سياسة التجريف والأراضي المحروقة (٢) / قَتلُ المهدي (عجّل الله فرجه) للفقهاء إنموذجاً
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
تمتاز اللوحات التي يرسمها المبدعون بأنها تحمل في طيّاتها الأُفق الواسع، والأمل ببناء حياة بعد تجاوز الصعاب وفتح نوافذ مشرقة يرسمها الأمل لمن يقرأ ابداع الفنانين، بينما من يتأمل في ما يرسمه المبتدعون يجد الضبابية والتشويش والضوضاء وحالة التعكير من أجل الكسب اللامشروع ولو على حساب المبادئ والأخلاق والأسس والضوابط، فالمبتدع شخص أينما حل همه الكسب اللامشروع، وإن كان يبني حركاته على تكسير من أمامه من الصلحاء ولو بالزعميات والتعميميات، وقد راجت في أيامنا بضائع كثيرة كان تجّارها المبتدعين المحروقة، ونحاول أن نسلط الضوء على بعض جوانب ما قرأناه من انعكاسات هؤلاء المبتدعين في ضمن سلسلة سياسة التجريف والأراضي وإليك بعض نماذج مما ابتدعه المبتدعون في ميادين مختلفة، فعلى سبيل المثال لا الحصر في القضية المهدوية تجد الابتداع في تطبيق العلامات تطبيقاً مزيفاً على أشخاص مزيفين، وتجد كذلك تحديد زمان رجمي تكهني لظهور المولى (عجّل الله فرجه)، وتجد تعميمات لقضايا بسيطة كقتل الإمام (عجّل الله فرجه) لأنفار من الشيعة وآحاد من العلماء والفقهاء فضخّمت هذه الحالة وبولنت إلى حد التخمة والانفجار، فيما حقّرت وصُغرت قضايا كبار أرادت لها سياسة التجريف لأنها تصطدم بمآربها ومنافعها أن تصغر بل وتحقّر كقضية التبعيّة الشرعيّة للإمام (عجّل الله فرجه) من خلال الالتزام بالأحكام وتطبيقها تطبيقاً صحيحاً اعتماداً على النافذة التي فُتحت من خلال أهل البيت (عليهم السلام) وهي نافذة حصرية في التلقّي وهي حالة التبعيّة والتقليد للفقهاء فجاءت سياسة التجريف لتحقّر هذه النافذة وتصغرها في أعيّن الناس بكيل الاتهامات وتزييف الحقائق وتكذيب على الموروث الروائي تجاه هذه الحالة.
أمّا إذا ذهبنا بعيداً عن القضية المهدوية فتجد سياسة التجريف شاخصة أمامك بمستواها الفكري والسلوكي وعلى أصعدة مختلفة سياسية كانت أو اجتماعية أو فردية أو غيرها، فلا تجد منحى من مناحي الأصالة والإبداع إلا وفيه بصمات للابتداع تحاول إزوائه وإبعاده وإقصائه لتجد بصيص نافذة وفضلة طريق تسير عليه مع أتباعها الرعناء الجهلة.
واليوم نريد أن نتحدث عن قضية شكّلت للمؤمنين بالعقيدة المهدوية حالة تأرّق بسبب ما وظّف لها من الأدعياء فكادت أن تشكل رأياً عاماً ومسحة كبيرة من الوضوح في قضيتها وتلك هي (قَتل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) للفقهاء عند ظهوره المبارك ولآلاف مؤلفة من الشيعة)، وقد لا يسعنا الحديث عن الاثنين معاً، فلنتحدث عما يدّعى من قتل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) للفقهاء الشيعة.
وقد قرأت لبعض من تحدّث عن هذه الحالة وهو يحاول أن يبرزها بشكل السلبي للناس قائلاً: (وهذه نصيحة لكل من يخاف المعاد ولا يريد أن يواجه الإمام (عليه السلام) بقوله (ارجع يا ابن فاطمة) ثم يقول والحق إن على الناس أن لا يتوهموا أن إتباع فقهاء آخر الزمان هو طوق النجاة الذي يجعلهم بمنأى عن غمرات الفتن، ويقول كذلك فها أنتم ترون أن الناس في الكوفة يتبعون السفياني ويقولون للقائم ارجع من حيث شئت، والكوفة والنجف هي عاصمة الشيعة ومركز الحوزة... ثم يقول أليس ذلك بسبب توجيهات الفقهاء... بل أن فقهاء الضلالة هم طليعة من يقول للقائم ارجع يا ابن فاطمة).
