الرؤية بين الصدق والدجل وحكمها
السيد أحمد الاشكوري
مرحلة الغيبة الصغرى من (٢٦٠هـ) إلى (٣٢٩هـ)، هذه الحقبة الزمنية لها خصوصيّتها، فهي حقيقة واقعة خاضتها شريحة من الناس، وتمتاز بجملة من العناصر منها:
١ _ جملة من أصحاب الإمام الجواد، والهادي، والعسكري عليهم السلام.
كعلي بن جعفر أبي هاشم داوود بن القاسم الجعفري، وقد رأى خمسة من الأئمّة عليهم السلام، داوود بن أبي يزيد النيسابوري، محمّد بن علي بن بلال، عبد الله بن جعفر الحميري، إسحاق بن الربيع الكوفي، أبو القاسم جابر بن يزيد الفارسي، وإبراهيم بن عبيد الله بن إبراهيم النيسابوري.
٢ _ وجملة من وكلاء الإمام.
كمحمّد بن أحمد بن جعفر، جعفر بن سهيل، محمّد بن الحسن الصفار، عبدوس العطار، سندي بن النيسابوري، أبي طالب الحسن بن جعفر الفأفاء، وأبي البختري.
٣ _ نوّاب الإمام الأربعة:
وهم عثمان بن سعيد العمري، محمّد بن عثمان، الحسين بن روح، وعلي بن محمّد السمري رضي الله عنه.
٤ _ مجموعة من العلماء الفقهاء كالكليني رضي الله عنه، والصدوق وأبيه رضي الله عنه.
٥_مكاتباته عليه السلام ومراسلاته.
٦ _ قاعدة جماهيرية تحمل ثقافة الارتباط بالإمام المنصوب، والاعتقاد بالأئمّة السابقين، ويحملون هوية معينة وانتماءً خاصاً واعتماداً في مجال العمل على طريقة فقهية معينة، فبعد الإمام العسكري عليه السلام إلى من رجعوا.
وهذه المجاميع تحمل خصوصيات فكرية وسلوكية تعكس لنا فوائد جمة.
واتفق الجميع أنّ طريق الاتصال بالإمام عليه السلام هو عن طريق النواب، ولم ينعكس لنا من هؤلاء الرغبة في رؤيته عليه السلام بل كان مفروغاً عندهم ذلك، فإذا كانت مسألة الرؤية للإمام في ظرف الغيبة الصغرى كمال ومحبوب فلِمَ زهد الوكلاء والأصحاب والعلماء وأهل الإيمان عن ذلك مع شدّة حرصهم على الإتيان بالنوافل، بل قد حفظ لنا التاريخ أنّهم طلبوا منه عليه السلام أموراً أخرى، منها:
سؤال والد الصدوق رضي الله عنه من الحسين بن روح رضي الله عنه أنْ يسأل مولانا الصاحب عليه السلام أنْ يدعو الله عز وجل أنْ يرزقه ولداً ذكراً، أو الأسئلة التي رفعت إليه عليه السلام، فقد روى الطوسي قدس سره في غيبته: (...قال: حدّثني جماعة من أهل بلدنا المقيمين كانوا ببغداد في السنة التي خرجت بها القرامطة... وهي سنة تناثر الكواكب بأن والدي رضي الله عنه كتب إلى الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه يستأذن في الخروج إلى الحج...) الخبر.
وعن الكليني قدس سره قال: كتب محمّد بن زياد الصيمري يسأل صاحب الزمان كفناً يتيمّن بما يكون من عنده.
أو طلب الزراري إصلاح أمره مع زوجته أم عبّاس كما في (الغيبة).
