العقيدة المهدويَّة في ضوء فلسفة التأريخ وحتميَّة السنن التاريخيَّة
لطيف عبد النبيّ يونس
تمهيد:
التاريخ يُمثِّل حركة الحياة الإنسانية، ويُمثِّل الحضارة البشرية بأجمعها، فالتعرّف عليه يُعَدُّ ضرورةً ملحَّةً لفهم الكثير من المصطلحات والمفاهيم الإنسانية، ومن خلاله تظهر أسئلة كثيرة ومهمَّة قد تصل لحدِّ الخطورة، لاسيّما في المعارف الضرورية والاعتقادات والمبادئ والقيم، ومن هنا تأتي التساؤلات:
هل أنَّ العقيدة المهدوية بذاتها مسألة تاريخية؟ وهل يمكن فهمها من خلال التأريخ؟ وهل التأريخ بسننه حاكم على العقيدة المهدوية، أم أنَّ العقيدة المهدوية هي الحاكمة على التأريخ وسننه؟ وكيف نفهم العقيدة المهدوية في ضوء علم التأريخ وفلسفته؟
ثمّ تصل بنا معارج البحث إلى محور معرفي مهمّ، وهو التأريخ التوحيدي وعلاقته بالعقيدة المهدوية، وذلك من خلال إلقاء الضوء على بعض الشخصيات التوحيدية (الأنبياء عليهم السلام) لنحصل على تلك العلاقة الذاتية والموضوعية، وفي انعطافة معرفية معاصرة ندخل في بحث مقارن بين أهمِّ أربعة كتب صدرت في العقد الأخير أثارت نقاشاً حادَّاً في المجال المعرفي المعاصر تناولت الحتمية التاريخية لنهاية العالم والتصدّع الاجتماعي للمجتمع الغربي، وهي: (نهاية التاريخ)، و(الرجل الأخير)، و(التصدّع العظيم) للمفكِّر والكاتب الأمريكي (فرانسيس فوكوياما)، و(صراع الحضارات) للكاتب الأمريكي (صموئيل هنتغتون)؛ وبين العقيدة المهدوية وبما تُمثِّله من حتمية تاريخية للمسيرة الإنسانية.
ونصل في خاتمية البحث إلى حتمية ختم التاريخ في ضوء علامات الظهور.
أوَّلاً: الفرق بين علم التاريخ وفلسفة التاريخ:
علم التاريخ:
التاريخ لغةً: هو معرفة الوقت أو الإعلام بالوقت.
قال الجوهري في صحاحه(١): (التاريخ: تعريف الوقت، والتوريخ مثله، يقال: أرَّخت وورَّخت).
واصطلاحا - كما عبَّر ابن خلدون في مقدّمته(٢)-: (التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الأيّام والدول والسوابق من القرون الأُوَل، تنمو فيها الأقوال وتُضرَب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصَّها الاحتفال، وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تقلَّبت بها الأحوال، واتَّسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتَّى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها).
وعُرِّف بأنَّه: (الإخبار عمَّا حدث في العالم في الزمان الماضي)(٣).
أمَّا فلسفة التاريخ:
فعرَّفها (دوركهايم): (تبحث في تحديد الاتِّجاه العامّ لتطوّر الإنسانية وإيجاد قانون لحركة الحياة البشرية في خطوط دائرية أو مستقيمة)(٤).
وعرَّفها الدكتور حسن سلمان(٥) بأنَّها معرفة التحوّلات والتطوّرات التي تنقل المجتمع من مرحلة إلى أُخرى، ومعرفة القوانين المحكمة في هذه التطوّرات والتحوّلات.
فعلم التاريخ بمفرده علم مستقلّ، وبمجموعه يدخل في نطاق الفلسفة، فالمؤرِّخ إنَّما يُؤرِّخ للذين دخلوا التاريخ ولعبوا فيه وحرَّكوا مساره، سواء دخلوا التاريخ للإفساد كفرعون وهتلر وستالين، أو دخلوا التاريخ للإصلاح كما فعل الأنبياء والمصلحون(٦).
علم التاريخ: هو سجّل الزمن للأحداث والشخصيات والأُمم.
وفلسفة التاريخ: هي معرفة الجامع للأحداث والحضارات وتحليلها، ومعرفة قوانينها وسننها.
ثانياً: الصراع التاريخي بين التوحيد والشرك:
منذ بدء الخليقة عاشت المسيرة الإنسانية صراعاً كبيراً بين التوحيد والشرك، فمنذ أوَّل خلقة بشرية لأبينا آدم وأُمِّنا حوّاء عليهما السلام دار الصراع مع إبليس الذي مثَّل رأس الشرك حيث أشرك بعبادته من خلال إطاعة هوى نفسه ولم يسجد لأبينا آدم (عليه السلام) حسداً وتكبّراً.
(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (طه: ١٢١)، وكانت تلك المحطَّة الثانية من الصراع بين هوى النفس وجهلها مع الأوامر الإلهية فكان الصراع الذاتي، فأُنزِل إلى الأرض لتبدأ مرحلة الشقاء، (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق: ٦).
وقتل قابيل هابيل فكانت محطَّة شرك ثالثة، واستمرَّ الصراع إلى مرحلة تطوّرية أكبر وهي مرحلة أبينا الثاني نوح (عليه السلام) الذي عاش دعوته بصريح القرآن (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت: ١٤).
دعا قومه ليلاً ونهاراً فلم يزدهم إلَّا ابتعاداً وتكبّراً وعصياناً، وبعد يأس أبينا نوح (عليه السلام) من قومه جاءه القول من الباري (عزَّ وجلَّ): أنَّه لن يؤمن من قومك إلَّا من آمن، فاصنع الفلك بأعيننا فإنَّهم قوم مغرقون، وفار التنّور وسالت الأودية بالماء وارتفعت إلى أعلى من قمم الجبال، فغرق حتَّى ابن نوح لأنَّه كان مشركاً، وبعد ذاك استوت السفينة على الجودي.
ثمّ بدأت مرحلة الصراع مع الجبابرة والطواغيت، فكان خطّ التوحيد متمثِّلاً بأبينا إبراهيم (عليه السلام) وابنه إسماعيل، اللذين خاضا امتحاناً كبيراً عندما رأى إبراهيم في المنام أنَّه يذبح ولده، فامتثل للامتحان ووضع السكّين على نحره ففدي بكبش عظيم، وأقاما البيت الحرام. وخاض إبراهيم (عليه السلام) الصراع مع النمرود الذي كان يُمثِّل الإله للقوم، وحطَّم أصنامهم، فأرادوا حرقه بنار عظيمة، فأطفأها الله تعالى فقال: (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (الأنبياء: ٦٩).
وبدأت مرحلة أكثر تطوّراً في الصراع، حيث بدأ موسى (عليه السلام) بولادة مخفيَّة وغيبة أوَّلية، وكان بين بني إسرائيل وفي بيت فرعون، مخفيَّاً عنوانه، يناصر شيعته الذين ينتظرون ظهوره، حتَّى حدثت الغيبة الثانية، فخرج خائفاً يترقَّب، ووصل إلى شعيب (عليه السلام)، وعاش مرحلة التربية الروحية والخفاء التامّ عن بني إسرائيل، حتَّى إذا انتهت الغيبة بمدَّتها العشر حجج أذن الله تعالى له في الظهور والصدع بالأمر فقال تعالى: (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (طه: ٤٣ و٤٤)، وأظهر الآيات العظمى، وانقلب السحرة صاغرين فآمنوا، وانتقم فرعون منهم لأنَّهم آمنوا بإله موسى (عليه السلام)، فانتقم الله (عزَّ وجلَّ) منه، فكما ألقى وليَّه في اليمِّ ليُنجيه ألقى فرعون في اليمِّ ليهلكه.
