الشيخ الصدوق وثاني كتاب في الغيبة
الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي
ألّف الشيخ الصدوق كتاب (كمال الدين وتمام النعمة).
وها نحن مع الشيخ في كتابه:
١ - الصدوق وعلّة الخوف على النفس:
قال الشيخ الصدوق (قدس سره): (إنه قد ثبت أن ظهور حُجج الله تعالى في مقاماتهم في دول الباطل، على سبيل التدبير والإمكان لأهل ذلك الزمان؛ فإن كانت الحال ممكنة لوجود الحجة بين الخاص والعام، كان ظهور الحُجّة كذلك.
وإِن كانت الحال غير ممكنة لوجود الحجة بين الخاص والعام، وكان مما توجب الحكمة ويقتضيه التدبير استتاره، ستره الله وحجبه إلى وقت بلوغ الكتاب اجله، كما قد وجدنا ذلك في حجج الله المتقدّمين من عصر آدم (عليه السلام) إلى حين زماننا هذا).
فمنهم المستعلنون ومنهم المستخفون، وبذلك نطق الكتاب العزيز، وذلك قوله تعالى: ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾.
ثم روى بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لعبد الحميد ابن أبي الديلم: «يا عبد الحميد، إِنّ لله رسلاً مستعلنين ورسلاً مستخفين، فإذا سألته بحق المستعلنين فسله بحق المستخفين».
ثم يقول الشيخ الصدوق (قدس سره): (فكانت حجج الله تعالى كذلك من وقت وفاة آدم (عليه السلام) إلى وقت ظهور إبراهيم (عليه السلام) أوصياء مستعلنين ومستخفين).
فلما كان وقت تكوين إبراهيم (عليه السلام) والذي كان ظهور الحجة متعذراً في زمانه (وذلك أن نمرود كان يقتل أولاد رعيّته وأهل مملكته في طلبه)، ولذلك ستر الله وجوده وأخفى ولادته، وبعد أن بلغت الغيبة أمدها دلّهم إبراهيم (عليه السلام) على نفسه وأظهر لهم أمره الذي أراده الله من إثبات حجته وإكمال دينه.
فلما كان وقت وفاة إبراهيم (عليه السلام) كان له أوصياء حججاً لله (عزَّ وجلَّ) في أرضه يتوارثون الوصيّة كذلك مستعلنين ومستخفين، إلى وقت موسى (عليه السلام).
وفي وقت موسى (عليه السلام) كان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل في طلب موسى (عليه السلام) الذي كان قد شاع ذكره وخبر وجوده.
فستر الله ولادته حتى قذفت به أُمه في اليم كما أخبر الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه ثم كان من أمره بعد أن أظهر دعوته ودلّهم على نفسه ما قصّه الله في كتابه كذلك.
و لما كان وقت وفاة موسى (عليه السلام) كان له أوصياء حُججاً لله كذلك مستعلنين ومستخفين إلى وقت ظهور عيسى (عليه السلام).
وعيسى (عليه السلام) ظهر منذ ولادته مُعلناً لدلائله مُظهراً لشخصه شاهراً لبراهينه، غير مُخف لنفسه، لأن زمانه كان زمان إمكان ظهور الحجة كذلك.
ثم كان له من بعده أوصياء حججاً لله (عزَّ وجلَّ) كذلك مستعلنين ومستخفين، إلى وقت ظهور نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وبعد ظهور نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان مما قيل له على سنن من تقدمه من الرسل (عليهم السلام)، أن يقيم لنفسه أوصياء كإِقامة من تقدمه لأوصيائهم، فأقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصياء كذلك.
ومن المعروف المتسالم عليه بين الخاص والعام من أهل هذه الملة: أن الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) والد إمام زماننا (عجّل الله فرجه) كان قد وكّل به طاغية زمانه حتى وفاته، فلما توفى وكَّل بحاشيته وأهله، وحُبست جواريه، وطُلب مولوده هذا أشدّ الطلب، فجرت السنة في غيبته بما جرى من سنن غيبته من ذكرنا من الحجج المتقدمين، وثبت من الحكمة في غيبته ما ثبت من الحكمة في غيبتهم).
