بلسم الشهداء
جابر الناصري
كانت (نرجس) عرضة لمداهمات السلطة العبّاسية بين حين وآخر، فكثيراً ما دخلت عليها تلكم الجاسوسات (القوابل) يقلّبن جسمها، لعلَّهن يجدن في بطنها الجنين المنشود فيبقرن بطنها ويقتلنها وجنينها معاً. ولكنها لم تخضع، لم تخنع، لم تهلع.
وصمدت مستمّدة العزيمة من زوجها وولدها، واجهت كلّ ذلك بوجه باسم وقلب أقوى من الحديد.
كانت تحتمل كلّ شيء، سوى شيء واحد لا يمكن أن تحتمله إطلاقاً، وهي رؤيتها زوجها صريعاً بالسُمّ أمامها، حدَّثها زوجها بشهادته مبكراً، وما يجري بعده على عائلته من صنوف الهوان والتعذيب.
راعها ذلك وأحزنها بشدّة، لم تطق ذلك، فطلبت من زوجها أن يدعو الله أن يجعل منيتها قبله، فدعاء الإمام المعصوم مستجاب.
مرضت (نرجس) مرضاً شديداً من الحزن والأسى، ومن الغضب المكبوت في أعماقها، وفاضت روحها الطاهرة تحمل في عينيها دمعة حزينة مختلطة بصورة الحبيبين الغاليين الزوج والابن.
ماتت وإحدى يديها على يد زوجها أبي محمّد.
ويدها الأخرى على يد ولدها المهدي (عجّل الله فرجه)، تاركة في قلبه حسرة وألماً لا ينسى، وقد حرم من حنان الأُمّ في طفولته المبكرة.
وهكذا أفل هذا النجم اللامع، واختفى من الوجود المادّي، ليلتحق مظلوماً بسيّدة المظلومين وسيّدة العالمين حماتها فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).
وقام الإمام أبو محمّد بدفنها في صحن داره ومعه ابنهما المحزون، ووضع على قبرها لوحاً مكتوباً عليه: (هذا قبر أُمّ محمّد).
شعر الإمام (عليه السلام) بعد رحيل زوجته تلك بالوحشة والحزن، كيف وهي التي تجلس عند قدميه تنتظر الكلمة من شفتيه لتهرع لتلبيتها!
لم يبقَ زوجها الإمام (عليه السلام) بعدها إلّا قليلاً، حتَّى سقي السُمّ، بعدما ثقل وجوده على طاغوت عصره فسقط مريضاً على فراش الموت، يعاني من آلام السُمّ القاتل، وانتشر خبر مرضه في أنحاء (سُرَّ من رأى)، وأخذت الجماهير تتحدَّث بذلك، فأظهرت السلطة العبّاسية تجاهلاً بذلك، وهذا ديدن القتلة والمجرمين.
فأرسل البلاط العبّاسي خمسة من خدم الخليفة المقرَّبين ومن ثقاته وعلى رأسهم خادمه نحرير، فجاؤوا إلى بيت الإمام (عليه السلام) ليقوموا على خدمته وخدمة عياله ظاهراً، فاحتلّوا بيت الإمام ولازموه ملازمة الظلّ، وتمَّ جلب مجموعة من الأطبّاء لفحصه ومعالجته ظاهرياً، ومعرفة ما بقي له من العمر في الباطن.
وصل المرض بالإمام (عليه السلام) إلى ذروته، أيس الأطبّاء منه، انسحبوا ليتركوا له المجال للاختلاء بعائلته وإيصائهم، وحينما اشتدَّ المرض به أمر خادمه عقيد الذي كان خادماً لأبيه الإمام علي بن محمّد (عليه السلام) قائلاً:
«أدخل البيت فإنَّك ترى صبياً ساجداً فاءتني به».
فدخل الخادم إلى أحد الغرف فوجد صبياً ساجداً رافعاً سبابته نحو السماء، فسلَّم عليه فأوجز في صلاته.
فقال له: إنَّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه.
خرج الصبي وجاء إلى أبيه فسلَّم، فلما رآه أبوه الحسن بكى وقال: «يا سيّد أهل بيته، اسقني الماء فإنّي ذاهب إلى ربّي».
أخذ الصبي القدح بيده، حرَّك شفتيه الشريفتين ثمّ سقاه.
قال أبو محمّد: «أبشر يا بني فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجّة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيّي وأنا ولدتك وأنت (محمّد) بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولدك رسول الله، وأنت خاتم الأوصياء الأئمّة الطاهرين، وبشَّر بك رسول الله، وسمّاك وكنّاك، بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين صلّى الله على أهل البيت، ربّنا إنَّه حميد مجيد».
لم يبقَ الإمام (عليه السلام) بعد ذلك إلّا قليلاً حتَّى انتقل إلى رحمة ربّه مظلوماً شهيداً، فضجَّت سامراء ضجّة واحدة وأخذ الناس يهتفون بحزن وأسى: مات ابن الرضا، فتعطَّلت الأسواق، وأغلقت المحال، وتجمَّع الناس أمام بيت الإمام (عليه السلام)، ما بين نادب وصارخ وآخر باك، فلم يرَ مثل ذلك اليوم من باكٍ وباكية.
وهكذا انتقل الإمام مظلوماً مسموماً ختم له بالشهادة كآبائه، حيث أصبح قبره مناراً لطالبي الحرّية والراحة والقيم.