إخلاص الانتظار
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
من عادة العاقل أنه لا يخطو خطوة إلّا إذا حسب لها حسابها الخاص، وعرف ما سيجنيه منها، وهذه العادة عمت على المقولات الدينية، ولذا نرى أن أصحاب كل حركة أو مذهب، أول ما يعلنون فإنهم يعلنون عما سيجنيه الفرد من فوائد وأرباح من اتِّباعه لهم، وقد جرى الدين الحق في ذلك هذا المجرى، وخصص جزءاً كبيراً من أدبياته وتربوياته في آياته ورواياته لبيان الفوائد - الدنيوية والأخروية - المترتبة على دين الحق، وذكر الجنة وما فيها من نِعَمٍ لا تعد ولا تحصى تصب في هذا المعنى، وفي نفس هذا السياق، جاءت الروايات الشريفة لتؤكد فضل الانتظار والمنتظرين، وهي روايات كثيرة جداً.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم (عليه السلام)».
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (المنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله).
وعن سيد العابدين (عليه السلام): «من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأُحد...».
وعنه أيضاً (عليه السلام) أنه قال: «إن أهل زمان غيبته، القائلون بإمامته، المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان...».
ولكن أن الروايات الشريفة قد بينت أن آثار الانتظار مختلفة، وهنا قد يرد إلى الذهن سؤال، وهو أنه مادام الانتظار حقيقة واحدة، فلماذا اختلفت الآثار؟
والجواب: إن ذلك يرجع لعدة أسباب:
السبب الأول: اختلاف درجة المعرفة:
نعلم أن أهم ما يخلق الاختلاف والتفاوت بين البشر هو اختلاف معارفهم ومدركاتهم، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾، ولذا ﴿... يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، ومسألة الانتظار تختلف من شخص لآخر تبعاً لاختلاف معرفته بإمامه (عليه السلام)، فهناك من لا يعرف من الإمام إلّا اسمه، وهناك من يعرف عنه خطوطاً عريضة جداً وعامة، والنظرات مختلفة باختلاف درجات المعرفة. نعم، هناك من يعرف عن الإمام (عليه السلام) بعض حقيقته، ويعرف أشياء عما يجب الالتزام به، وما يقربه من إمامه، ولكنه قد يلتزم بمعرفته عملياً وقد لا يلتزم، وعليه فالمعرفة الصحيحة للمنتظر لابد أن تتوفر على عناصر عديدة، نذكر منها:
أ - معرفة شخص الإمام (عليه السلام) بصفته المذكورة في الروايات.
ب - معرفة الزمان، فإن من عرف الزمان لم تهجم عليه اللوابس، ولم يختلط عليه الحابل بالنابل، ولم يشتبه بمدع للمهدوية زوراً.
جـ - معرفة الفتن التي سيقع فيها الناس زمن الظهور، ومن خلال الروايات، ليعمل على اجتنابها.
د - معرفة شروط الإيمان التي لابد من التزامها زمن الغيبة، مما يصب في نجاح المنتظر أثناء اختبارات الظهور، أي معرفة الأحكام الشرعية التي لابد من التزام العمل بها زمن الغيبة.
هـ - معرفة النفس، والعمل على توجيهها الوجهة الصحيحة، فلعلها تخدع صاحبها وتزين له سوء عمله.
السبب الثاني: اختلاف درجة الإخلاص:
وما هي غاية المنتظر من انتظاره لمولاه؟ هل هي تخليصه من ظلم ألم به وأقلق مضجعه، أو هي تخليص الأُمة عموماً من آلام نفت رقادها؟ هل هي الرفاه المادي الذي وعدت به الروايات. أو أنها الارتباط الروحي في أعلى مستوياته حتى يصل إلى مرحلة ﴿ليعبدون﴾؟ هل هي توفير الأمن لأصحاب الأموال فلا يخافون قاطع طريق ولا طارق شر بليل؟ أو هي سيادة روح الأخوة الإيمانية وحب الخير للغير كحب النفس أو أكثر؟ هل هي لأجل توفير فرص عمل ذات مردود مادي عال جداً؟ أو هي لأجل العمل مع الإمام (عليه السلام) المفترض الطاعة إلى أن تعلو كلمة لا إله إلّا الله الأرض، لا لشيء إلّا لأن قوله صدق وعمله حق؟
السبب الثالث: اختلاف التزام منهج الانتظار عملياً:
إن منهج الانتظار - حاله في ذلك حال بقية مقولات الدين - منهج مرتبط في أركانه، ويجب التزامه باستمرار، فلا فرصة لتركه مؤقتاً، وقد وجدنا في تربويات الدين أن العمل الواجب لا مجال لتركه، ولكن العمل المستحب ينبغي التزامه لمدة سنة على الأقل، حتى يمكن أن يتغلغل في الروح ويثمر ثمرته المرجوة منه، وسواء كان الانتظار واجباً أو مستحباً، فالاستمرار عليه مطلوب. وهذا يعني أن اختلاف آثار الانتظار ربما يكون بسبب اختلاف استمرار تمسك المنتظرين بالمنهج العملي للانتظار، بمعنى أن المؤمنين بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) على أحوال مختلفة في ذلك، فالبعض لا يذكره (عجّل الله فرجه) إلّا في يوم ولادته، والبعض لا يذكره إلّا إذا دهته نائبة من الدهر أو اشتدت به الريح في يوم عاصف، وثالث ذاكر له، لكن عطف الأيام عليه وسكون الليالي عنه تلهيه عن ذكره، ورابع متألم على فراقه، لكنه لا يخطو خطوة واحدة نحو الوصال.
وهناك من أحرق غياب الإمام قلبه، وأقلق مضجعه، ونفى رقاده، فهام قلبه في عشقه يبحث في أرجاء السماء وأقطار الأرض عن موضع لمولاه، فلا انقطع حنينه، ولا سكن أنينه، ولا يقر له قرار إلّا برؤية طلعة مولاه البهية، ولطالما ردد قلبه بهدوء يكاد لا يسمع همسه «ليت شعري أين استقرت بك النوى، بل أي أرض تقلك أو ثرى، أبرضوى أو غيرها أم ذي طوى، عزيز عليَّ أن أرى الخلق ولا ترى، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوى، عزيز عليَّ أن تحيط بك دوني البلوى، ولا ينالك مني ضجيج ولا شكوى...».