لون بشَرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الشيخ محمد جمعة بادي
اللهُمَّ صَلِّ عَلى وَلِيِّكَ وَابنِ أوليائِكَ، الَّذِينَ فَرَضتَ طاعَتَهُم، وَأوجَبتَ حَقَّهُم وَأذهَبتَ عَنهُم الرجسَ وَطَهَّرتَهُم تَطهِيراً، اللهُمَّ انصُرهُ وَانتَصِر بِهِ لِدِينِكَ وَانصُر بِهِ أولياءَكَ وَأولياءَهُ وَشِيعَتَهُ وَأنصارَهُ، وَاجعَلنا مِنهُم.
أفاض الرواةُ في وصف إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) والاهتمام بصورته ومزاياه، لما يعكس ذلك من دلالات كبيرة غير خافية تتّصل بموضوع الإمامة الإلهية وصلته النسبية بتلك الدوحة الكريمة، ولما ينعكس على القادم من الأيام وتشخيص شخصه عند ظهوره الشريف وقيام الدولة الإلهية الكبرى، أو تميزه عند مشاهدته والتشرّف بلقائه، وهذه من أهم ثمرات هذا البحث، مضافاً لاتّصال موادّه بجملةٍ من المعارف المهمّة الأخرى.
إنّ تلك الصفات الظاهرية لإمام زماننا (عجَّل الله فرجه) بمجموعها تحكي كريم خصاله وكمال خُلقه وإشراق طلعته وجماله وبهائه الشريف، وقد استأثرت تلك الأوصاف باهتمام الرواة والعلماء من جميع المشارب الإسلامية على مختلف العصور، وتكرّرت بعض الأوصاف له (عجَّل الله فرجه) وتواترت في تراثنا الإسلامي بشكل عام، مثل ما أورده المتّقي الهندي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المهديّ رجلٌ من ولدي، وجهه كالكوكب الدرّي»(١).
وقريبٌ منه ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والكوكب الدرّي القائم المنتظر، الذي يملأ الأرض عدلاً»(٢).
إلّا أنّ الرواية الأولى ناظرةٌ إلى خصوص وجهه الشريف (عجَّل الله فرجه)، وهي توحي بالنور والبهاء والاستدارة، وأمّا الرواية الثانية فهي ناظرةٌ إلى نفس إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) بكلّ صفاته الظاهرية المنعكسة عن جوهره القدسي العظيم، وهو (عجَّل الله فرجه) مشرقٌ على الكون كلّه بضيائه ونوره وفيضه.
ورُوي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المهدي من ولدي، ابن أربعين سنة، كأنّ وجهه كوكبٌ درّي، في خده الأيمن خال أسود، عليه عباءتان قطويتان، كأنّه من رجال بني إسرائيل، يستخرج الكنوز ويفتح مدائن الشرك»(٣).
والمقصود بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ابن أربعين سنة»، أي عند ظهوره كما سيأتي بيان ذلك في رواية في أواخر البحث.
ورُوي في وصف شكله (عجَّل الله فرجه) عموماً عن حذيفة بن اليمان عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المهديّ رجلٌ من وُلدي، وجهه كالقمر الدرّي، اللون لون عربي، والجسم جسم إسرائيلي»(٤).
ووصفوا لونه وجسمه (عجَّل الله فرجه) فقالوا: إنّ لونه لون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أبيض مشرب بحمرة، وجسمه كأجسام أبناء يعقوب (عليه السلام)، وقد عُرف بنو إبراهيم (عليه السلام) بكمال الأجسام وجمال الوجوه، وهذا يعني أن صفات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي صفات إبراهيم (عليه السلام) وهي صفاتٌ ظاهرة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
ورُوي عن الإمام محمد الباقر عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو على المنبر: يخرج رجلٌ من ولدي في آخر الزمان، أبيض اللون، مشرب بحُمرة، مبدح البطن، عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكبين، بظهره شامتان، شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٥).
ورُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «ذاك المشرب حمرة، الغائر العينين، المشرف الحاجبين، العريض ما بين المنكبين، برأسه حزاز، وبوجهه أثر، رحم الله موسى»(٦).
والكلام في لون بشرته (عجَّل الله فرجه):
هذه ملامحه الكريمة وصفاته الشريفة بشكلٍ عام، وقد وردت رواياتنا مستفيضة بصفاته من قِبَل آبائه الطاهرين (عليهم السلام)، وهي تتّحد وتتفاوت في كتبنا بين وصفه قبل ولادته المباركة، وبين أخبار من تشرّف بمشاهدته في غيبته الصغرى، وبين أخبار من فاز برؤيته في غيبته الكبرى، وبين الروايات التي تصفه عند ظهوره الشريف، ومجموعها يدلّ على جوهرٍ واحد.
وإذا ركّزنا بحثنا على وصف لون بشرته بشكلٍ خاص، فإنّ الروايات تصفه (عجَّل الله فرجه) بخمسة أوصاف:
١. البياض.
٢. البياض المشرب بالحمرة.
٣. السّمرة.
٤. الأدمة.
٥. اللون العربي.
والجامع بين تلك الأوصاف هو البياض والسُّمرة، وسنتعرض - إن شاء الله تعالى - إلى ما يدلّ على كلّ منهما، ثمّ نبيّن وجوه الجمع بين تلك الأوصاف الشريفة.
