الصفحة الرئيسية » البحوث والمقالات المهدوية » (٦٤٨) اللقاء بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بين الإثبات والنفي
 البحوث والمقالات المهدوية

المقالات (٦٤٨) اللقاء بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بين الإثبات والنفي

القسم القسم: البحوث والمقالات المهدوية الشخص الكاتب: الشيخ مشتاق الساعدي تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠٢١/٠٣/١٢ المشاهدات المشاهدات: ٤٥٠٨ التعليقات التعليقات: ٠

اللقاء بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بين الإثبات والنفي
(دراسة توفيقية بين الروايات والقواعد العامَّة والوقائع الخارجية)

الشيخ مشتاق الساعدي

مقدَّمة:
وقع الكلام في إمكان ووقوع اللقاء مع الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى وعدم إمكانه، وإذا ما حصل اللقاء والتشـرّف فهل هو لقاء بشخص الإمام (عليه السلام) دون معرفة عنوانه وصفته أو هو لقاء مع معرفته شخصاً وعنواناً وأنَّه الإمام المهدي (عليه السلام).
وهنا يتوسَّع السؤال إلى إمكان التعايش معه والتواصل معه وتلقّي التعليمات الهامَّة منه.
فهل هو خفيُّ الشخص أو أنَّه واضح الشخص ولكنَّه خفيُّ العنوان أو أنَّه واضح الشخص والعنوان أو أنَّ ذلك يختلف باختلاف إيمان الإنسان ودرجة حفظه للأسرار وعدم الاتقاء منه؟ فمنهم من لا يعرف شخصه فضلاً عن معرفة عنوانه، ومنهم من يعرفه بشخصه وعنوانه، ومنهم من يتواصل معه بين الفينة والفينة، ومنهم من يكون من الثلاثين الذين ليس بهم وحشة كما جاء في الرواية التي سنعرض لها إن شاء الله تعالى.
احتمالات وبعضها أقوال:
وكلُّ هذه العناوين والاحتمالات يمكن التوفيق بينها من خلال طرح كلَّ ما يدلُّ على تلك النظريات، فإنَّ الروايات قد اختلفت في هذا الأمر - اللقاء بالإمام (عليه السلام) -، ولعلَّ الاختلاف ناشئ من أمرين أساسيين:
الأوَّل:
اختلاف قوَّة الشخص الإيمانية والعبادية التي قد تسمح له بمساحة معيَّنة من اللقاء، وهذا الأمر غالبي وليس مطَّرداً، لأنَّ الإمام قد يلتقي بشخص مشكِّك ليرفع شكّه، أو يلتقي بمن لديه مشكلة مستعصية ليحلَّ مشكلته، أو غير ذلك من أسباب بما يراه (عليه السلام) من مصلحة. الثاني: تقويض مدَّعي السفارة أو النيابة الخاصَّة أو التواصل مع الإمام (عليه السلام) لكي لا يُستَغلُّ ذلك لمآرب غير شرعية كما حصل فعلاً من مدَّعي النيابة الخاصَّة أو البابية الذي قامت ضرورة المذهب على إنكارها في عصر الغيبة الكبرى، كما سنشير إلى ذلك في تتمَّة البحث. ونريد هنا إثبات إمكان اللقاء، بل ووقوعه بما يتلاءم مع الروايات من جهة مع اختلافها سعةً وضيقاً من حيث اللقاء، وبما يوافق ما هو منقول من وقوع التشـرّف بالإمام (عليه السلام) كما ادَّعاه جمع من العلماء، وبما يوافق وظيفة الإمام (عليه السلام) وسعتها في عصـر الغيبة الكبرى مع وقوع اللقاء به من جماعة محدَّدة يتعايشون معه ويتلقّون أوامره بلا دعوى السفارة والنيابة الخاصَّة، إذ من صلب وظيفة الإمام (عليه السلام) هو حفظ البلاد والعباد كما جاء في الروايات، ومنها ما في الاحتجاج ما نصّه:
ذُكِرَ كِتَابٌ وَرَدَ مِنَ النَّاحِيَةِ المُقَدَّسَةِ حَرَسَهَا اللهُ وَرَعَاهَا فِي أَيَّامٍ بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ عَشْـرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ، ذَكَرَ مُوصِلُهُ أَنَّهُ تَحْمِلُهُ مِنْ نَاحِيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْحِجَازِ، نُسْخَتُهُ:
«لِلْأَخِ السَّدِيدِ، وَالْوَلِيِّ الرَّشِيدِ، الشَّيْخِ المُفِيدِ، أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ‏ النُّعْمَانِ أَدَامَ اللهُ إِعْزَازَهُ مِنْ مُسْتَوْدَعِ الْعَهْدِ المَأْخُوذِ عَلَى الْعِبَادِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،‏ أَمَّا بَعْدُ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا المَوْلَى المُخْلِصُ فِي الدِّينِ، المَخْصُوصُ فِينَا بِالْيَقِينِ، فَإِنَّا نَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَنَسْأَلُهُ الصَّلَاةَ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَنُعْلِمُكَ أَدَامَ اللهُ تَوْفِيقَكَ لِنُصْـرَةِ الْحَقِّ، وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَكَ عَلَى نُطْقِكَ عَنَّا بِالصِّدْقِ، أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَنَا فِي تَشْـرِيفِكَ بِالمُكَاتَبَةِ، وَتَكْلِيفِكَ مَا تُؤَدِّيهِ عَنَّا إِلَى مَوَالِينَا قِبَلَكَ أَعَزَّهُمُ اللهُ بِطَاعَتِهِ، وَكَفَاهُمُ المُهِمَّ بِرِعَايَتِهِ لَهُمْ وَحِرَاسَتِهِ، فَقِفْ أَمَدَّكَ اللهُ بِعَوْنِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ المَارِقِينَ مِنْ دِينِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَاعْمَلْ فِي تَأْدِيَتِهِ إِلَى مَنْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ بِمَا نَرْسِمُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ. نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا ثَاوِينَ بِمَكَانِنَا النَّائِي عَنْ مَسَاكِنِ الظَّالِمِينَ حَسَبَ الَّذِي أَرَانَاهُ اللهُ تَعَالَى لَنَا مِنَ الصَّلَاحِ وَلِشِيعَتِنَا المُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ مَا دَامَتْ دَوْلَةُ الدُّنْيَا لِلْفَاسِقِينَ، فَإِنَّا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَمَعْرِفَتُنَا بِالزَّلَلِ الَّذِي أَصَابَكُمْ مُذْ جَنَحَ كَثِيرٌ مِنْكُمْ إِلَى مَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَنْهُ شَاسِعاً، وَنَبَذُوا الْعَهْدَ المَأْخُوذَ مِنْهُمْ‏ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏. إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اللَّأْوَاءُ، وَاصْطَلَمَكُمُ‏ الْأَعْدَاء...»(١).
