ضرورة وجود المعصوم عليه السلام
الشيخ إسكندر الجعفري
الحديث عن ضرورة وجود المعصوم يدخل في إطار التعرّف على الإمام الذي يلزم على الأُمَّة معرفته، إذ بمعرفته يهتدي الإنسان إلى قِوام دينه، وسلامة عقيدته، وتهذيبها من الضلال، وتنقيتها من شوائب الانحراف.
وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال لزرارة: «إذا أدركت هذا الزمان فادعُ بهذا الدعاء: اللَّهُمَّ عرِّفني نفسك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللَّهُمَّ عرِّفني رسولك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني رسولك لم أعرف حجَّتك، اللَّهُمَّ عرِّفني حجَّتك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني حجَّتك ضللت عن ديني»(١).
ومن هنا تبرز أهمّية هذا الموضوع الذي نحن بصدده، فإنَّ الحديث عن وجود الإمام المعصوم في هذا الزمان الذي يشهد ألواناً من الانحرافات العقائدية الخطيرة، التي يسعى أصحابها إلى تشويش الفكر الديني الأصيل، كفيل بمعالجة بعض الشُبَه، التي تُطرَح بين الحين والآخر.
وقد تحدَّث المحقِّقون والباحثون في الشؤون العقائدية والمهدوية عن هذا الموضوع كثيراً، وكتبوا في ذلك الكتب والأبحاث والدراسات والمقالات الشـيء الكثير، ولكن إنطلاقاً من إيماننا بأهمّية الموضوع، وضرورة إشباعه بحثاً وتدقيقاً، نغتنم هذه الفرصة للحديث عن ضرورة وجود المعصوم في كلِّ زمان من خلال عرض مجموعة من الروايات تصلح لإثبات ذلك، وهذه الروايات يتلخَّص مضمونها بما جاء في بعضها: (أنَّ الأرض لا تبقى بغير إمام).
والبحث - إن شاء الله - سيمرُّ من خلال النقطتين التاليتين:
النقطة الأُولى: عرض الروايات.
النقطة الثانية: دلالتها.
إذاً لنتحدَّث عن هاتين النقطتين تباعاً.
النقطة الأولى
عرض الروايات
روى المحدِّثون من الخاصَّة عدَّة روايات تبلغ حدَّ التواتر - على ما سنلاحظ - تتَّفق في مضمونها على أنَّ الأرض لا تخلو من الإمام، والمقصود منه: الإمام المعصوم، كما سيتَّضح ذلك لاحقاً، وقد جاء هذا المضمون أيضاً في بعض مرويات العامَّة، وفيما يلي نعرض الروايات التي روتها الخاصَّة، ثمّ نعرض ما جاء في كتب العامَّة.
روايات الإماميَّة:
وهي على طوائف:
الطائفة الأُولى: ما دلَّت على أنَّ الإمام إذا رُفِعَ من الأرض لساخت:
وهي عدَّة روايات:
١ - ما رواه الصفّار في بصائره بسنده عن أحمد بن عمر، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: هل يبقى الأرض بغير إمام فإنّا نروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «لا يبقى الأرض إلَّا أن يسخط الله على العباد»؟ قال: «لا تبقى إذاً لساخت»(٢).
ورواها أيضاً الصدوق في كتبه بسنده إلى أحمد بن عمر، عن الإمام الرضا عليه السلام(٣).
٢ - ما رواه الصفّار أيضاً في بصائره بسنده عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت»(٤).
ورواه أيضاً عليُّ بن بابويه في الإمامة والتبصـرة، والكليني في الكافي، والصدوق في العلل عن الصفّار(٥).
ورواها أيضاً في كمال الدين، ولكن فيها: «لو بقيت الأرض ساعة بغير إمام لساخت»(٦).
ورواها النعماني في الغيبة، والشيخ في الغيبة(٧).
٣ - ما رواه الصفّار أيضاً بسنده عن أبي هراسة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «لو أنَّ الإمام رُفِعَ من الأرض ساعة لساخت بأهله كما يموج البحر بأهله»(٨).
ورواها في الكافي، ولكن فيها بدل كلمة (لساخت): «لماجت»(٩).
ورواها أيضاً الصدوق في كمال الدين كما في الكافي(١٠).
ولعلَّ المناسب أنَّها (لماجت) كما في نسخة الكافي وكمال الدين، وذلك لتناسبها مع الذيل: «كما يموج البحر».
ورواها النعماني في الغيبة عن الكليني، وفيها: «لساخت بأهلها وماجت»(١١).
ورواها الطبري في دلائل الإمامة، وفيها: «لماجت»(١٢).
٤ - ما رواه الصفّار أيضاً في بصائر الدرجات بسنده عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: يكون الأرض بلا إمام فيها؟ قال: «لا إذاً ساخت بأهلها»(١٣).
ورواها الصدوق في العلل(١٤).
٥ - ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: «لا»، قلت: فإنّا نروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّها لا تبقى بغير إمام إلَّا أن يسخط الله تعالى على أهل الأرض أو على العباد، فقال: «لا، لا تبقى إذاً لساخت»(١٥).
ورواها الصدوق في كمال الدين(١٦).
٦ - ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات بسنده عن محمّد بن الحسن بن عليٍّ الوشّا، قال: سألت الرضا عليه السلام: هل تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: «لا»، قلت: فإنّا نروي أنَّها لا تبقى إلَّا أن يسخط الله على العباد، قال: «لا تبقى إذاً لساخت»(١٧).
ورواها في الكافي بسنده عن الوشّا(١٨).
ورواها الصدوق في كتبه بسنده عن الوشّا(١٩).
ورواها النعماني في الغيبة عن الكليني(٢٠).
٧ - ما رواه الصفّار في البصائر بسنده عن سليمان الجعفري، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام، قلت: تخلو الأرض من حجَّة الله؟ قال: «لو خلت الأرض طرفة عين من حجَّة لساخت بأهلها»(٢١).
ورواها الصدوق في عيون أخبار الرضا(٢٢).
٨ - ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّي واثنا عشـر من ولدي وأنت يا عليُّ زرُّ الأرض يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشـر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم يُنظَروا»(٢٣).
٩ - ما رواه الصدوق في الأمالي بسنده عن سليمان بن مهران الأعمش، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليٍّ، عن أبيه عليِّ بن الحسين عليهم السلام، قال: «نحن أئمَّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرِّ المحجَّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يُمسِك الله السماء أن تقع على الأرض إلَّا بإذنه، وبنا يُمسِك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وبنا ينشـر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها»(٢٤).
١٠ - ما رواه الخزّاز القمّي في كفاية الأثر، عن الإمام الحسن عليه السلام، قال: «خطب رسول الله يوماً، فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: معاشر الناس كأنّي اُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا، فتعلَّموا منهم ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم، لا يخلو الأرض منهم، ولو خلت إذاً لساخت بأهلها»(٢٥).
