العلماء والمسألة المهدوية (الشيخ البلاغي مثلاً)
الشيخ أحمد المبلغي | د. علي الاوسي
عندما نرى أنّ الشارع يؤكّد ويركّز على الانتظار، ونجد أن الانتظار ليس عملاً أو وظيفة لجيل خاص بل هو لكل الأجيال، نفهم أنّ قضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) قضية ترتبط بجميع الأزمان، وإنّ إحياء آثار العلماء الماضين الكبار لاسيما الذين لهم نظرة مهدوية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
إننا نجد لبعض هؤلاء العظام والعلماء الكبار دوراً كبيراً في إصلاح المجتمع كالعلّامة البلاغي النجفي، فإحياء آثار هؤلاء يعني تهيئة الأجواء والأرضية كاستقبال القضية المهمة، الشرعية الدينية والتي نسمّيها ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهذه هي العلاقة الأولى التي تربط قضية إحياء تراث العلماء بقضية المهدوية.
أمّا العلاقة الثانية فهي قضية التكامل أو السير التكاملي، الذي هو بحاجة إلى أنْ نزيد في علمنا، فالعلم ليس قضية ترتبط بالواقع الحاضر، وهو متشكّل ومتكوّن - ولاسيما العلوم الدينية - من تجارب العلماء الماضين، ولو تناسينا الأفكار الاجتماعية التي طرحت من قبل الشخصيات الماضية فسوف نكون في جوّ بعيد عن العلم أو الكمال علمي. إنّ العلّامة البلاغي من جملة هؤلاء الذين لهم أفكار رائعة في القضية المهدوية. خاصة ونحن بحاجة ماسة داخل القضية المهدوية إلى أنْ ننظر إلى التجارب السابقة التي كانت لعلمائنا، فهذه هي الزاوية الثانية. أمّا الزاوية الثالثة، فنحن نعلم أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يأتي لكي يصلح المجتمع، بمعنى أنّ قضية ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) قضية لها علاقة وثيقة بالاصلاح وبالمجتمع والعدل الكامل وتحقيقه، فنحن لكي نتمكن من تهيئة الأرضية لهذه القضية الكبرى، فنحن بحاجة إلى الإصلاحات التي تمت من قبل العلماء والمفكرين الماضين، والعلّامة البلاغي على رأس هؤلاء المفكرين الذين لهم دور كبير وبنّاء في المجتمع، وقد ترك هذا العلّامة آثاراً ايجابية وبنّاءة.
التعريف بالعلّامة البلاغي يعني كشف الوظيفة لهذا الواقع الذي نعيش فيه، والعمل على أساسه، ويعني تهيئة الأرضية لقضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهنا أشير إلى رسالة للعلّامة حول الإمام الثاني عشر، فإنه في كتابه (نسمات الهدى ونفحات المهدي (عليه السلام))، طرح قضية انتظار الفرج والعقيدة المهدوية واثبات وجود الإمام الثاني عشر بأدلة شافية وكافية.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، في هذا الأمر يفسر الخيرات بان أبرز مصاديقها الولاية، فكيف استفاد هذا المعنى؟
يقول العلّامة البلاغي: إنّ لكل أمّة شريعة اُمرت باتباعها، وقد نسخت بعض الشرائع فسارعوا إلى الحق واطلبوا أنْ تكون خيرات الأحكام في شريعتكم سبقاً لكم والغاية شريفة في مسارعتكم. ويستدل العلّامة بالروايات من الكافي وبحديث الغدير وبحديث الثقلين على أن أهم مصاديق الخيرات هي الولاية، للتمسك بمصداق أنّ العترة الطاهرة هي قرين الكتاب.
والملاحظ أنّ أهل البيت (صلّى الله عليه وآله وسلم) يحثوننا على إحياء أمرهم: (رحم الله من أحيا أمرنا). فهم لا يريدون بذلك إلا تواصل المجتمع بهم حتى ينتهي إلى الإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) ولا شك أنه من جملة إحياء أمرهم إحياء علمائهم الذين حفظوا لنا تراثهم وبينوه لنا وكشفوا ودفعوا الشبهات عنه.
وهذا الأمر يربط بين إحياء ذكرى وآثار العلماء، وإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام).