والتقى موسى بالعبد الصالح الخضر (عليه السلام) وعلم منه ما علم، ليرينا القرآن أنَّ الغيبة سُنَّة من سنن التاريخ للحفاظ على أوليائه، وأيضاً ليعملوا بالخفاء ولينشروا التوحيد ويُعطِّلوا أعمال الظلمة وينصروا المستضعفين، وحتَّى لا تسيخ الأرض بأهلها.
وجاءت مرحلة المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام)، وبدأت بمعجزة الولادة وخفائها، وظهر أمره ونشر التوحيد باسم السلام، وانتشرت المسيحية، ولكن الطواغيت لم يسمحوا للمسيرة أن تكتمل، فأرادوا به كيداً، فرفعه الله (عزَّ وجلَّ) إليه فقال: (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (آل عمران: ٥٥).
وليبقى عيسى (عليه السلام) منتظراً ذلك اليوم الموعود حيث ينزل إلى الأرض ليُصلّي خلف المهدي من آل محمّد عليهم السلام.
وانتهت مسيرة التوحيد إلى النبيِّ الأعظم محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فانتشر التوحيد، وأصبحت للإسلام دولة عدل وتوحيد، أذلَّت جبابرة الكفر وأرغمت أُنوفهم.
فكان سيف علي ومال خديجة وقيادة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) هي أدوات التوحيد ضدّ الشرك.
ورحل النبيُّ الأعظم محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد أن بذل كلَّ ما في وسعه لنقل الأُمَّة من الجاهلية الصنمية الشركية إلى الأُمَّة التوحيدية العادلة، موصيَّاً لها بأن تتَّخذ من علي بن أبي طالب (عليه السلام) قائداً لها ليكمل المسيرة التوحيدية العادلة..
ولكن! بسبب السقيفة وصعود من لم يكن أهلاً لقيادة الأُمَّة، خسر الإسلام الحكومة التوحيدية العادلة..، وانحرفت الأُمَّة عن منهج التوحيد القرآني وسُنَّة النبيِّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)، واستشهد وصيّ رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد كلِّ المحاولات في إصلاح ما فسد من أمر أُمَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وستجد أيّها القارئ العزيز تفصيلاً رائعاً لثلاثية الزمن التاريخي في دعاء الندبة الذي يختزل التاريخ الديني في أزمنته الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل بصورة عجيبة.
التوحيد بين علم التاريخ وفلسفته:
على ضوء علم التاريخ فإنَّ التاريخ الديني بقي يستذكر الشخصيات التوحيدية، فنجد في قصص الأنبياء مثلاً:
سليمان (عليه السلام) ودولته وما دار فيها من تسخير للجنِّ والطبيعة لأمر سليمان النبيِّ (عليه السلام)، وكيف أنَّه تحكَّم بكلِّ شيء بما فيها التصرّف في التكوينيات مثل حادثة نقل عرش بلقيس.
وذا القرنين وحكمه للعالم، وكيف أنَّه وصل إلى أماكن بعيدة المنال لغيره مثل المغرب والمشرق، وكيف أنَّه عزل قوم يأجوج ومأجوج عن العالم.
ومن ثَمَّ ذكر التاريخ الديني نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيَّ الخاتم محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وذكر الحوادث التي جرت في حياتهم، والمعارك التي حدثت أُرِّخت وللأسف بشكل محرَّف بسبب تولّي بعض الحكومات الفاسدة التي أرادت تحريف الحقائق وتزييفها، وأدخلت عليها الإسرائيليات فأصبحت في بعض الأحيان أُسطوريات أكثر ممَّا هي وقائع تاريخية، والأُمَّة الإسلاميَّة امتلكت هذا التاريخ الديني والذي هو علم التاريخ الإسلامي، وتعاملت معه على أنَّه حقائق مقدَّسة لا يجب مسّها بأيِّ صورة من الصور.
القرآن ومنهج فلسفة التاريخ:
أمَّا فلسفة التاريخ فنجدها واضحة في المنهج القرآني، من خلال قصصه وآياته الكريمة، والتي كانت صريحة وواضحة لمن يتدبَّر القرآن.
وهذه جملة من الآيات التي تُبيِّن بعض السنن التاريخية:
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: ١٤٠).
(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) (الإسراء: ٧٦ و٧٧).
(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً * اسْتِكْباراً فِي الْأَرضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: ٤٢ و٤٣).
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: ١٣٧).
(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: ١١).
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة: ٦٦).
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: ٩٦).
أساليب القرآن في بيان سنن التاريخ:
١ - بيان الفكرة الكلّية لسنن التاريخ: وهنا يُبيِّن القرآن أنَّ هناك سنناً تتعلَّق بالفرد وهناك سنناً تتعلَّق بالمجموع، فكما أنَّ هناك أجلاً للفرد فهناك أجل للأُمَّة بمجموعها، كما في بعض الآيات الآنفة، وهذه السنن كما تشمل السيّئين كذلك تشمل الأخيار، بل حتَّى المعصوم (عليه السلام)، كما في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) ويحيى (عليه السلام) من قِبَل الطواغيت.
٢ - بيان السنن من خلال المصاديق: فالآية الكريمة: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام: ٣٤)، تعطي نموذجاً لما سبق من الأُمم وأنبيائهم وتربطه بحياة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم).
٣ - الحثُّ على التأمّل في أحداث التاريخ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (محمّد: ١٠)، فنجد المنهج القرآني يحكي التوحيد عبر علم التاريخ وفلسفة التاريخ من خلال تعبيراته الرائعة، فيقول: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) (يوسف: ١١١)، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمّد: ٢٤).
من خلال ما تقدَّم نجد القرآن طرح القصص ليُبيِّن التوحيد وصراعه مع الشرك، فبيَّن:
١ - شخصيات التوحيد وفي قبالها شخصيات الشرك.
٢ - حلَّل النفسية الواقعية للشخصيات التوحيدية وطريقة تعاملها مع الأُخر ومع الطبيعة وأخلاقياتها وأدواتها المعرفية والاستدلالية وأدلَّتها المنطقية.
٣ - حلَّل النفسية الواقعية للشخصيات الشركية وطريقة تعاملها مع الإنسان ومع الطبيعة وأخلاقياتها وأدواتها المعرفية.
٤ - حلَّل النفسية الواقعية للمجتمعات التي تخلَّلت الصراع، وعدَّد طبقات المجتمع، وقام بعرض كلَّ ما يمرُّ به المجتمع المؤمن بدقَّة وحكمة عالية، بحيث يجد المتتبّع نفسه متأثِّراً بالصورة الفنّية العالية لحدِّ الانفعال العاطفي الموصل إلى قضيَّة التولّي والتبرّي، وهو الهدف المنشود من القصص القرآني.
٥ - بيَّن المنهج القرآني أنَّ هناك سنناً تاريخية تحكم المجتمعات وتحكم التاريخ، وهنا تكمن فلسفة التاريخ؛ فإنَّ فهم سنن التاريخ يعني فهم فلسفة التاريخ، وبالتالي الاستفادة من حوادث التاريخ بعد تحليلها، وأخذ العبر منها، وهذا ما عبَّر عنه القرآن: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) (يوسف: ١١١).