وصفه (عجَّل الله فرجه) بالبياض:
البياض معروف، ولا نحتاجُ في تقريبه إلى كتب اللغة، وقد ورَدت روايات تصفُ إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) بالبياض، وفي أخرى بالبياض المُشربِ بالحُمْرَة.
١. روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بإسناده إلى يعقوب بن منقوش، قال: دخلتُ على أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) وهو جالس على دُكّان(٧) في الدار، وعن يمينه بيتٌ عليه سترٌ مُسبل، فقلتُ له: يا سيّدي، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: «ارفع السّتر»، فرفعتُهُ، فخرج إلينا غلام خماسيٌّ له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، دُرّيُّ المقلتين، شثن الكفّين، معطوف الركبتين، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذُؤابة، فجلس على فخذ أبي محمد (عليه السلام)، ثم قال لي: «هذا صاحبكم»(٨).
٢. روى الشيخ الكليني (رحمه الله) بإسناده إلى ضوء بن علي العجلي، عن رجل من أهل فارس سمّاه، قال: أتيتُ سامرّا ولزمتُ باب أبي محمد (عليه السلام) فدعاني، فدخلتُ عليه وسلّمتُ، فقال: «ما الذي أقدمك»؟ قال: قلت: رغبة في خدمتك، قال: فقال لي: «فالزم الباب»، قال: فكنت في الدار مع الخدم، ثم صرتُ أشتري لهم الحوائج من السوق، وكنتُ أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في الدار رجال.
قال: فدخلتُ عليه يوماً وهو في دار الرجال، فسمعتُ حركةً في البيت، فناداني: «مكانك لا تبرح»، فلم أجسر أن أدخل ولا أخرج، فخرجَت عليَّ جارية معها شيء مغطّى، ثم ناداني: «أدخل»، فدخلتُ ونادى الجارية، فرجعَت إليه، فقال لها: «اكشفي عمّا معك»، فكشفت عن غلام أبيض، حسَن الوجه، وكشف عن بطنه فإذا شعرٌ نابت من لُبّته إلى سرته، أخضر ليس بأسود، فقال: «هذا صاحبكم»، ثم أمرَها فحملته، فما رأيته بعد ذلك حتى مضى أبو محمد (عليه السلام)(٩).
٣. روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن أبي الجارود زياد بن المنذر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عن أبيه عن جدّه (عليهم السلام)، قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو على المنبر: يخرج رجلٌ من ولدي في آخر الزمان أبيض اللون، مُشربٌ بالحُمرة، مبدح البَطن، عريض الفَخِذَين، عظيم مشاش المنكبين، بظهره شامتان، شامة على لون جلده وشامة على شبه شامة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، له اسمان: اسمٌ يخفى، واسمٌ يُعلن، فأمّا الذي يخفى فأحمد، وأمّا الذي يُعلن فمُحمّد، إذا هزّ رايته أضاء لها ما بين المشرق والمغرب، ووضَع يده على رؤوس العباد فلا يبقى مؤمنٌ إلّا صار قلبه أشدّ من زبر الحديد، وأعطاه الله تعالى قوّة أربعين رجلاً، ولا يبقى ميّت إلّا دخلت عليه تلك الفرحة وهو في قبره، وهم يتزاورون في قبورهم، ويتباشرون بقيام القائم (صلوات الله عليه)»(١٠).
٤. روي عن حمران بن أعين، قال: قلت لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): جعلت فداك، إني قد دخلت المدينة وفي حقوي هميان فيه ألف دينار، وقد أعطيت الله عهداً أنني أنفقها ببابك ديناراً ديناراً، أو تجيبني فيما أسألك عنه، فقال: «يا حمران، سَلْ تُجَبْ، ولا تُنفقَنّ دنانيرك»، فقلتُ: سألتك بقرابتك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أنت صاحب هذا الأمر والقائم به؟ قال: «لا»، قلتُ: فمن هو بأبي أنت وأمي؟ فقال: «ذاك المُشرب حُمرة، الغائر العينين، المشرف الحاجبين، العريض ما بين المنكبين، برأسه حزاز، وبوجهه أثر، رحم الله موسى»(١١).
وفي رواية حمران بن أعين آنفاً، فإنه وإن لم يرد ذكر الأبيض المشرب بالحمرة، إلّا أنه يُحمَل على ذلك بقرينة ما تقدَّم من الروايات.
وورد هذا الوصف في روايات العامّة، ما رواه ابن حجر، قال: وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: المهديّ اسمه محمّد بن عبد الله، وهو رجلٌ ربعة مُشرَّبٌ بحُمرة، يفرّج الله به عن هذه الأمّة كلّ كرب، ويصرف بعدله كلّ جور...(١٢).
وهذه الرواية يرد عليها عين ما ورد سابقاً والجواب هو الجواب.
وصفه (عجَّل الله فرجه) بالسّمرة:
جاء في لسان العرب لابن منظور ٤/٣٧٦ (مختصراً):
السُّمرة: منزلة بين البياض والسواد، يكون ذلك في ألوان الناس والإبل وغير ذلك مما يقبلها، إلّا أنّ الأدمة في الإبل أكثر...
السّمرة لون الأسمر، وهو لون يضرب إلى سواد خفي، وفي صفته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان أسمر اللون، وفي رواية: «أبيض مُشرباً بحُمرة». قال ابن الأثير: ووجه الجمع بينهما أنّ ما يبرز إلى الشمس كان أسمر، وما تواريه الثّياب وتستره فهو أبيض.
