هل تنقطع التوبة بظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)؟
يحيى غالي ياسين
إنّ هناك ثقافة عامة متركّزة بأذهان فئة واسعة من المجتمع الموالي لأهل البيت (عليهم السلام)، بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيظهر فقط لمحاسبة المقصرين والاقتصاص من المذنبين، وبعبارة أوضح أنه يوم الحساب على الأرض، وبالإضافة إلى انقطاع فرصة التوبة عن الذنوب مهما كانت درجته، الأمر الذي أدّى إلى خوف وهلع غير معلن من شخصية الإمام (عجّل الله فرجه)، وبالتالي من حركة ظهوره المبارك، وهذه نتيجة ظالمة لمقدمة باطلة...!
وإنّ المتتبع للروايات الواردة حول قيام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيجد أنّه (عجّل الله فرجه) سيقوم بالدعوة إلى دين الله (عزَّ وجل)، ويطلب من الجميع الانضمام إلى لوائه والدخول تحت راية الإسلام، ويدعو الناس إلى عبادة الله (جلَّ وعلا) كما أراد، أي يطلب من الناس أنْ يكونوا خلفاء الله في الأرض، كما هو الهدف من وجودهم عليه، وسيضع أسس وقواعد دولة العدل المطلق.
وطبيعي أنه سيستأصل كل من يقف ضد هذا المشروع الإلهي، وسيكون حاداً في تعامله مع المعادين له، وسيسير بسيرة تختلف عن سيرة آبائه (عليهم السلام) مع أعدائهم ومناوئيهم، أمّا من كان معه فبالطبع سينال من بركاته وألطافه الشيء العجيب، فالإمام (عجّل الله فرجه) يعلم أنّ المجتمع الذي سيظهر فيه ليس مجتمعاً معصوم، حتى أقرب أصحابه - عدا ما ذكر من المعصومين (عليهم السلام) الذين سيلتحقون في لوائه -، بل هو سيظهر لغرض زرع العصمة في نفوس البشرية.
إن المجتمع الذي سيظهر فيه الإمام (عجّل الله فرجه) هو مجتمع الأرض المملوءة بالظلم والجور، مجتمع فيه أنواع الفتن وأشكال المحن، تكثر فيه الذنوب وتتعدد فيه الموبقات، إنه مجتمع غارق في مستنقعات المادية والدنيوية، فلنتصور أن الإمام (عجّل الله فرجه) سيقوم بالقصاص من كل مذنب ويحاكم كل عاص... ماذا سيحصل...؟ يعني سيقوم الإمام (عجّل الله فرجه) بالاقتصاص من مليارات الأفراد... فهل هذا معقول...؟! أو هل هذا وارد في الروايات...؟!
وقد يقال بأنّ الاقتصاص سيكون فقط من المسلمين أو الشيعة الموالين... فهذا أغرب من القول الأول وأعجب، فهم ليس بالعدد القليل، بل هم القاعدة التي سيعتمد عليهم الإمام (عجّل الله فرجه) في بداية خروجه وأثناء وضع أسس الدولة، ويروى عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (يملك المهدي تسعاً أو عشر، أسعد الناس به أهل الكوفة)، فكيف سيكونون سعداء به وهو قطع عنهم باب التوبة عن الذنوب...!، نعم وردت روايات بأنّه سيقتص من بعض الفئات والأشخاص، منهم:
• القائمون بوجهه عند ظهوره والمحاولون إفشال حركته. وهؤلاء يتولون حركات وجيوش تحارب الإمام (عجّل الله فرجه)، وطبيعي أنّه (عجّل الله فرجه) سينال منهم.
• من امتنع عن تطبيق بعض القوانين التي يرفضها الإمام (عجّل الله فرجه)، كالناصبي الذي يمتنع عن أداء الجزية كما ذكرته بعض الروايات.
• سيأخذ بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) ممن قتلته على تفصيل هو في محله، أو يقيم الحد على بعض الذين يرجعون إلى الدنيا من الذين محضوا الكفر محضاً كفرعون وهامان وغيرهما.
