حجاج الإمام (عجّل الله فرجه) في توقيعاته سبيل لانتشار المذهب وتثبيت العقيدة
ابتسام عبد الرحيم
مقدّمة:
إنَّ للحجاج تقنيات وآليات من شأنها أن تؤدّي بالأذهان إلى التسليم لما يعرض عليها من أُطروحات أو أن تزيد في درجة هذا التسليم (١).
ميَّز (بيرلمان) بين مستويين من الحجاج بحسب الجمهور المتلقّي: أوَّلهما الحجاج الإقناعي (argumentation persuasive)، وثانيهما الحجاج الاقتناعي (convincente argumentation).
الأوَّل هدفه إقناع الجمهور الخاصِّ، إذ لا يتحقَّق الإقناع إلَّا بمخاطبة الخيال والعاطفة، ومن ثَمَّ فهو يُضيِّق هامش فرصة العقل وحرّية الاختيار، أمَّا الثاني الذي هو هدف الحجاج فهو يقوم على الحرّية والعقلنة (٢).
وقد استعمل الحجَّة (عليه السلام) في التوقيعات تقنيات وآليات حجاجية جعلت خصمه يقتنع لا أن يقنع فحسب، أي إنَّ حجاجه في التوقيعات كان من نوع الحجاج الاقتناعي لا الاقناعي؛ لأنَّ الهدف من الحجاج في التوقيعات وفي كلِّ تراث أهل البيت (عليهم السلام) هو مخاطبة العقل وترك فرصة الاختيار الصحيح للمتلقّي.
ولتوقيعات الإمام المهدي (عليه السلام) من القوَّة والأثر في نفوس الناس ما جعلها حجَّة يُسلِّم لها المخاطبون بالإذعان، فعند ارتداد الشلمغاني الذي كان له جاه ومنزلة علمية استغلَّها في الكفر ورواية الأكاذيب التي صدَّقتها العامَّة، كتب سفير الإمام المهدي (عليه السلام) أبو القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) إلى كلِّ من يعرفه بضـرورة لعن الشلمغاني والبراءة منه وممَّن تولّاه ورضي بقوله؛ لكنَّه لم ينجح في صرف الناس عنه، حتَّى جاء توقيع الإمام المهدي (عليه السلام) سنة (٣١٢هـ) الذي يقول فيه: «إنَّ محمّد بن عليٍّ المعروف بالشلمغاني وهو ممَّن عجَّل الله له النقمة ولا أمهله قد ارتدَّ عن الإسلام وفارقه وألحد في دين الله، وادَّعى ما كفر معه بالخالق جلَّ وتعالى، وافترى كذباً وزوراً، وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً.
وإنَّنا قد برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله وآله صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم بمنِّه، ولعنّاه عليه لعائن الله في الظاهر منّا والباطن، في السـرِّ والجهر، وفي كلِّ وقتٍ وعلى كلِّ حالٍ، وعلى من شايعه وتابعه أو بلغه هذا القول منّا وأقام على تولّيه بعده» (٣).
وعلى الرغم من صدور هذا التوقيع في وقت كان ابن روح (رضي الله عنه) في السجن؛ لكنَّه أنفذه من السجن في دار المقتدر إلى أحد أصحابه، فاشتهر حتَّى لم يبقَ أحد إلَّا اجتمع على لعن الشلمغاني والبراءة منه (٤)، وهذا من تأثيره وتسديده الإلهي. فإذا كان الإمام (عليه السلام) قد اعتمد على آليات وتقنيات حجاجية ناجحة نعرف ما لنصوص هذه التوقيعات من أثر في استمالة القلوب وإذعان الأفهام، يقول السيِّد محمّد محمّد صادق الصدر: (إنَّ توقيعات الإمام (عليه السلام) وموقف سفرائه كان قويّاً فعّالاً في التأثير على الجماعة الموالية، بحيث لم يبقَ لهؤلاء المزوِّرين باقية يمكن أن تصلح سنداً للدولة حتَّى لو أرادت استخدامها) (٥).