فهذا صنف ممَّن التقوا الإمام (عليه السلام)، وهناك أصناف أُخر ستمرُّ عليك هنا بعضها.
ومنهم من لا يحظى به لا شخصاً ولا عنواناً، وهو الحرمان الأكبر من فرصة التزوّد منه، ولعلَّ الخفاء عن هذه الفئة للتقيَّة من القتل أو غيرها، كما ورد في بعض الروايات المستفيضة التي تُعطي بعض علل الغيبة، منها ما في (كمال الدين وتمام النعمة)(٢) باسناده عن زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ». قَالَ: قُلْتُ: وَلِـمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ»، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ.
فهل هذه الصور كلّها واقعة - بعد الفراغ من إمكانها -؟ وهل عليها شواهد من الروايات أو لا؟ وما مدى إمكان الجمع بينها لو كانت مختلفة؟
وعندما نُحقِّق وقوعها فليس نظرنا إلى وقوعها في مصداق معيَّن من جهة، ولا نظرنا إلى أنَّها حصلت للشخص الفلاني، كما أنَّه ليس لازم وقوعها فتح باب السفارة في عصـر الغيبة، بل هو ممنوع كما سنشير، فلا يتوهَّم متوهِّم أنَّ قولنا بالوقوع لازمه ثبوت هذه الدعاوى الباطلة والبابية المنحرفة والنيابة الخاصَّة.
وهنا نناقش ذلك صورة بعد صورة لنصل إلى جواب توافقي بين كلِّ الاحتمالات والأقوال، وذلك من خلال محاولة الجمع بين الروايات من جهة، والوقائع الخارجية والأدلَّة العامَّة ودعاوى التشـرّف ومدى صحَّتها من جهة أُخرى، ووظيفة الإمام (عليه السلام) من جهة ثالثة، فلا نضطرُّ لطرح رواية خاصَّة، ولا قاعدة عامَّة، ولا تكذيب بعض الوقائع كما فعل البعض في هذا المقام.
فنُحرِّر البحث بعرض ونتيجة وتتمَّة:
عرض البحثالأقوال في المقام:
وقع خلاف بين الباحثين في إمكان وعدم إمكان رؤية الإمام (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى، بل ووقوع وعدم وقوع تلك المشاهدة.
فمنهم من أقرَّ بإمكان، بل ووقوع الرؤية لصاحب الأمر (عليه السلام) لطبقة معيَّنة وبشـروط خاصَّة وبلقاء محدود مع عدم إشاعة ذلك.
ومنهم من قال بإمكان اللقاء دون القول بالوقوع.
ومنهم من قال بامتناع ذلك دفعاً للمحاذير وسدّاً لفتح باب الدعاوى والمشاهدات التي قد تضـرُّ أكثر ممَّا تنفع.
ومنهم من فصَّل بين إمكانها إذا لم يلزم منه دعوى السفارة أو تلقّي الأمر منه (عليه السلام)، وبين عدم إمكانها إذا ادَّعى الشخص السفارة أو تلقّي الأوامر منه وأنَّه باب من أبوابه (عليه السلام).
وغير ذلك من الأقوال.
وكلٌّ حاول أن يأتي بشواهد على ما يقوله ويدَّعيه من الروايات والوقائع الخارجية والأدلَّة العامَّة.
والصحيح عندنا كما سيتَّضح إمكان التوفيق بين تلك الأقوال والخروج بنتائج توافقية والقول بوقوع وتحقّق هذه الصور بلا ملازمة لدعوى السفارة أو البابية، وبلا تشخيص مصاديقهم وحقّانيتهم أو عدم حقّانيتهم في دعوى التشرّف بالإمام (عليه السلام).
الأدلَّة في المقام:
نعرض الروايات الواردة في المقام من خلال صور:
صور وحالات اللقاء:
ولنبدأ من الحالات الأكثر ضعفاً من حيث الشرفية إلى الأقوى كمالاً.
الصورة الأُولى: الخفاء شخصاً وعنواناً:
وهي الحالة التي يكون صاحبها أضعف كمالاً ـ من هذه الجهة ـ ، وهي عدم التشـرّف برؤية الإمام شخصاً وهيأةً ولا عنواناً وصفةً، فلو رأى الإمام الحجَّة (عليه السلام) في عصـر الظهور لقال: إنّي لم أرَه قطّ، ولا مرَّة في حياتي. وعدم الرؤية من هذا الشخص لها أسباب متعدِّدة، كأن تكون لضعف الحالة الإيمانية، أو لأنَّه لا يحضـر المواسم أو الشعائر أو البلدان التي يتواجد فيها الإمام كمواسم الحجّ وزيارات المعصومين وأماكن الطاعة والعبادة والشعائر وغيرها التي يُرغِّب الله بحضورها والتواجد فيها وإحيائها واسباب ذلك عديدة قد لا يمكن الوقوف عليها وإحصائها وأسباب ذلك عديدة قد لا يمكن الوقوف عليها وإحصائها.