وقد سرد استدلالاً على ذلك بمجموعة من الروايات ونحن نأتي بها جميعاً بعد استقصاء شبه تام في مصادر عديدة ومتنوعة عما تحدّث من الروايات تجاه العلماء.
ففي (الكافي) وجد خبر وسنده لا بأس به ولعله صحيح على رأي المشهور يقول نصه: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه يسمعون به وهم أبعد الناس منه مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود.
وفي (بحار الأنوار) كما في (الفصول المهمّة) للحر العاملي يجعل باباً تحت عنوان (وجوب الحذر من متابعة علماء السوء في الأحكام الشرعية)، فيما يعنونه المجلسي في (بحاره) في ج٢، ب١٥، تحت عنوان (ذم علماء السوء ولزوم التحرز منهم) روى فيه (٢٥) رواية الكثير منها تتحدث عن عموميات لما يحدث في أزمان مختلفة بعد زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فتشير بعض الروايات منها إلى ما يحصل من تفرّق علماء السوء عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وعن الأخذ بطريقة مغايرة مختلفة لما هم عليه من الهدى، ويتحدث بعضها عن صفات لبعض المتعلمين أو لبعض ادعياء الفقاهة والتعلم، ويتحدث قسم آخر منها عن أشخاص ليس لهم أهلية من العلم إلا أنهم تصدوا للإفتاء بغير علم، ويتحدث قسم آخر عن أشباه متعلمين أو متعلمين باعوا علمهم إلى السلاطين، فيما يتحدث قسم آخر عن علماء فسقوا بافتتانهم بالدنيا وحبهم لها، وهذه الروايات لا تتحدث عن العلماء الفجرة والعلماء الفسقة فقط، وإنما تتحدث عن وزراء خونة وعرفاء كذبة وجبابرة وحكام ظلمة فهي تعطي ملامح عامّة لما سيحدث، ولم نجد في هذا الباب رواية واحدة تتحدث عن قتل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) للفقهاء الصالحين في الكوفة، بل ولم نجد رواية في هذا الباب عن قتال الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لعنوان الفقهاء بغض النظر عن صفاتهم، وهذا غريب إذ أن هذا الكم من الروايات الذي يتحدث عن أصناف العلماء السيئين والفقهاء غير المؤهلين على اختلاف الأزمنة والعصور إلا أنه لا يوجد في باب بحار الأنوار المعنون آنفاً وعلى سعة ما نقله المجلسي رواية واحدة تصرّح وتنص على أن الإمام (عجّل الله فرجه) سيقاتل الفقهاء في الكوفة أو النجف عند ظهوره، حتى ولو كانت تلك الرواية ضعيفة جداً.
نعم وجدنا رواية هي التي يتناقل الأدعياء وقادة السياسة التجريفية مفادها حيث رواها مجمع النورين للشيخ المرندي ناقلاً إياها عن أبي عبد الله (عليه السلام) وبعد تتبعنا لها وجدنا أنها منقولة عن الشيخ ابن العربي في الفتوحات المكّيّة وأن المعاني التي يتحدث عنها ابن العربي ليست من رواية واحدة وإنما هي من روايات عامية مذكورة في مصادر متعددة سننقلها تفصيلاً والنص الذي ينقله ابن العربي في فتوحاته المكية في ج٣، ص٣٣٦ من الكتب المعتمدة لدى المكتبة الكمبيوترية (مكتبة أهل البيت (عليهم السلام)) الجزء المحدث، يقول والنص هو:
وإذا خرج هذا الإمام المهدي فليس له عدو مبين إلا الفقهاء خاصة فإنهم لا تبقي لهم رياسة ولا تمييز عن العامة ولا يبقى لهم علم بحكم إلا قليل ويرتفع الخلاف من العالم في الاحكام بوجود هذا الإمام ولولا أن السيف بيد المهدي لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن الله يظهره بالسيف والكرم فيطمعون ويخافون فيقبلون حكمه من غير إيمان، بل يضمرون خلافه كما يفعل الحنفيون والشافعيون فيما اختلفوا فيه، فلقد أخبرنا أنهم يقتتلون في بلاد العجم أصحاب المذهبين ويموت بينهما خلق كثير ويفطرون في شهر رمضان ليتقوا على القتال فمثل هؤلاء لولا قهر الإمام المهدي بالسيف ما سمعوا له ولا أطاعوه بظواهرهم كما أنهم لا يطيعونه بقلوبهم.