الحجج السُلَّمية في توقيعات الإمام الحجَّة (عليه السلام):
إنَّ الحجج ليست مطلقة ولا تتساوى، بل تتدرَّج في القوَّة والضعف (٦) وتتابُعُ الحجج يكوِّن سُلَّماً حجاجياً، فكلُّ حجة لها قوَّة معيَّنة وتحتلُّ مرتبة من المراتب الحجاجية، فهناك الحجج القويَّة والحجج الأقوى (٧)، فالسُّلَّم الحجاجي هو علاقة ترتيبية للحجج (٨).
وقد مثَّل (ديكرو) السُّلَّم الحجاجي بالترسيمة الآتية:
فـ (ح٢) ترمز للحجَّة الأقوى، و(ح١) ترمز للحجَّة الأضعف، ويحدُّ طه عبد الرحمن السُّلَّم الحجاجي، بقوله: (مجموعة غير فارغة من الأقوال مزوَّدة بعلاقة ترتيبية مستوفية للشرطين الآتيين (٩):
١- إنَّ كلَّ قول يقع في مرتبة ما من السُّلَّم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث تلزم من القول في الطرف الأعلى جميع الأقوال الأُخرى.
٢ - إنَّ كلَّ قول في مكان السُّلَّم دليلٌ على مدلول معيَّن، فكلُّ ما يعلوه مرتبة دليل أقوى عليه.
وله قوانين أهمّها (١٠):
١ - قانون الخفض.
٢ - قانون القلب.
ولو راجعنا توقيعات الحجَّة (عليه السلام) لوجدنا النهج السُّلَّمي في تتابع الحجج بيِّناً واضحاً؛ إذ ارتكزت التوقيعات المهدوية على أساسيات يتسلسل فيها إيراد الحجَّة التي تُسكِت الخصم وتُثبِت العقيدة وتنتهج للموالين طريقاً في الحجاج سيكون علامة مميَّزة لأُسلوب أهل البيت (عليهم السلام) مع خصومهم. ويمكننا توضيح ذلك بالآتي:
١- ١ حجج الإمام المهدي (عليه السلام) في ردِّ إمامة عمِّه جعفر:
كان أحمد بن إسحاق قد أدرج كتاب جعفر المتضمِّن ادِّعاءه الإمامة في كتابه إلى الحجَّة (عليه السلام) طالباً منه المشورة والردّ عليه، فكتب الحجَّة (عليه السلام) توقيعاً لأحمد بن إسحاق جاء فيه تبيين لمنزلة الأئمَّة (عليهم السلام)، وتكذيب لجعفر في تدرُّج منهجي في إيراد الحجج التي تردُّ دعوى إمامة جعفر. فيبدأ الإمام (عليه السلام) بقوله: «أتاني كتابك أبقاك الله، والكتاب الذي أنفذته دُرجَه، وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمَّنه على اختلاف ألفاظه، وتكرُّر الخطأ فيه، ولو تدبَّرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه...» (١١).
فالحجَّة الأُولى التي يُكذَّب بها عمّه جعفراً في ادِّعائه الإمامة هي ثبوت الخطأ في كتابه، فالإمام (عليه السلام) يلفت أذهان الموالين إلى أنَّ من لا يملك السيطرة على قواعد العربية كيف له أن يسيطر على قيادة الأُمَّة؟ فالأساس في الإمامة هي قيادة الأُمَّة دينياً وعقائدياً، وهذا إنَّما يتمُّ بمعرفة القرآن وتفسير آياته، ومن مقدّمات هذا العلم معرفة قواعد اللغة العربية، فالذي يفقد المقدّمات لا يُحصِّل معالي الأُمور، وهذا نقض لادِّعائه الإمامة من أهون سبلها؛ وإذا كان الأمر كذلك فلا مناص من القول: «إنَّه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق إمامة مفترضة ولا طاعة ولا ذمَّة» (١٢)، فقد نفى (عليه السلام) عن عمِّه الإمامة تماماً بهذه الحجَّة.