والغرض من ذكر ما جاء في لسان العرب لابن منظور بيان معنى السمرة وإن كان كلام ابن الأثير في وجه الجمع بين كون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبيضاً مشرباً بحمرة وبين كونه أسمر، لا بأس به على ما يأتي من وجوه الجمع في لون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
ومما ورد من الروايات في وصف الإمام (عجَّل الله فرجه) بالسمرة ما روي عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وفيها، قال الراوي: قلتُ: من المدعو له؟ قال (عليه السلام): «ذاك المهدي من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»، ثم قال: «بأبي المنتدح البطن، المقرون الحاجبين، أحمش الساقين، بعيد ما بين المنكبين، أسمر اللون، يَعتَوِرُهُ مع سمرته صفرة من سهر الليل، بأبي من ليله يرعى النجوم ساجداً وراكعاً، بأبي من لا يأخذه في الله لومة لائم، مصباح الدجى، بأبي القائم بأمر الله»(١٣).
وقد يستشهد لوصف السمرة بما روي من مشاهدات له (عجَّل الله فرجه)، ومنها:
١. روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) الخبر المشهور عن أبي الأديان:
كنتُ أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت عليه في علّته التي تُوفي فيها (صلوات الله عليه) فكتب معي كتباً، وقال: «امضِ بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً، وتدخل إلى سرّ من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري، وتجدني على المغتسل».
قال أبو الأديان: فقلت: يا سيّدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: «من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي». فقلت: زدني. فقال: «من يصلي عليَّ فهو القائم بعدي». فقلت: زدني. فقال: «من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي». ثم منعتني هيبته أن أسأله عما في الهِميان.
وخرجت بالكتب إلى المدائن، وأخذت جواباتها ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي (عليه السلام)، فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار، والشيعة من حوله يعزّونه ويهنّونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة، لأنّي كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور، فتقدّمت فعزّيت وهنّيت، فلم يسألني عن شيء.
ثم خرج عقيد، فقال: يا سيّدي، قد كُفّن أخوك، فقم وصلِّ عليه، فدخل جعفر بن علي والشيعة مِن حوله يقدمهم السمّان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة، فلمّا صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي (صلوات الله عليه) على نعشه مكفَّناً، فتقدّم جعفر بن علي ليصلّي على أخيه، فلمّا همَّ بالتكبير، خرج صبيٌّ بوجهه سُمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجذب برداء جعفر بن علي، وقال: تأخّر يا عم، فأنا أحقّ بالصلاة على أبي، فتأخّر جعفر وقد اربَدَّ وجهه واصْفَرَّ، فتقدَّم الصبي وصلّى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه (عليه السلام).
ثم قال: «يا بصري، هات جوابات الكتب التي معك»، فدفعتها إليه، فقلت في نفسي: هذه بيّنتان، بقي الهِميَان، ثم خرجتُ إلى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشّاء: يا سيّدي من الصبي؟ لنقيم الحجّة عليه، فقال: والله ما رأيته قط، ولا أعرفه، فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي (عليه السلام) فعرفوا موته، فقالوا: فمن نعزّي؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي، فسلّموا عليه وعزّوه وهنّوه، وقالوا: إن معنا كتباً ومالاً، فتقول ممّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منا أن نعلم الغيب؟ قال: فخرج الخادم، فقال: معكم كتب فلان وفلان وفلان، وهِميَان فيه ألف دينار، وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال، وقالوا: الذي وجّه بك لأخذ ذلك هو الإمام(١٤).
ويتكرّر ذات هذا الوصف وصفه (عجَّل الله فرجه) بالسّمرة في الغَيبة الكبرى أيضاً في رواياتٍ متعدّدة:
٢. روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) بسنده إلى محمد بن أحمد بن خلف، قال:
نزلنا مسجداً في المنزل المعروف بالعباسية، على مرحلتين من فسطاط مصر، وتفرّق غلماني في النزول، وبقي معي في المسجد غلام أعجمي... في زاويته شيخاً كثير التسبيح، فلمّا زالت الشمس ركعتُ وصلّيت الظهر في أول وقتها، ودعوت بالطعام، وسألت الشيخ أن يأكل معي فأجابني، فلمّا طعَمنا سألتُ عن اسمه واسم أبيه وعن بلده وحرفته ومقصده، فذكر أن اسمه محمد بن عبد الله، وأنّه من أهل قم، وذكر أنه يسيح منذ ثلاثين سنة في طلب الحق ويتنقل في البلدان والسواحل، وأنه أوطن مكة والمدينة نحو عشرين سنة يبحث عن الأخبار ويتبع الآثار.
فلمّا كان في سنة ثلاث وتسعين ومائتين طاف بالبيت ثم صار إلى مقام إبراهيم (عليه السلام) فركع فيه وغلبته عينه فأنبهه صوت دعاء لم يجر في سمعه مثله، (قال:) فتأملت الداعي فإذا هو شابٌّ أسمَر، لم أر قطّ في حُسن صورته واعتدال قامته، ثم صلّى فخرج وسعى، فاتَّبعته وأوقع الله (عزَّ وجلَّ) في نفسي أنه صاحب الزمان (عليه السلام)، فلما فرغ من سعيه قصد بعض الشعاب، فقصدت أثره، فلمّا قربت منه إذ أنا بأسود مثل الفنيق قد اعترضني، فصاح بي بصوت لم أسمع أهول منه: «ما تريد عافاك الله»؟ فأرعدتُ ووقفتُ، وزال الشخص عن بصري وبقيت متحيّراً، فلمّا طال بي الوقوف والحيرة انصرفت ألوم نفسي، وأعذلها بانصرافي بزجرة الأسود، فخلوتُ بربّي (عزَّ وجلَّ) أدعوه وأسأله بحقّ رسوله وآله أن لا يخيّب سعيي، وأن يظهر لي ما يثبّت به قلبي، ويزيد في بصرى.
