثيل له، كالقتل صبراً للجماعة والافراد منهم، وجعل الاحياء في اسطوانات البناء واغلاقها، للموت جوعاً وعطشاً وخنقاً، وهدم السجون على المعتقلين وهم احياء وليموتوا تحت الاحجار المتراكمة، وقطع الرؤوس وكتابة اسماء اصحابها في لوحات عليها، وجعل ذلك ميراثاً لولده المهدي وهدية لحفيده الرشيد.
ولا نطيل الحديث في هذا الموضوع المفجع، ولا الاسترسال في تلك الفظائع التي ارتبكت باسم الدين، فله غير هذا الموقع من البحث التاريخي.
والذي نريد قوله أنَّ ابا جعفر المنصور قد فتح الباب على مصراعيه في استغلال وعّاظ السلاطين، فتسنَّم منصة الافتاء غير المؤهلين علمياً ودينياً، ففسروا كتاب الله بما لم ينزل به سلطان، واخترعوا الاحاديث الكاذبة في ولاية الظالمين، وقالو بالسنّة بالاهواء، وضربوا بالعقل عرض الجدار.
وانزلوا الشريعة منازل الرأي دون النظر في الادلة، وذهبوا الى الاستحسان دون الاستنباط، والى القياس دون الاجتهاد القائم على الدليل والقواعد الفقهية والاصولية.
كان الفقهاء الرسميون قد انتشروا في المماليك والاقاليم، ينفّذون رغبة السلطان، ويفتون بما تملي عليهم اوامر الحاكمين، يفتعلون الاحاديث وينسبونها للرسول الأعظمN، ويضعون الروايات التي تمجّد اسلاف الخلفاء زوراً وبهتاناً، وينتحلون السنن التي لم تكن، الا صبابة ضئيلة منهم يمنع الورع الذاتي حيناً، والوازع الديني حيناً آخر عن العبث والإسراف.
وكان لهذه الظاهرة إشكالية مريرة في تاريخ الإسلام التشريعي، وهي ليست مشكلة سياسية تحل بالإداريين والولاة والكتاب وهي ليست مشكلة اقتصادية تعالج بالرفاهية وبذل الاموال، وهي ليست مشكلة عسكرية تحتوى بتعيين القادة ورجال الحرب والتجنيد الالزامي، ولكنها مشكلة دينية خطيرة تتعلق بهذا الدين الحنيف، في السنَّة والفقه والتشريع وإفتاء المسلمين، وتتعلق بتطبيق قانون السماء المختار من الله تعالى بين العباد.
وهنا بدأ الفراغ القاتل في حياة الشريعة ينذر بالخطر، ولم تكن الفئات المتغلبة سياسياً بإزاء ملء هذا الفراغ الحقيقي، اذ انقسموا متاجرين وولاة وحكاماً وسياسيين، وأهل الدنيا، ورجال اعمال، وسواداً ولم يكن هناك..
ومهما يكن من امر فقد استقبل المسلمون هذه المشكلة دون حل، واستقبلها الحاكمون بكثير من العناء، فعليهم أنْ يجدوا ويوجدوا من يفتي بين الناس، وكان ايجاد البديل عن قيادة الائمة المعصومين متعثراً، يقع في إشكاليات معقدة حيناً، ويتعرض لشطحات الاهواء حيناً آخر، فكثر الأخذ والرد بلا طائل، وقام الخلاف على قدم وساق ومني المسلمون بخسارة كبرى في تلقي معالم الدين.
لقد حاول المنصور الدوانيقي (ت ١٥٨هـ) الذي تزيّا بزي الاكاسرة، واحدث تقبيل الارض بين يديه. وأنْ يطوّع الفقهاء في مشروع لخلق المذاهب الاخرى قبال مذهب أهل البيت عليهم السلام فاستعصى عليه سليمان بن الاعمش، وتحدّاه برواية أهل البيت عليهم السلام وأحاديث الإمام الصادق عليه السلام واخبار العترة النبوية عليهم السلام في مواقف يطول شرحها، ولعل المنصور قتله.