أنّ أهل البيت (عليهم السلام) كانت لهم مدرسة كبيرة وقابليات هذه المدرسة العظيمة لم تستحصل بعد، يعني ما نزال نحن في بداية الأمر من استكشاف ما في هذه المدرسة من قابليات عظيمة وتتمكن هذه المدرسة من الإجابة على متطلبات العصر، وحل المشاكل لكل مجتمع وفي كل عصر، مشكلتنا إننا لم نتمكن من أن نكشف كل ما في هذه المدرسة، والعلماء هم الذين يقومون بكشفها، وليس الأمر منحصراً بالعلماء الذين جاؤوا من بعد الأئمة (عليهم السلام)، بل بالعلماء في زمن الأئمة (عليهم السلام)، الأئمة (عليهم السلام) أنفسهم كانوا يصرّون على لجوء الناس إلى أصحابهم وعلماء أهل البيت ورواة حديثهم، وهذا الأمر إن دل على شيء إنّما يدل على إن الرجوع إلى العلماء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، ولو نهمل هذه الحلقة الواسطة (أي العلماء) الذين بيننا وبين هذه المدرسة، لو نهمل الرجوع إلى هؤلاء فهذا يعني إهمال هذه المدرسة، وهذا يعني إبقاءها على حالة لا نتمكن أن نعرفها جيداً.
إنّ الناس يتساءلون كيف يتمكن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من قيادة هذه المجتمعات المختلفة في لغاتها، في أفكارها، في حضاراتها، ولكننا يمكن أن نجد بعض الإجابة عند الشيخ العلّامة البلاغي النجفي، إذ إن له أثراً واضحاً في مسألة الحوار بين الأديان، فكما يقول العلامة: ولهذا يأتي عيسى (عليه السلام) مثلاً ويطوّع النصارى، أنه يصلّي خلف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
ونستطيع أنْ نقول أن العلّامة البلاغي هو أول من أسس في هذا الطريق، وحينما كان يتناول المصادر وآراء هذه الأديان من أهل الكتاب، كان ينقدها نقداً شفافاً، مبنياً على الدليل، لم يجرح فيهم، ولكن كان يعتمد القرآن أساساً، يعتمد على حقائق التأريخ، ويعتمد التناقضات الموجودة في كتبهم أساساً، والتهافت الذي حصل لدى كتّابهم، وينطلق من البديهيات، هذه كلها أسس كان ينطلق منها حينما يريد أنْ يتحدث.
أمّا صور الدفاع في حواره مع الأديان، فكان يدافع عن التوحيد، عن النبوة والأنبياء، عن عصمتهم، عن القرآن، عن الصحيح، عن كتب أهل الكتاب، وكان يدافع عن مسألة الإمامة والولاية، ويبرز في حديثه كيف أن الكتاب الصحيح في العهدين قبل التحريف، كيف كان يبشر برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهذا التبشير برسول الله بمعنى التصديق بكل ما يقول به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، كما أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بشر بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه): (حتى لو لم يبق إلا يوم واحد من الدنيا لطول الله ذلك اليوم) و(يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا)، و(يوافق اسمه اسمي)، وهناك أحاديث كثيرة وروايات كثيرة تؤكد هذا المعنى.
فالعلّامة البلاغي يأتي ليضع يده على أساس المشكلة فيقول: إن هناك تحريفاً في التوراة والانجيل لأن هناك نبوءة بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) يأتي من بعدي ومبشراً برسول اسمه أحمد. وهناك استدلالات قوية لدى العلّامة البلاغي في إثبات هذا المعنى، وبالتالي فهو يضع يده على أصل الموضوع فيأتي في مجمل تفسيره مؤكداً الإمامة ومشيراً إليها في مبحث العقائد ويتكلم في موضوع الإمامة وبشكل مفصّل عن الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه)، وهو يتبنى المدرسة (مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)) في خصوص ارهاصات ظهور الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وكيف هي ملابسات الظهور وعلامات الظهور، وهو جدّ متفائل في هذا الباب، ومن الطريف في حياة هذا العلّامة العظيم هو أنه لم يكتف بتقديم الدراسات بهذا الخصوص بل كان يشارك الناس في مجالسهم من أجل احياء ذكرى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).