فلمّا كان بعد سنين زُرت قبر المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فبينا أنا أصلي في الروضة التي بين القبر والمنبر، إذ غلبتني عيني فإذا محرك يحركني فاستيقظت، فإذا أنا بالأسود، فقال: «ما خبرك؟ وكيف كنت»؟ فقلت: الحمد لله، وأذمّك!
فقال: «لا تفعل، فإني أُمرتُ بما خاطبتك به، وقد أدركتَ خيراً كثيراً، فطِبْ نفْساً وازدَد من الشكر لله (عزَّ وجلَّ) على ما أدركتَ وعاينتَ»(١٥).
٣. وروَى الشيخ الراوندي (رحمه الله) عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، قال: لمّا وصلت بغداد في سنة تسع وثلاثين (وثلاثمائة) للحج، وهي السنة التي رد القرامطة فيها الحجر إلى مكانه من البيت، كان أكبر همي الظفر بمن ينصب الحجر، لأنّه يمضي، ولعلّه في أثناء الكتب قصة أخذه، وأنه ينصبه في مكانه الحجّة في الزمان، كما في زمان الحجّاج وضعه زين العابدين (عليه السلام) في مكانه فاستقر.
فاعتللت علّة صعبة خفت منها على نفسي، ولم يتهيّأ لي ما قصدتُ له، فاستنَبتُ المعروف بابن هشام، وأعطيتُه رقعة مختومة، أسأل فيها عن مدّة عمري، وهل تكون المنية في هذه العلة أم لا؟، وقلت: همّي إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه، وأخذ جوابه، وإنّما أندبك لهذا.
قال: فقال المعروف بابن هشام: لمّا حصلت بمكة وعزم على إعادة الحجر، بذلت لسدنة البيت جملة تمكنتُ معها من الكون بحيث أرى واضع الحجر في مكانه، وأقمتُ معي منهم من يمنع عنّي ازدحام الناس، فكلّما عمد إنسان لوضعه اضطرب ولم يستقم، فأقبل غلام أسمر اللون، حسَن الوجه، فتناوله ووضعه في مكانه فاستقام كأنه لم يزل عنه، وعلَت لذلك الأصوات، وانصرف خارجاً من الباب، فنهضتُ من مكاني أتبعه، وأدفع الناس عنّي يميناً وشمالاً، حتّى ظنّ بي الاختلاط في العقل، والناس يُفرجون لي، وعيني لا تفارقه، حتى انقطع عن الناس، فكنتُ أسرع السير خلفه، وهو يمشي على تَؤُدَة ولا أدركه، فلمّا حصل بحيث لا أحد يراه غيري، وقف والتفتَ إليّ فقال: «هاتِ ما معكَ»، فناولته الرقعة، فقال من غير أن ينظر فيها قُل له: «لا خوفَ عليكَ في هذه العلّة، ويكون ما لابد منه بعد ثلاثين سنة». قال: فوقع عليَّ الزمع(١٦) حتى لم أطق حِراكاً، وتركني وانصرف.
قال أبو القاسم: فأعلمني بهذه الجملة، فلمّا كان سنة تسع وستّين اعتل أبو القاسم، فأخذ ينظر في أمره، وتحصيل جهازه إلى قبره، وكتَب وصيّته، واستعمل الجِدَّ في ذلك، فقيل له: ما هذا الخوف؟ وترجو أن يتفضّل الله تعالى بالسّلامة، فما عليك مخوفة، فقال: هذه السنة التي خُوفت فيها، فمات في علته(١٧).
٤. وروى: أنّ أبا محمد الدعلجي كان له ولدان، وكان من خيار أصحابنا، وكان قد سمع الأحاديث، وكان أحد ولديه على الطريقة المستقيمة، وهو أبو الحسن، وكان يغسل الأموات، وولد آخر يسلك مسالك الأحداث في فعل الحرام، ودفع إلى أبي محمد حجة يحجّ بها عن صاحب الزمان (عليه السلام)، وكان ذلك عادة الشيعة وقتئذٍ، فدَفع شيئاً منها إلى ابنه المذكور بالفساد، وخرج إلى الحج، فلمّا عاد حكى أنّه كان واقفاً بالموقف، فرأى إلى جانبه شابّاً حسَن الوجه، أسمر اللون، بذؤابتين، مُقبلاً على شأنه في الدعاء والابتهال والتضرّع وحُسن العمَل، فلمّا قرُبَ نفْر الناس التفتَ إليَّ وقال: «يا شيخ، ما تستحي»؟ قلتُ: من أي شيء يا سيّدي؟ قال: «يُدفع إليك حجّة عمّن تعلم، فتدفع منها إلى فاسق يشرب الخمر! يوشك أن تذهب عينك هذه»، وأومأ إلى عيني، وأنا من ذلك اليوم إلى الآن على وجَل ومخافة(١٨).