وكان ابو حنيفة بين بين مع المنصور، يستجيب له تارة، ويتقيه تارة أُخرى فسقي من قبل المنصور بشربة عسل مسمومة فمات من غد، والصحيح انه توفي في سجن المنصور.
وفي هذا الضوء لانستطيع القول أنّ أبا حنيفة وقف ضد المنصور، ولاتستطيع القول انّه وقف معه، وانما اتخذ بين ذلك سبيلاً، ومع هذا فقد غدر به المنصور.
نعم، استطاع المنصور أنْ يطوّع مالك بن انس ويجعله من المنفذين لأوامره متمثلاً في كل شيء، فقد احضره واستدعاه فاستقبله، وأمره أنْ يؤلف كتاباً يجمع به اشتات الفقه والأحاديث قائلاً له: (لم يبق على وجه الأرض اعلم مني ومنك!! واني قد شغلتني الخلافة، فضع انت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئه. قال مالك: فو الله لقد علمني التصنيف يومئذ) وقد استجاب مالك لذلك وسمى كتابه (الموطأ) وهو اصل المذهب المالكي، وقد اشترط عليه المنصور أنْ لايروي فيه عن علي عليه السلام شيئاً، وقد نفذ ذلك حرفياً، ولهذا فإنك لاتجد في (الموطأ) رواية عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام.
ولقد تعهد المنصور لمالك بفرض كتابه على المسلمين بالقوة، بعد أنْ يكتبه كما تكتب المصاحف، فقد روى الذهبي أنَّ المنصور قال لمالك: (والله لئن بقيت لأَكتبنَّ قولك كما تكتب المصاحف، ولأَبعثنَّ به الى الآفاق فلا حملنهم عليه) ومع كل هذا العمل المتواصل الذي قام به أبو جعفر المنصور، فما استطاع أنْ يمحو ذكر اهل البيت، ولأَتمكنَّ من القضاء على الفكر الإمامي، إذ استطاع الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام (ت: ١٤٨هـ) أنْ يتبنى ما اسسه أبوه الإمام محمد الباقر عليه السلام من ترسيخ قواعد مدرسة أهل البيت عليهم السلام الكبرى، وأنْ ينشر مبادئ الشريعة الغراء رغم تلك الافرازات السامة، وبذلك أعيدت للإسلام نضراته، وازدهرت آراؤه.
وقد أعدَّ الائمة فيما بعد قادة الفكر الإمامي من الفقهاء وأساطين العلماء وجهابذة الفن بجهود مكثفة عنيت بتدوين الأحاديث ولمّ شتاتها، وجمع ما تفرَّق منها، وقد انبثقت عن ذلك حركة الاجتهاد بين الفقهاء وفق ما أصَّله الإمامان الباقر والصادق عليه السلام فيما ورد عنهما.
(إنَّا علينا انْ نلقي إليكم الأصول، وعليكم أنْ تفرعوا) وما جاء عن الإمام علي بن موسى الرض عليه السلام بقوله: (علينا الاصول، وعليكم الفروع).
وبناءً على هذا التوجيه الضخم نهض الفقهاء بأداء الوظيفة الشرعية وعملوا مخلصين على إبراز فقه آل محمد مبوَّباً مبرمجاً في ظل علم الحديث، وقد رفد الإمام الحسن العسكري عليه السلام هذه المبادرة الخيرة، واعلن تأييد ه للفقهاء والاخذ عنهم، وأمر أولياءه بالرجوع إلى فتاواهم، وتقليدهم في الفروع قائلاً: (فامّا ما كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لا مر مولاه، فللعوام أنْ يقلدوه).
وهنا الإمام عليه السلام اعطى خصائص الفقيه الذي يرجع إليه في التقليد، فهو ذو صفات أربع: صيانة النفس، حفظ الدين، مخالفة الهوى، إطاعة أمر المولى (عزوجل).
