فرقة يهودية تبني قصراً لزعيمها الميت الذي تنتظر عودته كمسيح مخلّص
جعفر هادي حسن
اليهود (الحسيديم) من الفرق اليهودية التي ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا. وقد ساعد على ظهورها سوء الحالة التي كان يعيشها اليهود آنذاك وخيبة أملهم بالمسيح الدجال، (شبتاي صبي)، في القرن السابع عشر. وبمرور الزمن كبرت هذه الفرقة وكثر عدد المنتمين إليها حتى أصبح أفرادها اليوم يعدون بمئات الآلاف منتشرين في كثير من بلدان العالم ولهم تأثير كبير في عالم اليهود داخل إسرائيل وخارجها.
واليهود الحسيديم لا يختلفون كثيراً في معتقداتهم وممارساتهم الدينية عن اليهود الأرثودكس المتشددين الذين يسمون بالعبرية (حريديم)، لكنهم يتميزون عنهم بتركيزهم على الغناء والرقص كجزء من عباداتهم وعلى التزامهم مبدأ اللذة والسعادة كجزء من معتقدهم. كما أنهم يعتمدون التفسير الباطني (القبلاه) للكتب الدينية اليهودية المقدسة عندهم. ويتميز هؤلاء أيضاً بتقديسهم لزعيمهم الروحي الذي يطلقون عليه (تصديق) (قديس) والذي عادة يرث الزعامة عمن قبله.
وللزعيم الروحي مكانة لا تضاهيها مكانة عند أتباعه، إذ هو محور حياتهم وموضع أسرارهم ومحل ثقتهم والقاضي بينهم في حل خلافاتهم. يعترفون عنده بذنوبهم ويلجؤون إليه في حل مشاكلهم.
والحسيديم اليوم مجموعات كثيرة ومتعددة لكل واحدة منها زعيمها ومرشدها الخاص. ومن أكبر هذه المجموعات مجموعة (اللوبافتش) التي يقدر عدد أعضائها بمائتي ألف شخص والتي أصبح مقرها الرئيس في نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه المجموعة تقدس زعيمها الروحي أكثر من بقية المجموعات الأخرى، وكان آخر زعيم لها (مناحم مندل شنيرسون) قد توفي عام ١٩٩٤. ولشدة تقديس أتباعه له فإنهم يحفظون أقواله وخطبه عن ظهر قلب ويقلدون أفعاله، ويطلبون بركته (وكان يعطيهم دولاراً رمزاً لهذه البركة). وكانوا يحضّرون أنفسهم ليوم أو يومين قبل لقائه والمثول أمامه ويوصون أولادهم بطاعته والإخلاص له.
المسيح المخلّص:
ومن جملة ما تميز به زعيمهم في حياته تأكيده على قرب ظهور المسيح المخلّص وحديثه عنه وذكره له. وقد طلب من أتباعه أن يجعلوا التفكير بالمسيح المخلّص وانتظاره والتطلع إليه نصب أعينهم ومن أهم أولوياتهم. وكان يقول لأتباعه: (إن كل يهودي له القدرة وعليه الواجب، أن يساعد في مجيء المسيح المخلّص ليس غداً أو في وقت ما في المستقبل، ولكن الآن، وفي هذه اللحظة، حتى وكأن الإنسان يفتح عينيه فيرى المخلص أمامه هنا ومعنا في هذا الكنيس لحماً ودماً وروحاً وجسماً). كذلك أمرهم أن ينادوا بعبارة (نريد المسيح الآن) وهم يضيفون الكلمة العبرية (ممش) التي تعني حقيقة، ولكنها أيضاً تحتوي على الحروف الأولى من اسم مرشدهم، وكان هؤلاء يصرخون بها كلما اجتمعوا تعبيراً عن توقعهم لظهور المسيح (عليه السلام) وتطلعهم إليه ورغبتهم في رؤيته، كما أخذوا يضعون في الأماكن العامة في كثير من مدن العالم التي يعيشون فيها لافتات مكتوب عليها (المسيح قادم). وأثناء حياة مرشدهم الروحي كان هؤلاء يفسرون بعض الإشارات والرموز في كلامه على أنه هو المسيح الذي وُعد به اليهود. وبدأوا يتناقلون هذا المعتقد سراً في ما بينهم كما أخذوا ينشرون صور زعيمهم ويكتبون تحتها ما يشير إلى أنه هو المسيح، وعلى الرغم من أن زعيمهم كان يعرف ذلك إلّا أنه لم يمنعهم وكان يغض الطرف عن فعلهم. وبعد وفاته حلّت اللغة الصريحة محل لغة الإشارة وأخذوا يعلنون أن زعيمهم الروحي هو المسيح المخلّص الذي وُعدت به اليهودية والذي سيظهر من قبره في يوم من الأيام ليحقق العدل والسلام في العالم. وتأكيداً لذلك، فإنهم لم ينتخبوا شخصاً يخلفه كما هي عادة الحسيديم عند موت المرشد الروحي، وهم في الوقت الحاضر لا زعيم روحياً لهم أملاً في ظهور زعيمهم الميت.
