طبيعة التمهيد التدريجي للإمام المنتظر (عجّل الله فرجه)
الدكتور محمد حسين علي الصغير
كان العمل السري المنظّم الأداة الوحيدة الأكثر نجاحاً في عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، للتمهيد لولده المنتظر (عجّل الله فرجه)، وكان الإمام العسكري (عليه السلام) معنيّاً بهذا الأمر عناية معمّقة تتلاءم مع طبيعة الظرف السياسي الطارئ الذي اكتنف كيان الدولة العباسية وهي تتلقى أنباء قرب ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وأنّه الإمام الثاني عشر الذي سيطيح بالكيانات الطاغوتية في العالم، والنظام العباسي في طليعتها كما يقدّرون، وكان هذا الإرهاص حريّاً بإثارة قلق السلطة وتزايد المخاوف لدى قادتها، مما جعلها تتأهّب تماماً لاستقبال هذا الحدث، لوئده في مهده، وتضع قواعدها الفاعلة في أقصى درجات الاستنفار لمواجهة الخطر القادم.
وكان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يقابل مهنته الرسالية وجهاً لوجه في خضمّ تلاحق الأحداث وتسارعها، بإشاعة هذا النبأ، ولقد أبدى الإمام (عليه السلام) جدارة فائقة بالتمهيد المسؤول عن سلامة ولده (عجّل الله فرجه)، بما يحقّق الحفاظ عليه في ظرف عصيب غلبت عليه الفوضى في قرارات السلطة، وفرضت فيه حالة الطوارئ القصوى وهي تتبّع هذا الحدث الجديد المقدّر له الإجهاز عليها بالكامل، وهي تحاول الانقضاض عليه بسرعة خارقة، وترصد علامات ولادته المتقاربة، وتلحظ ما عليه الإمام العسكري (عليه السلام) من أحوال شخصية.
وكان الإمام علي الهادي (عليه السلام) لم يعلن عن زواج رسمي للإمام العسكري (عليه السلام)، وإنّما تمّ اقترانه (عليه السلام) بسريّة تامّة من إحدى السراري الروميات، وهي السيدة (نرجس) في أغلب الروايات، وبدراية قلّة من الثقات، وبعلم عدد محدود من نساء البيت الطاهر، وحملت السيدة (نرجس) بولدها الوحيد، الإمام محمد المهدي (عجّل الله فرجه)، ولم يفصح عن هذا الحمل على الإطلاق حتى الولادة، وكانت ولادته في مناخ عائلي غلب عليه عنصر الكتمان، فلم يلفت ذلك أحد المعنيين والحاكمين المتربّصين بالوليد الجديد، ومن ثم بدأ الإعلان التدريجي عن مولده الشريف من قبل أبيه عليه السلام، وبخاصة للثقات والخلّص من الأولياء.
بهذا الشكل الباهر كان ميلاد صاحب الأمر (عجّل الله فرجه)، وجاء تصديقاً لما ورد فيه من أخبار متواترة قبل ولادته بقرنين من الزمان، الأمر الذي اطّلع عليه بنو أمية وبنو العباس عن طرقهم المتواترة، وأيقنوا به فعلاً، إذ تناقل المسلمون تلك المرويات طبقة عن طبقة حتى عرف بها الخاص والعام، والنصوص على ذلك كثيرة جداً إذ بلغت آلاف الروايات، كما جاء ذلك أخيراً في: (المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) للشيخ علي الكوراني العاملي).
وقد اشتهرت أغلب هذه الأحاديث شهرة مستفيضة في عهد الصادقين: الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق (عليهما السلام).
وهنا نجد دور الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) جديراً بالأهميّة في سبيل التمهيد لولده من جهات خطيرة متعدّدة.
لقد نهد الإمام العسكري (عليه السلام) بهذا الثقل العظيم، وأدّى ما عليه تجاهه بصلابة وإعداد، فهو يعلن في الوقت المناسب عن ميلاد الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه)، وهو يعمّق مفهوم الغيبة الصغرى والكبرى، وهو يدرّب أولياءه والأمة على أخذ التعليمات عن الإمام بصورة غير مباشرة، وهو يمرنها على فلسفة انتظار الفرج، وهو حذرها من الانخداع بالانتفاضات المرتجلة، وهو يؤهلها لاستقبال الظهور المرتقب، وهو يعدها إعداداً لليوم الموعود.