٥. وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن إبراهيم بن مهزيار، قال: قدِمتُ مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فبحثتُ عن أخبار آل أبي محمد الحسن بن علي الأخير (عليه السلام)، فلم أقع على شيء منها، فرحلتُ منها إلى مكّة مستبحثاً عن ذلك، فبينَما أنَا في الطواف إذ تراءى لي فتى أسمر اللون، رائع الحُسْن، جميل المخيلة، يُطيل التوسُّم فيَّ، فعُدتُ إليه مؤمّلاً منه عرفانَ ما قصدتُ له، فلمّا قربتُ منه سلّمت، فأحسن الإجابة ثم قال: «من أيّ البلاد أنت»؟ قلتُ: رجلٌ من أهل العراق، قال: «من أيّ العراق»؟ قلت: من الأهواز(١٩).
٦. وروى العلامة المجلسي (رحمه الله) قصة لقاء الأسترابادي: كان في زماننا رجلٌ شريفٌ صالحٌ كان يُقال له: أمير إسحاق الأسترآبادي، وكان قد حجّ أربعين حجّة ماشياً، وكان قد اشتهر بين الناس أنه تُطوى له الأرض، فورَد في بعض السنين بلدة أصفهان، فأتيته وسألتُه عمّا اشتهر فيه، فقال: كان سبب ذلك أني كنتُ في بعض السنين مع الحاج متوجّهين إلى بيت الله الحرام، فلمّا وصلنا إلى موضع كان بينَنا وبين مكّة سبعة منازل أو تسعة تأخرت عن القافلة لبعض الأسباب حتّى غابت عنّي، وضللت عن الطريق، وتحيّرت وغلبني العطَش.
حتى آيست من الحياة، فنادَيتُ: يا صالح، يا أبا صالح، أرشدونا إلى الطريق يرحمكم الله، فتراءى لي في منتهي البادية شبحٌ، فلمّا تأمّلته حضَر عندي في زمان يسير، فرأيتُهُ شابّاً حسَن الوجه، نقيّ الثّياب، أسمَر، على هيئة الشرفاء، راكباً على جمل، ومعه إداوة، فسلّمت عليه فردَّ عليَّ السلام، وقال: «أنتَ عطشان»؟ قلت: نعم، فأعطاني الإداوة فشربتُ.
ثمّ قال: «تريد أن تلحق القافلة»؟ قلت: نعم، فأردفني خلفه، وتوجّه نحو مكّة، وكان من عادتي قراءة الحرز اليماني في كل يوم، فأخذت في قراءته، فقال (عليه السلام) في بعض المواضع: «اقرأ هكذا»، قال: فما مضى إلّا زمانٌ يسير حتى قال لي: «تعرف هذا الموضع»؟ فنظرتُ فإذا أنا بالأبطح، فقال: «انزل»، فلمّا نزلتُ رجعتُ وغاب عني ! فعند ذلك عرفت أنّه القائم (عليه السلام)، فندمتُ وتأسّفتُ على مفارقته، وعدم معرفته، فلمّا كان بعد سبعة أيّام أتت القافلة، فرأوني في مكة بعد ما أيسوا من حياتي، فلذا اشتهرت بطيّ الأرض.
قال الوالد (رحمه الله): فقرأت عنده الحرز اليماني وصحّحته وأجازني والحمد لله(٢٠).
طريق الجمع بين الروايات:
قد تمخّض من خلال هذا العرض وجود روايات بعضها تصرّح بالبياض، ووجود رواية تعضدها مشاهدات دالة على السُّمرة، وكيف كان، فهناك طرق للجمع والتوفيق بينها، وهي:
أولاً: إذا قلنا إن روايات الأبيض المشرب بالحمرة أكثر شهرة وروايةً حيث وردت في أُمهات مصادرنا الروائية وهو كاشف عن تلقّيها بالقبول في مقابل روايات السمرة التي لم يرد فيها إلّا رواية واحدة، فتُقدَّم على هذا روايات البياض ويؤخذ بها ونترك رواية السمرة، على أنه يمكن حمل رواية السمرة على بعض الوجوه التالية من وجوه الجمع التبرُّعي.
ثانياً: بناءً على إمكان تغيّر لون بشرته (عجَّل الله فرجه) حسب المؤثّرات الخارجية فإننا نقول بعد ترجيح رواية البياض المشرب بالحمرة يمكن أن يكون هناك سمار اعتماداً على إحدى الوجوه التالية:
١. تأثير الظروف المناخية الطبيعية:
تتغيّر صفات الإنسان بصورة طبيعية وتتبدّل أوصافه بناءً على الظروف والمؤثّرات المحيطة به، ويتأثّر الإنسان بمجموعة من العوامل التي تصوغ لون بشَرته وطبيعتها، مثل طبيعة المناخ وتعرّضه للشمس وموقع سكنه وحركته، فيتغيّر البيَاض وتعرُضُ عليه السُّمرة عروضاً بحسب تلك المؤثّرات.
وبناءً عليه، فإنّه يمكننا أن نحتمل كون البيَاض المشرب بالحُمرة هو اللون الأصلي لبشرته (عجَّل الله فرجه)، إلّا أنّ تغيير الوصف إلى السّمرة قد طرأ عليه بتأثير المناخ والعوامل الطبيعية، التي يفرضها موقع سكنه ومواضع تنقّلاته، فإنّ المناطق ذات المناخ الحار التي يتنقّل بينها ويقطنها إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) قد طبعت على قاطنيها سُمرة بشكلٍ واضحٍ، كما هو الحال في العراق والحجاز ومحيطهما، وهذه بالذّات هي محيط تنقّلاته التي يمكننا أن نتعرّف عليها من خلال أخبار من رآه (عجَّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى والكبرى المذكورة في كتبنا المعتبرة.
