((ضياع التراث المهدوي))
السيد محمد القبانجي
إن الفترة التي استلم فيها النواب الأربعة مقاليد السفارة بين الإمام المهدي عليه السلام وبين قواعده الشعبية قاربت السبعين عاماً ابتداءً من شهادة الإمام العسكري عليه السلام عام (٢٦٠ هـ) وابتداء الغيبة الصغرى واستلام النائب الأول عثمان بن سعيد قدس سره لمقام السفارة لمدة ٣ أو ٤ سنوات تقريباً، ثم مروراً بابنه محمد بن عثمان قدس سره والذي تجاوزت مدة نيابته (٤٠) عاماً، مروراً كذلك بالنائب الثالث الحسين بن روح قدس سره والذي امتدت نيابته ٢١ عاماً، وانتهاءً بالنائب الرابع علي بن محمد السمري قدس سره والذي اقتصرت مدة نيابته على ٣ سنوات، وبموته انتهت فترة الغيبة الصغرى بتاريخ ٣٢٩ هـ.
وفي خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً إذا نسبت بفترات إمامة أهل البيت عليهم السلام حيث إنّ أطول فترة لامامتهم كانت في عصر الامام علي بن الحسين عليه السلام والإمام الكاظم عليه السلام حيث امتدت إمامتهم ٣٥ عاماً وبعدهما الإمام الصادق عليه السلام ٣٤ عاماً.
وفي مقارنة أولية بين ماوصل الينا من تراث عصر الغيبة الصغرى وبين فترة إمامة الإمام زين العابدين عليه السلام والإمام الكاظم عليه السلام مع ملاحظة أوجه الشبه من ناحية التقية المكثفة التي عاشها الامامان عليهما السلام والتي تشبه الى حدٍّ ما الفترة العصيبة التي عاشها شيعة أهل البيت عليهم السلام في فترة الغيبة عموماً والإمام المهدي عليه السلام بشكل خاص، -ومن الطبيعي اننا لانريد المقارنة بين عصر الغيبة وعصر الامام الصادق عليه السلام فهو عصر الانعتاق الثقافي والحرية الفكرية لتأسيس الفكر الشيعي وتأصيله لمدرسة أهل البيت عليهم السلام في أوساط القواعد الشعبية-.
وكما قلنا فبمقارنة بسيطة بين الفترتين نلاحظ الهوة السحيقة والفاصلة الكبيرة بين كمية التراث الواصل الينا في عهد الامام السجاد عليه السلام أو الكاظم عليه السلام وبين فترة الغيبة الصغرى رغم انها تساوي الفترتين كلتيهما اذ انها استمرت-كما ذكرنا- مايقرب من سبعين عاماً تخللها أربعة من السفراء، فبالنظر الى المهمة الاولى لهم وهي الوساطة بين الشيعة والامام ونقل مسائل الجمهور اليه عليه السلام ومن ثم نقل الاجوبة والتوجيهات منه عليه السلام اليهم، وكذلك مع ملاحظة انتشار الاتباع وكثرتهم بأضعاف ما كانوا عليه في زمن الامامين السجاد والكاظم عليهما السلام، مضافاً الى كثرة الوكلاء المنصوبين من قبل السفراء الاربعة لتكوين شبكة اتصالات واسعة بين الجمهور والقائد.
إذن فبالنظر الى كل هذه الملاحظات
-طول الفترة، وكثرة الوكلاء، وانتشار الشيعة- ينبغي أن يكون العطاء المهدوي غاية في الكثرة والوفرة بحيث يفوق تراث عصر آبائه السابقين، وهذا ماحصل بالفعل ولنأخذ نموذجاً للدلالة على وفرة العطاء العلمي للامام المهدي عليه السلام.
ما رواه الطوسي في الغيبة عن محمد بن أحمد الصفواني قال: (رأيت القاسم بن العلاء وقد عمّر مائة سنة وسبعة عشرة سنة منها ثمانين سنة صحيح العينين لقي مولانا أبا الحسن وأبا محمد العسكرين عليهما السلام وحجب بعد الثمانين وردَّت عليه عيناه قبل وفاته بسبعة ايام وذلك اني كنت مقيماً عنده بمدينة الان من أرض آذربيجان وكان لاينقطع توقيعات مولانا صاحب الزمان عليه السلام على يد أبي جعفر محمد بن عثمان العمري وبعده على يد أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله أرواحهما، فانقطعت عنه المكاتبة نحواً من شهرين فغُلق لذلك. فبينا نحن عنده نأكل إذ دخل البواب مستبشراً فقال له: فيج العراق لايسمى بغيره، فاستبشر القاسم وحوّل وجهه الى القبلة فسجد، ودخل كهل قصير يرى أثر الفيوج عليه، وعليه جبة مغربة وفي رجله نعل محاملي، وعلى كتفه مخلاة فقام القاسم فعانقه ووضع المخلاة عن عنقه ودعا بطست وماء فغسل يده وأجلسه الى جانبه..), فمثل القاسم بن العلاء واحد من الوكلاء الكثيرين في عصر الغيبة الصغرى، كانت تصله التواقيع بشكل مستمر رغم بعد المسافة الكبيرة بين بغداد موطن السفراء وبين أذربيجان موطن القاسم بن العلاء، حتى انه استوحش وأغلق عليه حينما انقطع الاتصال لمدة شهرين فقط، مما يدل على وصول التواقيع اليه بشكل كثير, يمكن أن يكون على الاقل في الشهر مرتين، فلو عملنا إحصاء لعدد التواقيع الصادرة عنه فقط لجاوزت (١٤٤٠) توقيعاً نظراً الى وكالته عن السفراء الاول والثاني والثالث أي أكثر من ستين عاماً.
فمع وجود اكثر من عشرين وكيلاً للسفراء خلال الغيبة الصغرى، فيكون مجموع التواقيع الواصلة اليهم عن طريق السفراء (٢٨،٨٠٠) توقيع، هذا عدا مئات بل الاف التواقيع المباشرة من السفير الى صاحب الشأن والحاجة.
فمن هنا يمكن أن نتصور مدى التلف وضخامة الضياع في التراث المهدوي إذا علمنا أن الواصل الينا من كل هذا الكم الهائل من التواقيع المهدوية لايتجاوز (٨٥) توقيعاً منها (٣٩) دعاء عنه عليه السلام، ومنها (١٥) توقيعاً يحتوي كل توقيع منها على بعض المسائل الفقهية في فروع العبادات والمعاملات والايقاعات، ومنها (٣٠) توقيعاً في الامور العامة والخاصة.
أي أن توقيعاً واحداً تقريباً وصل الينا من مجموع (٤١١) توقيعاً على الاقل في السنة الواحدة من سني عصر الغيبة الصغرى.
وهذه إحدى المصائب في قضية الإمام المهدي عليه السلام وإحدى خسائر المسلمين في ضياع الكلام النوراني والتراث لصاحب العصر والزمان عليه السلام.