ولعلَّنا نشير إلى بعض السنن التاريخية التي تُعتَبر مدخلاً مهمَّاً لموضوعنا، وهي التالي:
أوَّلاً: سُنَّة حتمية الصراع، فمن خلال القصص القرآني نجد أنَّ الصراع قائم منذ بدء الخليقة إلى حين ظهور الإمام المهدي (عليه السلام).
ثانياً: سُنَّة الجعل الإلهي للأنبياء والأوصياء والعباد الصالحين، والمعبَّر عنها بسُنَّة الاستخلاف الإلهي، فهؤلاء عَهَدَ الله إليهم بأدوار مهمَّة وخطيرة، ومنهم العباد الصالحون مثل العبد الصالح الخضر (عليه السلام) وذي القرنين وطالوت الملك في زمن النبيِّ داود (عليه السلام)، بل حتَّى النساء مثل الصدّيقة مريم عليها السلام، وليس كما يذهب البعض إلى أنَّ الأُمَّة هي التي تُعيِّن القادة للأُمَّة.
ثالثاً: إنَّ العصمة هي سُنَّة إلهية يهبها الله (عزَّ وجلَّ) لمن يشاء على أساس الحكمة الإلهية والعلم الإلهي.
رابعاً: إنَّ حتمية الصراع في نهايته مكفولة بالنصرة لأولياء الله (عزَّ وجلَّ) حتَّى وإنْ قُتِلوا في سبيل الله، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (غافر: ٥١).
خامساً: سُنَّة خفاء الولادة للأنبياء (عليهم السلام)، كما في خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) والنبيِّ عيسى (عليه السلام).
سادساً: سُنَّة الغيبة، المعبَّر عنها بخفاء العنوان، وهذه واضحة في الكثير من القصص القرآني، ونذكر في ما يلي كنماذج واضحة ولا لبس فيها على الغيبة:
أوَّلاً: غيبة موسى (عليه السلام)، فقد كان في بيت فرعون وبين بني إسرائيل، ولكن لم يُعرَف بأنَّه هو النبيُّ الموعود الذي سوف ينهي دولة فرعون، وكان فرعون يعلم بهذه النبوءة، فكان يقتل الذكور من بني إسرائيل ويستحيي النساء.
قال تعالى: (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (الأعراف: ١٤١).
وكانت هذه غيبة صغرى، وكانت هناك غيبة كبرى تامَّة عندما هرب إلى النبيِّ شعيب (عليه السلام) فلم يرَه بنو إسرائيل ولا فرعون.
ثانياً: غيبة العبد الصالح الخضر (عليه السلام) حيث لم يكن يعلم بوجوده وأدواره حتَّى النبيّ موسى (عليه السلام)، فأخبره الله (عزَّ وجلَّ) من خلال علامتين وهما: السمكة وسريانها في البحر، ورجل نائم على الأرض في مجمع البحرين، وكان الخضر (عليه السلام) يعمل في الخفاء، ولولا القرآن لم يعلم أحد به أبداً.
ثالثاً: غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، فقد غاب لسنين في بلاد مصر حتَّى أنَّ أباه يعقوب (عليه السلام) لم يعرف بحاله، وإخوانه يرونه ولا يعرفونه، وقام بنشر التوحيد في بلاد مصر، ومن ثَمَّ أمره الله (عزَّ وجلَّ) بالظهور لإخوانه وأبيه (عليه السلام).
رابعاً: هناك غيبات لأنبياء الله (عزَّ وجلَّ) ذكرتها النصوص المعصومية مثل غيبة نبيِّ الله نوح (عليه السلام) وإدريس (عليه السلام) وغيرهم.
العقيدة المهدوية بين علم التاريخ وفلسفته:
كما أنَّ التاريخ الديني يُنظَر إليه من خلال علم التاريخ وفلسفته، كذلك العقيدة المهدوية يُنظَر إليها من خلال علم التاريخ وفلسفته باعتبارها:
١ - الامتداد العقدي والروحي للإسلام، فهي منبثقة من التوحيد والعدل الإلهي والنبوَّة.
٢ - كونها متمِّمة للأدوار الإلهية لقادة التوحيد في قيام دولة التوحيد والعدل الكبرى التي هي هدف البرنامج الإلهي، (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً) (البقرة: ٣٠)، لعمارة الأرض من خلال الحكومة الإلهية.
٣ - كونها مرتبطة بالمعاد من جهة الثواب والعقاب لمن عمل بها أو تركها متعمِّداً.
٤ - وكونها الحلُّ الأخير والنهائي للمشكلة البشرية بعد تهافت كلّ النظريات الوضعية، لأنَّه من غير الممكن أن تُترَك البشرية بدون حلٍّ إلهي، وهذا يُعتَبر خلاف الحكمة الإلهية وخلاف العدل الإلهي.
٥ - كونها الضمانة الحقيقية لإيصال البشرية إلى سعادتها وكمالاتها المعرفية والروحية والمادّية.
٦ - كونها مظهرة لكلِّ الأسماء والصفات الإلهية الجمالية والجلالية في عالم الوجود الإمكاني، والذي يُحقِّق الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفيَّاً فأحببت أن أُعرَف فخلقت الخلق لكي أُعرَف)(٧).
أمَّا نظرتنا للعقيدة المهدوية من خلال علم التاريخ، فإنَّنا نجد أنَّ هناك كمَّاً هائلاً من الروايات والنصوص المهدوية، والتي بلغت المئات بل الآلاف من الروايات شرحت أبعادها.
فعلم التاريخ أوجد لدينا ما يلي:
١ - النصوص الدينية التوراتية والإنجيلية، والنصوص التابعة للشرائع الأرضية كالزرادشتية والهندوسية والبوذية وغيرها، ممَّا يخصُّ المنقذ ودولته العالمية.
٢ - النصوص المهدوية الصادرة عن النبيِّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم).
٣ - النصوص المهدوية الصادرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام.
٤ - النصوص الصادرة عن أصحاب النبيِّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم).
٥ - النصوص الصادرة عن عامَّة المفكّرين والعلماء الإسلاميّين.
٦ - ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، وكلام النسّابة في ذلك.
٧ - النصوص الصادرة عن الإمام المهدي (عليه السلام) في زمان غيبته الصغرى، والتي تُسمّى بالتوقيعات المباركة، والتي وصل إلينا منها أكثر من سبعين توقيعاً في مختلف الموضوعات الفقهية والعقائدية.
٨ - القصص التي تُؤكِّد لقاءات الإمام المهدي (عليه السلام) بالمؤمنين من العلماء وعامَّة الناس وحتَّى غير المؤمنين.
هذا الكم الهائل من النصوص هو مدخل لدراسة العقيدة المهدوية من خلال فلسفة التاريخ من خلال التحليل والاستقراء والاستنتاج المنطقي والعقلي.
فلسفة التاريخ والعقيدة المهدوية:
قلنا سابقاً: إنَّ للتاريخ سنناً تحكمه، وبيَّنا تلك السنن من خلال المنهج القرآني، وهنا تكمن فلسفة التاريخ، ومن أهمِّ هذه السنن هي:
سُنَّة حتمية الصراع بين الحقِّ والباطل، بين العدل والظلم، بين الشرك والتوحيد.
وسُنَّة حتمية انتصار الحقِّ على الباطل، وانتصار العدل على الظلم، وانتصار التوحيد على الشرك بأنواعه.
وهذه السنن تقريباً هي عقلية إنسانية يشترك فيها الإنسان بشتّى أنواعه إذا رفعنا التوصيف الخاصّ بالوصف الديني وهو التوحيد.