وبعد عطفه على ذكر الأنبياء (عليهم السلام) وأنَّهم مفترضو الطاعة بسبب ما آتاهم الله تعالى من «الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة والآيات الغالبة» (١٣) لتكون عوناً للناس على معرفة «الحجَّة من المحجوج والإمام من المأموم» (١٤) وذلك «بما آتاهم الله من أسماع وأبصار وقلوب وألباب»(١٥). أورد الحجج الأُخرى التي ترتَّبت بعد الحجَّة الأُولى لنفي إمامة عمِّه جعفر، فيقول (عليه السلام): «وقد ادَّعى هذا المبطل المفتري على الله الكذب بما ادَّعاه، فلا أدري بأيَّة حالة هي له رجاء أن يتمَّ دعواه، أفقه في دين الله؟ فوَالله ما يعرف حلالاً من حرام، ولا يُفرِّق بين خطأ وصواب، أم بعلم؟ فما يعلم حقّاً من باطل، ولا محكماً من متشابه، ولا يعرف حدَّ الصلاة ووقتها، أم بورع؟ فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً، يزعم ذلك لطلب الشعوذة، ولعلَّ خبره قد تأدّى إليكم، وهاتيك ظروف مُسكِرِه منصوبةٌ، وآثارُ عصيانه لله (عزَّ وجلَّ) مشهورة قائمة... وقد أبى الله (عزَّ وجلَّ) أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين» (١٦).
فالحجَّة الثانية في نفي إمامة جعفر هي (عدم تفقُّهه في الدين)، الفقه في دين الله تعالى، فبدأ بالعامِّ الذي بمقدور أيِّ فردٍ إحرازه ألَا وهو التفقُّه في الدين، ومعرفة الحلال من الحرام، فإذا عجز عن إحراز هذه المقدّمة فالعجز عن إحراز ما هو أبعد منها أبلغ.
والحجَّة الثالثة هي (عدم العلم) وأوَّل العلم معرفة الحقِّ من الباطل، وقد أثبت الإمام عليٌّ (عليه السلام) قاعدة معرفة الحقِّ، بقوله: «اعر ف الحقَّ تعرف أهله» (١٧).
أي إنَّ معرفة الناس منوطة بمعرفة الحقِّ، وهذه إشارة للأُمَّة لمعرفة بطلان ادِّعاء جعفر للإمامة، فلو عرفت الأُمَّة الحقَّ لعرفت أنَّ جعفراً ليس من أهله لأنَّه لا يعرف الحقَّ من الباطل لذا ادَّعى الإمامة بعد أخيه.
والقاعدة الثانية للعلم هي معرفة المحكم من المتشابه، وفيها خصوصية أكثر من معرفة الحقِّ والباطل، فلكلِّ أمر محكم متشابه يعرفه الإنسان بشـيء من الفقه وبشـيء من العلم، ويذكر الإمام (عليه السلام) أمراً واضحاً وضوح الشمس يعرفه كلُّ مسلم ألَا هو حدُّ الصلاة ووقتها لأنَّها عمود الدين، والتي إن قُبِلَت قُبِلَ ما سواها، وجعفر جاهل بعمود الدين، فكيف يمكن أن يكون إماماً يقود الأُمَّة باسم الدين؟
والحجَّة الرابعة للمهدي (عليه السلام) التي تنقض إمامة جعفر هي عدم الورع الذي لا يتحقَّق إلَّا بالعلم والفقه في دين الله تعالى فهو أعلى مرتبةً منهما، وعند نفيه للورع عن عمِّه يذكر تركه لصلاة الفريضة أربعين يوماً، وتلك حجَّة واقعة يعرفها أحمد بن إسحاق وغيره عن جعفر الذي ترك الصلاة لطلب الشعوذة، يقول الإمام (عليه السلام): «ولعلَّ خبره قد تأدّى إليكم»، فهو لا يتورَّع عن انتهاك حرمات الله، فكيف يكون إماماً للأُمَّة؟ وفي ذلك نفي للتقوى ضمناً، يقول تعالى: ﴿وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ﴾ (البقرة: ٤٥) (١٨).