هذا كلُّ ما عثرت عليه من الروايات في هذه الطائفة، ولعلَّ المتتبِّع يجد غيرها، وفي ختامها لا بدَّ أن أُشير إلى بعض الملاحظات:
الملاحظة ١: إنَّ تتبّع هذه الروايات، والاطِّلاع على كثرتها، وتعدّد طرقها وأسانيدها، يوجب حصول العلم بصدورها عن معدن العلم والعصمة، ومعه لا حاجة إلى متابعة الأسانيد، وملاحظة حال الرواة، على الرغم من صحَّة بعضها، وذلك لأنَّ الكثرة، وتعدّد الطرق، بالشكل الذي لاحظناه يوجب حصول التواتر.
الملاحظة ٢: هناك تطابق كبير بين بعض الروايات، بل بعضها متطابقة، ومن هنا قد يُقال: إنَّها رواية واحدة، قد رويت بطرق مختلفة، ومعه فليس من الصواب جعلهما روايتين، ومثال ذلك الروايات ( ١ و٥ و٦) فإنَّها تشترك بنفس التعبير تقريباً.
ولكن يُقال: صحيح أنَّها تشترك بنفس التعبير، ولكن هناك قرائن توجب الاطمئنان بتعدّدها، منها: اختلاف الراوي، ففي الأُولى (أحمد بن عمر)، وفي الثانية (محمّد بن الفضيل)، وفي الثالثة (الوشّا)، وفي جميع هذه الروايات يقول الراوي: سألت أو قلت، ومن البعيد اجتماعهم كلّهم في مجلس واحد مع الإمام، وكلّهم سأل نفس السؤال، وبنفس الكيفية، والإمام يُجيب بنفس الجواب، على أنَّ ذلك لو كان، لما كانت رواية واحدة، بل ثلاث، كما هو واضح.
الملاحظة ٣: إنَّ تعدّد الروايات، وتعدّد الرواة لها، وتعدّد الأئمَّة عليهم السلام المسؤولين، يكشف مدى أهمّيتها، وضرورتها، ففي بعضها يبتدأ النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الحديث مع الناس بهذا المضمون، وفي بعضها يتحدَّث عن ذلك الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام، وفي بعض آخر يُسئَل الإمام الباقر، ثمّ الصادق، ثمّ الرضا عليهم السلام، وكلّها تُؤكِّد أنَّ الأرض لا يمكن أن تخلو من الإمام المعصوم.
الطائفة الثانية: أنَّ الأرض لا تخلو من الإمام فإنَّها لو خلت لماجت:
١ - ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن أبي هراسة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «لو أنَّ الإمام رُفِعَ من الأرض ساعة لماجت بأهلها، كما يموج البحر بأهله»(٢٦).
ورواها أيضاً الصدوق في كمال الدين، بسنده عن أبي هراسة، عن أبي جعفر عليه السلام(٢٧).
ورواها عن الصدوق محمّد بن جرير الطبري في دلائل الإمامة(٢٨).
٢ - ما رواه الصدوق في كمال الدين بسنده عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرضا عليه السلام: «نحن حجج الله في خلقه، وخلفاؤه في عباده، وأُمناؤه على سرِّه، ونحن كلمة التقوى، والعروة الوثقى، ونحن شهداء الله وأعلامه في بريَّته، بنا يُمسِك الله السماوات والأرض أن تزولا، وبنا ينزل الغيث وينشـر الرحمة، ولا تخلو الأرض من قائم منّا ظاهر أو خافٍ، ولو خلت يوماً بغير حجَّة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله»(٢٩).
٣ - ما رواه الجوهري في مقتضب الأثر بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لن يزال الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها»(٣٠).
الطائفة الثالثة: ما دلَّت على أنَّ الأرض لا تبقى بغير إمام:
١ - ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات بسنده عن عليِّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «إنَّ الله (جلَّ وعزَّ) أجلّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام»(٣١).
ورواها الكليني بسنده عن ابن أبي حمزة عن أبي بصير، ولكن مع إضافة كلمة «عادل» بعد كلمة «إمام»(٣٢).
ورواها الصدوق في كمال الدين بسنده عن ابن أبي حمزة عن أبي بصير، مع إضافة «عادل»(٣٣).
ويقوّي نسخة الكليني والصدوق المشتملة على الإضافة أُمور:
الأوَّل: أضبطية الكليني، كما هو معروف وواضح للمتتبِّع.
الثاني: نسخة الصدوق وهو يرويها عن البطائني بسند آخر غير سند الكليني، يُؤكِّد وجود الإضافة.
الثالث: وتظهر فائدة القيد المذكور، إذ الإمام - كما هو معروف - إمامان: عادل، وجائر، ولا معنى أنَّ الله تعالى لا يترك الأرض بغير إمام مطلقاً، عادلاً كان أو جائراً، إذ لا مانع من خلوّها من الإمام الجائر، وإنَّما المانع الذي تريد أن ترشد إليه الرواية هو خلوّها من الإمام العادل.
٢ - ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات بسنده عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «والله ما تُرِكَ الأرض منذ قبض الله آدم إلَّا وفيها إمام يُهتدى به إلى الله، وهو حجَّة الله على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام حجَّة الله على عباده»(٣٤).
ورواها عليُّ بن بابويه القمّي في الإمامة والتبصـرة، بسنده عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام، مع فارق طفيف، فبعد قوله: «ترك» كلمة «الله»، وبدل قوله: «بغير إمام حجَّة الله...» قوله: «بغير إمام حجَّة لله»(٣٥).
ورواها الكليني في الكافي بسنده عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام، وفيها بالإضافة إلى فوارق الإمامة والتبصـرة، بدل كلمة «الأرض» في أوَّلها كلمة «أرضاً»، وبدل قوله: «وهو حجَّة الله على عباده»: «وهو حجَّته على عباده»(٣٦).
٣ - ما رواه الصفّار في البصائر بسنده عن الحسين بن أبي العلا، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تُترَك الأرض بغير إمام؟ قال: «لا»، فقلنا له: تكون الأرض وفيها إمامان؟ قال: «لا إلَّا إمام صامت لا يتكلَّم ويتكلَّم الذي قبله»(٣٧).
ورواها الكليني في الكافي بسنده عن الحسين بن أبي العلاء، مع اختلاف طفيف، ففيها: (تكون الأرض ليس فيها إمام؟)(٣٨).
٤ - وروى الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة بسنده عن ابن أبي يعفور أنَّه سأل أبا عبد الله عليه السلام: هل تُترَك الأرض بغير إمام؟ قال: «لا»، قلت: فيكون إمامان؟ قال: «لا إلَّا وأحدهما صامت»(٣٩).
وقد تسأل: أليست هذه الرواية هي عين سابقتها؟
فنجيب: تكرَّر سابقاً مثل ذلك، وقلنا: إنَّ اختلاف الراوي يكشف عن تعدّد الرواية، كما أنَّ الراوي في كلا الروايتين قد سأل الإمام بنفسه، فيندفع احتمال كونهما قد اجتمعا في مجلس واحد، وسأل أحدهما، وسمع الآخر، وقد روى ما سمعه.