الآن ننتقل إلى اتِّجاه آخر وتفسيره للتأريخ فلسفةً وتكاملاً.
الاتّجاه الديالكتيكي أو الآلي في تفسير تكامل التاريخ:
أوَّلاً: تكامل الطبيعة:
يفهم هذا الاتِّجاه التطوّر في الطبيعة على أنَّه نتاج الصراع بين المتناقضات، ويتمُّ وفق الخطوات الأربع التالية:
١ - إنَّ الطبيعة في حركة مستمرَّة دؤوبة، فهي لا تعرف السكون مطلقاً، ولا تعيش الثبات.
٢ - تترابط أجزاء الطبيعة بشكل وثيق، فكلُّ جزءٍ منها يتأثَّر بالأجزاء الأُخرى ويُؤثِّر فيها، ولذلك عندما تُدرَس الطبيعة، فلا بدَّ أن تُدرَس أجزاؤها على أنَّها مترابطة غير مفكَّكة أو مجزَّأة.
٣ - تنشأ الحركة في الطبيعة بسبب صراع المتناقضات، ويُشكِّل هذا الصراع أساس كلّ تطوّر، ويتمُّ على الشكل التالي: تتَّجه كلُّ ظاهرة طبيعية تلقائياً نحو نقيضها، يأخذ النقيض في النموِّ شيئاً فشيئاً بحيث يصبح قادراً على مواجهة تلك الظاهرة، هكذا ينشب الصراع بينه وبينها؛ فالظاهرة تريد الحفاظ على نفسها والنقيض يريد أن يُبدِّلها.
٤ - يشتدُّ الصراع بين الظاهرة ونقيضها، ويستمرُّ إلى أن يبلغ ذروته، ثمّ تحدث ثورة تنتهي لصالح النقيض المتمثِّل بالقوى الجديدة على حساب الظاهرة والقوى القديمة. وهكذا تتبدَّل الظاهرة بنقيضها الذي كانت تتَّجه تلقائيَّاً نحوه، في المرحلة اللاحقة ينشب صراع جديد بين هذا النقيض ونقيض آخر فيتحوَّل إليه، ونفي النفي هذا نوع من التركيب، تتواصل به حركة المجتمع والتاريخ بشكل حتمي وجبري ويحصل التكامل، وهكذا...
والخلاصة أنَّه وفقاً لهذه النظرية هناك أصل، يمكن أن نُسمّيه (الأُطروحة)، ينقلب إلى نقيضه (الطباق)، فيما بعد يأتلف النقيضان ليشكّلا تركيباً واحداً (التركيب). ثمّ يصير هذا التركيب أصلاً و(أُطروحةً) جديدةً تطوي المراحل نفسها...، وثلاثي (الأُطروحة، والطباق، والتركيب) هو المسمّى بحسب أصحاب هذا الاتِّجاه بالمثلَّث الهيغلي(٨).
ثانياً: تكامل المجتمع والتاريخ:
يعتبر هذا الاتِّجاه أنَّ العامل الأساس الذي يُشيِّد المجتمع، والسبب الرئيس الذي يؤدّي إلى الحركة فيه وبالتالي إلى تكامله، هو العمل الإنتاجي وتطوّر آلات الإنتاج، فبحسب المنظِّرين لهذا الاتِّجاه أنَّ العامل الاقتصادي هو أساس حياة البشرية، هو الذي يخلق علاقةً بين الأفراد تنبثق عنها مجموعة العلاقات الأُخرى، كالعلاقات الاجتماعية والسياسية، ولذا قيل: إنَّ الاقتصاد هو الذي يُشكِّل البناء التحتي للمجتمع، الذي يؤدّي تغيّره إلى تغيّر كلّ الأبنية الفوقية.
ويتمُّ التطوّر والتكامل في المجتمع والتاريخ وفق الخطوات التالية:
- يُشكِّل التاريخ جزءاً من أجزاء الطبيعة، ولذا فإنَّه يطوي نفس مراحلها، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ عناصر المسألة التاريخية هم أفراد البشر، فهو حركة وصراع دائم بين مجموعات فتيَّة جديدة ومجموعات سابقة.
- إنَّ كلَّ جيل جديد من أفراد الإنسان يحمل أفكاراً أكثر تطوّراً تؤدّي إلى زيادة الإنتاج؛ إذ الإنسان مزوَّد بالقدرة على تطوير آلات الإنتاج.
- توجِد أفكارُ القوى الفتيَّة الحديثة علاقات اقتصادية جديدة تنبعث منها علاقات اجتماعية.
- تنمو هذه القوى وتصبح قادرة على الوقوف بوجه القوى القائمة. تنشب صراع بين الفريق الرجعي، وقوامه تلك القوى التي ترتبط مصالحها بالوضع الاقتصادي القديم، والتي ترى ضرورة بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وبين الفريق التقدّمي الذي يتشكَّل من القوى الفتيَّة بوسائلها الإنتاجية المتطوّرة، وترتبط مصالحها بنظام اقتصادي جديد.
- يشتدُّ هذا الصراع ويحتدم ليبلغ ذروته، فتحدث ثورة يتبدَّل فيها المجتمع بزوال وفناء النظام القديم وحلول النظام الجديد، وهكذا يكون هناك تأثير متبادل بين الإنسان والآلة، الإنسان يخلق الآلة، والآلة تخلق الإنسان الجديد، فيما بعد تطوي هذه المرحلة الجديدة المسيرة نفسها، لتتواصل مراحل التاريخ، وهكذا...
نتائج الاتّجاه الآلي في تفسير تكامل التاريخ:
١ - مفهوم القديم والجديد بحسب هذا التفسير:
أمَّا العلاقات الثقافية والاجتماعية وما شابه، فإنَّها تنبثق من العلاقات الاقتصادية، فإنَّ محتوى التفكير الاجتماعي للأفراد يتكوَّن من خلال مكانتهم الطبقية وظروفهم الاقتصادية.
٢ - التسلسل المنطقي للتاريخ:
تتسلسل المراحل التاريخية بشكل منطقي جبري، كأيِّ عنصر طبيعي آخر، فالتاريخ يَعبُر مراحلَه بالترتيب ولا يمكنه القفز فوق أيّ مرحلة؛ فكما أنَّ النطفة لا يمكن أن تصير مضغة دون أن تمرَّ بمرحلة تكوّنها علقة، كذلك الرأسمالية مثلاً مرحلة تاريخية تتوسَّط مرحلة الإقطاع ومرحلة الاشتراكية، فمن المستحيل أن ينتقل المجتمع من الإقطاع إلى الاشتراكية دون أن يمرَّ بالرأسمالية.
٣ - وصول كلّ مرحلة إلى ذروتها:
من الضروري أن تبلغ كلُّ مرحلة من المراحل ذروتها لتنتقل إلى مرحلة جديدة أُخرى. فانتظار مرحلة مقبلة دون أن تبلغ المرحلة الراهنة ذروتها يشبه انتظار الولادة قبل أن تطوي النطفة مراحل الجنينية، فهذه في الواقع محاولة إجهاض لا ولادة(٩)! وعلى هذا الأساس فإنَّ الديالكتيكية تؤمن بالتكامل الطبيعي أو التاريخي للبشرية.
يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ والرجل الأخير)(١٠):
(يبدو أنَّه قد ظهر توافق مدهش في السنوات الأخيرة يتعلَّق بالديمقراطية الليبرالية كنظام حكم، لأنَّها اقتصرت على الإيديولجيات المنافسة - كالنظام الملكي الوراثي والفاشية وأخيراً الشيوعية -، لقد أشَّرت فضلاً عن ذلك إلى أنَّ الديمقراطية الليبرالية بإمكانها أن تُشكِّل فعلاً (منتهى التطوّر الإيديولوجي للإنسانية) و(الشكل النهائي لأيِّ حكم إنساني)، أي إنَّها من هذه الزاوية (نهاية التاريخ)، فبينما كانت أشكال الحكم القديمة تتميَّز بأخطاء خطيرة وتناقضات لا يقبلها العقل أدَّت إلى انهيارها، فإنَّه بالإمكان الادِّعاء أنَّ الديمقراطية الليبرالية كانت خالية من هذه التناقضات الأساسية، لا يعود ذلك لكون الديمقراطيات الثابتة اليوم كمثل فرنسا والولايات المتَّحدة وسويسرا لم تعرف المظالم ولا المشاكل الاجتماعية الخطيرة، ولكن لأنَّ هذه المشاكل كانت تنجم عن التطبيق غير الكامل لمبدئي الحرّية والمساواة اللذين هما الركيزتان لأيَّة ديمقراطية حديثة وليس من هذين المبدئين بالذات، وقد تفشل بعض البلدان الحديثة في إقامة الديمقراطية الليبرالية، وقد يقع بعضها في أشكال بدائية للحكم مثل الثيوقراطية أو الديكتاتورية العسكرية).
نستنتج من خلال ذلك أنَّ العقيدة الماركسية تؤمن بالجبرية التاريخية من خلال نظرية التضادّ الوجودي، بينما النظرية الغربية تؤمن بالنظرية الاختيارية للتاريخ، وأنَّ الإنسان وحده يصنع التاريخ ويصيغه وفق سننه الخاصَّة، نعم من الممكن أن توجد سنن تاريخية ولكن من الممكن جدَّاً تغيير تلك السنن، وبعيداً عن تدخّل البعد الغيبي، وهذا ما ترفضه العقيدة المهدوية كما سنُبيِّن ذلك.
الصيغة الثلاثية والصيغة الرباعية لعناصر المجتمع في حركة الصراع التاريخي:
يقول السيِّد الشهيد محمّد باقر الصدر في كتابه (المدرسة القرآنية)(١١):
ما هي مقوّمات المركَّب الاجتماعي؟ وكيف يتمُّ التركيب بين هذه العناصر والمقوّمات؟ وضمن أيّ إطار؟ وأيّة سنن؟ هذه الأسئلة نحصل على جوابها في النصِّ القرآني الذي تحدَّث عن خلق الإنسان الأوَّل: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: ٣٠).
هناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارات القرآنية:
أوَّلاً: الإنسان، ثانياً: الطبيعة، ثالثاً: العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالأرض (الطبيعة) وبالإنسان، وهي تُسمّى قرآنياً بالاستخلاف، وهي العنصر المرن والمتحرِّك في المعادلة الاجتماعية.
لهذه العلاقة صيغتان:
رباعية: وهي افتراض طرف رابع في المركَّب، وهذا الطريف ليس داخلاً في إطار المجتمع ولكنَّه مقوِّم لها وهو الله تعالى، وهذا هو الطرح القرآني المسمّى بالاستخلاف، فالله (عزَّ وجلَّ) هو المستخلِف (بكسر الخاء)، والإنسانية المستخلَفة (بفتح الخاء)، والمستخلَف عليه هو الأرض (الطبيعة) وما عليها، فالاستخلاف بمعنى أنَّ الطبيعة أمانة بيد الإنسانية وهو محاسب عليها، ولذلك قبلها الإنسان وهي في فطرته: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: ٧٢).
إنَّ إضافة بعد رابع وهو الله (عزَّ وجلَّ) ليس إضافة عددية، بل هو نوعية تُغيِّر من الحركة الجوهرية للإنسانية، وبالتالي تُغيِّر مجرى التاريخ.
وهناك الصيغة الثلاثية: وهي تجريد المركَّب النظري من البعد الرابع وهو الله (عزَّ وجلَّ)، ووجدت هذه العلاقة عبر التاريخ من خلال سيادة الإنسان على أخيه الإنسان وكذلك الملكية، هذه الصيغة الثلاثية تعني لا يوجد قيِّم على العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان وبين الإنسان والطبيعة إلَّا ضمير الإنسان نفسه. وقد جرَّبت الإنسانية في مسيرتها كيف كان ضمير الإنسان، وما جرَّ هذا الضمير من الويلات والحروب على البشرية، وكيف استغلَّ ثروات الطبيعة وكأنَّها ملك خاصّ له.
ومن هنا، فإنَّ المحتوى الداخلي للإنسان هو المحرِّك للتاريخ على ضوء السنن الإلهية، (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: ١١).
فهذا المحتوى الداخلي للإنسانية والبناء الداخلي لها المتكوِّن من: الفكر والإرادة، وهما يُجسِّدان الغايات التي تُحرِّك التاريخ. وهذا المحتوى الداخلي مرتبط بالمثل الأعلى الذي تتمحور حوله الغايات، فبقدر ما يكون المثل الأعلى صالحاً وعالياً كلَّما تكون الغايات صالحة وممتدَّة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً كلَّما تكون الغايات المنبثقة منه محدودة.
وعلى هذا الأساس المتقدِّم فإنَّ العقيدة المهدوية تعتمد على المركَّب النظري القرآني في إيجاد العدل من خلال استخدام السنن التاريخية التي تنسجم مع المثل الأعلى القرآني وهو الله (عزَّ وجلَّ)، فالعقيدة المهدوية تؤمن:
١ - بالله (عزَّ وجلَّ)، باعتباره الحيّ القيوم، والخالق والمدبِّر لجميع الأُمور.
٢ - الإنسان المتعلّق بالإله عبر نائبه الإمام المهدي (عليه السلام)، باعتباره المستخلف على الإنسان والطبيعة.
٣ - الإنسانية: وهي المجتمع الأرضي الذي هو موضوع الاستخلاف والمساعد في إرساء العدالة الإلهية.
٤ - الطبيعة (الأرض) وهي أمانة بيد الإنسان حتَّى تتوزَّع الموارد الطبيعية بالسويَّة.
الإمام المهدي (عليه السلام) هو وراث خطّ الأنبياء عليهم السلام:
نقرأ في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) المعبَّر عنها بزيارة وارث: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله...»، فالإمام الحسين (عليه السلام) هو وارث الأنبياء جميعاً، وكلُّ إمام من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) هو وارث لخطِّ الأنبياء، فيكون الإمام المهدي (عليه السلام) الوارث للأنبياء جميعاً، وهو الخاتم للأوصياء، وبيده مواريث الأنبياء.
والوراثة تعني: امتلاك كلّ الخصائص الإلهية التي تمتَّع بها الأنبياء والأوصياء من معارف وطاقات روحية لإدارة الصراع مع الباطل، إنَّه يعمل وفق السنن التاريخية الإلهية ليقوم بتوجيه التاريخ وتعديل مساره نحو تحقيق العدالة الاجتماعية.