ولعلَّ ذكر تركه للصلاة وهي عمود الدين تنويه إلى أنَّه ليس هو من صلّى على الإمام العسكري (عليه السلام) عند وفاته، لأنَّ الصلاة على الإمام المتوفّى بمثابة حقٍّ مكتسب بالإمامة والحصول على (سابقة قانونية) يمكن أن ينطلق منها جعفر للتغرير بجماهير الموالين. يقف جعفر للصلاة على الإمام العسكري (عليه السلام) مع جماعة من شيعته، فإذا بصبي يجذب رداء جعفر ويقول له: «تأخَّر يا عمّ أنا أحقّ بالصلاة على أبي» (١٩). ويُصلّي الصبي على الإمام العسكري (عليه السلام).
لقد أظهر الإمام (عليه السلام) وجوده وأعلنه على الملأ بضمنهم عمّه، فأفسد بذلك عليه الأمر أمام خاصَّة أبيه (عليه السلام) وقادة الأُمَّة.
أثبت التوقيع أنَّ للإمام (عليه السلام) ثلاث خصال يجب أن تكون متوطِّنة فيمن يقود الأُمَّة بعد معرفة العربية وإتقانها، هي: الفقه والعلم والورع، فبدأ من العامِّ والذي بمقدور أيِّ أحد إحرازه ألَا وهو معرفة اللغة العربية والفقه، ثمّ إلى الخاصِّ وهو العلم، ومن ثَمَّ إلى الأخصّ وهو الورع، وجعل (عليه السلام) عصمة الأنبياء والأئمَّة ثمّ الأمثل فالأمثل الفيصل في معرفة الأُمَّة للإمام الحقِّ من غيره ببيان جليٍّ يظهر للعامَّة من الناس، كما أنَّ الأخطاء الإملائية تظهر لمن هو ملمٌّ بقواعد العربية.
ويختم (عليه السلام) حجاجه في نفي إمامة عمِّه جعفر بأمر قاطع كان يمكن أن ينسف به وحده إمامة جعفر من أساسها بنصٍّ تعبّدي لا يمكن نقضه، وكان على صاحب العلم والفقه والورع أن يعرفه، وهو: «وقد أبى الله أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين» (٢٠)، ولكن الإمام الحجَّة (عليه السلام) أخَّر هذه الحجَّة وهي الأقوى مؤثِراً التدرُّج العقلي، قاصداً الأفهام والعقول في ردِّ دعوى عمِّه ونفيها، فأبطلها عنه بما لا مزيد عليه.
وآخر حجاج الإمام كان الدعاء الذي هو سلاح المؤمن وصلته بربِّه، فيذكر فيه أنَّ اضمحلال الباطل وانحساره عن الموالين سيكون بإذن الله، وأنَّ إعلان أمره وإنهاء غيبته وظهوره لا يتمُّ إلَّا بتمسُّك الموالين بأهل البيت واستبسالهم في الدفاع عنهم والذبِّ عن الدين ضدَّ المغرضين ومدَّعي الإمامة بغير حقٍّ، وكلُّ ذلك توعية للأُمَّة وترسيخاً لمذهب أهل البيت القائم على حجج قويَّة لا تُرَدُّ.
ممَّا تقدَّم يمكننا القول: إنَّ الحجج في ردِّ الإمام المهدي (عليه السلام) على كتاب أحمد بن إسحاق في مسألة إمامة عمِّه جعفر قد ترتَّبت ترتيباً سُلَّمياً لتعليم الموالين للإمام وشيعته طرائق تمحيص الأدلَّة وبيان الحجج التي تجعل من الموالي متثبِّتاً من عقيدته منافحاً عنها واثقاً من مقالته في الدفاع عنها.
ويمكن بيان سُلَّمية الحجج المهدوية في نفي إمامة عمِّه جعفر بالترسيمة الآتية:
(ن) ترمز إلى النتيجة، و(ح) إلى الحجَّة يقابلها رقم ترتيبها في السُّلَّم الحجاجي الذي كلُّ حجَّة في درجة من درجات السُّلَّم تكون الحجَّة التي تعلوها درجة أقوى منها.