هذا وقد نقل الشيخ الماحوزي في كتاب الأربعين ص٢٢٩ نص كلام ابن العربي الآنف الذكر:
نقل الشيخ اليزدي الحائري نفس النص السابق عن ابن العربي في ج٢، ص٩١:
هذه هي النصوص التي يتمسك بها أصحاب هذه السياسة دعماً لمقولتهم آنفة الذكر ولنرجع إلى الروايات التي تتبعناها حول هذه القضية، ونؤكد مرة أخرى على أننا لم نجد رواية تتحدث عن قتل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) للفقهاء في كتب علمائنا سوى ما ذكرناه من عناوين عامة لذم الفقهاء المنحرفين، ونؤكد على قيد الانحراف إذ أن النصوص التي أشرنا إليها أكثر من مرة كعناوين في أمهات الكتب تميز بين صنفين من أهل العلم فقهاء كانوا أم علماء، وهذا التصنيف واقعي وحقيقي ولا غضاضة فيه، وليس هذا ما يريده ساسة التجريف، إذ أنهم يريدون الكلية والتعميم لكل الفقهاء، فالروايات تتحدث عن أن هناك فقيهاً تعلّم ودرس، وعالماً كبر علمه وصح وصف العالم عليه إلّا إنه مال إلى الدنيا أو إلى السلطان، وهذا شيء طبيعي لمن ليس له ورع وتقوى، فابن باعورة مثل ضربه القرآن للعالم المنحرف ولم يعن ذلك انسداد باب العلم، أو أن جميع العلماء منحرفون، بل يبقى باب العلم مفتوحاً ومكانة العلماء والفقهاء واحترامهم وإجلالهم وتبجليهم محفوظاً، وقد أشار جملة من أهل التحقيق والمعنيين بتتبع الأخبار أن الروايات التي تذم علماء السوء إنما تشير إلى العلماء في الغالب أولئك الذين انحرفوا عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) واخذوا الفقه والعلم من غير حلّه ومالوا عن أهل البيت (عليهم السلام) ولجأوا إلى غيرهم لمصلحة أو حقد أو غيرها من المناشيء التي لا تعنيننا هنا كثيراً، وهذا بالضرورة لا ينفي أن يكون في أتباع أهل البيت (عليهم السلام) علماء منحرفون مالوا إلى الدنيا أو الجاه أو غيرها، وخير مثال على ذلك الشلمغاني الذي كان فقيهاً كبيراً إلّا أنّه انحرف لأنّه كان يتوقع أنْ يكون سفيراً ولما لم ينل هذا المقام وحصل عليه الشيخ الحسين بن روح (رحمه الله) انحرف عن الجادة وكان مصيره أنْ لُعن وطُرد، ويوصم اليوم بأنّه على رأس قائمة أدعياء الضلال والمنحرفين، ولا يعني ذلك أن كل العلماء والفقهاء منحرفون، فبقي أمثال الشيخ الطوسي والشيخ الكليني والشيخ الصدوق (رحمهم الله) ومن قبلهم الآلاف من العلماء ومن بعدهم الآلاف المؤلفة وإلى يومنا هذا يحملون مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ويدافعون عنه، ولو أدى ذلك إلى هلاكهم وقتلهم واستباحة حرماتهم فالعلماء صنفان من أي مذهب أو ملة كانوا يدافعون عن الدين أو العقيدة أو الفكرة أو الحق الذي يؤمنون به وعلماء منحرفون غرّتهم الدنيا أو الرغبات أو خافوا من سطوة السلطان فانحرفوا وزاغت بهم السبل، فنحن لا ندعي صلاح جميع الفقهاء والعلماء كما لا ندعي كما يدعي أصحاب سياسة التجريف انحراف الجميع وضلالهم.
