الإمام لازم في كل زمان
السيد محمد حسين الطهراني
يقول الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين علي بن الحسين (عليه السلام) في دعاء يوم عرفة، وهو الدعاء السابع والأربعون من أدعية (الصحيفة السجّاديّة الكاملة): اللَهُمَّ إِنَّكَ أَيَّدْتَ دِينَكَ فِي كُلِّ أَوانٍ بِإمَامٍ أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبَادِكَ ومَنَاراً فِي بِلاَدِكَ بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وجَعَلْتَهُ الذَّرِيعَةَ إلى رِضْوَانِكَ، وَأَفْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ وحَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ، وأَمَرْتَ بِامْتِثَالِ أَمْرهِ والانْتِهَاءِ عِنْدَ نَهْيِهِ، وَأَلاّ يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَلاَ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ عِصْمَةُ اللاّئِذِينَ وَكَهْفُ الْمُؤمِنِينَ وَعُرْوَةُ الْمُتَمَسِّكِينَ وَبِهَاءُ الْعَالَمِينَ.
هذا الدعاء الذي يدلّ على لزوم الإمام في كلّ زمن من الأزمان ممّا تطابق عليه العقل والنقل. أمّا العقل فبيانه أنّ الإنسان غير مكتف في الوجود والبقاء بذاته لأنّ نوعه لم ينحصر في شخصه، فلا يعيش في الدنيا إلّا بتمدّن واجتماع وتعاون، ولا يمكن وجوده بالانفراد، فافترقت أعداد واختلفت أضراب، وانعقدت ضياع وبلاد، فاضطرّوا في معاملاتهم ومناكحاتهم وجناياتهم إلى قانون مرجوع إليه بين كافّة الخلق يحكمون به بالعدل، وإلاّ تغالبوا وتهارسوا وفسد الجميع وانقطع النسل واختلّ النظام، ولابدّ من قانون يعيّن لهم منهجاً يسلكونه لانتظام معاشهم في الدنيا، ويسنّ لهم طريقاً يصلون به إلى الله، وذلك القانون هو الشرع الذي يعيّن لهم منهجاً يسلكونه لانتظام معاشهم في الدنيا، ويسنّ لهم طريقاً يصلون به إلى الله، ويفرض عليهم ما يذكّرهم أمر الآخرة، والرحيل إلى ربّهم وينذرهم وينادون فيه من مكان قريب، ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
ولابدّ أن يكون إنساناً، لأنّ مباشرة الملك لتعليم الإنسان على هذا الوجه مستحيل، ودرجة باقي الحيوانات أنزل من هذا، فتعيّن أن يكون إنساناً، ولابدّ من تخصيصه بآيات من الله دالّة على أنّ شريعته من عند ربّهم، ليخضع له النوع وهي المعجزة، وكما لابدّ في العناية لنظام العالم من المطر، والعناية لم تقصر عن إرسال السماء مدراراً لحاجة الخلق، فنظام العالم لا يستغني عمّن يعرّفهم صلاح الدنيا والآخرة، نعم من لم يهمل إنبات الشعر على الحاجبين للزينة لا للضرورة، كيف يهمل من وجوده رحمة للعالمين، وإقامته علماً يهتدى به لسلوك صراطه المستقيم.
فانظر إلى عنايته ولطفه تعالى كيف أعدّ لخلقه بإيجاد ذلك الشخص مع النفع العاجل والسلامة في العقبى والخير الآجل، فهذا هو خليفة الله في أرضه، وهو الإمام الذي نصبه علماً لعباده ومناراً في بلاده.
فإن قلت: هذا البيان إنـّما يوجب بعثة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، الذي هو الشارع المبيّن للشريعة لا مطلق الإمام. قلت: كما احتاج المكلّفون إلى نبيّ يستفيد الشريعة والحكمة من الوحي، فكذلك يحتاجون إلى حافظ لما بلّغة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) الأُمّة إلى الأُمّة بعد فوته، إذ لا يمكنهم حفظ جميع أحكامه، والكتاب لا يفي بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بمعرفة الأحكام على وجه يرفع الاحتياج إلى الإمام، فإنّ فيه مجملاً ومفصّلاً، ومحكماً ومتشابهاً، وخاصّاً وعامّاً، وناسخاً ومنسوخاً، وعلوماً باطنه، ودقائق غامضة من الأحكام وغيرها ممّا لا يتيسّر الإحاطة به إلاّ لنبيّ بطريق الوحي، أو وصيّ ذي أُذُن واعية يعي كلّ ما يسمعة من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فيحفظه على وجهه، والاجتهاد ممنوع.
وإن قلنا بصحّته، فإنـّما هي عند الضرورة وهي منفية من جانبه، فلابدّ لتلك الأُمور من حافظ عالم بها على وجهها ولا يتيسّر - كما عرفت - إلاّ لذي نفس قدسيّة وحدس عال، وبصيرة منيرة مصقولة من دنس الجهل وصدأ الصفات الذميمة لتنطبع فيها العلوم الإلهيّة، وتظهر فيها الأسرار الغيبيّة.
ولذلك قال بعض أهل العرفان: إنّ النبوّة والرسالة من حيث ماهيّتهما وحكمهما ما انقطعتا وما نسختا، وإنـّما انقطع مسمّي النبيّ والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وانقطع نزول المَلَك حامل الوحي على نهج التمثّل. وعلى هذا وردت الأخبار عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) في الفرق بين الرسول؛ والنبيّ، والمحدَّث.
إنّ الرسول: من يظهر له الملك فيكلّمه.
والنبيّ: هو الذي يرى في منامه، وربّما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد.