فكلُّ حجَّة ذكرها الإمام تُؤكِّد ما قبلها بدءاً من أدناها مرتبةً، وهي معرفة الإمام لعلم العربية مروراً بالفقه والعلم وصولاً إلى أعلاها مرتبةً وهو الورع وهو الحجَّة الأقوى في ردِّ إمامة جعفر، والحقُّ أنَّ هذه الحجج لا غنى لإحداها عن الأُخرى، فنفي إحداها هو نفي لمقتضـي الإمامة، فيكون كلُ دليلٍ (يستلزم منطقياً ما يقع تحته من أدلَّة) (٢١).
ولكي نُدرِك قيمة إيراد الحجج بالشكل الذي جاء بها الإمام في توقيعه المذكور نعرض بالتفصيل التمثيل لقوانين السلالم الحجاجية وأوَّلها قانون الخفض، والمراد به (أنَّه إذا صدق القول في مراتب معيَّنة من السُّلَّم فإنَّ نقيضه يصدق في مراتب المراتب التي تقع تحتها) (٢٢).
فمثلاً لو كان جعفر عمُّ الإمام الحجَّة (عليه السلام) إماماً ورعاً لصدق عليه كونه عالماً فقيهاً متمكِّناً من العربية وهي الحجج الأدنى في ترتيب السُّلَّم الحجاجي، وبعبارة أُخرى لو استلزم المعنى أنَّ جعفراً غير ورع، فإنَّ الخطاب يستلزم المعنى بأنَّ جعفراً غير ذي علم ولا فقه ولا دراية بالعربية.
إنَّ نفي أيِّ درجة أو دليل في السُّلَّم لا يستلزم نفي المرتبة التي تدنوه، وهذا هو القانون الثاني، ويُسمّيه طه عبد الرحمن قانون القلب، وهو: (إذا كان أحد القولين أقوى من الآخر في التدليل على مدلول معيَّن، فإنَّ نقيض الثاني أقوى من الآخر في التدليل على نقيض المدلول) (٢٣)، فعدم ورع جعفر قد لا ينفي علمه وفقهه وعلمه بالعربية، فإذا صرنا إلى نفي علم جعفر بالعربية وصلنا إلى دلالة أقوى على عدم إمامته للأُمَّة.
والحقُّ أنَّ أبرز الصفات التي يُثبِتها المهدي (عليه السلام) للإمام هي العصمة، وتأتي العصمة بمعرفة الحلال والحرام والمحكم والمتشابه والحقِّ من الباطل الذي لا يكون إلَّا بالتفقُّه بالدين. وقد جاءت الرسالة المحمّدية بلسان عربي مبين، فيستلزم ذلك أن يكون الإمام عارفاً بالعربية، فنفي هذه المعرفة عن جعفر كافٍ لمعرفة أنَّه ليس بإمام للأُمَّة؛ ولكن توقيع الإمام موجَّه إلى أُناس متباينين في الفهم والإدراك، فبدأ بالحجَّة الأضعف لمن كان إيمانه أقوى وانتهى بالأقوى لمن كان إيمانه أضعف. فأوَّل ما يجب على الإمام معرفته هي العربية، فإذا انتفت هذه المعرفة إذن انتفت الإمامة عند من ألقى السمع وهو شهيد، وانتهى بمن لا يعتمد على لبِّه في إدراك الحقائق ويبقى متعبِّداً بالنصِّ، فجاء له بحجَّة تُلقِمه حجراً، وهو الحديث القائل بعدم اجتماع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام).
١-٢ الاحتجاج بالعصمة في ردِّ إمامة جعفر:
ذكر المهدي (عليه السلام) الأخطاء اللغوية التي وردت في كتاب عمِّه جعفر ليُسقِط شبهة أنَّه معصوم، وبالتالي أن يكون هو الإمام بعد أخيه، فيكون بذلك قد قوَّض موضوع ادِّعائه الإمامة من الأساس، ونَقْضُ الأساس يكون الأصعب دائماً.
