التمهيد الأربعيني
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
تُمثِّل بعض القضايا في المجتمعات البشـرية الركائز الأساسية للتراث الشعبي، وتتوارث الأجيال قرناً بعد آخر هذا التراث، وتُضحّي لبقائه حتَّى لو لزم بذل النفس من أجله.
ويُعَدُّ التراث المتنوّع لشعب ما مصدراً من مصادر المعرفة، ورافداً للفكر والإبداع والارتقاء المعرفي والأخلاقي في الأُمَّة.
إنَّ هذا الأمر يتكوَّن بمعزل عن كون هذا التراث قد تشكَّل عن عادات وتقاليد، أو كان مستلّاً من نظام معرفي أو عقدي.
ومن جادَّة هذا الموروث يستلهم الأُدباء والشعراء، بل والمفكّرون والفلاسفة مبادئ تنطلق بهم لتشكيل هويَّة مجتمعهم.
ويتمتَّع الكثير من التراث لدى الشعوب في زماننا بحماية قانونية دولية خشية تعرضه للتلاشي والاندثار، فتنصُّ القوانين الدولية على ضرورة المحافظة على التراث وتطويره وتنميته، وأنَّ هذه المسؤولية تقع على عاتق الأفراد والجماعات، حيث جاء ذلك في إطار اجتماع المؤتمر العامّ لمنظَّمة الأُمم المتَّحدة للتربية والعلم والثقافة عام (١٩٧٢م)، وانبثقت من ذلك لجنة التراث العالمي التي مهمَّتها حماية التراث للشعوب والدول.
والجدير بالذكر أنَّ هذه القوانين هي لحماية التراث، وليس لها علاقة بآلية تكوّن ذلك التراث وأسباب حصوله.
نعم يحلو للبعض أن يرمي جملة من الظواهر التراثية ذات العمق المتأصّل بالخرافة والبدعية...، وهذا شيء آخر.
من الزاوية الدينية لا يختلف الأمر كثيراً، إذ الكثير من الموروثات التراثية هي في الحقيقة ممارسات دينية ابتعدت عن ثوبها الديني، ولبست ثوباً شعبياً، ومع تطاول الزمن لم تعد تُنسَب للدين، وصار شاخصها البارز هو تراثيتها وما تُمثِّله من عمق في الموروث الشعبي.
وفي الحقيقة أنَّ جملة من الطقوس إنَّما تُقام على أساس ما تتمتَّع به من قيمة معنوية ورمزية، وغالباً ما تكون تلك الطقوس أفعالاً تأخذ منحى الضبط والتنظيم، وتكون نابعة - نحواً ما - من عمق استدلالي مرتبط بجهات عليا تُمثِّل للأفراد عنصر القداسة والارتباط.
نعم قد يبدو في بعض الأحيان بعض من تلك الطقوس أنَّها لا تتمتَّع بقدر من الحكمة، أو أنَّ فيها عدم انسجام أو منفّرية.
ويمكن لنا بنظرة أوَّلية أن نصنّف الطقوس والموروث الاجتماعي إلى طقوس اجتماعية ودينية وروحية وعلمية وسياسية، بل وحتَّى رياضية وذهنية.
ومن زاوية أُخرى يمكن تصنيفها إلى طقوس غريبة وعادية ومألوفة، أو لها أساس أو ليس لها كذلك، وطقوس قديمة وحديثة. وهكذا ومن بين تلك الطقوس طقس العبور - في اليابان -، والذي لا زال يُمارَس إلى الآن حيث يمارسه الآلاف ويُعبِّر عن عبور أفراد إلى سنِّ البلوغ، أو عن انعزالهم بعد وصولهم لسنٍّ معيَّن.
وكذلك طقس الحفل الثلجي لمدينة سابوروا اليابانية الذي يستمرُّ لمدَّة سبعة أيّام ويحضـره الآلاف.