كما أنّ إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) يتنقّل بين البقاع والمواقع، ويجوب الأرض، ويحلّ في محالّ سكن رعيّته، ويتواجد في الأماكن التي تسكن فيها شيعته على تنوّع بقاعها ومناخها، محتجباً بستر الغيبة.
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «فما تنكر هذه الأُمّة أن يكون الله يفعل بحجّته ما فعل بيوسف (عليه السلام)، أن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقّه، صاحب هذا الأمر يتردّد بينهم ويمشي في أسواقهم ويطأ فرشهم، ولا يعرفونه حتّى يأذن الله له أن يعرّفهم نفسه، كما أذن ليوسف (عليه السلام) حتّى قال له إخوته: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ﴾ [يوسف: ٩٠]»(٢١).
أمّا البقاع التي يختارها إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) سكناً له فهي ذات طبيعة جبلية وعِرَة ونائية، وهي أشدّ قسوة وتأثيراً على البشَرة من مناطق تنقّله حسَب الظاهر، ويُروى أنّه قال (عجَّل الله فرجه) في كلامه لإبراهيم بن مهزيار عندما تشرّف بلقائه (عجَّل الله فرجه): «إنّ أبي عهد إليَّ أن لا أُوطّن من الأرض إلّا أخفاها وأقصاها، إسراراً لأمري، وتحصيناً لمحلّي، لمكائد أهل الضلال والمرَدة من أحداث الأُمم الضوال، فنبذني إلى عالية الرمال، وجبت صرائم الأرض»(٢٢).
والعالية: كلّ ما كان من جهة نجد من المدينة، من قراها وعمائرها إلى تهامة العالية، وما كان دون ذلك السافلة، وأمّا «جبت صرائم الأرض» أي قطعت ودرت ما انصرم من معظم الرمل، يعنى الأراضي المحصود زرعها. وفى بعض النسخ «خبت» بالخاء المعجمة: وهو المطمئن من الأرض فيه رمل.
ورُوي عن أبي بصير أن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لابد لصاحب هذا الأمر من عُزلة، ولابد في عزلته من قوّة، وما بثلاثين من وحشة، ونِعم المنزل طيبة»(٢٣).
وقد قيل: إنّه (عجَّل الله فرجه) يسكن في رضوى، وهو جبل مُطلّ على الروحاء بين مكّة والمدينة على نحو أربعين ميلاً من المدينة، وهو الموضع الذي نزل به تُبّع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكّة، فأقام بها وأراح فسمّاها الروحاء(٢٤).
وروى الشيخ الطوسي (رحمه الله) بسنده إلى عبد الأعلى مولى آل سام، قال: خرجتُ مع أبي عبد الله (عليه السلام)، فلمّا نزل الروحاء نظر إلى جبلها مطلّاً عليها، فقال لي: «ترى هذا الجبل؟ هذا جبلٌ يدعى رضوى، من جبال فارس، أحبّنا فنقله الله إلينا، أما إنّ فيه كلّ شجر مُطعم، ونعمَ أمان للخائف - مرّتين -، أما إنّ لصاحب هذا الأمر فيه غيبتين: واحدة قصيرة، والأُخرى طويلة»(٢٥).
وقد قيل: إنّه (عجَّل الله فرجه) يسكن في ذي طوى، وهذا ما أشار إليه الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله: «يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب، ثمّ أومأ بيده إلى ناحية ذي طِوى»(٢٦).
٢. تأثير الحالة النفسية على الوجه:
تتغيّر أوصاف الوجه بحسب المؤثّرات النفسية أحياناً، وتؤثّر حالة الرضا في انبساط شمائل الوجه وطلاقة المحيّى وتطبع ملامح السعادة والارتياح، كما تؤثّر حالة الغضب في حمرة الوجه وتجهّمه وسُمرته، فحالة الإنسان النفسية والصحية مؤثّرةٌ في تشكيل العارض والوصف، فالمهموم المُثقل الموتور الذي تتراكم عليه الأحزان يتأثّر وجهه بسهر الليل، ويظهر ذلك في وجهه ومحيّاه!
٣. مقتضى تبدّل أدوار الحياة وتقدّم العُمر:
قد يقال: إنّ مراحل الحياة وأدوارها المتعاقبة تطبع على بشرة الإنسان بعض الصفات، وتتعرّض أوصافه إلى التغيير، مع طول حياته وعمره المديد، وهذا ما نجده في من يعيش أدوار العمر المتعارفة، فكيف إذا كان يعيش مئات السنين، كما هو الحال في سيّدنا ومولانا صاحب الأمر أطال الله تعالى عمره في خير وعافية.
ولكنه يقال إن هذا الاحتمال لا ينسجم مع الروايات الواردة بأنه (عجَّل الله فرجه) لا يهرم بمرور الليالي والأيام، كما في رواية المروية عن أبي الصلت الهروي: قلت للرضا (عليه السلام): ما علامات القائم منكم إذا خرج؟ قال: «علامته أن يكون شيخ السن، شاب المنظر، حتّى أنّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها، وإنّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيام والليالي حتى يأتيه أجله»(٢٧).
من أسباب الاختلاف في الوصف:
علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ الاختلاف بالأوصاف يرجع أحياناً إلى الناظر وليس إلى المنظور، وإنّ الزاوية التي ينظر منها تؤثّر في التشخيص، كما أنّ توفر الضوء وتفاوت نسبه لها دورٌ في تفاوت الوصف، خصوصاً فيما يتعلّق بالألوان وتحديدها الدقيق، كما أنّ النظر في الليل يختلف عنه في النهار، فتأمّل!