إنَّ المعصوم يكون معصوماً في كلِّ شيء، وهو معصوم أيضاً من الأخطاء اللغوية والنحوية. وهذا الاستدلال بالمنطق هو انتفاء الادِّعاء لانتفاء الموضوع. فحيث إنَّ هناك اختلافاً في ألفاظ الكتاب وتكراراً للخطأ فيه فقد انتفت العصمة: «أتاني كتابك أبقاك الله، والكتاب الذي أنفذته دُرجَه، وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمَّنه على اختلاف ألفاظه، وتكرُّر الخطأ فيه، ولو تدبَّرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه....»، وبذلك يصبح الكتاب غير ذي قيمة. وحيث إنَّ الأمر كذلك فإنَّه «لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق جميعاً إمامة مفترضة ولا طاعة ولا ذمَّة» (٢٤).
ذكر المهدي (عليه السلام) أوَّل ما ذكر أمر الخلق فقال: «إنَّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدى، بل خلقهم بقدرته، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً وألباباً» (٢٥). فجعل الضابطة الأُولى لمعرفة الحقِّ من الباطل عند الإنسان نفسه، ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَـرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً﴾ (الاسراء: ٣٦). وحيث إنَّ الناس متفاوتون باستخدام هذه الضابطة في معرفة الحقِّ فقد بعث إليهم الأنبياء: «ثمّ بعث النبيِّين (عليهم السلام) مبشِّـرين ومنذرين، يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته، ويُعرِّفونه ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم، وأنزل عليهم كتاباً وبعث إليهم ملائكة، وباين بينهم وبين من بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم، وما آتاهم الله من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة، والآيات الغالبة» (٢٦). فكلُّ نبيٍّ جاء بدليل وبرهان وآية. وهذا ما سيطالب الإمامُ عمَّه جعفراً بإظهاره.
يورد الإمام (عليه السلام) بعدها أربعةً من الأنبياء قبل النبيِّ محمّد (صلّى الله عليهم وآله)، ثلاثة منهم من أُولي العزم، وهم: إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وثمّ يذكر سليمان (عليه السلام): «فمنهم: من جعل النار عليه برداً وسلاماً واتَّخذه خليلاً، ومنهم: من كلَّمه تكليماً وجعل عصاه ثعباناً مبيناً، ومنهم: من أحيى الموتى بإذن الله وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، ومنهم: من علَّمه منطق الطير وأُوتي من كلِّ شيء. ثمّ بعث محمّدا رحمةً للعالمين، وتمَّم به نعمته، وختم به أنبياءه، وأرسله إلى الناس كافَّة، وأظهر من صدقه ما أظهر، وبيَّن من آياته وعلاماته ما بيَّن» (٢٧).
إنَّ الذي يجمع هؤلاء الأنبياء الأربعة هو ارتباطهم بالكلمة.
فمن خلال الكلمة صار عند إبراهيم ولاية كونية اكتسبها من اختباره بالكلمة: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً﴾ (البقرة: ١٢٤)، فكان الابتلاء بالكلمات هو اختباره الحقيقي.
أمَّا نبيُّ الله موسى (عليه السلام) فقد كلَّمه الله تكليماً، وجعل عصاه ثعباناً مبيناً، فموسى كليم الله دون واسطة، ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ﴾ (البقرة: ٢٥٣).
وعيسى بن مريم كان (كلمة من كلمات الله أظهرها الله تعالى في هيكل بشـري) (٢٨)، ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَـى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ﴾ (النساء: ١٧١).
ويُؤخِّر الإمام المهدي (عليه السلام) ذكر النبيِّ سليمان مع أنَّ مكانه حسب التسلسل الزمني بعد النبيِّ موسى: «ومنهم من علَّمه منطق الطير وأُوتي من كلِّ شيء» (٢٩).
ذكر (عزَّ وجلَّ) لسليمان معرفته بلغة الطير، فالكلام هنا ليس كلام الله تعالى وإنَّما هو كلام أرضي دنيوي.