المحتوى الداخلي للإنسان المهدوي وتأثيره في المسار التاريخي:
في هذه الكلمات سوف نجيب عن سؤال مهمّ، وهو: هل أنَّ العقيدة المهدوية جزء من فلسفة التاريخ أم هي عامل مؤثِّر في فلسفة التاريخ؟
بدأ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في صناعة الإنسان والمجتمع المهدوي منذ بداية دولته المباركة، ومنذ أن عرف أنَّ هناك انحرافاً سيصيب الأُمَّة يُبعِدها عن الخطِّ الرسالي والإلهي، فلا بدَّ من التأسيس لإنشاء إنسان المجتمع المهدوي. وهذه جملة من الأحاديث النبوية الشريفة في هذا المجال:
ورد في صحيح أبي داود(١٢) عن عبد الله، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قال: «لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يبعث فيه رجلاً منّي...».
وفي حديث سفيان: «لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتَّى يملك العرب رجل من أهل بيتي».
وفي نفس المصدر عن علي (عليه السلام)، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قال: «لو لم يبقَ من الدهر إلَّا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي».
هذه جملة من الأحاديث المرويَّة عن النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، تُبيِّن أنَّ هناك صناعة للشخصية الإسلاميَّة المهدوية، والتي أصبحت في كلِّ مرحلة تنتظر المهدي وتسأل عنه وتُمهِّد لظهوره الشريف.
وهكذا نشأ المجتمع الذي يعتقد ويؤمن بعقيدة الإمام المهدي (عليه السلام)، وتطوَّر هذا المجتمع وسط ألوان من العذاب السلطوي الأُموي والعبّاسي وغيرهم، وحتَّى ضحّى برجالاته العظام بما فيهم قادته الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام)، ولكنَّه في كلِّ مرحلة يقوى ويشتدُّ وينتظم، حتَّى أصبح في زمن الولادة الشريفة للإمام المهدي (عليه السلام) مجتمعاً منظَّماً من خلال قائد ونوّاب ووكلاء منتشرين في أصقاع الأرض، ولهذا المجتمع إداريات خاصَّة وأنظمة خاصَّة واقتصاد خاصّ وأهداف كبيرة. ومرَّ بمرحلة الغيبة الصغرى والكبرى، والتي فيها أصبح هذا المجتمع كياناً كبيراً وعريضاً يديره النائب العامّ الفقيه الجامع للشرائط، من خلال رسالته العملية كدستور عملي يُنظِّم حياة الفرد مع ربِّه في العبادات، ومع الآخر في المعاملات. وأصبحت له خصائص فكرية واقتصادية واجتماعية مميِّزة له عن غيره.
وأخيراً استطاع أن يوجِد له حكومات سياسية، وفي كلِّ يوم يزداد هذا المجتمع المهدوي بريقاً وارتفاعاً وانتصاراً، رغم هدوءه ورغم شعاره المسالم، ورغم كلّ ما يتعرَّض له من اضطهاد وقتل وتشريد، لكنَّه يوماً بعد يوم يزداد علوَّاً وإيماناً وازدهاراً وتوسّعاً.
وبهذا الإنجاز المعرفي والعملي والإداري والسياسي استطاعت العقيدة المهدوية أن تركب السنن التاريخية وتؤثِّر في فلسفة التاريخ وتوجِّهه بالاتِّجاه الذي يؤمِّن تحقيق الأهداف الإلهية وفق البرنامج الاستخلافي.
وعلى هذا الأساس فإنَّ العقيدة المهدوية هي روح البرنامج الإلهي، وبدونها يكون العبث في البرنامج الإلهي، وهذا محال، ولهذا فهي وإن كانت خاضعة للسنن التاريخية باعتبارها موجودة ضمن الأسباب والمسبَّبات الإمكانية، وهو قانون سار على الجميع، ولكنَّها في نفس الوقت حاكمة على التاريخ وموجِّهة له من خلال سيرها مع السنن الإلهية، وفي نهاية المطاف هي المنتصرة والمحقِّقة للغاية من خلق الإنسان.
العقيدة المهدوية والسنن الإلهية التاريخية:
هناك سنن تاريخية عرضها القرآن في منهجه، ومن تلك السنن هي: خفاء الولادة، وخفاء العنوان (الغيبة)، والعمل بالتقيَّة.
لقد أكَّدت النصوص المعصومية على أنَّ هناك وجه شبه بين الإمام المهدي (عليه السلام) وبين بعض الأنبياء (عليهم السلام)، فهناك وجه شبه بموسى وعيسى ويوسف ونوح وإبراهيم وغيرهم عليهم السلام.
هذا الشبه ليس اعتباطاً، وإنَّما جاء بسبب وجود: الخطّ الوراثي الممتدّ من آدم (عليه السلام)، مروراً بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، ووصولاً إلى نبيِّنا الخاتم (صلّى الله عليه وآله، وانتهاءً بالأئمَّة المعصومين عليهم السلام. هذا الخطّ الوراثي الإلهي يعيش صراعاً تاريخياً وحتمياً مع الخطّ الشركي.
إنَّ هناك سنناً تاريخية لا بدَّ منها، حاكمة على الخطِّ الوراثي الإلهي، يتَّخذها الجميع للحفاظ على هذا الخطّ.
روى الصدوق في (علل الشرائع)(١٣): عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها يرتاب فيها كلّ مبطل»، فقلت له: ولِمَ جُعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم»، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالى ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى إلَّا وقت افتراقهما. يا بن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله وسرٌّ من سرِّ الله وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) حكيم صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف لنا».
وفي (إكمال الدين وتمام النعمة)(١٤) في حديث طويل:
قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى أدار للقائم منّا ثلاثة أدارها في ثلاثة من الرسل عليهم السلام: قدَّر مولده تقدير مولد موسى (عليه السلام)، وقدَّر غيبته تقدير غيبة عيسى (عليه السلام)، وقدَّر إبطاءه تقدير إبطاء نوح (عليه السلام)، وجعل له من بعد ذلك عمر العبد الصالح - أعني الخضر (عليه السلام) دليلاً على عمره».
فقلنا له: اكشف لنا يا ابن رسول الله عن وجوه هذه المعاني.
قال (عليه السلام): «أمَّا مولد موسى (عليه السلام)، فإنَّ فرعون لمَّا وقف على أنَّ زوال ملكه على يده أمر بإحضار الكهنة، فدلّوه على نسبه وأنَّه يكون من بني إسرائيل، ولم يزل يأمر أصحابه بشقِّ بطون الحوامل من نساء بني إسرائيل حتَّى قتل في طلبه نيفاً وعشرين ألف مولود، وتعذَّر عليه الوصول إلى قتل موسى (عليه السلام) بحفظ الله تبارك وتعالى إيّاه. وكذلك بنو أُميَّة وبنو العبّاس لمَّا وقفوا على أنَّ زوال ملكهم وملك الأُمراء والجبابرة منهم على يد القائم منّا ناصبونا العداوة، ووضعوا سيوفهم في قتل آل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى قتل القائم، ويأبى الله (عزَّ وجلَّ) أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلَّا أن يتمَّ نوره ولو كره المشركون.
وأمَّا غيبة عيسى (عليه السلام)، فإنَّ اليهود والنصارى اتَّفقت على أنَّه قُتِلَ، فكذَّبهم الله (جلَّ ذكره) بقوله: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (النساء: ١٥٧). كذلك غيبة القائم، فإنَّ الأُمَّة ستنكرها لطولها، فمن قائل يهذي بأنَّه لم يلد، وقائل يقول: إنَّه يتعدّى إلى ثلاثة عشر وصاعداً، وقائل يعصي الله (عزَّ وجلَّ) بقوله: إنَّ روح القائم ينطق في هيكل غيره.