وهكذا العشـرات، بل المئات من الطقوس والمهرجانات التي يحضـرها الآلاف، والتي تُقام في مختلف البلدان والشعوب لمهرجان دفييش (كوينا) التركي، والذي يُعَدُّ مهرجاناً دينياً يحضـره الآلاف، كذا مهرجان الأرز الإندنوسي، ودي والي الهندي، والطماطم الإسباني، كذلك دريو البرازيلي، وكمريوز الأمريكي، والمصابيح التايلندي، والخريف الكوري، والعيش مع الأموات الإندونيسي، وهكذا لا يخلو شعب من الشعوب من مهرجان وطقس، بل العشـرات، يحضـره الآلاف، يُعبِّر فيه الناس عن انتماء اجتماعي أو اقتصادي أو ديني، وهكذا.
من هذا المنطق فإنَّ إحياء السنن والطقوس سواء ما كان منها دينياً أو ثقافياً هو سُنَّة عقلائية يمارسونها بدافع تخليدها والاستفادة منها للأجيال اللاحقة، واستحضار القيم التي تحملها لأجل تجسيدها.
أمَّا في المجتمعات الإسلاميَّة بشكل خاصّ، فإنَّ المنظومة التشـريعية قد وظَّفت هذه الموروثات في سبيل المحافظة على المجتمعات، وأثرتها أيّما إثراء، بل أدخلت بعضاً منها في إطار المنظومة الدينية وجعلتها جزءاً من التراث الديني، ومن بين تلك الموروثات المقدَّسة التي تنامت بشكل كبير ولافتٍ هي المسيرة الأربعينية لزيارة سيِّد الشهداء (عليه السلام)، والتي أضحت اليوم بفضل الجهود الجبّارة من قِبَل جميع الجهات الراعية لها، المسيرة المليونية الأُولى عالمياً، من حيث العدد والمساحة والتعبئة والتنظيم والبذل والأمان، وتحصيل سُبُل الكمال والتطوّر الذاتي والروحي.
إنَّ النصوص الشـرعية المقدَّسة تنصُّ على أنَّ السائر في هذا الدرب يصل إلى محطَّة يكون فيها قديساً: فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «ان الرجل ليخرج إلى قبر الحسين (عليه السلام) فله اذا خرج من اهله باول خطوة مغفرة لذنوبه، ثم لم يزل يقدس بكل خطوة حتى ياتيه...» وإنَّ من أتاه «وكَّل الله به ملكين يكتبان ما يخرج من فيه من خير ولا يكتبان ما يخرج من فيه من شرٍّ»(١).
وهذه المحطَّة لا تحصل متكاملة ما لم ينظمّ إليها حضور وليِّ الأمر (عليه السلام) الذي به قبول الأعمال وسرّ صعودها...
إنَّ هذه المسيرة المليونية تُمثِّل في الحقيقة عقد بيعة مع الإمام المهدي (عليه السلام) من خلال طريق: يا حسين (عليه السلام).
إنَّ هذه الحشود الجبّارة هي النواة الأُولى لدولة الإمام (عليه السلام).
إنَّ بحيرة كربلاء التي تصبُّ فيها هذه الروافد البشـرية كفيلة بأن تُغيِّر مسار التاريخ وتفتح نافذة الظهور المبارك.
إنَّ المنظِّم الحقيقي لهذه المسيرة المباركة هو الإمام (عليه السلام)، فهو راعيها وحاميها والمدافع عنها، وهي رصيده الذي لا ينضبُّ.
فينبغي أن تُرسَم في هذه الجغرافية الخاصَّة لوحة فريدة لم يسبق للعالم أن رأى جمالها وجلالها وسحرها وألقها، إنَّها لوحة (التمهيد الأربعيني).
الهوامش:
(١) كامل الزيارات لابن قولويه: ٢٥٢ و٢٥٥/ ح (٢-٣٨٣) و ح (٣٨٣/٦).