أزمة الثقافة المعاصرة والحاجة إلى المنقذ (١)
الشيخ محسن الأراكي
إن من أهم ما يميز المجتمع المعاصر هو أزمة الثقافة، وأزمة الثقافة هي التي تولّد في المجتمع المعاصر أزمة الهوية، فقد وردت إشارة إلى هذه الأزمة في العصر الأخير من تأريخ الإنسان والذي يعبَّر عنه بـ(آخر الزمان)، وجعل ذلك من علائم ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، إذ ورد في الحديث المتواتر أن من جملة ما يسبق ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، هو أن المجتمع البشري ينقلب فيه المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
والثقافة في واقع الأمر لا تعني إلّا نظام المعروف والمنكر في كل المجتمعات، وتعني أن هذا المجتمع يرى بعض الأشياء منكرة ويرى بعض الأشياء معروفة، أي أن عنده نظام القيم أو النظام الذي على أساسه تبنى هذه المعرفة الثقافية؛ وهذه القيم هي ثقافة المجتمع، وحينما يختار مجتمع ما طريقة خاصة في الحياة، إنما يختار هذه الطريقة لأن له قيماً يقيِّم على أساسها الأمور، فيرى الأشياء معروفة ويرى أشياء أخرى منكرة، فيرى أن هذه الطريقة من العيش معروفة وغيرها منكرة.
إنما يختار الإنسان هذه الطريقة ويترك غيرها لأنه يراها أفضل، لأنه يراها هي المعروف وأن غيرها هي المنكر، وهذا هو الذي يبني ثقافة الإنسان.
فحينما نقول أزمة ثقافة لا نعني عدم وجود ثقافة ولا نعني الأُميَّة، فقد يكون المجتمع مجتمعاً متطوراً ولكنه ذو ثقافة متخلفة، والعكس صحيح، وبمعنى آخر إذا وجد مجتمع قد جعل المعروف منكراً وجعل المنكر معروفاً، يكون هذا المجتمع قد ابتلى بأزمة الثقافة، وحينما يبتلى المجتمع بأزمة الثقافة يبتلى بأزمة الهوية، وإننا نجد ذلك حينما نراجع المجتمعات المعاصرة، سواء المجتمعات الغربية منها، أو مجتمعات المسلمين، نجدها خاضعة لهذه الثقافة التي تحكم العالم، وقد تختلف مجتمعاتنا شيئاً ما عن المجتمعات الغربية في ذلك، لكن الصفة العامة أو الثقافة العامة التي تحكمها؛ هي نفس الثقافة التي تحكم المجتمع الغربي.
هذه الثقافة التي تحكم العالم اليوم؛ نجدها ثقافة تعتبر أموراً من المعروف، مع أن الضمير البشري والعقل الإنساني يحكم بداهةً أنها لا يمكن أن تكون معروفاً. وعلى سبيل المثال (الإثارة الجنسية العامة)، فإنه لا يوجد عقل سليم وعلى مدى تاريخ الإنسان، منذ أن ولد على هذا الكوكب وحتى اليوم، يؤمن بأن الإثارة الجنسية العامة (يعني تعميم الإثارة في المجتمع) تخدم المجتمع والبشرية إطلاقاً.
إن الأطباء والعقلاء والحكماء وكل من لديه شيء من التفكير يدرك مدى خطورة هذه الإثارة العامة، في حين أن الثقافة التي تحكم الغرب، والتي تحكم العالم حالياً تقر بنشر هذه الإثارة عن طريق ما يسمى (بنشر الثقافة الجنسية).
فإننا نجد فرنسا وبلاداً أخرى تدعي بأنها المتطورة وأنها هي المتقدمة في الحرية، وهي التي تدعي أنها مهد الثقافة الإنسانية المعاصرة؛ ومهد الفن ومهد الأدب الجديد، نجد بالرغم من كل ذلك أنها تعيش أزمة ثقافة مُرّة وقاتلة لأنها تمنع المرأة المحجبة من أن تمارس حياتها وتعرقل حتى ذهابها إلى المدرسة.
إن مشكلتنا في المجتمع المعاصر هي أن هنالك قوى مهيمنة على العالم، وأن هذه القوى تؤمن بقيم، وأن المجتمعات تخضع لها؛ بادِّعاء أن هناك تكنولوجيا جديدة هي تكنولوجيا تطوير المجتمع أو ما يسمى بـ(الهندسة الاجتماعية) أو تكنولوجيا بناء الثقافة الاجتماعية، وهذه التكنولوجيا على أساسها وبواسطتها يمكن أن يحكم القادة السياسيون مجتمعاً ما، ويديرون هذا المجتمع ويجعلونه على أهوائهم، ليس إيماناً منهم بالديمقراطية؛ بل بقصد السيطرة على العالم وعلى المجتمعات تمكنها من أن توجه إرادة المجتمع، والرأي العام الاجتماعي الوجهة التي تريد، ومن هنا نعيش الأزمة.
إن أزمة الثقافة في جذورها ترجع إلى مشكلتين أو جذرين هما: أولاً مشكلة تغيير المعايير، معايير الحسن والقبح.
فحينما توجد أُمة تنقلب وتتغير فيها معايير الصلاح والفساد، أي أن ما ينبغي أن تراه صالحاً تراه فاسداً، وما ينبغي أن تراه فاسداً تراه صالحاً، هذا الانقلاب في المعايير هي المشكلة الكبرى في أزمة الثقافة وهو (الجذر الأول).
أمّا الجذر الثاني لها فهو أن المجتمع الذي يصاب بأزمة الثقافة قد لا يوجد فيه انقلاب في المعايير فهو على معرفة بها وعلى وعي من معايير المصلحة فيها. لكنه وبالرغم من ذلك فإنك لا تجد هذا المجتمع ملتزماً بمعايير الخير، أو مرتدعاً عن معايير الشر. إنه يرى ويعرف ويقر بأن هذه السلوكية هي سلوكية فاسدة، وأنها تعود بالشر على الإنسان وعلى صاحبها، ولكن بالرغم من كل ذلك فإنه يرتكب تلك السلوكية المنكرة، بل وأحياناً يغرق في تلك السلوكية بالرغم من إقراره بأنها سلوكية خاطئة وإنها سلوكية غير معيارية، وهاتان مشكلتان أساسيتان.
ويجب أن لا يغرب عن معرفتنا أن أزمة الثقافة في مجتمعنا الحاضر أزمة جدية، ولا نغالي إذا قلنا إن كبرى أزمات المجتمعات حالياً هي أزمة الثقافة، قبل أن تكون عنده أي أزمة أخرى، فكل أزمة هي فرع الأزمة الكبرى الأساس وهي الأزمة الثقافية.