عقيدتنا في الرجعة
الشيخ محمد رضا المظفر
إن الذي تذهب إليه الإمامية أخذا بما جاء عن آل البيت عليهم السلام أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها ، فيعز فريقا ويذل فريقا آخر ، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين ، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليهم السلام . ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان, أو من بلغ الغاية من الفساد ، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب ، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله, أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون : (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ). نعم قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا ، وتظافرت بها الأخبار عن بيت العصمة .
والإمامية بأجمعها عليه, إلا القليل منهم, الذين تأولوا ما ورد في الرجعة, بأن معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت عليهم السلام بظهور الإمام المنتظر عليه السلام، من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى .
والقول بالرجعة يعد عند أهل السنة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها ، وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يعدون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه, التي تستوجب رفض روايته وطرحها . ويبدو أنهم يعدونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع ، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنع به عليهم .
ولا شك في أن هذا من نوع التهويلات التي تتخذها الطوائف الإسلامية فيما غبر ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضده. ولا نرى في الواقع ما يبرر هذا التهويل ، لأن الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد ولا في عقيدة النبوة ، بل يؤكد صحة العقيدتين ، إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله تعالى كالبعث والنشر ، وهي من الأمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عليهم السلام وهي عينا معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح عليه السلام، بل أبلغ هنا, لأنها بعد أن يصبح الأموات رميما (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ).
وأما من طعن في الرجعة باعتبار أنها من التناسخ الباطل ، فلأنه لم يفرق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني، والرجعة من نوع المعاد الجسماني ، فإن معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الأول، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني، فإن معناه رجوع نفس البدن الأول بمشخصاته النفسية فكذلك الرجعة.
وإذا كانت الرجعة تناسخا فإن إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام كان تناسخا ، وإذا كانت الرجعة تناسخا كان البعث والمعاد الجسماني تناسخا. إذن ، لم يبق إلا أن يناقش في الرجعة من جهتين:
( الأولى ) أنها مستحيلة الوقوع.
( الثانية ) كذب الأحاديث الواردة فيها. وعلى تقدير صحة المناقشتين فإنه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هوّلها خصوم الشيعة .
وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين هي من الأمور المستحيلة أو التي لم يثبت فيها نص صحيح ، ولكنها لم توجب تكفيرا وخروجا عن الإسلام ، ولذلك أمثلة كثيرة : منها الاعتقاد بجواز سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عصيانه ، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن . ومنها القول بالوعيد ، ومنها الاعتقاد بأن النبي لم ينص على خليفة من بعده. على أن هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحة.
أما أن الرجعة مستحيلة فقد قلنا أنها من نوع البعث والمعاد الجسماني, غير أنها بعث موقوت في الدنيا ، والدليل على إمكان البعث دليل على إمكانها . ولا سبب لاستغرابها إلا أنها أمر غير معهود لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا ، ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقربها إلى اعترافنا, أو يبعدها وخيال الانسان لا يسهل عليه أن يتقبل تصديق ما لم يألفه، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) فيقال له: (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .
نعم في مثل ذلك ، مما لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته أو نتخيل عدم وجود الدليل ، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الإلهي ، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الأموات كمعجزة عيسى عليه السلام في إحياء الموتى (وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ) وكقوله تعالى (أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) والآية المتقدمة (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) فإنه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت ، وإن تكلف بعض المفسرين في تأويلها بما لا يروي الغليل ولا يحقق معنى الآية.
وأما المناقشة الثانية ، وهي دعوى أن الحديث فيها موضوع ، فإنه لا وجه لها لأن الرجعة من الأمور الضرورية فيما جاء عن آل البيت عليهم السلام من الأخبار المتواترة.