لهذه الصورة حالات دلَّت عليها بعض الروايات، نورد منها:
١ - ما في كتاب (فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (٣): عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال يوماً لحذيفة بن اليمان: «يا حذيفة...، حتَّى إذا غاب المتغيّب من ولدي عن‏ عيون‏ الناس‏، و ماج الناس بفقده أو بقتله أو بموته، أطلعت الفتنة، و نزلت البليَّة، والتحمت العصبية، وغلا الناس في دينهم، وأجمعوا على أنَّ الحجَّة ذاهبة، والإمامة باطلة، ويحجُّ حجيج الناس في تلك السنة من شيعة عليّ و نواصبه للتحسّس والتجسّس عن خلف الخلف، فلا يُرى له أثر، ولا يُعرَف له خبر ولا خلف، فعند ذلك سُبَّت شيعة عليّ، سبّها أعداؤها، وظهرت عليها الأشرار والفسّاق باحتجاجها، حتَّى إذا بقيت الأُمَّة حيارى، وتدلَّهت وأكثرت في قولها: إنَّ الحجَّة هالكة والإمامة باطلة، فو ربَّ عليّ إنَّ‏ حجَّتها عليها قائمة ماشية في طرقها، داخلة في دورها وقصورها، جوّالة في شرق هذه الأرض وغربها، تسمع الكلام، وتُسلِّم على الجماعة، ترى ولا تُرى إلى الوقت والوعد، ونداء المنادي من السماء، ألَا ذلك يوم فيه سرور ولد عليّ وشيعته‏).
وقد رواها النعماني في غيبته(٤).
ثمّ قال معلِّقاً على هذا الحديث: (وفي هذا الحديث عجائب وشواهد على حقّية ما تعتقده الإماميَّة وتدين به والحمد لله، فمن ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «حتَّى إذا غاب المتغيِّب من ولدي عن‏ عيون‏ الناس)»، أليس هذا موجباً لهذه الغيبة، وشاهداً على صحَّة قول من يعترف بهذا ويدين بإمامة صاحبها؟).
أقول: إنَّ العبارة الواردة فيها: «غاب المتغيّب من ولدي عن عيون الناس» دالّة دلالة واضحة على خفاء شخص الإمام عن الناس، وهذا يدلُّ على هذه الصورة من نفي المشاهدة.
وأمَّا قوله: «تُسلِّم على الجماعة»، فلعلَّ المراد به الجماعة الصالحة من المؤمنين الذين يدخلون في الصورة الثانية الآتية.
ولكن يقال: لعلَّ كلمة (الناس) دالّة على الطبقة الأكبر من البشـر، والذين يُمثِّلون السواد الأكبر منهم، وإنَّ هؤلاء الناس كما يُشعِر السياق من الطرف المعادي أو لا أقلّ ممَّن هو من الطرف الموالي ولكنَّه ضعيف الإيمان لتأثّره بالفتن والغلاء بالدين وذهاب وبطلان الإمامة، فليست الرواية شاملة لكلِّ البشـر، فإنَّ هناك أُناساً خارجين عن دائرة الرواية الدالّة على الغياب عن العين، فتبقى فرصة المشاهدة لشخص الإمام موجودة لهم غير منفيَّة عنهم مع قيام ما يدلُّ على ذلك.
٢ - ما في (الكافي)(٥): عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ‏ أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَحُفِظَ عَنْهُ وَخَطَبَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ حُجَجٍ فِي أَرْضِكَ، حُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ عَلَى خَلْقِكَ، يَهْدُونَهُمْ إِلَى دِينِكَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ عِلْمَكَ، كَيْلَا يَتَفَرَّقَ أَتْبَاعُ أَوْلِيَائِكَ، ظَاهِرٍ غَيْرِ مُطَاعٍ أَوْ مُكْتَتَمٍ يُتَرَقَّبُ، إِنْ غَابَ‏ عَنِ‏ النَّاسِ‏ شَخْصُهُمْ‏ فِي حَالِ هُدْنَتِهِمْ فَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ قَدِيمُ مَبْثُوثِ عِلْمِهِمْ، وَآدَابُهُمْ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مُثْبَتَةٌ، فَهُمْ بِهَا عَامِلُونَ.
وَيَقُولُ (عليه السلام) فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «فِيمَنْ هَذَا وَلِهَذَا يَأْرِزُ الْعِلْمُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ حَمَلَةٌ يَحْفَظُونَهُ وَيَرْوُونَهُ كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَيَصْدُقُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، اللَّهُمَّ فَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَأْرِزُ كُلُّهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ مَوَادُّهُ، وَإِنَّكَ لَا تُخْلِي أَرْضَكَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَى خَلْقِكَ ظَاهِرٍ لَيْسَ بِالمُطَاعِ أَوْ خَائِفٍ مَغْمُورٍ، كَيْلَا تَبْطُلَ حُجَّتُكَ،‏ وَلَا يَضِلَّ أَوْلِيَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُمْ، بَلْ أَيْنَ هُمْ وَكَمْ هُمْ؟ أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً، الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْراً».
ويُقرِّب ذلك:
أنَّ الرواية دلَّت على خفاء شخص الإمام (عليه السلام) في مرحلة الهدنة مع الأعداء بسبب تسلّطهم، وأنَّه سيكون مغموراً وغير واضح حتَّى يحافظ على مبدأ الإمامة مفهوماً ومصداقاً.
ولكن يلاحظ على هذا التقريب بأنَّه ليس فيه نفي للمشاهدة عن الجميع، فإذا دلَّ الدليل على إمكانها ووقوعها فلا بدَّ من التنازل عن إطلاقها في نفي المشاهدة.
٣ - في (بحار الأنوار)(٦): عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، أَنَّهُ قَالَ:‏ «المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، الْخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْكُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ تَسْمِيَتُهُ».
تقريب ذلك:
إنَّ عبارة (يغيب عنكم شخصه ولا يحلُّ لكم تسميته) إنَّما هي لظرف التقيَّة الذي يمارسه الإمام (عليه السلام) إمَّا مع المعادي أو مع الموالي الذي لا يكتم السـرَّ مثلاً أو الذي هو ضعيف الإيمان أو المعرفة، أمَّا من كان بمستوى عالٍ من السـرّية والإيمان فلا ضرورة تدعو إلى أن يمارس الإمام التقيَّة معه، فيمكن في حقِّه رؤية الإمام (عليه السلام).
٤ - بحار الأنوار(٧): عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ (عليه السلام) يَقُولُ:‏ «الْخَلَفُ مِنْ بَعْدِ الْحَسَنِ ابْنِي، فَكَيْفَ لَكُمْ بِالْخَلَفِ مِنْ بَعْدِ الْخَلَفِ؟»، قُلْتُ: وَلِـمَ جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ؟ فَقَالَ: «لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ شَخْصَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ»، قُلْتُ: فَكَيْفَ نَذْكُرُهُ؟ فَقَالَ: «قُولُوا: الْحُجَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ».