الطائفة الرابعة: ما دلَّ على أنَّ الأرض لا تخلو من إمامٍ يعرف الزيادة والنقصان:
وهذه الطائفة لا تختلف عن سابقتها إلَّا في وصف الإمام بأنَّه يعرف الزيادة والنقيصة، معلَّلةً ذلك بأن لولاه لاختلط على المسلمين أمرهم، فلم يعرفوا الحقَّ من الباطل، وهي عدَّة روايات، نذكر منها:
١ - ما رواه الصفّار في البصائر بسنده عن أبي حمزة، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «لن تبقى الأرض إلَّا وفيها رجل منّا يعرف الحقَّ، فإذا زاد الناس فيه قال: قد زادوا، وإذا نقصوا منه قال: قد نقصوا، وإذا جاؤوا به صدَّقهم، ولو لم يكن كذلك لم يُعرَف الحقُّ من الباطل»(٤٠).
ورواها الصدوق في العلل في موضعين، أحدهما فيه اختلاف طفيف، حيث جاء فيها: «إلَّا وفيها مَنْ يعرف الحقَّ» بدل «إلَّا وفيها رجل منّا يعرف الحقَّ»(٤١)، والآخر مطابق(٤٢).
٢ - ما رواه الصفّار في البصائر بسنده عن إسحاق بن عمّار، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «إنَّ الأرض لا تخلو من أن يكون فيها من يعلم الزيادة والنقصان، فإذا جاء المسلمون بزيادة طرحها، وإذا جاؤوا بالنقصان أكمله لهم، ولولا ذلك لاختلط على المسلمين أمرهم»(٤٣).
٣ - ما رواه الصفّار في البصائر بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: «إنَّ الله لم يدع الأرض إلَّا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان في الأرض، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردَّهم، وإذا نقصوا أكمله لهم، فقال: خذوه كاملاً، ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمرهم ولم يُفرِّقوا بين الحقِّ والباطل»(٤٤).
ورواها الصدوق في العلل(٤٥).
٤ - وروى الصفّار في البصائر نفس المضمون السابق، ولكن عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، مع فارق طفيف، إذ لم يرد فيها: «ولم يُفرِّقوا بين الحقِّ والباطل»(٤٦).
ورواها الصدوق أيضاً في العلل(٤٧).
وهناك روايات كثيرة في نفس هذا المضمون، عند ملاحظتها بتمامها يحصل القطع أو الاطمئنان بتواترها.
الطائفة الخامسة: ما دلَّ على أنَّ الأرض لا تبقى بغير إمامٍ حيٍّ ظاهر:
١ - روى الصفّار في البصائر بسنده عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «لا تبقى الأرض بغير إمام ظاهر»(٤٨).
ورواها أيضاً ابن بابويه القمّي في الإمامة والتبصـرة بسنده عن محمّد بن مسلم، ولكن فيه: «ظاهر أو باطن»(٤٩).
وفي العلل أيضاً كما في الإمامة والتبصرة(٥٠).
٢ - ما رواه الصدوق في العلل بسنده عن يعقوب السـرّاج، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تبقى الأرض بلا عالم حيّ ظاهر يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم؟ فقال لي: «إذاً لا يُعبَد الله يا أبا يوسف»(٥١).
ورواها القمّي في الإمامة والتبصرة أيضاً(٥٢).
٣ - ما رواه الصفّار في البصائر بسنده عن أبي إسحاق الهمداني، قال: حدَّثني الثقة من أصحابنا أنَّه سمع أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «اللَّهُمَّ لا تُخلي(٥٣) الأرض من حجَّة لك على خلقك ظاهر أو خافي مغمور لئلَّا تبطل حجَّتك وبيِّنانك»(٥٤).
ورواها في الإمامة والتبصرة(٥٥).
وفي الكافي أيضاً(٥٦).
وفي العلل أيضاً(٥٧).
وفي كمال الدين(٥٨).
٤ - وروى الصدوق في كمال الدين بسنده عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن عليٍّ عليهم السلام أنَّه قال في خطبة له على منبر الكوفة: «اللَّهُمَّ إنَّه لا بدَّ لأرضك من حجَّة لك على خلقك، يهديهم إلى دينك ويُعلِّمهم علمك، لئلَّا تبطل حجَّتك ولا يضلُّ أتباع أوليائك بعد إذ هديتهم به، إمَّا ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم مترقِّب، إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم، فإنَّ علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون»(٥٩).
الطائفة السادسة: ما دلَّ على أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة:
١ - روى الصدوق في العلل بسنده عن كرّام، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام»، وقال: «إنَّ آخر من يموت الإمام، لئلَّا يحتجَّ أحدهم على الله عزَّ وجلَّ تركه بغير حجَّة لله عليه»(٦٠).
ورواها القمّي في الإمامة والتبصرة(٦١).
٢ - ما رواه القمّي في الإمامة والتبصـرة بسنده عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال الباقر عليه السلام: «ما خلت الدنيا - منذ خلق الله السماوات والأرض - من إمام عدل إلى أن تقوم الساعة حجَّة لله فيها على خلقه»(٦٢).
٣ - وروى القمّي أيضاً في الإمامة والتبصـرة عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدَّثنا أحمد بن إسحاق، قال: دخلت على مولانا أبي محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري عليه السلام، فقال: «يا أحمد، ما كان حالكم فيما كان فيه الناس من الشكِّ والارتياب؟»، فقلت له: يا سيِّدي، لـمَّا ورد الكتاب لم يبقَ منّا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلَّا قال بالحقِّ، فقال: «أحمد الله على ذلك يا أحمد، أمَا علمتم أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة؟ وأنا ذلك الحجَّة - أو قال: أنا الحجَّة -»(٦٣).
٤ - وروى الكليني في الكافي بسنده عن أبي عليِّ بن راشد، قال: قال أبو الحسن عليه السلام: «إنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة، وأنا والله ذلك الحجَّة»(٦٤).
٥ - ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن الفضل بن شاذان فيما كتبه الإمام الرضا عليه السلام للمأمون حيث جاء فيه بعد كلامٍ طويل: «وأنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة الله تعالى على خلقه في كلِّ عصر وأوان»(٦٥).
٦ - وروى الصدوق في كمال الدين بسنده عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث له في الحسين بن عليٍّ عليهما السلام أنَّه قال في آخره: «ولولا من على الأرض من حجج الله لنفضت الأرض ما فيها وألقت ما عليها، إنَّ الأرض لا تخلو ساعة من الحجَّة»(٦٦).
٧ - وروى الصدوق في كمال الدين بسنده عن صفوان بن يحيى، قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: «إنَّ الأرض لا تخلو من أن يكون فيها إمام منّا»(٦٧).