فالشيخ الصدوق هنا يقرّر: أن الحكمة في غيبة الحجة اليوم هو عين ما سبق من الحكمة في استتار حجج الله المتقدمين من المرسلين والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) من خوفهم على أنفسهم من حيف الفراعنة والطواغيت وبطشهم بهم وقتلهم قبل أداء أدوارهم.
ولتصديق هذه الحكمة السابقة والثابتة والعامّة لم يستشهد الصدوق بنصّ من أخبارهم (عليهم السلام) سوى ما مرّ ذكره عن الإمام الصادق (عليه السلام) في: «أن لله رسلاً مستعلنين ورسلاً مستخفين».
٢ - الصدوق وحكمة التمحيص:
روى شيخنا (قدس سره) الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً في التمحيص حيث قال: «كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى...، فعند ذلك تميزون وتمحصّون وتُغربلون».
وخبراً آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً قال: «تمتدّ أيام غيبة القائم ليصرّح الحق عن محضه، ويصفو الإيمان من الكدر».
وقد عقد باباً بعنوان: باب علة الغيبة، وذكر فيه أخباراً، سادسها:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً قال: «إِن للقائم منا غيبة يطول أمدها». فقلت له: يا بن رسول الله ولِمَ ذلك؟ قال: «لأن الله أبى إلّا أن تجري فيه سنن الأنبياء في غيباتهم».
وختم الباب بما سمع عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً حيث يقول: «إِن لصاحب هذا الأمر غيبة لابدّ منها، يرتاب فيها كل مبطل»، فقلت: جعلتُ فداك، فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: «وجه الحكمة في غيبته هو وجه الحكمة في غيبات من تقدّمه من حجج الله تعالى ذكره».
وهو لما يقرّر هذه الحكمة السابقة والثابتة والعامّة لا يعني ذلك أنه يحصر حكمة الغيبة فيها ولا يصدّق غيرها، وإنما يعني أنه قدّمها هنا على ما سواها من الحِكم، وهذه الحكمة لا تختلف مع حكمة الخوف على النفس دون أداء الدور، بل هي هي بالذات تماماً.
٣ - الصدوق وعلّة أن لا تكون عليه (عجّل الله فرجه) بيعة:
قدّم الشيخ الصدوق قبل الأخبار بهذه الحكمة أخباراً، يتّحد الأول منها والأخير وهي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «صاحب هذا الأمر يغيب عن هذا الخلق لئلا يكون لأحد في عنقه بيعةً إذا خرج».
والثاني والثالث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً قال: «يقوم القائم أو يبعث القائم وليس في عنقه بيعة لأحد، أو: ليس لأحد في عنقه بيعة».
وثم خبر عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «كأنّي بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي كالنعَم يطلبون الراعي فلا يجدونه، فإن إمامهم يغيب عنهم». قال: فقلت له، ولِمَ ذاك يا بن رسول الله؟ قال: «لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف».
٤ - الحكمة التفصيلية مكتومة:
وآخر خبر يختم به الشيخ الصدوق باب علة الغيبة؛ هو ما تفضل به الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن الفضل الهاشمي، فأشار فيه إلى أن هاتين الحكمتين المذكورتين إنما هي الحكم الإجمالية.
وأن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره (عجّل الله فرجه)، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما آتاه الله الخضر من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلى وقت افتراقهما، ومتى علمنا أنه (عزَّ وجلَّ) حكيم صدّقنا بأنّ أفعاله كلها عن حكمة وإِن كان وجهها غير منكشف.
«يا بن الفضل، إِنّ هذا أمر من أمر الله وستر من ستر الله وغيب من غيب الله».