الدولة الجديدة والتكامل الإنساني
الدكتور محمد حسين علي الصغير
تقترن إقامة الدولة الإسلامية بقيادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، بتبلور ظاهرة جديدة على المجتمع المسلم في الفكر والعلم والتطوّر العقلي، حتى يتجلى التكامل الإنساني في الصفوة المختارة من أصحابه وأوليائه، ويمتدّ ذلك إلى الركب الإيماني السائر بخط الإمام في الشرق والغرب، ومنطق الروايات الغيبي يكاد أنْ يكون متظافراً في أصالة هذه الظاهرة وتطوّرها ببركة توجيه الإمام (عجّل الله فرجه)، فالأذهان تبدو وكأنّها تتوقّد ذكاء، والعقول مفعمة ادراكاً، والقلوب تكاد تفيض خشوعاً وإيماناً، ذلك كلّه بما وهب الله تعالى لعباده من رجاحة العقل وكمال الأحلام، ويكون ذلك مواكباً للوعي التام والإدراك العميق.
فعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنّه قال: إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع به عقولهم وأكمل به أخلاقهم (أحلامهم).
ولا تحسبن ذلك من وضع اليد على الرؤوس حقيقة، وانّما هو تعبير مجازي عن رعاية الإمام للبشرية، وامتلاكه بالقوة، لا بالفعل ناصيتها، وذلك بترويض العباد على الإدراك المعرفي.
وهذا عام في البشر كافة، وهناك ما يختص بأولياء الإمام من التكامل الإنساني.
فعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال: إنّ قائمنا إذا قام مدّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبينه بريد، يكلّمهم فيسمعونه ، وينظرون إليه وهو في مكانه.
وذلك طريق لهداية الأسماع والأبصار إلى الحق بشكل مباشر، وأمّا كيف يحدث ذلك فله مؤشران قائمان لا يختلف بهما اثنان:
الأول: الطريق الطبيعي المتعارف اليوم بوسائط نقل الصوت والصورة، كما هو الأمر في أجهزة التلفزة والفضائيات العالمية.
الثاني: الطريق الاعجازي في الرؤية والسماع الحقيقيين دون وسيلة علمية، وذلك من مختصات الله تعالى ويجريه على عباده المخلصين.
وما يقال هنا يقال نفسه فيما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: إنّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق.
بقي القول: إنّ الطريق الطبيعي للرؤية والسماع يكون مشتركاً بين الناس ولا يخص المؤمنين لوحدهم، فلذا يرى البحث إنّ في هذا الملحظ إشارة إلى البعد الاعجازي الخاص.
نعم هناك من الأحاديث ما يختص به المؤمنون من أولياء المهدي (عجّل الله فرجه)، كما هو ما يمتازون به في عصره، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنّه قال: ...ويقذف في قلوب المؤمنين العلم، فلا يحتاج مؤمن إلى ما عند أخيه من العلم.
وهي ظاهرة فريدة بالاكتفاء العلمي الذاتي ببركة إمداد الإمام (عجّل الله فرجه) بل هنالك ما هو أعظم من ذلك دلالة في الفهم المعرفي بين المؤمنين والمؤمنات على حد سواء، فعن حمران بن أعين عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، أنّه قال: وتؤتون الحكمة في زمانه [زمن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)] حتى أنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وهنالك في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، إضفاء صفة التكامل الإنساني للقائلين بإمامته وغيبته (عجّل الله فرجه) فيما هم عليه من التوازن العقلي والفهم المركزي في رؤية الحقائق مجردة بما لا غبار عليه وشك معه، فقد روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، أنّه قال لأبي خالد الكابلي: تمتدّ الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده.
يا أبا خالد: إنّ أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته، المنتظرين لظهوره، أفضل أهل كل زمان، لأنّ الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والإفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً.