٨ - وروى الصدوق أيضاً في كمال الدين بسنده عن أبي خالد الكابلي، عن الإمام عليِّ بن الحسين عليه السلام حديثاً طويلاً، وممَّا جاء فيه: فقلت له: يا سيِّدي، روي لنا عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله (عزَّ وجلَّ) على عباده، فمن الحجَّة والإمام بعدك؟ قال: «ابني محمّد، واسمه في التوراة باقر، يبقر العلم بقراً، هو الحجَّة والإمام بعدي...»(٦٨).
٩ - وروى الصدوق أيضاً في كمال الدين بسنده عن السفير الثاني محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) يقول: سمعت أبي يقول: سُئِلَ أبو محمّد الحسن بن عليٍّ عليهما السلام وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه عليهم السلام أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله على خلقه إلى يوم القيامة، وأنَّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، فقال عليه السلام: «إنَّ هذا حقٌّ كما أنَّ النهار حقٌّ»، فقيل له: يا ابن رسول الله، فمن الحجَّة والإمام بعدك ؟ فقال: «ابني محمّد، هو الإمام والحجَّة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية. أمَا إنَّ له غيبة يُحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقّاتون، ثمّ يخرج، فكأنّي أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(٦٩).
١٠ - وروى النعماني في غيبته بسنده عن المفضَّل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «خبر تدريه خير من عشـر ترويه، إنَّ لكلِّ حقٍّ حقيقة، ولكلِّ صواب نوراً»، ثمّ قال: «إنّا والله لا نعدُّ الرجل من شيعتنا فقيهاً حتَّى يلحن له فيعرف اللحن، إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قال على منبر الكوفة: إنَّ من ورائكم فتناً مظلمة عمياء منكسفة لا ينجو منها إلَّا النومة. قيل: يا أمير المؤمنين، وما النومة؟ قال: الذي يعرف الناس ولا يعرفونه. واعلموا أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله (عزَّ وجلَّ)، ولكن الله سيُعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم، ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجَّة لله لساخت بأهلها، ولكن الحجَّة يعرف الناس ولا يعرفونه، كما كان يوسف يعرف الناس وهم له منكرون»، ثمّ تلا: «﴿يا حَسْـرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ [يس: ٣٠]»(٧٠).
الطائفة السابعة: ما دلَّ على أنَّ الأرض والناس لا يصلحهما إلَّا وجود الإمام:
١ - فقد روى القمّي في الإمامة والتبصـرة بسنده عن الحسن بن زياد، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «الأرض لا تكون إلَّا وفيها عالم يصلحهم، ولا يصلح الناس إلَّا ذلك»(٧١).
ورواها الصدوق في العلل(٧٢).
٢ - وروى أيضاً بسنده عن الحسن بن زياد، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «لا يصلح الناس إلَّا بإمام، ولا تصلح الأرض إلَّا بذلك»(٧٣).
ورواها الصدوق في العلل(٧٤).
الطائفة الثامنة: ما دلَّ على أنَّ الحجَّة تكون قبل الخلق ومعهم وبعدهم:
فقد روى الصفّار بسنده عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «الحجَّة قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق»(٧٥).
ورواها القمّي في الإمامة والتبصرة(٧٦)، والكليني في الكافي(٧٧)، والصدوق في كمال الدين(٧٨).
هذه طوائف ثمان، ذات مضمون واحد، وهو ضرورة وجود الإمام في كلِّ زمان، وهي تُشكِّل بجميع طوائفها تواتراً معنوياً، ولعلَّ المتتبِّع يجد طوائف أُخرى يمكن أن تُضاف إلى هذه الطوائف.
هذا كلّه بلحاظ روايات الإماميَّة.
روايات العامَّة:
بعد التتبّع عثرت على رواية واحدة، رواها بعض العامَّة، وهي ما رواه الحنفي القندوزي في ينابيع المودَّة، نقلاً عن الحمويني في فرائد السمطين.
فقد ذكر القندوزي في ينابيع المودَّة ما نصّه: وأخرج الشيخ الحمويني في (فرائد السمطين): بسنده عن سليمان الأعمش بن مهران، عن جعفر الصادق، عن أبيه، عن جدِّه عليِّ بن الحسين (رضي الله عنهم)، قال: «نحن أئمَّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادات المؤمنين، وقادة الغرِّ المحجَّلين، وموالي المسلمين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، وبنا يُمسِك السماء أن تقع على الأرض إلَّا بإذنه، وبنا ينزل الله الغيث وتنشـر الرحمة وتخرج بركات الأرض، ولولا ما على الأرض منّا لساخت بأهلها»، ثمّ قال: «ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجَّة الله فيها، إمَّا ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو الأرض إلى أن تقوم الساعة من حجَّة فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله». قال سليمان: فقلت لجعفر الصادق رضي الله عنه: كيف ينتفع الناس بالحجَّة الغائب المستور؟ قال: «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب»(٧٩).
إذاً هذا المضمون تشترك في نقله كتب الخاصَّة وكتب العامَّة، ولكن يبقى الفارق أنَّه في كتبنا قد بلغ حدَّ التواتر، بينما في كتب العامَّة لم نعثر سوى على رواية واحدة، ولكن المهمّ أنَّ هذا المضمون لم تنفرد الإماميَّة بروايته، بل رواه الجمهور أيضاً.
وممَّا ينبغي الالتفات إليه أنَّ الدليل الدالّ على التمسّك بأهل البيت وبقائهم إلى يوم القيامة قائم عند العامَّة، وثابت في مروياتهم، كما اعترف بذلك أحمد بن حجر الهيتمي المكّي في الصواعق المحرقة، حيث قال ما نصّه: (والحاصل أنَّ الحثَّ وقع على التمسّك بالكتاب وبالسُّنَّة وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويُستفاد من مجموع ذلك بقاء الأُمور الثلاثة إلى قيام الساعة. ثمّ اعلم أنَّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابياً)(٨٠).
النقطة الثانية
دلالتها
مقدّمة:
لا بدَّ أوَّلاً من إيضاح بعض المفردات التي وردت في الروايات المتقدِّمة.
١ - (ساخت الأرض):
قال ابن الأثير في النهاية: (يقال: ساخ في الأرض يسوخ ويسيخ إذا دخل فيها)(٨١).
وقال ابن منظور في لسان العرب: (ثوخ: ثاخَ الشـيءُ ثَوْخاً: ساخ. وثاخَت قَدَمُه في الوَحَلِ تَثُوخُ وتَثِيخ: خاضت وغابت فيه؛ قال المتنخل الهذلي يصف سيفاً:
ما ثاخَ في مُحْتَفَلٍ يَخْتَلي أَبيضُ كالرَّجْع رَسُوبٌ إِذا
أَراد بالأَبيض السيف، والرَّجْع: الغَدير، شبَّه السيف به في بياضه. والرَّسُوبُ: الذي يَرْسُب في اللحم. والمُحْتَفَل: أَعظم موضع في الجسد. ويختلي: يَقْطَعُ.