وما تقدّم كلامٌ في دائرة الاحتمال، وفي بعض الاحتمالات بُعدٌ ظاهر، كما أنّ بعضها جديرٌ بالتأمّل والنظر والتتبّع، وقد لفت انتباهي وجود عين هذا الاختلاف بتفاصيله في وصف النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد مرّ عليك ما نقلناه عن كتاب لسان العرب في كلامه عن السّمرة، قال وفي صفته (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كان أسمر اللون، وفي رواية: أبيض مُشرَّباً بحُمرة. قال ابن الأثير: ووجه الجمع بينهما أنّ ما يبرز إلى الشمس كان أسمر، وما تواريه الثياب وتستره فهو أبيض. (انتهى)
وهذا بعيدٌ، وإنّما صار له ابن الأثير بعد ضيق الخناق فيما يبدو، حتّى يجمع بين ما يظنّ تناقضه وتهافته، ثمّ إنّ تلك أوصاف اللون والبشرة تشير إلى خصوص الوجه في الغالب الأعم، ولا تعني الجسد المستور عادةً، فإذا أرادت الجسد وصفته بالطول والقصر وأشباه ذلك.
وكيف كان، فإنّ كلّ ذلك يؤكّد لنا أمراً مهمّاً:
وهو أنّ لون بشرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وإن كانت عربية متعارفة، إلّا أنّها ممتازة كبقية صفاته وأوصافه، فكون لونها متعارفاً لا ينفي اختلافه عن سائر الناس وامتيازه بصفات خاصّة، ولهذا فإنّها تكون محلاًّ للاختلاف والتفاوت عند التدقيق فيها والتحقّق منها، كما هو الحال في جدّه النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على فرض صحّة ما ذكره ابن منظور.
وممّا يؤكّد قولنا هذا، هو وقوع الاختلاف في وصف بعض الأئمة الطاهرين من آبائه (عليهم السلام)، فقد وقع الخلاف بين جمعٍ في تحديد لون بشرة جدّه الإمام علي الهادي (عليه السلام) كما في هذه الرواية:
روى الشيخ الراوندي (رحمه الله) عن أبي القاسم بن القاسم، عن خادم علي بن محمد (عليه السلام)، قال: كان المتوكّل يمنع الناس من الدخول إلى علي بن محمد، فخرجتُ يوماً وهو في دار المتوكّل، فإذا جماعة من الشيعة جلوسٌ بقرب الباب، فقلت: ما شأنكم جلستم ههنا؟ قالوا: ننتظر انصراف مولانا لننظر إليه ونسلّم عليه وننصرف، قلت لهم: وإذا رأيتموه تعرفونه؟ قالوا: كلّنا نعرفه.
فلمّا وافى قاموا إليه فسلّموا عليه، ونزل فدخل داره، وأراد أولئك الانصراف، فقلت: يا فتيان، اصبروا حتى أسألكم، أليس قد رأيتم مولاكم؟ قالوا: بلى، قلتُ: فَصِفُوه؟ فقال واحد: هو شيخ أبيض الرأس، أبيض مشرب بحمرة، وقال آخر: لا، يكذب، ما هو إلّا أسمرٌ أسود اللحية، وقال الآخر: لا، لعمري ما هو كذلك، هو كهلٌ ما بين البيَاض والسُّمرة، فقلت: أليس زعمتم أنّكم تعرفونه؟ انصرفوا في حفظ الله(٢٨).
وهذا يدلّ على أن الناس يختلفون في تشخيصهم من جهة، ومن جهة أخرى فإنّه يدلّ على أنّ تحديد بشرة الإمام علي الهادي (عليه السلام) أمرٌ يقع فيه الخلاف عند التدقيق والتحقق كما تقدّم.
وهناك وجهٌ معقول للجمع بين تلك الأوصاف أخيراً.
ثانياً: تفاوت نسبة البيَاض:
الاختلاف في وصف الألوان وتحديدها عند الناس أمرٌ غير مستغرب، إذ يتفاوت المقصود من الوصف بالسُّمرة أو البيَاض بصورةٍ عامّة، ويُطلق وصفُ البَياضِ وتتفاوت درجاته بينَ الناس، فأحياناً تُطلقُ السُّمرة في مقابل البيَاض الشديد، وأحياناً تطلق في مقابل السواد، فيكون لذلك مدلولٌ آخر!
فيمكن لنَا حينئذٍ أن نجمع بين الوَصفين، إذ إنّ اجتماع السُّمرة والبيَاض والحُمرة ممكنٌ، كمَا نُعبّر في وصفنا لبعض الناس، فنقول: فلانٌ (حنطيٌّ)، ونعني به الذي يمتزج لونه بين السُّمرة الخفيفة وبياض لون البشَرة.
وفي مثل هذه الحالة يمكننا أن نصف البشرة بتلك الأوصاف منفردة، فهو أبيض، وهو مشرب بالحُمرة، وهو أسمر.
ويتّضح هذا الأمر إذا ما لاحظنا وصفه (عجَّل الله فرجه) بـ(رجل آدم) في هذه الرواية، وفيها إشارة الأدمة، وفيها مفتاح مهم لتشخيص لون بشرته.
روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «المهديّ رجل من ولد فاطمة، وهو رجل آدم»(٢٩).