والكلام فيها نفسه في الرواية السابقة.
٥ - بحار الأنوار(٨): عَنْ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْحَسَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، قَالَ‏: «الْقَائِمُ هُوَ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ،‏ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ تَسْمِيَتُهُ، وَهُوَ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ وَكَنِيُّهُ».
أيضاً الكلام فيها نفسه ما مرَّ في الرواية الأسبق.
٦ - بحار الأنوار(٩): عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ:‏ سَأَلْتُ الرِّضَا (عليه السلام) عَنِ الْقَائِمِ، فَقَالَ: «لَا يُرَى جِسْمُهُ، وَلَا يُسَمَّى بِاسْمِهِ».
وهذه الرواية عبَّرت أنَّه (لا يُرى جسمه)، وهو تعبير آخر عن عدم رؤية شخص الإمام، وهي ظاهرة في أنَّه لا يُرى مع التقيَّة، بقرينة عدم صحَّة تسميته باسمه، أمَّا مع عدم التقيَّة فلا موجب لتخفّي التسمية أو الجسم.
٧ - الغيبة للطوسي(١٠): وَأَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ المُكَتِّبُ، قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيُّ (قدس سره) فَحَضَـرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى النَّاسِ تَوْقِيعاً، نُسْخَتُهُ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،‏ يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ فَيَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ التَّامَّةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ الله تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي‏ مَنْ يَدَّعِي‏ المُشَاهَدَةَ، [أَلَا فَمَنِ ادَّعَى المُشَاهَدَةَ] قَبْلَ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ». قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا التَّوْقِيعَ، وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: لِلهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ. وَقَضَى. فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ‏.
قد يقال:
إنَّ الرواية تنفي المشاهدة بمعنى إمكان رؤية شخص الإمام، فإذا تمَّ ذلك فهو الدليل في المقام.
ولكن الواضح من الرواية أنَّ المشاهدة ليست هي النظر إلى شخص الإمام، وإنَّما هي دعوى التواصل مع الإمام وكونه باباً له الملازم لدعوى السفارة عن الإمام (عليه السلام) كما هو سياق الرواية، ويُدعَم ذلك بكلام الأعلام، فلا دلالة للرواية على هذا القول كما ادَّعى بعض.
ويدعم ذلك فهم الرواية من جملة من الأعلام، منهم العلَّامة المجلسي في (بحار الأنوار)(١١)، فقال معلِّقاً على الرواية: (لعلَّه محمول على من يدَّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثال السفراء).
الصورة الثانية: الوضوح شخصاً لا عنواناً:
وهي الحالة التي يتسنّى للفرد أن يشاهد الإمام (عليه السلام) بشخصه، ولكن لا يعرف أنَّ هذا هو الإمام (عليه السلام) حال النظر واللقاء ولا بعده، فلو ظهر الإمام (عليه السلام) في زمن الظهور لقال الفرد: إنّي رأيته مرَّة أو مرّات في موسم الحجِّ أو في الزيارة الشعبانية أو على جبل عرفة أو عند ضريح أمير المؤمنين (عليه السلام) أو في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) أو في قضاء حاجة مؤمن أو غيرها.
وهذه الصورة أعلى كمالاً من الصورة الأُولى، لأنَّ الفرد فيها قد تشـرَّف بالنظر إلى الإمام (عليه السلام) أو السلام عليه أو التكلّم معه أو مصافحته، وهذا بحدِّ ذاته شرف عظيم.
وهذا ما دلَّت عليه جملة من الروايات، منها:
١ - ما في الغيبة للنعماني(١٢): عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، أَنَّهُ قَالَ: «يَفْتَقِدُ النَّاسُ إِمَاماً يَشْهَدُ المَوَاسِمَ‏ يَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ».
إنَّها دالّة على أنَّ هناك طبقة من الناس ترى الإمام (عليه السلام) في المواسم كالحجِّ والزيارات ويراهم، أي يرون شخص الإمام (عليه السلام) وإن لم يعرفوا عنوانه.
وهؤلاء الناس ليسوا هم من نفينا رؤيتهم للإمام شخصاً كما في الصورة الأُولى، بل هؤلاء أُناس يعترفون بإمامته (عليه السلام) كما هو ظاهر الرواية: «يفتقد الناس إماماً»، فلا تكون هذه الرواية معارضة لروايات الصورة الأُولى.
فإنَّ اعترافهم بإمامة الإمام في زمن الغيبة يرفع حضـر التقيَّة عنهم جزئياً بحيث يرون الإمام شخصاً وإن لم يعرفوه عنواناً أو يتشرَّفوا به لقاءً وتعايشاً.
وهذا يتمُّ بعد حمل الرواية على إمكان الرؤية الشخصية دون العنوانية، وإلَّا فإنَّ هذه الرواية والروايات الثلاث الآتية تكون دليلاً على الصورة الأُولى دون الثانية.
٢ - وفي غيبة النعماني: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «يَفْقِدُ النَّاسُ إِمَامَهُمْ، يَشْهَدُ المَوَاسِمَ، فَيَرَاهُمُ وَلَا يَرَوْنَهُ».
٣ - عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ:‏ «إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَتَيْنِ يَرْجِعُ فِي إِحْدَاهُمَا، وَفِي الْأُخْرَى لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ، يَشْهَدُ المَوَاسِمَ، يَرَى النَّاسَ وَلَا يَرَوْنَه».
٤ - عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، أَنَّهُ قَالَ: «لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ يَشْهَدُ فِي إِحْدَاهُمَا المَوَاسِمَ، يَرَى النَّاسَ وَلَا يَرَوْنَهُ فِيهِ‏».
والكلام في الروايات الثلاث الأخيرة نفس ما تقدَّم من الرواية الأُولى السابقة عليهنَّ.