• ارجاع الحقوق إلى أهلها وما يستلزم هذا الأمر من مقدمات.
• الاقتصاص من كذّابي الشيعة: عن الإمام الصادق (عليه السلام): لو قام قائمنا بدأ بكذّابي الشيعة.
أمّا الروايات التي تنص على أنه سيكون نكالاً للقائمين بوجه حركته وأماناً لمن ناصرها:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي بكر الحضرمي: يا أبا بكر: سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين،... مع قائمنا أهل البيت (عليهم السلام). وأما قوله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾، فمن بايعه ودخل معه ومسح على يده ودخل في عقد أصحابه كان آمناً.
عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إذا خرج القائم (عليه السلام) خرج من هذا الأمر من كان يرى أنه من أهله، ودخل فيه شبه عبدة الشمس والقمر. وعنه أيضاً: لينصرن الله هذا الأمر بمن لا خلاق له، ولو قد جاء أمرنا لخرج منه من هو اليوم مقيم على عبادة الأوثان.
عن الإمام الباقر (عليه السلام): إذا قام القائم عرض الإيمان على كل ناصب، فإن دخل فيه بحقيقة وإلّا ضرب عنقه أو يؤدي الجزية كما يؤدّيها أهل الذمّة، ويشد على وسطه الهميان ويخرجهم من الأمصار إلى السواد.
وهنا إشكال حاصلة: هناك بعض الأخبار تنص على أنّ الإمام (عجّل الله فرجه) لا يقبل توبة أحد عند ظهوره.
وسأطرح في ذلك أربعة معانٍ محتملة:
الأول: إن الإمام (عجّل الله فرجه) لا يقبل توبة التائب بعد ظهوره.
الثاني: إن الإمام (عجّل الله فرجه) لا يطلب لنفسه توبة من أحد.
الثالث: إن الإمام (عجّل الله فرجه) سيطبّق الأحكام بحق المذنب بالذنب المقترف بعد الظهور.
أما المعنى الأول: فنضعف قطعيته بما يلي:
١- وجود معان محتملة أخرى، والاحتمال يسقط الاستدلال.
٢- الأخبار التي ذكرناها في أعلاه والمتضمنة دعوته للناس والتحاق بعض الناس الذين تصفهم بعض الروايات بأنّهم أشبه بعبدة الشمس... الخ.
٣- حتى لو صح هذا المعنى فهو قد يكون للمبالغة في اقتصاصه من الفئات التي سينالها عدله.
أما المعنى الثاني:
فهو محتمل، ويستقيم مع الرواية التي تتضمن بأنه (عجّل الله فرجه) سيظهر وليس في عنقه بيعة لأحد، أي أنّ ظهوره لا يكون معصية لأحد قد أبرم معه عهداً أو ميثاقاً، وبالتالي يحتاج عندها إلى الاعتذار أو ما شابه ذلك، أو يكون بمعنى أنّه لا يقوم بعمل خاطئ بحق أحد في أثناء قيامه (وحاشاه)، وبالتالي يحتاج إلى طلب المغفرة منه، عن الإمام الصادق (عليه السلام): يقوم القائم وليس لأحد في عنقه عهد ولا عقد ولا بيعة.
أما المعنى الثالث:
فيقبل إذا كان هذا مع الكبار الظلمة والواقفين بوجه الإمام (عجّل الله فرجه)، أمّا سائر الناس فسيقوم (عجّل الله فرجه) بهدايتهم إلى الطريق الصحيح.
والمعنى الأخير وارد جداً، واحتمال معتبر ومنسجم مع قوانين الدولة التي سيسعى إليها الإمام (عجّل الله فرجه) ومع بعض الروايات والتي منها قتله لمانع الزكاة أو الناصبي الذي لا يدفع الجزية...الخ. والله العالم...
وهنا تقوية للإشكال بالآية القرآنية ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾.