والمحدّث: الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة.
واشتهر الخبر عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم): إنّ في أُمَّتي مُحَدَّثينَ مُكَلَّمِينَ. وقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: إنَّ للَهِ عِبَاداً لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ يَغبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ. وأمّا النقل: فهو مستفيض من طرق العامّة والخاصّة إلى آخر ما ذكره من الروايات.
ولا يخفي على الناقد البصير والمؤمن الخبير أنّ كثيراً من المتكلّمين أقاموا هذا اللون من الاستدلال على لزوم الإمام، المبني على صيانة المجتمع والحضارة الإنسانيّة، ورعاية الحقوق، وعدم الاعتداء على الآخرين، ونشوء المدينة الفاضلة على أساس تعاون البقاء لا تنازعه. وأرادوا من وراء هذا البرهان وأمثاله أن يثبتوا مسألة لزوم الحاجة إلى وجود الإمام، بَيدَ أنّ مقام الإمام أرفع من هذه المهمّة، وواجبه أكثر قيمة منها.
ويلاحظ في الروايات المأثورة عندنا مواضيع عجيبة حول شخصيّة الإمام: نحو تعلّق حياة البشريّة به، ولولا وجوده لساخت الأرض بأهلها، وأنـّه حبل الله، والاسم الأعظم، وآية الحقّ الكبرى، وقوام العوالم، والقيّم على الخلق، وقوام حياة القلوب وطمأنينتها ولذلك لو قال أحد في مقابل البرهان المشار إليه إنـّه لو طبّق الحكماء الخبراء والعقلاء في كلّ شعب قانون العدالة على ذلك الشعب وفقاً لآرائهم وأساليبهم، ومرّنوا الأشخاص على اتّباع ذلك القانون من خلال القيام بتعليمهم وتربيتهم تربية صحيحة، وباشروا تلقين الأطفال منذ طفولتهم بالابتعاد عن الكذب والسرقة وكلّ ضرب من ضروب الخيانة والجريمة كما يشاهد ذلك في بعض البلدان البعيدة عن معرفة الله التي طالما تحافظ على النظم والآداب، فما هي حاجتنا إلى الإمام إذاً؟
ولو كانت الفائدة من وجود الإمام تكمن في المحافظة على الناس من الاعتداءات والانتهاكات، فإنـّها يمكن أن تتحقّق بدون وجوده أيضاً، وقد دلّت التجربة على ذلك. إنّ هذا اللون من الاستدلال هنا لا يجد له أرضيّة.
بَيدَ أنّ مقام الإمام كما ذكرنا لا ينحصر في المحافظة على العدالة والتوازن في الحقوق، بل إنّ الإمام هو حلقة الوصل بين الخلق والخالق. ولمّا كان الإنسان قد انغمس في عالم الماديّات ونأى عن نسيم عالم القدس، وحرم من النفحات الربّانيّة والاشعاعات الملكوتيّة، وجد نفسه قلقة مضطربة، وهو سيّد هذا المقام سواء كان متحضّراً أو لم يكن، وسواء عاش في المجتمع أم لم يعش.
و لذلك لو فرضنا أنّ إنساناً يعيش وحده في جزيرة خضراء مستمتعاً بجميع المواهب الماديّة، متحرّراً من كلّ علاقة بأحد، نحو: علاقة الزوجة والابن، والأب والأُمّ، والأُخت والاخ، والشريك والجار، والحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، فإنـّه لا يخلو من هذا القلق والاضطراب فهو معذّب بالذكريات المشوّشة، وكلّما تذكّر نقاط ضعفه فإنـّه يقع فريسة للاضطراب والتخبّط، فالنأي عن حرم الله وأمانه حيث ملاذه الحقيقيّ ينغّص عليه جميع النعم التي يرفل بها في تلك الجزيرة الخضراء، وتلوح له المناظر الجميلة الخلاّبة وكأنـّها هياكل من الغول والجنّ والشيطان، والإنسان لا يشعر بالسكينة والهدوّ ما لم يرتبط بالله، فسكينته فقط وفقط بأُنسه مع الله، وقد قال (جلّ من قائل): ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَهِ تَطْمَئنُّ الْقُلُوبُ﴾.
ولا تستقرّ السكينة وذكر الله والهدوء في القلب إلاّ بتعليم يمارسه مربٍّ كامل قد اجتاز طرق الآخرة جميعها ولسانه ناطق معبّر بقوله: سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فهو قمين للقيادة، لا من فقد تلك الصفة، وينبغي للإنسان إمّا أن يبلغ هذه المرحلة أو يخضع لتربية وتعليم إنسان ناضج واع، والأوّل هو الإمام، والثاني هو المأموم، وليس هناك فرض ثالث، وجاء في القرآن الكريم على لسان أهل جهنّم عندما يخاطبون خزنتها قوله: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَـابِ السَّعيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَـابِ السَّعِيرِ﴾.
ويستفاد من هذه الآية أنّ ذنب أصحاب السعير وهم أهل جهنّم، هو الغطرسة والعمل بآرائهم الشخصيّة، وعدم الخضوع لتربية الإمام مهما خيّل إليهم أنـّهم من أصحاب الأفكار السامية المحمودة، إِلاّ أنّ هذا لا يكفي، فالإنسان إمّا أن يصل إلى مقام العقل المستقلّ دون الحاجة إلى الأسباب الخارجيّة، أو يكون سامعاً طيّعاً لمثل هذا العقل، وإِلّا فإنّ مأواه، جهنّم النفس الأمّارة والآراء الباطلة والخواطر الشيطانيّة، وستتجسّد هذه الأشياء في العوالم الأخرى على صورة نيران متّقدة.