وجاء في لسان العرب لابن منظور ١٢/١١ (مختصراً):
الأدمة: السُّمرة، والآدم من الناس: الأسمر. ابن سيده: الأُدمة في الإبل لون مشرب سواداً أو بياضاً، وقيل: هو البياض الواضح، وقيل: في الظباء لون مشرب بياضاً، وفي الإنسان السمرة.
قال أبو حنيفة: الأدمة البياض. والأدمة في الإبل: البياض مع سواد المقلتين، وهي في الناس السمرة الشديدة. وقيل: هو من أدمة الأرض، وهو لونها، قال: وبه سمي آدم أبو البشر (عليه السلام). الليث: والأدمة في الناس شربة من سواد، وفي الإبل والظباء بياض. يقال: ظبية أدماء، قال: ولم أسمع أحداً يقول للذكور من الظباء أدم، قال: وإن قيل كان قياساً.
وقال الأصمعي: الآدم من الإبل الأبيض، فإن خالطته حمُرة فهو أصهب، فإن خالطت الحمرة صفاء فهو مدمى. قال: والأدم من الظباء بيض تعلوهن جدد فيهن غبرة، فإن كانت خالصة البياض فهي الآرام.
واختلف في اشتقاق اسم آدم فقال بعضهم: سمي آدم لأنه خلق من أدمة الأرض، وقال بعضهم: لأدمة جعلها الله تعالى فيه. وقال الزجّاج: يقول أهل اللغة في آدم: إن اشتقاقه من أديم الأرض، لأنه خلق من تراب، وكذلك الأدمة إنما هي مشبّهة بلون التراب. (انتهى)
فكلام أهل اللغة يعين على هذا الجمع المتقدّم، فهي أوصاف قابلة للاجتماع كما أنّها قابلة للافتراق، والجامع بينها هو الوصف بالحنطية كما تقدّم، وهو اللون المتعارف للبشرة في الأعم الأغلب في العراق والجزيرة العربية، ولهذا فقد وصفته (عجَّل الله فرجه) بعض الروايات باللون العربي.
كما رُوي عن حذيفة بن اليمان، عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
«المهديّ من ولدي، وجهه كالقمر الدرّي، اللون لون عربي، الجسم جسم إسرائيلي، يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً، يرضى بخلافته أهل السماوات وأهل الأرض، والطير في الجو، يملك عشرين سنة»(٣٠).
ثمرة في خاتمة:
إنّ وصف إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) وتحديد لون بشرته بشكلٍ عام وحضور مادّته الثرية في مصادرنا المعتبرة، له دلالات ارتباطية وروحية مهمّة عند المؤمنين به (عجَّل الله فرجه)، وقد كان أصحابنا وسلفنا الصالح ومنذ أوائل زمان غيبته (عجَّل الله فرجه) يسألون عن أوصافه وخصائصه البدنية بل وكان السؤال عن تفاصيل بدنه منذ زمان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام)، كما تقدم في رواية الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وذكره للعديد من أوصافه بل وذكر ذلك عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما في الرواية التي رواها عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حذيفة بن اليمان وتقدمت في أوائل البحث، والروايات في هذا الصدد والتي أشرنا إلى جملة منها كثيرة.
الهوامش:
(١) كنز العمّال ١٤/٢٦٤.
(٢) بحار الأنوار ٩٠/٢٦٤.
(٣) الوافي للفيض الكاشاني ٢/٤٦٨.
(٤) بحار الأنوار ٥١/٩١.
(٥) كمال الدين ٦٥٣.
(٦) كتاب الغيبة للنّعماني ٢٢٣.
(٧) ليس المعنى من دكّان ما هو متداول في زماننا الآن وإنما هي دكَّة توضع للجلوس والاستراحة عليها في داخل الدار.
(٨) كمال الدين ٤٠٧.
(٩) الكافي ١/٣٢٩.
(١٠) كمال الدين ٦٥٣.
(١١) غيبة النعماني ٢٢٤.
(١٢) فتح الباري: ١٣/١٨٤.
(١٣) بحار الأنوار ٨٣/٨٢.
(١٤) كمال الدين ٢/٢٧٥ وللحديث تتمّة، وعنه ثاقب المناقب ٢٦٥، وإثبات الهداة: ٣/٤٨٥ و٦٧٢، وتبصرة الولي ٧٧٦، والبحار٥٠/٣٣٢ و٥٢/٦٧.
(١٥) الغيبة للشيخ الطوسي ١٥٣وللحديث تتمّة.
(١٦) الخوف على ما في لسان العرب مادة (زمع).
(١٧) الخرائج ١/٤٧٥.
(١٨) الخرائج ١/٤٨٠.
(١٩) كمال الدين ٢ /٤٤٥.
(٢٠) بحار الأنوار ٥٢/١٧٥.
(٢١) الغيبة ١٦٣.
(٢٢) كمال الدين ٢ /٤٤٥.
(٢٣) بحار الأنوار ٥٢/١٥٣.
(٢٤) معجم البلدان ٤/٢٣٦.
(٢٥) كتاب الغيبة ١٠٣.
(٢٦) تفسير العيّاشي ٢/٥٦ وللرّواية تتمّة.
(٢٧) كمال الدين ٦٥٢.
(٢٨) الخرائج والجرائح ١/٤٠٣.
(٢٩) كتاب الغيبة ١٨٧.
(٣٠) بحار الأنوار ٥١/٩١.