وأحد تأويلات هذه الآية هو قيام القائم (عجّل الله فرجه)، وهي تنص على عدم الفائدة من إيمان المؤمن إنْ لم يكن مؤمناً أثناء الغيبة.
وهي قابلة للمناقشة في أكثر من وجه:
الأول: هو حصر تفسير (آيات ربك) بالظهور الميمون، ومن ضمن تعليقات السيد الطباطبائي (قدس سره) على هذه الآية: ويكون المراد بإتيان بعض آيات الرب إتيان آية تلازم تبدّل نشأة الحياة عليهم، بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار، كآية الموت التي تبدل نشأة الجزاء البرزخي، أو تلازم استقرار ملكة الكفر والجحود في نفوسهم، استقراراً لا يمكنهم معه الاذعان بالتوحيد والاقبال بقلوبهم إلى الحق إلّا ما كان بلسانهم خوفاً من شمول السخط والعذاب.
بل يصرّح (قدس سره) بأكثر من هذا فيقول: وقد عدت في الروايات من تلك الآيات خروج دابة الأرض والدخان وخروج يأجوج ومأجوج، وهذه أمور ينطق بها القرآن الكريم، وعدّ منها غير ذلك كخروج المهدي (عليه السلام) ونزول عيسى بن مريم وخروج الدجال وغيره، وهي وإنْ كانت من حوادث آخر الزمان لكن كونها مما يغلق بها باب التوبة غير واضح.
الثاني: قد يكون المعنى (والله العالم) إنّ نصرة الإمام (عجّل الله فرجه) وتأييده وخاصة في بداية ظهوره سيوفق إليه فقط المؤمنون المرابطون المنتظرون في عصر الغيبة الكبرى. وهذا ما ألمحت إليه روايات عدة.
الثالث: هو هذه الرواية التي ينقلها صاحب الميزان (قدس سره) من (البرهان) عن البرقي بإسناده عن عبد الله بن سليمان العامري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زالت الأرض إلّا ولله فيها حجة يعرف فيها الحلال والحرام، ويدعو إلى سبيل الله، ولا تنقطع الحجة من الأرض إلّا أربعين يوماً قبل يوم القيامة، فإذا رفعت الحجة وأغلق باب التوبة لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أنْ ترفع الحجة، وأولئك من شرار خلق الله وهم الذين تقوم عليهم القيامة.
وهناك آراء أخرى في تفسير وتأويل انقطاع التوبة عند الظهور ننقلها من كتاب (آثار الذنوب وبركات التوبة) للسيد علي عاشور:
• ما قاله الشيخ الأصفهاني: إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يقبل توبة من يعلم أنّ إيمانه يكون عن حقيقة وإخلاص، ولا يقبل ممن يؤمن بلسانه الخلاص. ولآت حين مناص، ويشهد لهذا الوجه ما سبق من أنه (عجّل الله فرجه) يحكم بمقتضى علمه الباطن المختص به (عجّل الله فرجه)، هذا ما خطر بالبال في حل الإشكال.
• ويحتمل أنْ يراد بروايات عدم قبول التوبة هو التشديد بل الالتزام بالإحكام الشريعة قبل الظهور، والحث بعدم التوفيق له، فقد يكون باب التوبة مفتوحاً في عصر الظهور، ولكنّ الإنسان لا يوفق إلى أنْ يتوب إلى الله تعالى لأسباب مختلفة، أقلها النسيان والتسويف، وعليه فيعاقب ويحاسب على أفعاله ويقام عليه الحد عند الإمام (عجّل الله فرجه) لأنّه لم يتب أو لم يعلن توبته، وعدم التوفيق للتوبة أمرٌ مرتبط بالله تعالى.
• ويحتمل تفسير (لا توبة) أي لا مبرر لوجودها من عدم وجود أسبابها - بناء على عصمة المجتمع - أنه لا يوجد من يذنب حتى يتوب، فإنّ التوبة والاستغفار نتيجة المعصية، وهذا يصبح في زمن قيام دولة العدل.