في انتظار المعجزة:
وينتقد بعض اليهود (وبعضهم من أعضاء الفرقة) الحسيديم (اللوبافتش) ويعتبرون ما يؤمنون به منافياً لما هو منصوص عليه في معتقدات اليهودية التي تقول بأن المخلص هو الذي يولد في آخر الأيام ويعلن عن مسيحانيته عندما يكون حياً. ولكن اللوبافتش يردون على هذا النقد بأدبيات وكتب نشروها. يؤكدون فيها على صحة معتقدهم ومسيحانية زعيمهم وظهوره من قبره في يوم ما. ويقولون إن بعث الموتى هو أحد المبادئ الرئيسية في اليهودية ومن أصول الدين فيها، فلماذا لا يجوز بعث المسيح. ويقول بعضهم إن الزعيم الروحي شنيرسون قد توفرت فيه كل صفات المسيح المخلص (وعندما كان مريضاً كنا نتوقع معجزة ولكن ذلك لم يحدث والآن نحن ننتظر المعجزة)، وهم منذ فترة يقومون بحملات بين اليهود يؤكدون فيها على أن زعيمهم هو المسيح المخلّص الموعود الذي سيظهر ويخلّص العالم من شروره. وهم يلصقون صوره في الأماكن العامة في إسرائيل وغيرها، ويضعون تحتها كلمة (المسيح). وفي مستوطنتهم (كفار خبد) التي أقاموها في إسرائيل في السبعينات بأمر زعيمهم الروحي، يلصقون على الشبابيك صورته مكتوب تحتها (عاش الملك)، كما يوزعون بعض أقواله ويكتبون تحتها (المسيح الملك). وفي مدارسهم، وهي كثيرة، يبدأ التلاميذ يومهم بجملة (عاش زعيمنا الملك المسيح)، كما أن الأولاد في المستوطنة عندما يردون على (التلفون) يبدؤون ردهم بعبارة (عاش الملك المسيح)، وفي أحد مواقعهم على الانترنت وهو خاص بمسيحهم يقولون إن الموقع صُمم بأمر المسيح الملك وهم يذكرون عبارة (طال عمره إلى الأبد) بعد اسمه. ويطلبون من أتباع الفرقة أن يكتبوا رسالة لطلب البركة من مسيحهم وأن يدعو الله أن يعجل ظهوره، ويقول هؤلاء: (إن الحاخام الذي أحبّ أتباعه كما لو كانوا أولاده، لا يمكن أن يتركهم بلا قيادة. ولأنه فعل ذلك فلابد أنه كان يعلم بأنه سيظهر مرة أخرى ويملأ الفراغ). ولكي يؤكدوا اعتقادهم هذا، عقدوا مؤتمراً في لندن في نهاية العام ٢٠٠٠ حول موضوع مسيحانية زعيمهم وأسموه المؤتمر الأول، وقد حضره عدد كبير من أتباع هذه الفرقة وبعض الحاخامين من الفرقة ومن غيرها. وقال أحد المنظمين لهذا المؤتمر: (إن الهدف منه هو التأكيد على إيماننا ومعتقدنا بزعيمنا الروحي نبي هذا الجيل. ونحن نعتقد اعتقاداً عميقاً بأنه ما زال حياً ويعيش بيننا ولن يخيب أملنا فيه).
ولم يكتف هؤلاء بنشر الأدبيات وعقد المؤتمرات عن ظهور مسيحهم، وإنما أخذوا يقومون بخطوات عملية لتأكيد واقعية الفكرة ومصداقيتها. وأهم هذه الخطوات هي بناء قصر لسكنى مسيحهم. وقد طلبوا من معماري شهير تصميم قصر ضخم يسكنه زعيمهم عندما يُبعث من قبره معلناً مسيحانيته كما يعتقدون. واختاروا أن يكون موقع قصره في مستوطنتهم المذكورة، وقد وافق مجلس بلديتها على المشروع. ووضع المعماري نموذجاً للقصر، الذي سيقام على مساحة عشرة آلاف متر مربع، وهو كما يبدو من صورته سيكون قصراً ضخماً بكل المقاييس. وكتبوا في وصف القصر أنه سيحتوي على قاعات عدة وغرف كثيرة وحمامات وحدائق ونوافير ماء، وستغطى أرضه بأفضل أنواع المرمر، كما ستكون أبوابه من الذهب. وسيقسم داخله إلى قسمين، أحدهما للمسيح الموعود نفسه، والآخر لزوجته(!)، كما سيعلو القصر تاج ضخم مصنوع من الذهب الخالص. وهم عندما يتحدثون عن القصر يطلقون عليه (قصر المسيح الملك). وأخذوا ينشرون صورته ويقومون بالدعاية له والكتابة عن ضخامته وجماله، ومنذ فترة يجمعون الأموال لبنائه. وعندما يُنتقدون على ما يقومون به يقولون بأن زعيمهم الروحي هو الذي طلب منهم أن يفعلوا كل شيء من أجل المسيح المخلّص وقدومه وأنه أشار ببناء القصر. وهم يردون على منتقديهم بالقول: (إن كل ملك له قصر وبخاصة ملك الملوك، ثم كيف لا نبني له سكناً وعندما يظهر هل يذهب إلى الفندق؟).
واللوبافتش في عملهم هذا لا يختلفون كثيراً عما قام به أتباع فرقة (شهود يهوه) المسيحية الذين بنو بيتاً ضخماً في إحدى الولايات الأميركية وسجلوه باسم الأنبياء إبراهيم وإسحاق وداود (عليهم السلام) ليكون سكناً لهم عندما يظهرون بصحبة المسيح عيسى (عليه السلام).