وأمَّا إبطاء نوح (عليه السلام)، فإنَّه لمَّا استنزلت العقوبة على قومه من السماء بعث الله (عزَّ وجلَّ) الروح الأمين (عليه السلام) بسبع نويات، فقال: يا نبيَّ الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول لك: إنَّ هؤلاء خلائقي وعبادي، ولست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلَّا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجَّة، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك فإنّي مثيبك عليه، وأغرس هذه النوى فإنَّ لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص، فبشِّر بذلك من تبعك من المؤمنين. فلمَّا نبتت الأشجار وتأزَّرت وتسوَّقت وتغصَّنت وأثمرت وزها التمر عليها بعد زمان طويل استنجز من الله سبحانه وتعالى العدة، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد، ويؤكِّد الحجَّة على قومه، فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به فارتدَّ منهم ثلاثمائة رجل وقالوا: لو كان ما يدَّعيه نوح حقَّاً لما وقع في وعد ربِّه خلف. ثمّ إنَّ الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كلّ مرَّة بأن يغرسها مرَّة بعد أُخرى إلى أن غرسها سبع مرّات، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتدُّ منه طائفة بعد طائفة إلى أن عاد إلى نيف وسبعين رجلاً...».
قال الصادق (عليه السلام): «وكذلك القائم فإنَّه تمتدُّ أيّام غيبته ليصرح الحقُّ عن محضه، ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يُخشى عليهم النفاق إذا أحسّوا بالاستخاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم (عليه السلام)...».
«وأمَّا العبد الصالح - أعني الخضر (عليه السلام) -، فإنَّ الله تبارك وتعالى ما طوَّل عمره لنبوَّة قدَّرها له، ولا لكتاب يُنزِله عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعة يفرضها له. بلى، إنَّ الله تبارك وتعالى لمَّا كان في سابق علمه أن يُقدِّر من عمر القائم (عليه السلام) في أيّام غيبته ما يُقدِّر، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوَّل عمر العبد الصالح في غير سبب يوجب ذلك إلَّا لعلَّة الاستدلال به على عمر القائم (عليه السلام)، وليقطع بذلك حجَّة المعاندين، لئلَّا يكون للناس على الله حجَّة».
لعمري، لو لم يكن إلَّا هذا الحديث الصادقي عن الإمام المهدي (عليه السلام) لكفى في بيان أبعاد القضيَّة المهدوية، فهو يربط الإمام المهدي بسنن من قبله من الأنبياء (عليهم السلام) وهم نوح وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وهذا يلفت النظر إلى: خفاء الولادة، الغيبة، طول العمر، العمل بالتقيَّة. وهذه سنن إلهية تاريخية تجري في الإمام المهدي (عليه السلام)، ويركبها الإمام (عليه السلام) للوصول إلى الهدف الأكبر، وهو إقامة الحكومة الإلهية في الأرض.
مع فرانسس فوكوياما في كتابه (التصدّع العظيم):
يُعتَبر (فرانسس فوكوياما) من أكثر المفكّرين الأمريكان أصالةً وذكاءً، وممَّن فتحت أعماله آفاقاً جديدة وواسعة على العالم المحيط بنا في كتابه نهاية التاريخ (the end of history)، وكتابه (the last man) الرجل الأخير، كان أوَّل من لمح إلى التكوين الجديد لعالم ما بعد الحرب الباردة. وفي كتابه (the trust) فإنَّه حلَّل العوامل الاجتماعية التي تخلق الثروة ويسبر أفضل الطرق لتسخير هذه العوامل. ولكنَّه يوجِّه اهتماماً إلى قضايا وأسئلة أكثر عمقاً وأهمّيةً حول طبيعة المجتمع الحديث في كتابه هذا (the great distuption التصدّع العظيم)، والذي يُشكِّل العمل الأبعد أثراً والأكثر إثارةً.
فبعد أن يكشف أنَّ هناك تحوّلات كبيرة في المجتمع الأمريكي والأُوربي خلال العقود الثلاثة انتقلت من مجتمعات صناعية إلى مجتمعات معلوماتية، احتلَّت فيها المعرفة دور الإنتاج الواسع النطاق، لتصبح المعرفة أساس الثروة والنفوذ والتفاعل الاجتماعي، وفي نفس الوقت واجهت المجتمعات الغربية معدّلات متصاعدة من الجريمة وتغيّرات هائلة في الهيكل الأُسري ومعدّلات الخصوبة، بالإضافة إلى انخفاض مستمرّ في مستويات الثقة، يرافق ذلك انتصار النزعة الفردية على الجماعة، وكما جاءت الثورة الصناعية بتغيّرات عميقة في القيم الأخلاقية للمجتمع فإنَّ تصدعاً مماثلاً حدث في زماننا هذا وخلق تغيّرات عميقة في البناء الاجتماعي.
يكشف (فوكوياما) من خلال أحدث المعلومات الاجتماعية والنظريات الجديدة في حقول متعدِّدة تمتدُّ من الاقتصاد إلى البيولوجي أنَّه على الرغم من تحطّم وتفكّك النظام القديم، فإنَّ نظاماً اجتماعياً جديداً قد بدأ يتشكَّل. ويُبيِّن جانباً من فطرتنا البشرية هو حاجتنا إلى إقامة الروابط الاجتماعية مع بعضنا البعض، لخلق نسيج اجتماعي بإطار جديد يتناسب مع المتغيّرات، ليس مع جيراننا فقط، بل في مؤسّسات العمل، وفي داخل الأُسرة، بل إنَّ (فوكوياما) يرى تصدّع الستّينات والسبعينات يمكن أن يفتح الطريق لإعادة بناء عظيم يتماهى مع النسيج الاجتماعي الجديد الذي ينسجه المجتمع الغربي ليستوعب قيماً اجتماعية وأخلاقية تتناسب مع الواقع المتغيّر لعالم ما بعد عصر الصناعة(١٥).
من الواضح أنَّ هناك اعترافاً صارخاً على فشل النظرية الوضعية في إدارة المجتمع وانتشار الفساد والظلم في المجتمع الغربي، وهذا ما أشارت إليه النصوص المهدوية الآنفة الذكر المعبَّر عنه بـ (انتشار الجور والظلم في الأرض). وهذا مصدره التطبيقات للأنظمة الوضعية والتي تضاءل قسم منها كالنظام الملكي الديكتاتوري الحقيقي، والنظام الاشتراكي الماركسي الشيوعي، وآخر نظام تراهن عليه الأنظمة الوضعية هو النظام الليبرالي بتجديداته، والذي أنتج ما يُسمّى اليوم بالحداثة.
واليوم هذا المفكّر الأمريكي بعد استعراضه بالأرقام والاستبيانات التصدّع العظيم لبنية المجتمع الغربي والأمريكي يراهن على نظريات جديدة في إعادة البنية الاجتماعية إلى فطرتها البشرية، وهذا من وجهة نظر العقيدة الإسلاميَّة هو خيال وسراب يراه الظمئان ماءً، لأنَّ القضيَّة مرتبطة كما أوضحناه سابقاً بالبعد الرباعي في المركَّب الاجتماعي الذي طرحه السيِّد الشهيد (قدس سره) في المدرسة القرآنية، فأيُّ إصلاح يقوم على أساس المركَّب النظري الثلاثي للمجتمع والذي يعني إخراج البعد الرابع وهو الله (عزَّ وجلَّ)، فهو يُعتَبر سراباً وسيؤدي إلى كوارث أكبر وأكثر.