٥ - الغيبة للنعماني(١٣): عن المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): «... إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَناً مُظْلِمَةً عَمْيَاءَ مُنْكَسِفَةً لَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا النُّوَمَةُ، قِيلَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَمَا النُّوَمَةُ؟ قَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ‏ النَّاسَ‏ وَلَا يَعْرِفُونَهُ،‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لله (عزَّ وجلَّ) وَلَكِنَّ الله سَيُعْمِي خَلْقَهُ عَنْهَا بِظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ‏ وَإِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ خَلَتِ الْأَرْضُ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ حُجَّةٍ لله لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ يَعْرِفُ‏ النَّاسَ‏ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، كَمَا كَانَ يُوسُفُ يَعْرِفُ النَّاسَ‏ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ‏. ثُمَّ تَلَا: ﴿يا حَسْـرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ [يس: ٣٠]».
تقريب الاستدلال:
إنَّ هذه الرواية واضحة الدلالة على خفاء العنوان دون الشخص، وذلك لقرينتين:
الأُولى: أنَّ الناس لا يعرفونه، والمعرفة غير الرؤية الشخصية، فإنَّها تالية على وجود من أراه، وإلَّا فإنَّه لا يقال: تعرف فلاناً إلَّا بعد أن ترى شخصه، فبدون أن ترى شخصه لا يقال: هل تعرفه؟
الثانية: التشبيه بقضيَّة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، فإنَّ شخصه واضح لدى الناس، ولكن عنوانه خفي على أكثر الناس بما فيهم إخوته، نعم بعض الناس كان يوسف (عليه السلام) واضح الشخص والعنوان عندهم، وهذا ما سُنبيِّنه في الصورة الرابعة. والذي يهمنا في هذه الصورة أنَّ الإمام (عليه السلام) ذكر سُنَّة توجد في الإمام الحجَّة (عليه السلام) من سنن الأنبياء، وهو وضوح الشخص وخفاء العنوان.
٦ - الكافي(١٤): عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ فِي صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ شَبَهاً مِنْ يُوسُفَ»، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّكَ تَذْكُرُهُ حَيَاتَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: «وَمَا يُنْكَرُ مِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْبَاهُ الْخَنَازِيرِ؟ إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا أَسْبَاطاً أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ، تَاجَرُوا يُوسُفَ وَبَايَعُوهُ، وَخَاطَبُوهُ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ، حَتَّى قَالَ: ﴿أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي﴾ [يوسف: ٩٠]،‏ فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ المَلْعُونَةُ أَنْ يَفْعَلَ الله (عزَّ وجلَّ) بِحُجَّتِهِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ؟ إِنَّ يُوسُفَ كَانَ إِلَيْهِ مُلْكُ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَـرَ يَوْماً، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ وَوُلْدُهُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلَى مِصْـرَ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَفْعَلَ الله (جَلَّ وَعَزَّ) بِحُجَّتِهِ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ؟ أَنْ يَمْشِـيَ‏ فِي‏ أَسْوَاقِهِمْ،‏ وَيَطَأَ بُسُطَهُمْ، حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ فِي ذَلِكَ لَهُ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ، ﴿قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ﴾».
تقريب الاستدلال:
وهذه الرواية واضحة الدلالة بل أوضح من الرواية السابقة دلالةً، إذ ورد فيها: «يمشـي في أسواقهم، ويطأ بسطهم»، فيكون شخصه واضحاً لدى بعض الناس إلَّا في ظرف التقيَّة بأن لا يظهر للمعاندين أو المنكرين أو المشكّكين به، فلا تتعارض مع الصورة الأُولى.
إلى هنا أمكن القول بخفاء الشخص على طبقة معيَّنة من الناس، وهم الأكثر عداءً وعناداً أو كفراً بإمامة الإمام، أو الذين لا يُؤمَن من شـرِّهم أو إباحة السـرِّ. وكذا يقال بوضوح الشخص على طبقة كبيرة من الناس مع عدم ظرف التقيَّة، بأن تكون الطبقة تقول بإمامة الإمام، وأنَّه حجَّة الله، إلَّا أنَّها غير مأمونة أو أنَّها لا تتَّبع الإمام حتَّى مع معرفتهم به، كما كان يفعل إخوة يوسف (عليه السلام) به.
الصورة الثالثة: الوضوح شخصاً وعنواناً بلا تعايش وتواصل دائم:
وهي أدنى كمالاً من الآتية وأرفع كمالاً من الصورتين الآنفتين، وهي تحصل في حالات قليلة، حيث يلتقي الشخص مع الإمام (عليه السلام) بشخصه مع معرفة عنوانه أي إنَّه الإمام المهدي (عليه السلام) إمَّا في نفس حال اللقاء أو بعد حين، وذلك بسبب أمارات وعلائم يجزم أو يطمئنُّ معها بأنَّه الإمام الحجَّة (عليه السلام)، ولكن هذا لا يُصدَّق لمجرَّد الدعوى، ولا من أيِّ أحد، بل ضمن شروط ومميِّزات، كما حصل ذلك لبعض الأعلام من العلماء أو بعض الكاملين الذين يصعب تكذيبهم، وقد جمع ذلك بعض الأعلام في مؤلَّفات، منهم صاحب البحار في المجلَّد (٥٢) و(٥٣)، كما سنذكر ذلك لاحقاً إن شاء الله.
ويُستَدلُّ على هذه الصورة بروايات، منها:
١ - الكافي(١٥): إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام‏): «لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا قَصِيرَةٌ وَالْأُخْرَى طَوِيلَةٌ، الْغَيْبَةُ الْأُولَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ شِيعَتِهِ، وَالْأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ»‏.
قال المولى صالح المازندراني في شرح الكافي(١٦): (قوله: «إلَّا خاصَّة مواليه»، وهم حواريه، لأنَّ لكلِّ واحد من الأئمَّة (عليهم السلام) حواريين كما كان لعيسى (عليه السلام).
وقال الملَّا خليل القزويني في كتابه الشافي في شرح الكافي(١٧): (ثمّ لا ينافي ذلك غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) كما يظهر ممَّا يجي‏ء في كتاب الحجَّة في السادس عشـر والتاسع عشـر من باب في الغيبة من أنَّه (عليه السلام) ظاهر على ثلاثين من خاصَّة مواليه‏ في الغيبة الكبرى، فهم عدول البتَّة، وربَّما كانت العدالة في غيرهم أيضاً بتوفيق الله تعالى).
