الظهور أسبابه شرائطه
نادية خضير عباس الخزري
الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في سطور:
إن عقيدة المهدي (عجّل الله فرجه) تعيش في وجدان المسلمين في شرق الأرض وغربها، ولعلك لا تجد مسلماً إلّا ولها في وجدانه تيقن، بشكل من الأشكال، إمّا سمع من أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث إن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ليس تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري، أدرك الناس من خلاله على الرغم من تنوع عقائدهم ورسائلهم إلى الغيب، أن المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها، بعد عناء طويل، بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتد إلى غيرهم أيضاً، وانعكس حتى على أشد الأيديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات، كالمادية الجدلية التي فسرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود، تصفى فيه كل تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام.
وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانية على مرِّ الزمن، من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين أفراد الإنسان.
وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام، ويؤكد أن الأرض في نهاية المطاف ستمتلئ قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية، وهذا الإيمان ليس مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوة، فهو مصدر عطاء، لأن الإيمان بالمهدي إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلها، وهو مصدر قوة ودفع لا تنضب لأنه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمت الخطوب وتعملق الظلم، لأن اليوم الموعود يثبت أن بإمكان العدل أن يواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أركان الظلم، ويقيم بنائه من جديد، وأن الظلم مهما تجبر وامتد في أرجاء العالم وسيطر على مقدراته فهو حالة غير طبيعية، ولابد أن ينهزم، وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قمة مجده، تضع الأمل كبير أمام كل فرد مظلوم، وكل أمة مظلومة في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء، وإذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع منه، فإن معالمها التفصيلية التي حددها الإسلام جاءت أكثر شياعاً لكل الطموحات التي أنشدت هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني وأغنى عطاء وأقوى إثارة لأحاسيس المظلومين والمعذبين على مرِّ التاريخ، وذلك لأن الإسلام حول الفكر من غيب إلى واقع، ومن مستقبل إلى حاضر ومن التطلع إلى منقذ، فلم يعد المهدي (عجّل الله فرجه) فكرة تنتظر ولادتها ونبوءة تتطلع إلى مصداقها، بل واقعاً قائماً تنتظره وإنساناً يعيش بيننا بلحمه ودمه نراه ويرانا ويعيش مع آمالنا وآلامنا، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا، ويشهد من عذاب المعذبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيه أن يمد يده إلى كل مظلوم وكل محروم، وكل بائس، ويقطع دابر الظالمين. وقد قدر لهذا القائد المنتظر أن لا يعلن عن نفسه ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أنه يعيش معهم انتظاراً للحظة الموعودة.
معنى الظهور وأسبابه:
إن الحديث عن ظهور الإمام في غاية الأهمية لأن الكلام يدور حول الظهور والخروج عن الاستتار والاختفاء الذي دام أكثر من ألف سنة، ولا شك أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يسير وفق مخطط سماوي يضمن له النجاح الكامل ويمنع عنه الفشل بجميع أنواعه.
والظهور في اللغة العربية معناه: بدو الشيء الخفي، أي لابد للشيء أن يكون مسبوقاً بالخفاء ثم يبدو، وظهور الإمام (عجّل الله فرجه) معناه حضوره بعد خفائه، أي هو الخروج عن الاستتار والاختفاء، فكلمة الظهور ضد الغيبة والخفاء، والظاهر ضد الغائب، أمّا القيام هو النهضة والثورة والشروع بالعمل.
أمّا أسباب ظهوره:
إن أعداء هذا الدين من أهل الكتاب والمنافين والمشركين ومن والاهم ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ فهذه الآية العجيبة بيَّنت أن حال هؤلاء كحال من يريد بنفخة فم إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق، ويريد الله تعالى أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراف والإضاءة، وفي هذا منتهى التصغير لهم والتحقير لشأنهم والتصفيف لكيدهم، لأن نفخة الفم القادرة على إطفاء النور الضعيف كنور الفانوس لن تقدر على إطفاء نور الإسلام العظيم الساطع.