وإذا بلغ الإيمان هذا المستوى من الإدراك للمنتظرين له، فما بالك بالإيمان المتكامل لدى ظهوره (عجّل الله فرجه)، في وزن الحقائق بالعقل السليم، والتوصّل إلى استقراء العوالم المجهولة بادراك معرفي دقيق، لاسيما فيما ينشره الإمام من العلم المخزون الذي يتم في استخراجه له عند دولته الميمونة وقيامها، فهنالك رواية فريدة ذات أبعاد هائلة بإزاء التكامل الإنساني ببركة الإمام وعمله الجاد، تفسر لنا مدى ما وهبه الله للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من العلم الذي لا ينضب، فيفيضه في عصره.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً، فبثّها في الناس وضمّ إليها الحرفين حتى يبثّها سبعة وعشرين حرفاً.
ولاشك أنّ المراد بهذا الحشد العلمي الكبير في نسبته إلى ما سبقه من علم الدنيا كلّها، هو اشتماله الاستيعابي، لمعاني العلوم ومصادرها كافة، واستصفاؤه لأصول العرفان عامة، فلا يقتصر على ذلك على العلم الشرعي وحده، بل يتعدّاه إلى كل ما تحتاجه البشرية في حياتها الجديدة من المعارف العقلية والفكرية والصناعية والاقتصادية وبقية العلوم الأخرى.
وهذا ما يوحي فعلاً بانّ الإمام بنشره لهذه الأطاريح الكبرى للعلوم الإنسانية، إنما ينحو بذلك إلى إعداد العالم أجمع إعداداً تكاملياً يستغني به عن الاحتياج لأي نوع من الاستزادة العلمية، إذ تبلغ الأمم الذروة في الإدراك والتفتح على العلم بما لا مزيد عليه.
وإذ بلغ الناس هذا المستوى العظيم من التكامل العلمي فجدير بهم أنْ ينظروا إلى علم الإمام نفسه بدرجة أرقى متناهية، وذلك من باب أولى، وعلمه هو ذلك العلم اللّدني الذي لا يحتاج معه إلى شيء من الدلائل وعوالم الإثبات، فقد روي أنّه (عجّل الله فرجه) يُنصب له عمود من نور الأرض إلى السماء، فيرى فيه أعمال العباد.
وقد سبق عن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ الدنيا تكون عنده بمنزلة راحته طواعية، إرادة ورؤية.
واستشهد الإمام الصادق (عليه السلام) على مدى علم الإمام (عجّل الله فرجه)، بآيتين وهما: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾.
فقام الإمام (عليه السلام) بإزاء تطبيق المفهوم على أبرز المصاديق، فقال: إذا قام القائم (عليه السلام) لم يقم بين يديه أحد من خلق الرحمن إلّا عرفه: صالح هو أم طالح وذكر الآيتين.
وفي هذا الضوء ينظر البحث إلى ما روي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بعلمه اللّدني يخترق خفايا الأمور، (حتى أنّه يبعث إلى رجل لا يعلم الناس له ذنباً فيقتله، حتى أنّ احدهم يتكلّم في بيته فيخاف أنْ يشهد عليه الجدار).
وبهذه الخوارق العلمية التي لم تجر بها العادة اليوم في صيرورة العلم اللامتناهي لدى البشرية، بما يفيضه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وبما يتمتع به هو بالذات من الخصائص التوفيقية، يخطو العالم في دولة الإمام (عجّل الله فرجه) إلى التكامل الإنساني الرفيع في مستواه ومعطياته، مما يشكل برهاناً مضيئاً على امتلاك الدولة الجديدة لكل مقومات الحياة، وهو ما يقود البحث إلى تسليط الضوء على تواتر النعم والخيرات، وتراصف الموارد الاقتصادية في إنعاش الإنسان، وتطوّر الحياة المعرفية الذي يرافق عصر الإمام، في إشارات موحية على سبيل المثال والإجمال، ليستدل بما نذكر على ما لم نذكر.