وأما في ما ورد في الروايات من الدعاء: (اللّهم أرني الطلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة، وأكحل ناظري بنظرة مني إليه...) فهو كناية عن التمنّي في التشرّف تحت لوائه عليه السلام والانضمام في مشروعه ولو على سبيل عصر الرجعة، بل لنا أن نقول في تتبعنا ارتباط الأمّة بالقيادة في حل مشاكلها في زمن الأئمّة المعصومين لاسيّما في زمن الجواد والهادي والعسكري عليهم السلام لم يظهر لدينا أنهم كانوا يحبذون اللقاءات المباشرة إنما أنشأوا في زمانهم أو فعلوا فكرة النيابة والوكالات، وقد عمل الإمامان (الهادي والعسكري عليه السلام) خصوصاً حينما كانا في سامراء على تعميق نظام الوكالة، وإنْ هرم النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي نصب على نظام الوكالة، بل هذا النظام كان معمولاً به أيضاً في زمن الأئمّة السابقين (بسبب الإرهاب السياسي والسجن، وانتشار الشيعة في مناطق مختلفة تبتعد عن الأئمّة عليه السلام في الغالب) نعم تكثّف وأخذ بعداً جديداً بعد الإعداد للغيبة واحتجاب الأئمّة المتأخرين.
روى الطوسي قدس سره: في رواية محمّد بن عيسى قال: كتب العسكري عليه السلام إلى الموالي ببغداد والمدائن والسواد وما يليها: (قد أقمتُ أبا علي بن راشد مقام علي بن الحسين بن عبد ربّه، ومن قبله من وكلائي).
وفي حديث آخر قال: سألته وقلت: من اُعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال عليه السلام: (العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدي وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون)، قال: وسألت أبا محمّد عن مثل ذلك فقال عليه السلام: (العمري وابنه ثقتان فما أديّا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان).
وفي خبر عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً عن الرض عليه السلام قال: قلت: (لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال عليه السلام: نعم.
وعن عبد العزيز بن المهتدي قال للرض عليه السلام: إنّ شقتي بعيدة فلست أصِلُ إليك في كل وقت أفآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال عليه السلام: نعم.
وعن علي بن المسيب الهمداني قال: قلت للرض عليه السلام: شقّتي بعيدة فلست أصل إليك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني؟ قال: (من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا).
وعن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أنْ يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مشاكل عليَّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام: (أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك...) إلى أنْ قال: (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا).
وعليه لا نسلّم بأنّ ظاهرة الرجوع إلى الفقهاء نشأت بعد الغيبة الصغرى، بل _حسب الرصد العلمي_ كانت هذه الظاهرة موجودة من الأزمنة السابقة، وكان هذا الأمر مركوزاً في الأذهان بسبب النصوص القرآنية كقوله تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وإنما السؤال عن كون الشخص ثقة، وهذا إنّما يؤكد أنّ الشيعة لم يرتضوا أصالة التسامح في متابعة الأشخاص، بل التحقيق هو الموجب للخروج عن عهدة التكليف والوصول إلى شاطئ التأمين وإبراء الذمة.
وكيفما كان، فأصل رؤية الإمام عليه السلام في حدّ نفسه كمال، كرؤية العالم والكعبة والقرآن والمؤمن، إلاّ أنه رؤية الأصل في عصر الغيبة الصغرى لم يعلم أنّه كمال (على سبيل القضية الشرطية)، وهكذا طلب الرؤية أيضاً لم يصدر من أهل العلم والفضل وأصحاب التقى والنهى، والسيرة المتشرّعة قائمة على الانضمام تحت لوائه، وما ورد في بعض الأدعية والأعمال الموجبة لرؤية الإمام عليه السلام، فالمقصود حسب الظاهر التشرّف في لقائه، نعم قد تحققت الرؤية لبعض الأولياء لا لخصوص الكمال، ولم يكن هناك تلازم بأنّ من تحققت له الرؤية فهو الأفضل، وفرق بين طلب الرؤية وحصول الرؤية، أجل على مبنى من يقول بعدالة الصحابة لمجرّد الصحبة يمكن أنْ يدّعي أنّ الرؤية كيفما كانت فهي كمال.
ثمّ إنّ المدّعي للرؤية، الأصل الأوّلي فيه عدم التصديق، لاسيّما إذا كان يجر منفعة لصاحبه وذلك بأنْ يخلق لنفسه طريقة أو منهجاً أو مشروعاً خاصاً، فلا يمكن إثبات حقّانية مذهبه بواسطة الرؤية واللقاء به عليه السلام فانكشف بذلك أمور:
١ _ طلب الرؤية في عصر الغيبة ليس كمالاً، وفرقٌ بين الطلب والتحقّق الخارجي.