ثم تابع القرآن الكريم ليبين لنا بعده هذا المثال، الآيات الشريفة المشيرة به (عجّل الله فرجه) على مهمته، ربانية ضخمة، متعددة الجوانب، جليلة الأهداف، فهي عملية تغيير شاملة للحياة الإنسانية على وجه الأرض وإقامة مرحلة جديدة وطور جديد منها بكل معنى الكلمة. حيث اتَّفق المسلمون على ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) آخر الزمان لإزالة الظلم والجهل والجور وبعث الإسلام النبوي الأصيل وإقامة حضارته الربانية العادلة وتعميم نوره على العالم، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحق وإرادة الله (عزَّ وجلَّ) للظهور التام لهذا الدين رغم أنوفهم، وإظهار الدين كله ولو كره المشركون، في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ لقد تكررت هذه الآية في القرآن الكريم مما يدل على أهمية الموضوع، حيث إن لهذه الآية الكريمة تنزيل وتأويل في التفسير والتنزيل للآية: أن الله تعالى أرسل رسوله محمداً (بالهدى) من توحيد وإخلاص العبادة (ودين الحق) وهو دين الإسلام (ليظهره)، الظهور هنا: العلو بالغلبة بكل وضوح، قال تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً﴾ أي يغلبوكم ويظفروا بكم، فمعنى ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ أي يعلو ويغلب دين الحق على جميع الأديان، فإن كان هذا الكلام قد تحقق وكانت الإرادة الإلهية قد تنجزت، فالمعنى أن الله تعالى قد دحض وزيف جميع الأديان الباطلة والملل والشرائع المنحرفة زيفها بالقرآن وبالإسلام، أي بعبارة أوضح: أن الإسلام قد أبطل ونسخ جميع الأديان ورد على كل ملحد أو زنديق وعلى كل من يعبد شيئاً غير الله.
أمّا تأويل هذه الآية فإن هذا الهدف الإلهي لم يتحقق بعد، فالمسلمون عددهم أقل من ربع سكان الأرض، والبلاد الإسلامية تحكمها قوانين غير إسلامية، والأديان الباطلة تنبض بالحياة والنشاط وتتمتع بالحرية، بل تجد المسلمين في بعض البلاد أقلية مستضعفة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً.
إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ذكروا في تأويل الآية أنها تتعلق بعصر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وظهوره، حيث نصَّت هذه الآية أن دين الحق سيتحقق لا محالة، وهذه البشارة ليست لمطلق الصلحاء والمستضعفين، بل هي لنبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وللدين الإسلامي الحنيف، ولذلك تعد هذه الآية الأخص من الآيات، وذهب البعض إلى أن المراد في الآية من قوله: ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ أي إظهار برهاني، إلّا أن ذلك يخالف ظاهر الآية، كما ورد نظير هذه الآية في سورة الفتح حيث قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾، حيث تدل هذه الآية على أن الله تعالى قد عهد إلى نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإظهار الدين الإسلامي وسيادته على جميع الأديان في الأرض وبما أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ارتحل عن هذه الدنيا ولم تتوفر الظروف والشرائط لتتحقق هذه البشارة الإلهية بشكل كامل حيث إنه توفي والإسلام لم يكن سائداً على الأرض كله، بل كان في الحجاز واليمن وحدود الشام والكويت و...، فإن حفيده الثاني عشر الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) سيقوم بأعباء هذه المسؤولية ويحيي شريعة الإسلام في العالم كله، وستحقق البشارة الإلهية في عهده (عجّل الله فرجه)، حيث يرث الأرض كلها وترفرف راية الإسلام على المعمورة بأجمعها، فالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو بإذن الله ينجي العالم من ذل العبودية لغير الله، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة، ويبطل القوانين الكافرة التي سنتها الأهواء، ويقطع أواصر العصبيات القومية والعنصرية، ويمحو أسباب العداء والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الأُمّة وافتراق الكلمة. فيحقق الله سبحانه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ حيث إن الذين يستخلفهم الله في الأرض هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات من المسلمين، وأن هذا الوعد الإلهي المؤكد بـ(لام) القسم ثلاث مرات وبـ(نون التأكيد) ثلاث مرات أيضاً، لم يتحقق إلى يومنا هذا، ومتى كان المؤمنون الصالحون يتمكنون من الحكم على الناس وتطبيق الإسلام بكل حرية وبلا خوف من أحد؟ وأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ذكروا في تأويل هذه الآية الكريمة أن الوعد الإلهي يتحقق عند ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وفي تفسير مجمع البيان للطبرسي وتفسير العياشي وغيرهما عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام): أنه قرأ الآية وقال: «هو والله شيعتنا أهل البيت يفعل الله ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأُمة، وهو الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً»، وروي نفس هذا الكلام عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام).