وثاخَ وساخَ: ذهب في الأَرض سُفْلاً.
وثاختِ الإِصْبَعُ في الشيء الوارم: ساخت؛ قال أَبو ذؤيب:
بالنِّيِّ فهي تَثُوخُ فيها الإِصْبَعُ قَصَـرَ الصَّبُوحَ لها فَشُـرِّجَ لَحْمُها
وروي هذا البيت بالتاء وقد تقدَّم، وهذه الكلمة يائية وواوية.
ثيخ: ثاخَتْ رجلُه تَثِيخ مثل ساخت، والواو فيه لغة، وقد تقدَّم؛ وزعم يعقوب أَن ثاء ثاخت بدل من سين ساخت، والله أعلم)(٨٢).
وحاصله: أنَّ ساخ بمعنى دخل في الأرض.
وقال الفيروزآبادي في القاموس: (ساخت قوائمه: ثاخت، والشـيء: رسب، والأرض بهم سيوخاً وسؤوخاً وسوخاناً: انخسفت. وفيه سواخية كعلابطة: طين كثير. وصارت الأرض سواخاً)(٨٣).
والحاصل: ساخت الأرض بأهلها: رسبت بهم، وغاصت بهم، وانخسفت.
٢ - (ماجت الأرض):
قال الفراهيدي في العين: (موج: الموج: ما ارتفع من الماء فوق الماء. والفعل: ماج الموج يموج. وماج الناس: دخل بعضهم في بعض)(٨٤).
وقال الجوهري في الصحاح: (ماج البحر يموج موجاً: اضطربت أمواجه. وكذلك الناس يموجون)(٨٥).
وقال ابن فارس في معجمه: (موج) الميم والواو والجيم أصل واحد يدلُّ على اضطراب في الشيء. وماج الناس يموجون إذا اضطربوا. وماج أمرهم ومرج اضطرب، والموج موج البحر سُمّي لاضطرابه. وماج يموج موجاً وموجاناً. وكلُّ شيء اضطرب فقد ماج)(٨٦).
وقال ابن منظور في لسان العرب: (موج: المَوْجُ: ما ارتفع من الماء فوق الماء، والفعل ماجَ الموجُ، والجمع أَمْواج؛ وقد ماجَ البحرُ يموجُ مَوْجاً ومَوَجاناً ومُؤُوجاً، وتَموَّج: اضطرَبَت أَمواجُه. ومَوْجُ كلِّ شيء وموَجانُه: اضطرابُه)(٨٧).
إذاً ماج الشيء اضطرب، فيكون المعنى: ماجت الأرض، أي اضطربت.
٣ - (نفضت الأرض):
قال الجوهري في الصحاح: ([نفض] نفضت الثوب والشجر أنفضه نفضاً، إذا حرَّكته لينتفض. ونفَّضته شُدِّد للمبالغة. والنفض - بالتحريك -: ما تساقط من الورق والثمر، وهو فعل بمعنى مفعول، كالقبض بمعنى المقبوض. والنفاض - بالضمِّ - والنفاضة: ما سقط عن النفض. والمنفض: المنسف. ونفضت المرأة كرشها فهي نفوض: كثيرة الولد. ونفضت الإبل أيضاً وأنفضت: نتجت)(٨٨).
وقال ابن الأثير في النهاية: (والأصل في النفض: الحركة)(٨٩).
وقال ابن منظور في لسان العرب: (نفض: النَّفْضُ: مصدر نفَضْتُ الثوبَ والشجَرَ وغيره أَنْفُضُه نَفْضاً إِذا حرَّكْتَه ليَنْتَفِضَ، ونَفَّضْتُه شُدِّد للمبالغة. والنَّفَضُ - بالتحريك -: ما تَساقَط من الورق والثَّمَر وهو فَعَلٌ بمعنى مفْعُول كالقَبَضِ بمعنى المَقْبُوضِ. والنَّفَضُ: ما وقَع من الشـيء إِذا نَفَضْتَه. والنَّفْضُ: أَن تأْخذ بيدك شيئاً فتَنْفُضَه تُزَعْزِعُه وتُتَرْتِرُه وتَنْفُضُ التراب عنه. ابن سيِّدة: نَفَضَه يَنْفُضُه نَفضاً فانْتَفَضَ. والنُّفاضةُ والنُّفاضُ - بالضمِّ -: ما سقط من الشـيء إِذا نُفِضَ وكذلك هو من الورق، وقالوا: نُفاضٌ من ورق كما قالوا: حالٌ من ورَق، وأَكثر ذلك في ورق السَّمُرِ خاصَّة يُجْمَعُ ويُخْبَط في ثوب. والنَّفَضُ: ما انْتَفَضَ من الشيء)(٩٠).
إذاً (نفضت الأرض): تحرَّكت، وتزعزعت، وألقت ما عليها، تماماً كما يُنتَفض الثوب لإخراج ما عَلُق به من تراب.
هذه أهمّ المفردات الواردة في هذه الروايات، وقد اتَّضح أنَّ المراد منها شيء واحد، وهو أنَّ الأرض لا تبقى إذا ارتفع الإمام منها، وقد عبَّرت الروايات عن ذلك تارةً بـ (ساخت) أي انخسفت، وأُخرى (ماجت) أي اضطربت، وثالثة بـ (نفضت) أي ألقت ما عليها، وكلُّ ذلك يشير إلى معنى واحد.
دلالة الروايات:
والذي ينبغي أن لا يغيب عن الذهن أنَّ الغرض من التعرّض لهذه الروايات هو إثبات ضرورة وجود المعصوم في كلِّ زمان، وبالتالي إثبات وجود الإمام المهدي عليه السلام في عصـر الغيبة الذي نعيشه، ولكي تتَّضح دلالة الروايات على ذلك، نطرح الأسئلة التالية:
- ما هي علاقة وجود الإمام ببقاء الأرض واستقرارها؟
- ما هي علاقة وجود الإمام بصلاح الناس، وأنَّه لولاه لفسدت أُمورهم واضطربت؟
- كيف نُثبِت أنَّ المراد من الإمام في هذه الروايات هو الإمام المعصوم؟
جواب السؤال الأوَّل:
ممَّا يجدر الالتفات إليه أنَّ الروايات تتحدَّث - بحسب ظاهرها - عن وجود علاقة تكوينية بين وجود الإمام وبقاء الأرض، فهو علَّة لبقائها واستقرارها، فانخساف الأرض وتموّجها واضطرابها، وما شاكل ذلك، كلّه من الآثار التكوينية الناجمة عن فقد الإمام وارتفاعه، ولكن يا تُرى هل المراد منها هذا المعنى الظاهر، أي انخساف الأرض حقيقة أو المراد معنى كنائي وهو هلاك البشـر واضطراب نظامهم، أو شيء آخر؟
هناك ثلاثة اتِّجاهات في هذا المجال:
الاتِّجاه الأوَّل: ما تبنّاه بعض الأعلام، من المحافظة على المعنى الظاهر، وأنَّ الأرض تسيخ حقيقةً، وتضطرب وتزول، منهم صاحب الأنوار الساطعة، حيث قال: (الظاهر هو الهلاك الحقيقي كما لا يخفى)(٩١).