والآن لنعد إلى تدليس آخر من تدليسات هؤلاء في ضمن سياستهم التجريفية التعميمية الاقصائية حيث يقولون أن الإمام (عجّل الله فرجه) عندما يظهر يقتل الفقهاء، وقد تتبعنا أخبار هذه القضية فلم نجد لها خبراً في مصادرنا ولو واحداً، بحسب تتبعنا القاصر، نعم وجدنا بعض النصوص التي اقتبس جزء منها من كلام ابن العربي المتقدم أو من كتب عامية أُخرى كما سنشير، أو حدث قص ولصق لبعض النصوص وإدخال وإخراج لما هو ليس منها بهدف التلبيس والتشويش والتصدير لمبتنيات سابقة لم تؤخذ من الروايات، وإليك النص الأول والذي يرويه فيض القدير بشرح الجامع الصغير للمناوي ج٦، ص٣٦١ وهو عامي المذهب حيث يقول: (وإذا خرج هذا الإمام المهدي فليس له عدو مبين إلّا الفقهاء خاصة)، وأنتَ ترى ان هذا النص عامي أولاً وقريب مما كان يتحدث فيه ابن العربي، نعم روى منتخب الأنوار المضيئة للسيد بهاء الدين النجفي ص٣٤٠ حديثاً مرفوعاً عن أبي جعفر ولم يذكر لنا سنده وهذا نصه: (عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: إذا ظهر القائم على نجف الكوفة خرج إليه قرّاء أهل الكوفة وقد علقوا المصاحف في أعناقهم وأطراف رماحهم... فيقولون لا حاجة لنا فيك يا ابن فاطمة قد جرّبناكم فما وجدنا عندكم خيراً)، وأنتَ ترى هذا الحديث لا يسلم سنداً ولو تنزلنا عن عدم سلامته السندية فدلالته واضحة في الحديث عن أُناس ليسوا من الفقهاء بل هم قرّاء وفرق بين الاثنين، وفي الحديث لمن تلمّس معاني ما يتحدث فيه أهل البيت (عليهم السلام) إشارات أن هذه الفئة لعلها من العامّة وليس من أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والحديث الآخر الذي يكثر تداوله في هذه القضية وعلى ألسنة ساسة التجريف هو ما رواه الشيخ المفيد في (ارشاده) ونقله المجلسي في (بحاره) ج٥٢، ص٣٣٨ نقلاً عن أبي الجاروج عن أبي جعفر في حديثي طويل قال: (إذا قام القائم عليه السلام سار إلى الكوفة فيخرج منها بضعة عشر آلاف أنفُس يدعون البترية عليهم السلاح فيقولون له ارجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة ... الخ)، وقد بيّن الكشيّ والشيخ الطوسيّ معنى البترية حيث قالا: والنص للطوسي من كتاب (اختيار معرفة الرجال) ج٢، ص٥٠٤ في تعريف البترية (أنهم قوم تولّوا علي (عليه السلام) وفي نفس الوقت تولوا أبا بكر وعمر وتبرؤوا من أعدائهم، وكان ذلك في محضر أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وزيد بن علي (عليه السلام) فخاطبهم زيد قائلاً أتتبرؤون من فاطمة بترتم أمرنا بتركم الله)، فيومئذ سموا (البترية) هذا هو النص الذي يحاول أدعياء هذه السياسة التمسك به لدعم مقولتهم الآنفة وأنتّ ترى أنّه لو سلّم سنداً ولا يسلم أنّه بعيد كل البعد عما يرومون فهو يتحدث عن عامة الناس وعن صنف من هذه العامة أولئك الذين يعادون فاطمة (عليها السلام) علناً لأنهم يتولون أبا بكر وعمر علناً، نعم يدعون ولائهم لعلي (عليه السلام) وولده، وأين هذا من دعوى قتل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لفقهاء الإمامية الاثني عشرية الذين يعطلون عملهم ودرسهم أيام شهادة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ويقيمون العزاء حزناً لما جرى عليها ويتبرؤون من كل من آذاها على طول خط الزمان فأين هذا من ذاك.
نعم إنها سياسة التجريف والأراضي المحروقة التي اتبعت منذ زمن بعيد لتعميم القضايا واستغفال الناس وتصدير البضائع المزيفة على إنها حقائق غير قابلة للتشكيك.