ثم قال الطبرسي: المراد من ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ النبي وأهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتضمنت الآية البشارة لهم بالاستخلاف والتمكن في البلاد وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي (عجّل الله فرجه).
وأضاف قائلاً: وعلى هذا إجماع العترة الطاهرة وإجماعهم حجة لقول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، وأمّا في قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ فالمعنى الظاهري هو أن الله تعالى يعيد لنبي إسرائيل عزهم وكرامتهم ويهلك فرعون ووزيره هامان وجنودهما، ولكن تأويل الآية أي معناها الخفي غير المعنى الواضح الجلي هو أن المقصود من المستضعفين في هذه الآية هم آل محمد (عليهم السلام)، وليس المقصود كل مستضعف، فليس المراد المستضعف الملحد وإنما المراد هو المستضعف المؤمن، فنبي الله موسى (عليه السلام) كان مستضعفاً وكذلك أخوه هارون (عليه السلام)، وهكذا بنو إسرائيل في قبال الفراعنة فقد استضعفهم الناس وظلموهم وقتلوهم وشرَّدوهم وصنعوا بهم ما صنعوا، وقد قال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أنتم المستضعفون بعدي»، فالتاريخ الإسلامي يشهد ويصرِّح، بل ويصرخ بأعلى صوته بأن آل محمد (عليهم السلام) استضعفهم الناس من يوم فارق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الحياة، ولكن الله تعالى قد تعلقت إرادته أن يتفضل على هذه الذرية الطاهرة المظلومة عبر التاريخ وعلى أتباعهم وشيعتهم المضطهدين الذين كانوا لا يزالون يعيشون تحت الضغط والكبت والذل والهوان، المحرومين من أبسط حقوق البشر الذين سلبتهم السلطات كل حرية وكل كرامة، أن يتفضل عليهم بحكومة تشمل الكرة الأرضية ومن عليها وما عليها، فإن كلمة ﴿نريد﴾ التي هي بصيغة فعل المضارع تدل على الثبوت والاستمرار، حيث إن نزول الآية كان بعد آلاف السنين من عصر موسى (عليه السلام) وفرعون، وكان من الممكن أن يقول سبحانه: (وأردنا أن نمن) أو: (مننا على الذين استضعفوا) أي بلفظ الماضي، ولكن ذكرها بلفظ المستقبل، أمّا في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ حيث تخبر هذه الآية بأن من القضاء المحتوم تكريم خط الإيمان والصلاح بجزاء دنيوي فضلاً عن الجزاء الأخروي، يتمثل في وراثة الأرض وحكمها حيث العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، وقد روى الطبرسي وغيره في تفسير الآية عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) أنه قال: «هم أصحاب المهدي (عجّل الله فرجه) في آخر الزمان، وقد روي الشيخ الطوسي (عليه الرحمة) في التبيان في تفسير الآية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن ذلك وعد الله للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الأرض، وتشهد الأُمة بعد ظهوره عصراً ذهبياً حيث لا يبقى فيه على الأرض بيت إلّا ودخلته كلمة الإسلام، ولا تبقى قرية إلّا وينادي فيها شهادة ألّا إله إلّا الله بكرةً وعشياً.
شرائط الظهور:
إن قانون العرض والطلب يقتضي أن يكون الطلب متناسباً مع العرض لأنه غير هذه الصورة يختل نظام الحياة والتعادل ويسود نظام المجتمع الفوضى والاضطراب والفساد. وكما نعلم فإن جميع الأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى إلى البشر عبر التاريخ لهداية الناس واجهوا أثناء أداء عملهم المقدس ردود فعل شديدة ومضادة من قبل الناس المجحدين من غير أن يهتموا بالهدف السامي والرسالة الإنسانية للأنبياء، فقام الجاهلون بالتعرض والأذى للأنبياء والقادة السماويين الكبار لدرجة أن أعظمهم وهو النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لم يؤذَ نبيٌ من قومه كما أوذيت»، وسبحانه وتعالى يقول: ﴿يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾.