الاتِّجاه الثاني: ما احتمله بعض الأعلام، من أنَّ المراد منها المعنى الكنائي، وهو الكناية عن هلاك الناس، وذهاب نظامهم. وفرقه عن الأوَّل أنَّ المفروض في الأوَّل زوال الأرض حقيقةً وفنائها، بينما على هذا المعنى لا يفترض فناء الأرض وزوالها، وإنَّما هلاك البشر وفنائهم.
منهم المولى المازندراني في شرح أُصول الكافي، حيث قال: (قوله: (لساخت): أي لغاصت في الماء وغابت، ولعلَّه كناية عن هلاك البشـر وفنائهم، ويحتمل أن يريد الحقيقة لأنَّ الغرض الأصلي من انكشاف بعض الأرض هو أن يكون مسكناً لهم وكونه مسكناً لغيرهم من الحيوانات المتنفِّسة إنَّما هو بالعرض، فإذا فات الغرض الأصلي عاد إلى وضعه الطبيعي)(٩٢)، ومراده من (عاد إلى وضعه الطبيعي) غوص الأرض في الماء، وزوالها.
ومنهم العلَّامة المجلسـي في مرآة العقول، حيث قال: (والمراد هنا غوصها في الماء إمَّا حقيقةً أو كناية عن هلاك البشر وذهاب نظامها)(٩٣).
الاتِّجاه الثالث: ما حُكي عن السيِّد المرتضـى في الشافي، من أنَّ المراد وقوع الفتن، والضلال، وغياب الأمن والسعادة، بسبب ارتفاع الإمام، وليس المراد زوال الأرض حقيقةً، أو زوال الناس وفنائهم، فهذا الاتِّجاه يفترض بقاء الأرض، وبقاء الناس مع فقد الإمام، ولكن تضطرب أُمور الناس من حيث الاستقامة والصلاح، وبهذا يفترق عن الاتِّجاهين السابقين.
فقد حكى عنه ذلك الميرزا أبو الحسن الشعراني، في تعليقة له على شرح أُصول الكافي.
قال ما نصّه: (قوله: (ولعلَّه كناية عن هلال البشـر): أنكر السيِّد المرتضـى رضي الله عنه في الشافي أن يكون مذهب الإماميَّة زوال الأرض وهلاكها تكويناً، أمَّا قولهم: «لولا الحجَّة لساخت الأرض» فإن ثبت صدوره من الإمام المعصوم كان المراد الفتنة والضلال وهلاك الناس بزوال الأمن والسعادة، لأنَّ عدم وجود الإمام العادل المتصـرِّف إمَّا أن يكون بعدم وجود أمير مطلقاً وفساد ظاهر، وإمَّا بوجود جائر أو جاهل وهو مثله)(٩٤).
والاتِّجاه الأوَّل هو الموافق للظاهر، ولا تُرفَع اليد عنه إلَّا بقرينة لفظية أو عقلية، وهي مفقودة في المقام، ولهذا لا يُصار إلى الاتِّجاهين الآخرين لأنَّهما خلاف الظاهر.
إن قلت: روايات الطائفة الثالثة تصلح أن تكون قرينة لرفع اليد عن الظاهر، إذ هي تُعلِّل ضرورة وجود الإمام برفع اللبس عن الناس وتمييزهم بين الحقِّ والباطل، وأنَّه لو رُفِعَ لالتبس على الناس أُمرهم، ولم يُفرِّقوا بين الحقِّ والباطل، وهذا يعني أنَّ وجود الإمام وعدمه لا علاقة له بالأرض، وإنَّما العلاقة كلّ العلاقة بحال الناس، فمع ذهابه يهلك الناس، بحسب الاتِّجاه الثاني، أو يضلّون وتفسد أُمورهم، بحسب الاتِّجاه الثالث.
قلت: يمكن أن نُجيب بما يلي:
أوَّلاً: قد نقبل هذه القرينة لو لم يكن غير هذه الطائفة من الروايات، ليُقال: إنَّ ذيلها يصلح لتفسير المراد من صدرها، إلَّا أنَّ وجود بقيَّة الطوائف يمنع من قبول ذلك، خصوصاً مع ملاحظة روايات الطائفة الأُولى التي يدور الكلام فيها سؤالاً وجواباً حول الأرض، حيث يسأل السائل: هل تبقى الأرض بلا إمام؟ فيقول الإمام: «لا، إذاً لساخت»، أو يبتدأ الإمام بذلك من غير سؤال، وليس فيها إشارة إلى الناس لا من قريب ولا من بعيد.
ثانياً: لو تنزَّلنا وافترضنا عدم وجود غير هذه الطائفة، لا نُسلِّم دلالتها على المطلوب أصلاً، إذ هي لا تتنافى مع إرادة المعنى الحقيقي، وإنَّما هي تتحدَّث عن حال الناس عند فقد الإمام، وأمَّا حال الأرض بعد ذلك، أتبقى أم تزول؟ فهي ساكتة عن ذلك.
ثمّ ممَّا يقوّي الاتِّجاه الأوَّل كثرة الروايات، الناتج من كثرة السؤال حول هذا الموضوع، فلو كان المراد أنَّ فقد الإمام ليس له تأثير تكويني، وإنَّما له تأثير في استقامة الناس وسعادتهم، لما اقتضـى ذلك كثرة الأسئلة، وتكرارها، حتَّى في الرواية الواحدة، إذ تأثير الإمام العادل في استقامة أُمور الناس وتدبير شؤونهم وسعادتهم من الأُمور الواضحة التي لا تستوجب كلّ هذه الأسئلة، بينما افتراض تأثير الإمام في الأرض تأثيراً تكوينياً ممَّا يُثير الاستغراب، ويستدعي كثرة الأسئلة والاستفهامات، وتكرارها.
والحاصل: ظاهر الروايات وجود علاقة تكوينية بين الإمام والأرض، فمع زواله تزول الأرض، ولا يوجد ما يمنع من الأخذ بهذا الظاهر، خصوصاً وأنَّ هذا المعنى يتناسب مع السنن الإلهية الجارية على الأُمم التي كُتِبَ عليها العذاب الدنيوي، فكلُّ أُمَّةٍ استحقَّت العذاب أخرج الله تعالى منها أنبياءه وصلحاءه ثمّ أهلكهم، ودمَّر أرضهم ومساكنهم، وإليك بعض تلك الشواهد:
١ - من ذلك ما جاء في قصَّة نبيِّ الله لوط عليه السلام حيث أمره الله تعالى بالخروج منها مع أهله إلَّا امرأته، ثمّ أهلك قريته وجعل عاليها سافلها.