نعم من الممكن أن نقول: إنَّ هذا العطش الإنساني للرجوع إلى الفطرة يؤدّي إلى زيادة الوعي الذاتي، وبالتالي من الممكن جدَّاً أن يتصالح الإنسان الغربي في نهاية المطاف مع العقيدة المهدوية، وبالتالي ينسجم معها عندما لا يرى مخرجاً من مأزقه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعندها يلتجئ مجبوراً أو مختاراً إلى البعد الرابع في المركَّب النظري الاجتماعي وهو الله (عزَّ وجلَّ).
وهذا ما أكَّدته الفلسفة المهدوية في بعد فلسفة الغيبة بأنَّ الإنسانية عندما تستنفد كلّ تطبيقاتها وتصل لمرحلة الفساد والظلم الذي لا يطاق عندها تلجأ إلى الله تعالى، لكون الفطرة الإنسانية تلجأ إلى بارئها عند تقطّع الأسباب والمسبَّبات الدنيوية أو المادّية.
وبهذا لا ملجأ للإصلاح الاجتماعي بمعزل عن النظرية الإسلاميَّة بقيادة الإمام المهدي (عليه السلام).
حتمية الختم المهدوي:
كلُّ حكيم في فعله لا بدَّ له من نهاية حكيمة تظهر كمال فعله وإلَّا لما كان حكيماً، والله تعالى بما أنَّه حكيم في فعله فلا بدَّ أن تكون نهاية البرنامج الإلهي الذي هو نهاية التاريخ الإنساني بتحقّق الكمال الفعلي من خلال تحقّق الختم الإلهي.
وهنا جملة من النصوص تدلُّ على الحتمية المهدوية:
في تفسير القمّي(١٦): (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: ٣٣)، إنَّها نزلت في القائم من آل محمّد (عليه السلام)، وهو الإمام الذي يُظهِره الله على الدين كلّه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
وفي (كنز الفوائد)(١٧): عن عباية بن ربعي، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول - وذكر الآية -: «والذي نفسي بيده لا تبقى قرية إلَّا نودي فيها بلا إله إلَّا الله محمّد رسول الله بكرةً وعشياً».
(كمال الدين)(١٨): عن ابن محبوب، عن مؤمن الطاق، عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (الحديد: ١٧)، قال: «يُحييها (عزَّ وجلَّ) بالقائم، (بَعْدَ مَوْتِها) كفر أهلها، والكافر ميّت».
في تفسير العيّاشي(١٩): (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (الإسراء: ٦)، قال (عليه السلام): «والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة ليعيش إذ ذاك ملوك ناعمين، ولا يخرج الرجل منهم من الدنيا حتَّى يُولَد لصلبه ألف ذكر، آمنين من كلِّ بدعة وآفة، عاملين بكتاب الله وسُنَّة رسوله، قد اضمحلَّت عليهم الآفات والشبهات».
وفي رواية (الغيبة) للشيخ الطوسي(٢٠): قال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أُبشِّركم بالمهدي يُبعَث في أُمَّتي على اختلاف من الناس وزلزال، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يُقسِّم المال صحاحاً»، فقال الرجل: وما صحاحاً؟ قال: «السويَّة بين الناس».
وفي رواية (الغيبة) للشيخ الطوسي(٢١): عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول على المنبر: «المهدي من عترتي من أهل بيتي يخرج في آخر الزمان، تنزل السماء قطرها وتخرج الأرض بذرها، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً».
وعن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «... يكون في أُمَّتي المهدي إن قصر فسبع وإلَّا فتسع، فتنعم فيه أُمَّتي نعمة لم يُنعِموا مثلها قطّ، تؤتي [الأرض] أُكُلها ولا تدَّخر منهم شيئاً، والمال يومئذٍ كدوس، فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني. فيقول [له]: خذ»(٢٢).
من خلال ما تقدَّم نجد ما يلي:
- تكرُّرُ عبارة (يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً) المبيِّنة لنتائج الأنظمة الوضعية.
- لا تبقى قرية في الأرض إلَّا وينادى فيها بلا إله إلَّا الله محمّد رسول الله، وتبيّن المنهج التوحيدي.
- يُحيي الأرض بعد موتها، المبيِّنة لنتائج المشروع المهدوي.
- الرجل لا يخرج من الدنيا حتَّى يُولَد لصلبه ألف ذكر آمنين من كلِّ آفة وبدعة، وتُبيِّن تفاصيل جزئية من تلك النتائج والآثار العظيمة.
- العمل بالقرآن وسُنَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) تُبيِّن الأساس العملي لمنهج التوحيد.
- يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، تُبيِّن الآثار الوضعية لنتائج المنهج التوحيدي.
- يُقسِّم المال صحاحاً (بالسويَّة)، تُبيِّن التطبيق العملي للمشروع المهدوي.
- تُنزِل السماء قطرها (ماءها) وتُخرِج الأرض بذرها، وهذه تُبيِّن النتيجة الحتمية للموجودات التكوينية للمنهج التوحيدي.
- المال كدوس واحدة من آثار العمل بالمنهج التوحيدي.
هذه هي حقيقة الختم المهدوي الذي يظهر الأسماء والصفات الإلهية في الأرض والوجود.
وعلى هذا الأساس فلمن تكون نهاية التاريخ؟ هل هي لمن ذكره (فرانسس فوكوياما) في كتابه نهاية التاريخ والرجل الأخير للنظام الليبرالي الديمقراطي الرأسمالي، ويكون الرجل الأُوربي هو الرجل الأخير، أم للنظام الإسلامي من خلال العقيدة المهدوية، ويكون الرجل الأخير هو الرجل المهدوي؟
الهوامش:
(١) صحاح الجوهري ١: ٤١٨.
(٢) مقدّمة ابن خلدون: ٦/ دار الفكر.
(٣) المقريزي عن فلسفة التاريخ للسيِّد محمّد الحسيني الشيرازي: ١٤.
(٤) فلسفة التاريخ: ٢١.
(٥) المصدر السابق.
(٦) فلسفة التاريخ: ٢٦.
(٧) بحار الأنوار ٨٧: ١٩٩/ باب ١٢/ ح ٦.
(٨) فلسفة التاريخ ونهضة المهدي للشهيد مرتضى مطهَّري: ١٠ و١١.
(٩) فلسفة التاريخ ونهضة المهدي للشهيد مرتضى مطهَّري: ١٣ - ١٥.
(١٠) نهاية التاريخ والرجل الأخير لفرانسيس فوكوياما: ٢٣.
(١١) المدرسة القرآنية للسيِّد محمّد باقر الصدر: ١٠٥ - ١٠٧.
(١٢) صحيح أبي داود ٤: ٨٧.
(١٣) علل الشرائع: ٢٤٥ و٢٤٦.
(١٤) إكمال الدين: ٣٥٢ - ٣٥٧.
(١٥) التصدّع العظيم: ٥/ ترجمة عزَّة حسين كبه.
(١٦) تفسير القمّي ٢: ٢٨٩.
(١٧) كنز الفوائد تأويل الآيات الظاهرة: ٦٦٣.
(١٨) كمال الدين ٢: ٦٦٨/ باب النوادر/ ح ١٣.
(١٩) تفسير العيّاشي ٢: ٢٨٢/ ح ٢٢/ تفسير آية (٦١) من سورة الإسراء.
(٢٠) الغيبة للطوسي: ١٧٨/ ح ١٣٦.
(٢١) الغيبة للطوسي: ١٧٩/ ح ١٣٧.
(٢٢) سنن ابن ماجة ٢: ١٣٦٦ و١٣٦٧/ ح ٤٠٨٣.