وبهذا يكون الإمام الحسن العسكري عليه السلام قد ثبَّت قواعد الإمامية بالرجوع إلى الإمام بعد الغيبة، وأجزل القول في صفة الفقيه المقلَّد ثقة وعدالة، وبذلك يكون الإمام الحسن العسكري عليه السلامقد خرج من عهدة مسؤوليته الشرعية بعد وفاته وغيبة ولده المهدي عليه السلام بمهمتين:
الأولى: نيابة الوكلاء، وقد امر بالرجوع لهم للوثاقة المطلقة التي أولاها إياهم، وكان عليه السلام يرجع أولياءه إليهم، كما عن أحمد بن اسحاق عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام في شأن عثمان بن سعيدG وولده محمد قال، قال الإمام (العمري وابنه ثقتان، فما أديَّا فعنِّي يؤديان، وما قالا فعنِّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان).
الثانية: مرجعية الفقهاء واخذها الطابع النهائي والصيغة القطعية بما لا يقبل الرد أو الجدل كما رأيت.
وكان الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قد أرسى أصول المبدأ، فوجَّه الإمامية بقوله: (ينظر من كان منكم فمن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف احكامنا، فليرضوا به حكماً، فاني قد جعلته عليكم حاكماً، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخفَّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والراد علينا راد على الله، وهو بحدّ الشرك).
ولم ينحرف أولياء أهل البيت عليهم السلام منذ وفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري (ت٣٢٩هـ) وابتداء الغيبة الكبرى، وإلى اليوم عن هذا المبدأ، فقد رجع الناس إلى الفقهاء لإكمال المسيرة، وقد واصل فقهاء اهل البيت استنباط الاحكام الفرعية في ضوء عملية الاجتهاد، وانتصب المذهب شامخاً متحدياً العصور والاجيال بالمنهج الاجتهادي في ضوء الكتاب والسنة والاجماع والعقل.
وقد كان التدريب الاجتهادي المنظم من مهمات الشيخ الاكبر المؤسس محمد بن محمد بن النعمان العكبري الكاظمي البغدادي المعروف بالشيخ المفيد قدس سره (ت ٤١٣هـ) وقد عزز هذا المبدأ على يد تلميذه علم الهدى السيد المرتضى قدس سره (ت ٤٣٦هـ) وقد اثمر يانعاً على يد تلميذهما ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس سره (ت ٤٦٠هـ) فألَّف كتابه العظيم (المبسوط) في الفقه الإمامي، وجمع فيه الفروع في كل باب وفصل ومبحث، وافتى في ذلك كله، فانتقل بهذا العلم الجليل من حياة النص الى حياة الافتاء، ومن مناخ الرواية الى مناخ الاستنباط في نحو ثلاثين انتظمت مرتبة ابواب الفقه، وهي عملية متطورة كبرى، وبداية حضارية كتب لها التوفيق والسداد، ولا نغالي إذا قلنا: إنّ من جاء بعده من الفقهاء الاعاظم قد نسج على منواله، وسلك سبيل اجتهاده، ولذا عبر عنه بشيخ الطائفة، لابتكاره المنهج الموضوعي في طرح كبريات المسائل.
وهكذا كانت المرجعية الدينية العليا تؤدي مهمتها بأمانة وإخلاص، ولم تتحكم في ترشيحها وتعيين المرجع الاعلى العوامل السياسية وإرادة السلطان، ولم تتفاعل مع الحكومات الزمنية بايحاء أو توجيه، وانما تتحقق مرجعية الأعلم والأمثل تلقائياً، ومن قبل اهل الخبرة العلمية، ويكون لاهل الخبرة القرار النهائي في الترشيح، وتتلقى الأمَّة هذا القرار بالرضا والغبطة والقبول، ولم يتفق ولو لمرة واحدة أنْ نجح اعداء الفكر الامامي أو طواغيت السياسة أو يفرضوا مرجعاً واحداً خلال أحد عشر قرناً من الزمان، وبقي هذا الكيان ثابتاً مستقراً لا يتغير ولا يتحول ولا يستغل.