قال تعالى: ﴿قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ (هود: ٨١ - ٨٣).
٢ - وفي قصَّة نبيِّ الله شعيب قال (عزَّ من قائل): ﴿وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ (هود: ٩٤ و٩٥).
٣ - وقال تعالى في قصَّة نبيِّه نوح عليه السلام:ـ ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ * قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِـيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (هود: ٤٠ - ٤٤).
إلى غيرها من الشواهد القرآنية الكثيرة.
ومع اتِّضاح هذا نأتي إلى الجواب عن السؤال، فنقول:
أوَّلاً: أنَّ الغاية من خلق الإنسان هي عبادة الله تعالى، وقد خلق الله الأرض وما عليها لخدمة هذا الإنسان، الذي هو خليفة الله في الأرض، يُحقِّق إرادته تعالى، ويُنفِّذ مشيئته، قال تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦)، وقال (عزَّ من قائل): ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: ٣٠).
ثانياً: أنَّ الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان لها آثار تكوينية، من قبيل: منع المطر، وقلَّة الزرع، وانتشار الأمراض والأوبئة، ونحو ذلك. وقد تحدَّث القرآن الكريم عن ذلك في عدَّة آيات، وهكذا أحاديث أهل البيت عليهم السلام، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: ٤١)، وقال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها * فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها﴾ (الشمس: ١١ - ١٤)، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: ٩٦).
ونقرأ في دعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «اللَّهُمَّ اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللَّهُمَّ اغفر لي الذنوب التي تُنزل النقم، اللَّهُمَّ اغفر لي الذنوب التي تُغيِّر النِّعَم، اللَّهُمَّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللَّهُمَّ اغفر لي الذنوب التي تُنزل البلاء»(٩٥).
والنصوص في هذا المجال كثيرة، ومنها يتَّضح بما لا يقبل الشكَّ أنَّ أفعال الإنسان الصالحة والطالحة ممَّا لها تأثير إيجابي أو سلبي في عالم التكوين، أمَّا كيف يكون هذا التأثير، وما هي طبيعته؟ فهو ممَّا يحتاج لبحث ودراسة معمَّقة، ولعلَّ بالامكان أن نطرح هذه الفكرة، وهي: أنَّ الكون كلّه خاضع لنظام وقانون ومعادلات ثابتة، وبمجرَّد أن يحصل اختلال في بعض جزئياته يتأثَّر نظامه وقانونه، فالأرض تدور حول نفسها، فيحصل الليل والنهار، وبمجرَّد أن تتوقَّف عن الدوران تنعدم ظاهرة الليل والنهار، ويكون إمَّا ليل وإمَّا نهار، وقس على ذلك بقيَّة الأمثلة، وحيث إنَّ فعل الإنسان له حصَّة من الوجود فلا بدَّ أن يخضع لقانون ونظام معيَّن ضمن هذا النظام الكوني العامّ المترابط في كلِّ جزئياته ومفرداته، فإذا خالف هذا الإنسان هذا القانون من خلال الخروج عمَّا رسمه الله تعالى له من نظام وقانون فلا بدَّ أن يكون لهذا الخروج من تأثير على هذا النظام الكوني، وما لم يُصحِّح المسير ويعود هذا الإنسان إلى نظامه المرسوم له وفق الخطَّة الكونيَّة فلا بدَّ أن تتداعى التأثيرات وتتلاحق، ومن ثَمَّ يحصل الدمار والخراب، بسبب تعطُّل النظام الكوني العامّ.
ثالثاً: من خلال هذه الفكرة نستطيع أن نفهم الروايات التي تقول: «لا يصلح الناس إلَّا بإمام، ولا تصلح الأرض إلَّا بذلك»، والتي تقول: عن يعقوب السـرّاج قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تبقى الأرض بلا عالم حيّ ظاهر يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم؟ فقال لي: «إذاً لا يُعبَد الله يا أبا يوسف»، والتي تقول: «لن تبقى الأرض إلَّا وفيها رجل منّا يعرف الحقَّ، فإذا زاد الناس فيه قال: قد زادوا، وإذا نقصوا منه قال: قد نقصوا، وإذا جاؤوا به صدَّقهم، ولو لم يكن كذلك لم يُعرَف الحقُّ من الباطل»، فصلاح الأرض بل الكون لا يتمُّ إلَّا بصلاح الناس لأنَّهم ضمن النظام الكوني العامّ، الذي إذا ما تصدَّعت بعض أجزائه أو اختلَّت - ومنها أفعال الناس وآثارهم - تصدَّع سائر الكون واختلَّ نظامه، وحيث إنَّ الخطأ وارد في حقِّ الناس لعدم عصمتهم، احتاجوا إلى المعصوم الذي يقوم بدور الإصلاح وإيضاح الحقِّ من الباطل.
وإذا أردنا أن نُرتِّب هذه الروايات ترتيباً منطقياً متسلسلاً، يمكن أن نقول:
١ - لا تصلح الأرض إلَّا بصلاح الناس، ولا يصلح الناس إلَّا بوجود الإمام المعصوم.
٢ - لأنَّهم إذا زادوا شيئاً نبَّههم إلى ذلك، وإن نقصوا شيئاً نبَّههم إلى ذلك، وإن جاؤوا بالحقِّ كاملاً صدَّقهم.
٣ - فإذا فُقِدَ الإمام اختلط على الناس الحقُّ والباطل، فلم يستطيعوا أن يُحِّققوا الغاية التي من أجلها خُلقوا وخُلِقَ الكون والأرض لهم، وهي العبادة الكاملة التامَّة ولو بوجوده المقدس، إذاً بارتفاع الإمام لا يُعبَد الله تعالى حقَّ عبادته، فتنتفي الغاية التي لأجلها خُلِقَت الأرض، فتضطرب وتزول.
وحاصل الجواب: أنَّ فقد الإمام المعصوم يوجب فقد الغاية التي لأجلها خُلِقَ الكون، وهي العبادة الصحيحة الكاملة، إذ غير المعصوم لا يستطيع أن يُحقِّق هذه الغاية دون هذا المرشد والمعلِّم، وحيث إنَّ أفعال الإنسان الناقصة لها تأثير سلبي في تغيير المعادلات الكونية، فلا بدَّ أن تتأثَّر بذلك الأرض فتضطرب وتسيخ.
جواب السؤال الثاني:
اتَّضح من خلال الجواب المتقدِّم عن السؤال الأوَّل.
جواب السؤال الثالث:
يمكن أن نجيب بجوابين:
١ - اتَّضح من خلال الجواب المتقدِّم أيضاً، فإنَّ الذي يعلم الزيادة والنقصان، والحقَّ والباطل، بحيث لا يقع في حقِّه الاشتباه أو الخطأ إنَّما هو المعصوم فقط.