إنّها مفردات ضخمة الأداء، تفرغ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لخوض غمارها بعزم وتضحية، منطلقاً بتخطيط جديد، وأسلوب جديد، وعرض جديد، حيث حقق أهدافاً مستقبلية كبرى، رغم قصر مدة إمامته التي لم تتجاوز السنوات الست.
إنّ مهمة إعداد الأمّة لهذه المرحلة يتطلّب كثيراً من الجهود الإضافية، فحينما يكون الإمام بين ظهراني شيعته فإنّهم يستمعون إليه، ويأخذون منه وجاهياً، ويرتبطون بشخصيته مباشرة دون حجاب، وبهذا يكون الالتقاء الفكري متوافراً في حالة حضور الإمام بتوافر وجوده الشريف، أمّا في حالة غيابه، فتحتاج المسيرة في ضوء آرائه جهداً استثنائياً طارئاً يذلل من وقع غيابه على النفوس، وذلك بممارسة جديدة تستدعي بيان الأسباب والدواعي لفلسفة الغيبة.
هذا الحدث المرتقب يعني التمسّك باللمح الغيبي والإيمان بعائديته على أولياء، الإمام بتلقّي المعلومات الضرورية في شؤون الدنيا والدين، بالوساطة بين الإمام وبينهم عن طريق ثقاته ووكلائه، والثبات على المبدأ الأصل في حالة الغيبة كما هو عليه في حالة الحضور، وما يؤسس على هذا المبدأ من الصبر والاندماج في الواقع الجديد، وما يترتّب على ذلك من انتظار الفرج من جهة ومن العمل على تهيئة المناخ المناسب مستقبلاً للظهور المرتقب.. وما يصاحب ذلك من هزات وافرازات لا يتجاوزها إلا من محض الإيمان وامتحن فيه قلبه.
- حدث الحسن بن محمد بن صالح البزاز قائلاً: سمعت الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) يقول: إنّ ابني القائم من بعدي، وهو الذي يجري فيه سنن الأنبياء بالتعمير والغيبة حتى تقسو القلوب لطول الأمد، فلا يثبت على القول به إلّا من كتب الله (عزَّ وجل) في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه.
ومؤدّى هذه الرواية مضافاً إلى النص بأنّ المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) هو القائم: إنّ هذا القائم (عليه السلام) تجري به من سنن الأنبياء، العمر المديد والغيبة الحتمية، وانّ الثابت على القول به من محض الإيمان محضاً.
لهذا وسواه كان توقّع الاختلاف بعد الإمام العسكري (عليه السلام) في هذه الظاهرة بجميع عوالمها وأبعادها الآنية والمستقبلية.
وقد نبّه الإمام العسكري (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة مبكراً.
فقد حدّث موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، قال: سمعت أبا محمد الحسن (عليه السلام) يقول: كأنّي بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف مني، أمّا أنّ المقرّ بالأئمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، المنكر لولدي كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله، ثم أنكر نبوّة محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والمنكر لرسول الله كمن أنكر جميع الأنبياء، لأنّ طاعة آخرنا كطاعة أولنا، والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، أما أنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلّا من عصمه الله (عزَّ وجل).
وهذا التشديد في النكير على جحد إمامة صاحب الأمر له دلالته في أصل التشريع تكويناً، فالمقرّ بالأئمة والمنكر له، كالمقرّ بنبوّة الأنبياء والمنكر لنبوّة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وبناء على قاعدة اللطف، وقبح العقاب بلا بيان، فإنّ من الثابت في دستور أهل البيت (عليهم السلام)، وعليه أغلب المسلمين: أنّ الأرض لا تخلو من حجّة على خلقه، وعلى ذلك الخبر الآتي:
- حدّث أبو علي بن همام قائلاً: سمعت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) النائب الثاني لصاحب الأمر (عجّل الله فرجه) يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد بن الحسن بن علي (عليه السلام)، وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام): إنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله على خلقه إلى يوم القيامة، وأنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية!
فقال (عليه السلام): إنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حق. فقيل له: يا ابن رسول الله فمن الحجّة بعدك؟ فقال (عليه السلام): ابني محمد هو الإمام والحجّة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما أنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقّاتون، ثم يخرج، فكأنّي أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة.
إنّ هذه الإفاضة من الإمام تؤكّد على ضرورة الاعتقاد بالغيبة. وتنكر على من أنكر إمامة الحجّة المنتظر، وتدعو إلى انتظار الفرج باللازم.