إن استمرار هذا الاصطدام أدّى إلى نتائج عنيفة كسجن ونفي وأذى الأنبياء (عليهم السلام)، وكثيرهم فقد حياته العزيزة في هذا السبيل، ورغم ذلك فإن الله العطوف الرحيم ولإتمام حجته لم يبخل بنعمة وجودهم على عباده، بل استمر العطاء وأوجد أحد عشر رجلاً فذاً لا نظير لهم (بدءاً من أمير المؤمنين حتى الإمام الحسن العسكري (عليهم السلام جميعاً) أفضل خلف لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا يملكون أبرز الصفات الإنسانية والفضائل الإسلامية، وكانوا أفضل أفراد الأُمّة الإسلامية في عصرهم، وكانوا يهدفون من قيادة المجتمع الإنساني الفضيلة والعدل الإلهي ومع ذلك وبشهادة التاريخ، فإنهم طيلة قرنين ونصف بعد رحيل خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) كانوا بعيدين أو أبعدوا عن الساحة السياسية الإسلامية لدرجة أنهم ما إن شرعوا يقومون في إرشاد الناس الغافلين حتى كانوا يواجهون بالاضطهاد والسجن والقتل...، ومن هنا نستنتج أن هذا العرض السماوي (المتمثل ببعث الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لم يكن متناسباً مع هذا الطلب الإنساني (المتمثل بإيجاد نبي البشر لرسالة السماء) أن سوء تصرف البشر على مرِّ التاريخ وردود فعلهم السيئة التي تجاوزت الحدود كان لابد أن يرى الإنسان نتائج أفعاله الدالة على التمرد والعصيان، ولهذا السبب شاءت الحكمة الإلهية أن يغيب آخر شخص من القادة العظام (الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)) عن الأنظار لمدة طويلة ليظهر لدى الناس حسن الطلب لمثل هذا الإمام العالي القدر، وفي ذلك الزمن التي تكون فيه الأرض ممهدة فإن الله تبارك وتعالى سيظهره ويجعله بين طالبيه، فعندما يتهيأ الوقت المناسب في كل الأمور وتصبح الأوضاع مساعدة لذلك، ويدب اليأس في قلوب معظم الناس ويطلبوا من أعماق قلوبهم من الله العزيز الحكيم قائداً ومنقذاً، فإنه سبحانه وتعالى سيظهر منجي العالم لإصلاح الأوضاع المنحرفة والفاسدة إصلاحاً جذرياً، ولتبدأ عملية إنقاذ الناس من الظلم والجور ونشر العدل والقسط.
ولكن لابد لهذا اليوم الموعود وهذا الفجر المقدس المنتظر من علامات وشروط، علامات تدل عليه وشروط تحقق نجاحه فإن انتصار ثورة أو تحقيق هدف منشود إنما يتوقف على توفر الظروف المناسبة، فمتى تهيأت الأجواء ومقومات النجاح تحقق الهدف، فحركة ونهضة مثل ثورة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) التي يختزل مجهود كل الأنبياء والرسل والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وتهدف إلى تحقيق العدل الإلهي وهداية البشرية جميعاً نحو شريعة الله الخالدة، إذن فنهضة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) المبتدئة بيوم ظهوره المقدس هي حركة عميقة وشاملة ومتجذرة ودائمة وإنسانية تتجاوز فوارق اللغة واللون والقومية وتحقيق تحرير الإنسان ورد اعتباره وكرامته المهدورة عبر العصور وتحاول اجتثاث الفساد والانحراف والظلم بكل أشكاله وألوانه وصوره. ولا يمكن لحركة شاملة وعميقة كهذه أن تحدث من لا شيء، بل ينبغي أن تسبقها الإرهاصات تهيئ الأرضية المناسبة لنجاحها ولابد من توفر مقومات وشروط النجاح، ولعل أهم هذه الشروط هي:
أولاً: الأيديولوجية الفكرية الكاملة والقابلة للتنفيذ في كل الأمكنة والأزمنة والتي تضمن الرفاه للبشرية جمعاء لابد أن تكون هذه الأيديولوجية هي القانون السائد في المجتمع وأن تكفل حل مشاكل البشرية وتستأصل جميع مظالمها، وكما فرق أن الدين الإسلامي هو آخر الشرائع السماوية وأن العقل البشري قاصر عن إيجاد العدل الكامل في العالم وأن الله سبحانه وتعالى وعد في القرآن الكريم بتطبيق العدل الكامل والعبادة المخلصة على وجه الأرض، بل كان هذا هو الفرض الأساسي للخلق ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، إذن ينحصر وجود هذه الأيديولوجية في الإسلام لعدم إمكان حصولها من العقل البشري وعدم إمكان نزول شريعة أخرى بعد الإسلام ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾، إذن في زمن الظهور سوف يتم تربية العلم ثقافياً من جهة الإسلام الواقعي (الأيديولوجية الفكرية) الذي يقوم عليه نظام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في دولته العالمية... فالشعوب غير المسلمة سوف تدعي إلى الإسلام وسوف تقنعه باقتناع وسهولة، وبالتالي تتم إزالة الاختلافات في العقائد الفكرية ويتبع الجميع الحق والحقيقة، وكل من أسلم من جديد أو هو كان مسلماً سلفاً، سوف يربى على الثقافة الإسلامية العامة الضرورية، ومن ثم يبدأ التصاعد والتكامل الثقافي كل حسب قابليته وجهوده.
ثانياً: وجود القائد المحنك، وفرها الله تعالى في المهدي (عجّل الله فرجه) كقائد أمثل للبشرية ليتكفل بعلمه وتعاليمه تطبيق الإسلام الصحيح في اليوم الموعود، وبقاؤه الطويل مع أجيال عديدة من البشر ضروري لتولية مهام القيادة في يوم الفجر المقدس، إذن قابلية المهدي (عجّل الله فرجه) لقيادة العالم تكتمل في:
١ - العصمة: بالإضافة إلى الإلهام والوحي، ونقصد بالإلهام والوحي كما حصل لـ: مريم بنت عمران (عليها السلام)، وأُم النبي موسى (عليه السلام) ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾.
٢ - الرصيد الضخم من التجارب التي يكتبها من خلال طول الزمن في عصر الغيبة ما يوجب له الاطلاع المباشر على قوانين تطور التاريخ وتسلسل حوادثه وما يؤثر على المجتمعات البشرية.
٣ - الأعمال والتضحيات التي يقوم بها في عصر الغيبة في سبيل الإسلام والمسلمين وما لها من بالغ الأثر في تصاعد كماله وترسخه. من هذا الفهم نستطيع أن نبرهن بانفصال المهدي (عجّل الله فرجه) عن العصمة والإلهام وعدم تكامله الطويل خلال الزمان، إذن ما يحجب عنه قابلية القيادة العالمية، ولذا يلزمنا افتراض أن المهدي يولد في آخر الزمان (كما تعتقد العامة) إذن بهذا التصور، المهدي (عجّل الله فرجه) ليس أكثر من فرد من المؤمنين المخلصين وإذا كان القائد كذلك فكيف بالجنود والأنصار، ومع هذا التصور يستحيل القيام بالمهمة الكبرى لليوم الموعود وتنفيذ الوعد الإلهي فيه، ومن هنا لابد من التأكيد على أطروحة الشيعة الإمامية لفهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) القائمة بهذا الشكل، استطعنا أن نستوعب بكل سهولة ووضوح (فضلاً عن الأدلة والنصوص) تصور الشيعة الإمامية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الذي يتميز بخصائص مهمة:
أ - الإيمان بعصمة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) باعتباره الإمام الثاني عشر من الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ب - الإيمان بكونه القائد الشرعي الوحيد للعالم عامة ولقواعده الشعبية خاصة طيلة زمان وجوده سواء كان غائباً أو حاضراً.
ج - معاصرته لأجيال عديدة من الأُمة الإسلامية خاصة والبشرية عامة.
د - كونه على مستوى الاطلاع على الأحداث يوماً فيوماً وعاماً فعاماً عارفاً بأسبابها ونتائجها وخصائصها.