تقريب الاستدلال بالرواية:
إنَّ الرواية واضحة الدلالة على هذه الصورة، وهي اللقاء مع شخص الإمام مع وضوح عنوانه وبمكان معيَّن، ولعلَّ قرينة معرفتهم بالمكان تُعطي دلالة أوضح باللقاء المستمرّ مع الإمام الحجَّة (عليه السلام)، فتكون دليلاً على الصورة الرابعة أيضاً، فإنَّهم وإن لم يعايشوه باستمرار ولكنَّهم يعرفون مكانه ويزورونه بين الحين والآخر، نعم في الصورة الرابعة يتميَّز الملاقي للإمام بأنَّه يعيش معه أيضاً في بيت واحد أو مجاور له كما سيتَّضح جليّاً.
وهذه الرواية لا تنافي الصورة الأُولى والثانية، لأنَّه لا تقيَّة في المقام ولا محذور، لأنَّ هؤلاء الملاقين من خاصَّة أولياء الإمام، وهم من خاصَّة شيعته.
٢ - الغيبة للنعماني(١٨): إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ‏: «لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا طَوِيلَةٌ وَالْأُخْرَى قَصِيرَةٌ، فَالْأُولَى يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا خَاصَّةٌ مِنْ شِيعَتِهِ، وَالْأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ‏ فِي دِينِهِ»‏.
وتقريب الاستدلال بها كما في الرواية التي قبلها، غاية الأمر فيها إضافة «مواليه في دينه».
٣ - الغيبة للنعماني(١٩): المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ لِصَاحِبِ‏ هَذَا الْأَمْرِ غَيْبَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا تَطُولُ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: مَاتَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قُتِلَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: ذَهَبَ، فَلَا يَبْقَى عَلَى أَمْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَوْضِعِهِ أَحَدٌ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا المَوْلَى الَّذِي يَلي أَمْرَهُ».
وهذه الرواية أيضاً كسابقتها إلَّا أنَّها تحصر اللقاء ومعرفة المكان بشخص يلي أمر الإمام.
الصورة الرابعة: الوضوح شخصاً وعنواناً مع التعايش:
وهي الصورة الأكمل للتشـرّف بالإمام شخصاً وعنواناً مع التواصل والتعايش معه والعمل المباشر تحت رعايته، وهذه الصورة يكون الشخص فيها مرافقاً للإمام (عليه السلام) ومتواصلاً معه.
دلائل هذه الصورة:
أوَّلاً: بعض روايات الصورة الثالثة حيث يُحمَل بعضها على اللقاء والتعايش وتلقّي الأوامر كما في روايات خاصَّة مواليه، فإنَّهم يلتقون معه دورياً، ولعلَّهم يجاورونه أو يرافقونه أحياناً كما بيَّنّا آنفاً.
ثانياً: الروايات المتقدِّمة التي تُشبِّه الإمام الحجَّة (عليه السلام) بالنبيِّ يوسف (عليه السلام)، فإنَّ غيبته كانت عن أكثر الناس.
ثالثاً: الرواية الخاصَّة، وهي الأهمّ، ما رواه الكليني في الكافي(٢٠): عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، قَالَ: «لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي غَيْبَتِهِ مِنْ عُزْلَةٍ، وَنِعْمَ المَنْزِلُ طَيْبَةُ، وَمَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ».
فإنَّ هذه الرواية تُحدِّد سكناً للإمام الحجَّة ومجموعة من خواصّ الخواصّ الذين يلتقون به بشكل دوري ومنظَّم، بل يعيشون معه، وتُرفَع الوحدة والوحشة بهم، ومن المعلوم أنَّ الوحشة والوحدة لا تُرفَع إلَّا باللقاء المستمرّ والتعايش الدائم مع هؤلاء.
والرواية تُحدِّد هؤلاء بالثلاثين، وتُعطيهم ميزة على غيرهم من الطبقات.
وهذه الرواية لا تنافي باقي الصور، لأنَّها تختصُّ بطبقة معيَّنة تعايش الإمام (عليه السلام).
النتيجة
إنَّ الروايات التي عرضناها تدلُّ على وقوع كلّ هذه الصور، بلا ملازمة ذلك للقول بالسفارة أو تشخيص بعض المصاديق التي تشـرَّفت باللقاء، وإنَّما أردنا بيان وقوع اللقاء فضلاً عن إمكانه، ولا نقتصر على القول بالإمكان فحسب كما قال البعض.
كما أنَّه لا تنافي ولا تعارض بين الصور الأربع، لأنَّ كلَّ صورة تُعطي وجهاً محدَّداً للقاء بالإمام (عليه السلام) أو عدم اللقاء به، وإذا كان اللقاء حاصلاً فبأيِّ درجة حصل؟ هل بالشخص فقط أو بالعنوان أيضاً أو بالتعايش والاستمرار؟ وإنَّ هذا يختلف من شخص إلى آخر بحسب ما يراه الإمام (عليه السلام) من مصلحة وبحسب حالة الفرد الإيمانية غالباً.
وهذا الطرح بإمكان بل وقوع اللقاء يُعطي الدور الواضح الذي يمارسه الإمام في عصـر الغيبة، وأنَّه دور لا يقلُّ عن الدور الذي يمارسه الإمام الحاضر من خلال هذه الشبكة الرصينة التي يقود الإمام العالم من خلالها بلا دعوى للبابية والسفارة، وبلا إلغاء لدور القيادة النائبة في عصـر الغيبة وهي المرجعية الدينية، بخلاف ما إذا قلنا بعدم وقوع اللقاء أو إمكانه فحسب، فإنَّ دور الإمام سيقلُّ جزماً. وهذا واضح بالوجدان، فإنَّ وجود القائد بين الرعيَّة وتواصله معهم يُعطي تأثيراً أكبر من الانقطاع عنهم.
فبناءً على القول بالوقوع يكون دوره كبيراً كما عبَّرت الروايات بأنَّه كالشمس التي حجبها السحاب، فالاستفادة منها قائمة، والنفع حاصل، غاية الأمر هي مغيَّبة عن أكثر الأنظار لمصلحة بيَّنتها بعض الروايات المعلِّلة للغيبة.
