صفاء النفس وقضاء الحوائج سبب في لقاء النور
قصة نقلها سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ وحيد الخراساني (دام ظله) وقد حكاها يوم ٢١/ شعبان/ ١٤٠٤هـ لطلبته في محضر درسه في حوزة قم المقدسة وقال إنه سمعها قبل أربعين سنة من المرحوم السيد غلام رضا الكسائي من دون واسطة، وكان الكسائي رجلاً في درجة عالية من الصدق والتقوى والعدالة، وأضاف الشيخ الخراساني أن السيد الكسائي لما نقل له هذه القصة قال: لقد مرت أربعون سنة على الحادثة ولم أجد للخادم أثراً.
يقول الكسائي: لمّا كنت طالباً في مدرسة دينية بمدينة تبريز، كان خادم هذه المدرسة رجلاً مؤدّباً متواضعاً ومن أهل التقوى والصلاح، يعمل بوظائفه الفردية والاجتماعية بصدق وإخلاص، وكان ذا روحية عجيبة، قليل الكلام كثير السعي شديد الكتمان، وهو وإن كانت مسؤوليته تنظيف المدرسة لكنه كان يعين الطلبة في تنظيف حجرهم أيضاً دون أن ينتظر منهم مكافأة أو ثمناً، بل وأحياناً كان يغسل ثيابهم أيضاً وإذا رأى أنّ أحدهم يريد الذهاب لشراء حاجة تقدّم إليه متوسلاً أن يسمح له بتقديم هذه الخدمة، وبلغ به الأمر إلى أنه كان يملأ إبريق الماء من حوض المدرسة ويحمله إلى بيت الخلاء لئلاّ يتعنّى الطلبة ذلك، وهذه كلها لم تكن من وظائفه كخادم للمــدرسة، وكان يقوم بذلك بصفاء النفس وإخلاص النية فيزرع بذلك حبّه في قلوب الطلبة ويعلّمهم التواضع.
وفي منتصف ذات ليلة خرجتُ من حجرتي لإسباغ الوضوء، فرأيت شيئاً عجباً! رأيت نوراً روحانياً في حجرة الخادم. ولم تكن الكهرباء قد عرفت بعد، حيّرني الأمر بشدّة، وتقدّمت خطوات نحو الحجرة لاكتشف حقيقة ما أرى، فلمّا قربتُ سمعتُ كلاماً يتردد بين الخادم وبين ورجل آخر.
فنازعني أمران، فمن جهة لم أكن أودّ الدخول عليه، لأفهم ما يقال ومن جهة أخرى قَوِيَ حبُّ الاستطلاع في قلبي، إذ كان ذلك النور يبهتني و يجذبني.
فدنوتُ خطوات أخرى حتى وصلت الباب، فصرت أسمع الخادم يتكلم بصوت خافت، امّا الطرف الثاني فلم أُميّز كلامه.
وقفت في حيرتي أستمع إلى صوتهما دون أن أفهم ما يقولانه، وفجأة انقطع الصوت وذهب النور العجيب، فلم أصبر طويلاً، فطرقتُ الباب فوراً!
قال الخادم: مَن؟
قلت: أنا (فلان) افتح الباب.
فتح الباب، فسلّمتُ عليه وسألته: هل تسمح لي بالدخول؟
قال: تفضّل.
دخلت الحجرة وجلست، ولكنّي لم أر أحداً غيره، ولم أجد شيئاً غير مألوف.
سألني: هل من أمر؟
قلت: لا، ولكن هل كنتَ تتكلّم مع شخص؟ قل لي الحقيقة، ماذا كان يحدث هنا؟ أخبرني وإلا فسوف أُنبّه الطلبة الآن ليأتوا هنا ويمطروك بأسئلتهم عن واقع الحال!
قال: اني سأحكي لك ما جرى هذه الليلة، بشرط أن لا تحكي ذلك لأحد.
قلت: قبلتُ الشرط.
قال: أنا موجود إلى يوم الجمعة، عاهدني أن لا تظهر سرّي إلى ظهر الجمعة وكانت تلك الليلة ليلة الأربعاء، فعاهدته أن لا أفشي سرّه إلى يوم الجمعة كما حدّده لي.
فقال: الحقيقة هي أنّ سيدي ومولاي الإمام الحجة عليه السلام جاء ليكلمني، وكنت بين يديه ابادله الحديث.
فزاد عجبي وسألته: حول ماذا كان يحدّثك به الإمام؟
قال: أن هناك ثلاث فئات ترتبط بالإمام الحجة عليه السلام في عصر الغيبة، حواريّين ذوي درجات. كلّ فئة أقل عدداً من الأخرى، الفئة الأقل عدداً هي من الدرجة الأولى في القرب والاعتماد، وهكذا الطبقة الثانية، فالثالثة.
هذه الفئات الثلاث من حيث الناحية المعنوية والباطنية حلقات متداخلة، وعندما يموت واحد من إحدى هذه الطبقات، يختار الإمام عليه السلام مكانه واحداً من الطبقة التي تليها ويحلّ مكانه واحد من الطبقة الأدنى ترفيعاً لمقام كل من أصلح نفسه من الطبقات الشيعية العامة، تبعاً لمستوى التقوى والفضائل الأخلاقية والحالة الروحية التي اكتسبها الفرد وهيّأ نفسه لها من قبل.
وفي يوم الجمعة، حيث سيموت شخص من الطبقة الثالثة، لذا جاءني الإمام (روحي فداه) واختارني لأداء المهام في مكان ذلك الشخص.
وعند سَحَر الجمعة، بدأ (الخادم) يعمل، وكانت حالتي عجيبة، لأن ساعة موعده اقتربت, وازددت مراقبة له واشتدّ في قلبي حبُّ الاستطلاع لحاله، فقد حضر اليوم الموعود، فماذا سيحدث يا تُرى؟!
رأيته قد خرج من حجرته مع طلوع الشمس، وبدأ بعمله اليومي في المدرسة، ثمّ أخذ يغسل ثيابه وينشرها في الشمس وغسل حذاءه أيضاً ووضعه جانباً.
وعند الزوال جمع ثيابه وأخذ حذاءه، ثمّ ربط ظهره بإزار واغتسل في حوض المدرسة.
وكان الجوّ حاراً، والطلبة في عطلة، أكثرهم قد خرجوا من أوّل الصباح إلى زيارة أقاربهم، وقليل منهم في الحجر أو ساحة المدرسة مشغولون بأمورهم. وكنت أحسب الدقائق باضطراب نفسي شديد، عيني لم تنحرف عن مشاهدة الخادم، إنها اللحظات الأخيرة من سفرة مدهشة للغاية، فقد جعلتُ نظراتي الحادّة تلاحقه بدقّة، أريد أن أكتشف ماذا سيحدث ساعة موعده مع الإمام الحجة عليه السلام، وكيف ينتقل من عندنا ليلتحق بالصفوة المقرّبين للإمام الحجة عليه السلام؟
رأيته, خرج من الحوض، ووقف في الشمس حتّى نشف جسمه، ثمّ لبس ثيابه وحذاءه وأخذ ينتظر كالمسافر المشتاق!
وعند أذان الظهر، ومع الكلمة الأولى للأذان (الله أكبر), وفجأة غاب عن عيني، فقمت كالمدهوش أبحث عنه, ولكن لم أجد له أثراً!