هـ - كونه على ارتباط مباشر بالناس خلال غيبته يراهم ويرونه متفاعل معهم ويتفاعلون معه إلّا أنهم لا يعرفونه بحقيقته. لابد أن نشير إلى أن القائد العظيم الذي هو نداء الملايين ومهوى أفئدة الأجيال ومحط أنظار الأُمم ومحقق آمال الشعوب.
ولد يوم (١٥ شعبان عام ٢٥٥هـ) هو محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، ولي أمر الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عام (٢٦٠ هـ) وهو ابن خمس سنين لا يزال حياً ويعيش إلى الآن على وجه الأرض يأكل ويشرب ويعبد الله وينتظر الأمر له بالخروج والظهور غائب عن الأبصار وقد يراه الناس ولا يعرفونه.
و - له إشراف على العالم وإحاطته بأخبار العباد والبلاد وكل ما يجري في العالم بإذن الله.
ز - سيظهر في يوم معلوم عند الله مجهول عندنا وتحدث علامات حتمية قبل الظهور.
ثالثاً: وجود العدد الكافي من الناصرين المؤازرين المنفذين بين يدي القائد العظيم لتطبيق العدل على كافة أرض المعمورة (العالم) يحتاج القائد إلى عدد كافي من الرجال الناصرين والمؤيدين لكي ينشر الإسلام بالجهاد انتشاراً طبيعياً، لذا يلزم لتحقيق ثورة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) إعداد جيش وقوة ضاربة (قدرة تنفيذية) تدعم الإمام (عجّل الله فرجه) وتطيع أوامره وهذا ضروري وحاجة ماسة.
الروايات والأحاديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعترته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين:
١ - قال في مسند أحمد بن حنبل عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أبشركم بالمهدي يبعث في أُمتي على اختلاف من الناس ولازال فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحاً».
فقال رجل: وما صحاحاً؟ قال: «بالسوية بين الناس»، ثم قال: «ويملأ الله قلوب أُمة محمد عني ويسهم عدله حتى يأمر منادياً فينادي فيقول: من له في مال حاجة، فما يقوم من الناس إلّا رجل فيقول: أنا فيقول: أنت السدان - يعني الخازن- فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً فيقول له: احثُ، حتى إذا جعله في حجره وابرزه ندم فيقول: كنت أجشع أُمة محمد نفساً، أو عجز عني ما وسعهم؟ قال: فيرده فلا يقبل منه فيقال له أنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه».
٢ - قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إذا أراد الله أن يظهر آل محمد، بدأ الحرب من صفر إلى صفر، وذلك أوان خروج المهدي (عجّل الله فرجه)»، قال ابنه عباس: يا أمير المؤمنين ما أقرب الحوادث الدالة على ظهوره؟
فدمعت عيناه وقال: «إذا فتق فتق في الفرات، فبلغ أزقة الكوفة فليتهيأ شيعتنا للقاء القائم».
٣ - عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: «إذا قام قائمنا أذهب الله (عزَّ وجلَّ) عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلاً ويكونون من حكام الأرض وسنامها».
٤ - قال الإمام الباقر (عليه السلام): «إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع به عقولهم وأكمل به إخلاصهم».
الظهور المقدس:
﴿جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ﴾، ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرضُ بِنُورِ رَبِّها﴾.
يكون الظهور في سنة وتر أي: واحد، ثلاثة، خمسة، سبعة، تسعة من السنين الهجرية.
ويبدأ ليلة التاسع من محرم بعد صلاة المغرب والعشاء في الحرم المكي (في الكعبة) وليلة الجمعة، ويكون أصحابه ومعاونوه في الأرض الـ(٣١٣) من حوله فيوجه بيانه إلى أهل مكة ثم يسيطر أصحابه وبقية أنصاره على الحرم في تلك الليلة وعلى مكة وفي اليوم الثاني أي العاشر من محرم يوجه بيانه إلى شعوب العالم كافة وبجميع اللغات، وتبدأ عملية الظهور المقدس حتى تنتهي بملئ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
الخاتمة:
فلنشد من عزمنا ونتوكل على الله في تهيئة أرضية للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) إمام الهدى الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً وأن نبرهن له بأننا على العهد باقين ولفرجه منتظرين.
اللهم أصلحنا لإمام زماننا واجعلنا ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بنا غيرنا.