دعم النتيجة:
ويمكن أن ندعم النتيجة التي توصَّلنا إليها من وقوع اللقاء بالإمام الحجَّة (عليه السلام) بمجموعة من الأدلَّة والشواهد:
أوَّلاً: الروايات التي تُشبِّه الإمام (عليه السلام) بالشمس، ومنها ما رواه الصدوق في كمال الدين(٢١) بسنده عن جَابِرٍ الْأَنْصَارِيِ‏ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): هَلْ يَنْتَفِعُ الشِّيعَةُ بِالْقَائِمِ (عليه السلام) فِي غَيْبَتِهِ؟ فَقَالَ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إِي وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ، إِنَّهُمْ لَيَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِ وَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ، كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ وَإِنْ جَلَّلَهَا السَّحَابُ».
وقد علَّق المحقِّق صاحب بحار الأنوار(٢٢) على الرواية بتعليق لطيف ننقل نصّه لإتمام الفائدة، قال قدس سره:
بيان التشبيه بالشمس المجلَّلة بالسحاب يومي إلى أُمور:
الأوَّل: أنَّ نور الوجود والعلم والهداية يصل إلى الخلق بتوسّطه (عليه السلام)، إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنَّهم العلل الغائية لإيجاد الخلق، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم، وببركتهم والاستشفاع بهم والتوسّل إليهم يظهر العلوم والمعارف على الخلق، ويكشف البلايا عنهم، فلولاهم لاستحقَّ الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب، كما قال تعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣]، ولقد جرَّبنا مراراً لا نحصيها أنَّ عند انغلاق الأُمور وإعضال المسائل والبعد عن جناب الحقِّ تعالى وانسداد أبواب الفيض لـمَّا استشفعنا بهم وتوسَّلنا بأنوارهم فبقدر ما يحصل الارتباط المعنوي بهم في ذلك الوقت تنكشف تلك الأُمور الصعبة، وهذا معاين لمن أكحل الله عين قلبه بنور الإيمان.
الثاني: كما أنَّ الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون في كلِّ آنٍ انكشاف السحاب عنها وظهورها ليكون انتفاعهم بها أكثر، فكذلك في أيّام غيبته (عليه السلام) ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره في كلِّ وقت وزمان ولا ييأسون منه.
الثالث: أنَّ منكر وجوده (عليه السلام) مع وفور ظهور آثاره كمنكر وجود الشمس‏ إذا غيَّبها السحاب‏ عن الأبصار.
الرابع: أنَّ الشمس قد تكون غيبتها في السحاب أصلح للعباد من ظهورها لهم بغير حجاب، فكذلك غيبته (عليه السلام) أصلح لهم في تلك الأزمان، فلذا غاب عنهم.
الخامس: أنَّ الناظر إلى الشمس لا يمكنه النظر إليها بارزة عن السحاب، وربَّما عمي بالنظر إليها لضعف الباصرة عن الإحاطة بها، فكذلك شمس ذاته المقدَّسة ربَّما يكون ظهوره أضرّ لبصائرهم ويكون سبباً لعماهم عن الحقِّ، وتحتمل بصائرهم الإيمان به في غيبته كما ينظر الإنسان إلى الشمس من تحت السحاب ولا يتضرَّر بذلك.
السادس: أنَّ الشمس قد يخرج من السحاب وينظر إليه واحد دون واحد، فكذلك يمكن أن يظهر (عليه السلام) في أيّام غيبته لبعض الخلق دون بعض.
السابع: إنَّهم (عليهم السلام) كالشمس في عموم النفع، وإنَّما لا ينتفع بهم من كان أعمى، كما فُسِّـر به في الأخبار قوله تعالى: ﴿مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٢].
الثامن: أنَّ الشمس كما أنَّ شعاعها تدخل البيوت بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك، وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع، فكذلك الخلق إنَّما ينتفعون بأنوار هدايتهم بقدر ما يرفعون الموانع عن حواسِّهم ومشاعرهم التي هي روازن قلوبهم من الشهوات النفسانية والعلائق الجسمانية، وبقدر ما يدفعون من قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانية إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب)، انتهى كلامه رفع الله مقامه.
ثانياً: الدعاوى التي صدرت من كبار العلماء والصالحين بالمشاهدة ورؤية الإمام الحجَّة (عليه السلام) مع كثرتها وجلالة بعض مدَّعيها، بل إنَّ بعضهم من رؤساء المذهب وأساطينه ومراجعه، وقد ادُّعي ذلك في كلِّ العصور ابتداءً من بداية الغيبة الكبرى إلى عصور متأخِّرة بل ومعاصرة.
وقد عقد العلَّامة المجلسي (قدس سره) في بحار الأنوار بحثاً في موضعين:
الموضع الأوَّل: ج ٥٢ ص ١ باب (١٨) ذكر من رآه صلوات الله عليه،‏ حيث ذكر (٥٥) رواية.
الموضع الثاني في ج ٥٣ ص ١٥٠: باب (٣١) ما خرج من توقيعاته (عليه السلام)، حيث ذكر مجموعة من روايات التوقيعات الصادرة منه عن طريق بعض العلماء في زمن الغيبة الكبرى.
كما ألَّف الميرزا النوري كتاب (جنَّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجَّة (عليه السلام) أو معجزته في الغيبة الكبرى).
وهذا يورث الاطمئنان بأصل وقوع هكذا لقاءات مع صاحب الأمر بلا دعوى السفارة أو البابية، وبغضِّ النظر عن الأشخاص المدَّعين لذلك.
ثالثاً: مقتضـى الأدلَّة العامَّة الدالّة على أهمّية منصب الإمامة في قيادة الأُمَّة وتصحيح مسارها النظري والعملي وممارسة الرعاية العامَّة لها ومنعها عن الانحراف وتسديد علمائها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد إلى سواء السبيل، فلا يُتصوَّر ترك الإمام (عليه السلام) لهذه الوظائف الإلهية في غيبته، فإن لم يظهر علناً فإنَّ هناك من يقوم مقامه في هذه الأُمور، بالإضافة إلى ما نُصَّ من قيادة ظاهرة المتمثِّلة برواة أحاديثنا المعبَّر عنها بالمرجعية الدينية اشتقاقاً من قول الإمام (عليه السلام): «فارجعوا إلى رواة حديثنا».