٢ - التصـريح بذلك في بعض الروايات المتقدِّمة، راجع على سبيل المثال الطائفة الأُولى الأحاديث ( ٨ - ١٠)، والطائفة الثانية الأحاديث (٢ و٣)، والطائفة الثالثة الحديث (١).
وفي خاتمة البحث نُلخِّص النتائج التالية:
١ - إنَّ الروايات الدالّة على أنَّ الارض لا تخلو من الإمام المعصوم قد بلغت حدَّ التواتر الذي لا يسع معه الإنكار والتكذيب، بل يجب معه الإذعان والتصديق.
٢ - إنَّ هذا المضمون مرويٌّ في مصادر العامَّة، ولم تنفرد الإماميَّة بروايته.
٣ - اتَّضح أنَّ الصحيح المحافظة على ظاهر الروايات الدالّة على أنَّ الأرض تسيخ حقيقة عند فقد الإمام المعصوم.
٤ - من الواضح أنَّ من الأسباب المهمَّة وراء صدور هذا النوع من الروايات وبهذه الكثرة العظيمة هو إثبات وجود الإمام المهدي المنتظر عليه السلام في عصر الغيبة.
الهوامش:
(١) الكافي ١: ٣٣٧/ باب الغيبة/ ح ٥.
(٢) بصائر الدرجات: ٥٠٨.
(٣) علل الشرائع ١: ١٩٨؛ عيون أخبار الرضا ١: ٢٤٦؛ كمال الدين وتمام النعمة: ٢٠٢.
(٤) بصائر الدرجات: ٥٠٨.
(٥) الإمامة والتبصرة: ٣٠؛ الكافي ١: ١٧٩؛ علل الشرائع ١: ١٩٦.
(٦) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٠١.
(٧) الغيبة للطوسي: ٢٢٠؛ الغيبة للنعماني: ١٣٩.
(٨) بصائر الدرجات: ٥٠٨.
(٩) الكافي ١: ١٧٩.
(١٠) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٠٢.
(١١) الغيبة: ١٣٩.
(١٢) دلائل الإمامة: ٤٣٥.
(١٣) بصائر الدرجات: ٥٠٨.
(١٤) علل الشرائع ١: ١٩٨.
(١٥) الكافي ١: ١٧٩.
(١٦) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٠٢.
(١٧) بصائر الدرجات: ٥٠٩.
(١٨) الكافي ١: ١٧٩.
(١٩) علل الشرائع ١: ١٩٨؛ عيون أخبار الرضا ١: ٢٤٦.
(٢٠) الغيبة: ١٤٠.
(٢١) بصائر الدرجات: ٥٠٩.
(٢٢) عيون أخبار الرضا ١: ٢٤٧.
(٢٣) الكافي ١: ٥٣٤.
(٢٤) الأمالي: ٢٥٢.
(٢٥) كفاية الأثر: ١٦٣.
(٢٦) الكافي ١: ١٧٩.
(٢٧) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٠٢.
(٢٨) دلائل الإمامة: ٤٣٥.
(٢٩) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٠٣.
(٣٠) مقتضب الأثر: ٤.
(٣١) بصائر الدرجات: ٥٠٥.
(٣٢) الكافي ١: ١٧٨.
(٣٣) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٢٩.
(٣٤) بصائر الدرجات: ٥٠٥.
(٣٥) الإمامة والتبصرة: ٢٩.
(٣٦) الكافي ١: ١٧٩.
(٣٧) بصائر الدرجات: ٥٠٦.
(٣٨) الكافي ١: ١٧٨.
(٣٩) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٣٣.
(٤٠) بصائر الدرجات: ٣٥١.
(٤١) علل الشرائع ١: ١٩٩.
(٤٢) علل الشرائع ١: ٢٠١.
(٤٣) بصائر الدرجات: ٣٥١.
(٤٤) المصدر السابق.
(٤٥) علل الشرائع ١: ١٩٦.
(٤٦) بصائر الدرجات: ٣٥٢.
(٤٧) علل الشرائع ١: ٢٠٠.
(٤٨) بصائر الدرجات: ٥٠٦.
(٤٩) الإمامة والتبصرة: ٣١.
(٥٠) علل الشرائع ١: ١٩٧.
(٥١) علل الشرائع ١: ١٩٥.
(٥٢) الإمامة والتبصرة: ٢٧.
(٥٣) هكذا في المصدر، والصحيح: (لا تخلُ)؛ وهكذا الأمر في (خافي) إذ الصحيح (خافٍ).
(٥٤) بصائر الدرجات: ٥٠٦.
(٥٥) الإمامة والتبصرة: ٢٦.
(٥٦) الكافي ١: ١٧٨.
(٥٧) علل الشرائع ١: ١٩٥.
(٥٨) كمال الدين وتمام النعمة: ٣٠٢.
(٥٩) المصدر السابق .
(٦٠) علل الشرائع ١: ١٩٦.
(٦١) الإمامة والتبصرة: ٣٠.
(٦٢) الإمامة والتبصرة: ٢٥.
(٦٣) الإمامة والتبصرة: ١٠٠.
(٦٤) الكافي ١: ١٧٩.
(٦٥) عيون أخبار الرضا ٢: ١٣٠.
(٦٦) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٠٢.
(٦٧) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٢٩.
(٦٨) كمال الدين وتمام النعمة: ٣١٩.
(٦٩) كمال الدين وتمام النعمة: ٤٠٩.
(٧٠) الغيبة: ١٤٤.
(٧١) الإمامة والتبصرة: ٢٨.
(٧٢) علل الشرائع ١: ١٩٦.
(٧٣) المصدر السابق.
(٧٤) علل الشرائع ١: ١٩٦.
(٧٥) بصائر الدرجات: ٥٠٧.
(٧٦) الإمامة والتبصرة: ١٣٥.
(٧٧) الكافي ١: ١٧٧.
(٧٨) كمال الدين وتمام النعمة: ٢٢١.
(٧٩) ينابيع المودَّة ٣: ٣٦١، نقلاً عن فرائد السمطين ١: ٤٥.
(٨٠) الصواعق المحرقة: ١٥٠.
(٨١) النهاية ٣: ٦٥.
(٨٢) لسان العرب ٣: ١١.
(٨٣) القاموس المحيط ١: ٢٦٢.
(٨٤) العين ٦: ١٩٥.
(٨٥) الصحاح ١: ٣٤٢.
(٨٦) معجم مقاييس اللغة ٥: ٢٨٤.
(٨٧) لسان العرب ٢: ٣٧٠.
(٨٨) الصحاح ٣: ١١٠٩.
(٨٩) النهاية ٥: ٩٧.
(٩٠) لسان العرب ٧: ٢٤٠.
(٩١) الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة ٢: ٥٥.
(٩٢) شرح أُصول الكافي ٥: ١٢٦.
(٩٣) مرآة العقول ٢: ٢٩٧.
(٩٤) شرح أُصول الكافي ٥: هامش ص ١٢٦.
(٩٥) مصباح المتهجِّد: ٨٤٤.