٢ _ الأصل الأوّلي عدم قبول مدّعي الرؤية إلاّ على سبيل القطع والاطمئنان.
٣ _ تقبل الرؤية بعد إقامة الشواهد في حق من لا يقنع بهذه الدعوى ويكون خال عن الغرض، وإنما المهم عنده التأكيد على وجود الإمام عليه السلام.
٤ _ مدّعي الرؤية مدى دعواه لا تتجاوز القضايا الخارجية الشخصية دون القضايا المصيرية، بل سيرة السلف من الأصحاب على ذلك.
ولو كان أهل البيت عليهم السلام يرتضون هذه الطريقة لأمضوها سيّما أنّها تعدّ قضية مركزية وجوهرية، بل الأمر بالعكس فقد تم تنشيط ظاهرة الوكالات العامة، وقد ورد التكذيب في مدّعي الرؤية بهذا السنخ، فقد ورد: (سيأتي إلى شيعتي من يدّعي المشاهدة ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر).
٥ _ لا ريب أنّ المذهب له علّة مبقية، وقد صمد هذا المذهب طوال هذه الفترة الطويلة من عصر الغيبة حتّى يومنا ولم يسجّل الملف التاريخي أنّ سبب هذا البقاء هم دعاة الرؤية، بل المسجل أن المذهب تواصل على سواعد الكليني والطوسي والمرتضى والعلامة والشهيد(رضوان الله عليهم) وآخرين غيرهم.
٦ _ هناك إطباق قولي وعملي على عدم الاعتناء لمدّعي الرؤية، وهذا الاجماع يكشف أنّ الموقف العملي الدقيق هو ذلك.
٧ _ لو تمّ هذا الأسلوب في تحديد المسائل المهمة للزم الهرج والمرج لأنّ المدعين كثيرون وهم متناقضون، ومن الملفت للانتباه أنّ جل هؤلاء هم أصحاب تاريخ نكرة بل بعضهم مظلم، والنظر في سلوكية هؤلاء مورد تأمل، بل الشعار الأوّل الذي رُفع عنهم عزل الأمّة عن الفقهاء الذين أكّدنا أنهم هم السبيل الذي اُمضي من قبل أهل البيت عليهم السلام قبل وبعد الغيبة.
٨ _ بعد وضوح هذا الأمر فإنّ متابعة الشواذ غير مغتفر (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ).
٩ _ نشر الثقافة المغلوطة في بعض المجتمعات، فهي طريق الهلوسة في نفوس السذّج فيدّعي ويتبع، أو صدور بعض التصرفات غير المدلول عليها شرعاً والموجبة للوهن بالمذهب والطعن في شموخه، وبعبارة الثقافة المنفردة تؤمن لصاحبها حظاً من المعرفة، وقد يحدث أنْ تؤثر هذه الثقافة بصاحبها إلى مستويات اجتماعية وتوسع من دائرة نفوذه على المستوى الجماهيري باعتبار أنّ الأمّة تخضع في تركيبتها إلى اعتبارات مختلفة من حيث الوعي والإدراك والمستوى الثقافي، فهي تتأثّر بكثير من المعطيات من دون الوقوف على خلفياتها وأهدافها وأبعادها، إنما تنساق بشكل عفوي باتجاه الأمور الجاهزة من دون مناقشة وتحليل، فالميزان هو الخضوع لاعتبارات عقلية وقواعد منطقية وأصول البحث العلمي وضوابط تميز الحق من الباطل وإلاّ يلزم غياب الحقيقة وهو منكر فطرة ومنطقاً وقانوناً ووجداناً، فلا بدَّ من (الفلتر) وصمام الأمان، فمقياسها صمودها أمام النقد العلمي وتملكها لمكوناتها العلمية ولا شفاعة للكثرة العددية ولا للواقع الاجتماعي والسياسي، فالعبرة بالكفاءة العلمية المتخصصة والمتمرسة وذات الباع الطويل في التنقيب والتحليل والتجرد عن الأهواء، فالكفاءة هي المحك العلمي والعملي في التمييز، لا من يتناوشها عن بعيد بمنأى عن المراقبة والنقد.