فإنَّ هناك قيادة نائبة ظاهره تُقلَّد وتُتَّبع في الولاية العامَّة والتقليد والقضاء طبقاً لدلائل الروايات على صلاحية الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى وارتباط الجماهير الصالحة بهم لحلِّ الحوادث الواقعة سواء على مستوى التشريعات أو الموضوعات.
إن قيل: إنَّ وجود المرجعية كافٍ عن اللقاء به (عليه السلام).
قلنا: إنَّه مطلوب لذاته لأسباب تحدَّثنا عن بعضها، فلا يكفي وجودها عن طلبه.
رابعاً: الروايات الدالّة على عظيم الرعاية والمتابعة التي يوليها الإمام (عليه السلام) لشيعته وأتباعه، وأنَّها من الأهمّية بمكان بحيث لولاها لنزل بأتباع أهل البيت. (عليهم السلام) الشـيء العظيم من البلاء واللَّأواء، فإنَّ اللقاء بالإمام (عليه السلام) باعتباره المحيط الأوَّل بما يحصل من إحراج في العالم على كلِّ المستويات يُوفِّر لشيعته من خلال ما يشير على من التقى به ما يمنع من تلك المصائب والمحن.
ومن هذه الروايات الرواية المارَّة الذكر: «إِنَّا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَمَعْرِفَتُنَا بِالزَّلَلِ الَّذِي أَصَابَكُمْ مُذْ جَنَحَ كَثِيرٌ مِنْكُمْ إِلَى مَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَنْهُ شَاسِعاً، وَنَبَذُوا الْعَهْدَ المَأْخُوذَ مِنْهُمْ‏ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ.‏ إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اللَّأْوَاءُ، وَاصْطَلَمَكُمُ‏ الْأَعْدَاء...»(٢٣).
فهذه شواهد أربعة تدعم ما تبنَّيناه من توفيق بين الروايات في حقيقة اللقاء بالإمام الحجَّة (عليه السلام).
تتمَّة:
بطلان دعوى السفارة والنيابة الخاصَّة من ضروريات المذهب:
قد يقال: إنَّ فتح إمكان أو وقوع اللقاء بالإمام الحجَّة (عليه السلام) في عصـر الغيبة الكبرى يفتح الباب أمام فئة من الناس قد تدَّعي اللقاء به من ثَمَّ السفارة عنه والنيابة له ممَّا يزلزل دين الناس.
ولكنَّه يقال: إنَّه لا ملازمة بين القول بإمكان أو وقوع اللقاء وبين فتح باب دعاوى السفارة والبابية عن الإمام الحجَّة (عليه السلام) والنيابة الخاصَّة عنه، فإنَّ إجماع الإماميَّة قائم على نفي السفارة والنيابة الخاصَّة عن الإمام الحجَّة (عليه السلام) في عصـر الغيبة، أمَّا اللقاء به مع عدم إعلان ذلك أو إعلانه بلا ملازمة لدعوى السفارة أو نقل التوجيهات عنه، فهذا ممَّا لا فتح لبابه عند كلِّ علماء الإماميَّة.
قال الشيخ أبو القاسم بن محمّد بن قولويه صاحب كتاب (كامل الزيارات) أُستاذ الشيخ المفيد في الفقه، والذي قال النجاشي فيه: (كلَّما يُوصَف به الناس من جميل وفقه فهو فوقه):
(إنَّ عندنا أي الطائفة الإماميَّة الشيعية أنَّ كلَّ من ادَّعى الأمر أي السفارة والباب بعد السمري آخر النوّاب الأربعة في الغيبة الصغرى فهو كافر منمِّس محتال ضالٌّ مضلٌّ)(٢٤).
وقد نقل أُستاذنا المحقِّق الشيخ السند في الفصل الثاني من كتابه دعوى السفارة(٢٥) مجموعة من الأقوال في المقام، فراجع.
فالنتيجة: لا ملازمة بين ما نبني عليه من وقوع اللقاء مع الحجَّة (عليه السلام) في عصـر الغيبة الكبرى وبين دعوى السفارة والنيابة الخاصَّة، فإنَّ الأوَّل حقٌّ والثاني باطل، خصوصاً وأنَّ دعوى السفارة أو النيابة الخاصَّة في عصـر الغيبة ملازمة لتكذيب المدَّعي لورود النصوص الدينية الدالّة على المنع من جهة وقيام الإجماع والضرورة المذهبية على التكذيب لمدَّعيها من جهة أُخرى.

الهوامش:
(١) الاحتجاج للطبرسي ٢: ٤٩٧.
(٢) كمال الدين وتمام النعمة ٢: ٤٨١.
(٣) فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): ٦٧ و٦٨.
(٤) كتاب الغيبة: ١٤٥.
(٥) الكافي ١: ٣٣٩.
(٦) بحار الأنوار ٥١: ٣٢.
(٧) بحار الأنوار ٥١: ٣١.
(٨) بحار الأنوار ٥١: ٣٢.
(٩) بحار الأنوار ٥١: ٣٣.
(١٠) الغيبة للطوسي: ٣٩٥.
(١١) بحار الأنوار ٥٣: ٣١٨.
(١٢) الغيبة للنعماني: ١٧٥.
(١٣) الغيبة للنعماني: ١٤١.
(١٤) الكافي ١: ٣٣٦.
(١٥) الكافي ١: ٣٤٠.
(١٦) شرح أُصول الكافي ٦: ٢٤٥.
(١٧) الشافي في شرح الكافي ١: ٢٩٦.
(١٨) الغيبة للنعماني: ١٧٠.
(١٩) الغيبة للنعماني: ١٧١.
(٢٠) الكافي ١: ٣٤٠.
(٢١) بحار الأنوار ٥٢: ٩٣.
(٢٢) المصدر السابق.
(٢٣) بحار الأنوار ٥٣: ١٧٥.
(٢٤) بحار الأنوار ٥١: ٣٧٨.
(٢٥) دعوى السفارة/ ج ١.

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016