١-٣ الحجاج بابتلاءات الأنبياء (عليهم السلام):
إنَّ الجامع لهؤلاء الأنبياء الذين أوردهم المهدي (عليه السلام) هي لغة الحوار مع الله (عزَّ وجلَّ) ومع أقوامهم. ورُتِّب منزلتهم من حيث ارتباطهم بالكلمات من حيث هي محطُّ ابتلائهم وترتيب منزلتهم إلَّا أنَّ الإمام أورد أمراً آخر من معاجزهم التي أظهرها الله تعالى عند إعراض أقوامهم عن دعوة التوحيد.
وهو بذلك يذكر الابتلاء الأقلّ ولا يُصرِّح بالابتلاء الأقوى ألَا وهو الكلمات.
هناك توازن في اختيار الآية المعجزة التي جاء بها النبيُّ إبراهيم والنبيُّ موسى (عليه السلام) إلى قوميهما، فعن النبيِّ إبراهيم (عليه السلام) يقول: «فمنهم من جعل النار عليه برداً وسلاماً واتَّخذه خليلاً»، ثمّ يذكر النبيَّ موسى (عليه السلام): «ومنهم من كلَّمه تكليماً وجعل عصاه ثعباناً مبيناً» (٣٠). وكلتاهما كانتا على أعين الناس.
وعند ذكر النبيِّ عيسى (عليه السلام) لم يذكر معجزة أنَّه وُلِدَ من غير أبٍ وإنَّما: «ومنهم من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله» (٣١)، هنا أيضاً ذَكَرَ للنبيِّ عيسى (عليه السلام) الآية التي لها علاقة بالناس وإن كان لعدد محدود منهم. وأخيراً يذكر للنبيِّ سليمان (عليه السلام): «ومنهم من علَّمه منطق الطير وأُوتي من كلِّ شيء» (٣٢)، فالطيور تتحرَّك مع جيش سليمان من حيث هي سحابة تظلُّ الجيش وتُرهِب الناس.
لقد اختار الإمام (عليه السلام) من معاجز هؤلاء الأنبياء ما له علاقة بجمهور الحضور لبيان الأدلَّة على دعوتهم لأنَّه (عليه السلام) سيطالب عمَّه بآية كما هو شأن كلِّ أصحاب الدعوات الحقَّة.
ففي حالة النبيِّ إبراهيم كانت هناك دعوة للناس كافَّة لحضور مشهد حرق النبيِّ إبراهيم (عليه السلام)، وقد بنوا المنجنيق الكبير كي يراه الناس وهو يُرمى في النار ما يدلُّ على كثرة الحضور: ﴿قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ (الصافات: ٩٧).
أمَّا النبيُّ موسى (عليه السلام) فقد شهد معجزته من حضـر يوم الزينة: ﴿قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَـرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ (طه: ٥٩)، فيرى معجزته من حضـر في ذلك اليوم. فمهما اتَّسعت الدائرة التي حدثت بها المعجزة تبقى أقلّ من دائرة النبيِّ إبراهيم (عليه السلام)، لأنَّ المَلِك أراد أن يجعل منه عبرة بقتله حرقاً على رؤوس الأشهاد: ﴿قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ (الأنبياء: ٦١). أمَّا موسى (عليه السلام) فقد أراد المَلِك أن يُهوِّن دعوته ويُقلِّل من شأنها: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ * إِنَّ هؤُلاءِ لَشِـرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ (الشعراء: ٥٣ و٥٤)، فكانت الدعوة للسحرة وليس للناس كافَّة: ﴿قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ﴾ (الشعراء: ٣٦ و٣٧). وإنَّ النبيَّ موسى (عليه السلام) هو الذي طلب حضور الناس: ﴿قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَـرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ (طه: ٥٩).
ويقلُّ الحضور مع النبيِّ عيسى (عليه السلام)، إذ كان يتنقَّل في البلاد فيجتمع إليه أصحاب العاهات والزِّمانات فيشفيهم. فتكون المعجزة أمام من حضـر من أهالي تلك المناطق التي يصلها وهم بالتأكيد أقلّ ممَّن اجتمع لرؤية حرق إبراهيم أو الذين حضروا يوم الزينة.
نصل أخيراً إلى النبيِّ سليمان (عليه السلام) الذي كانت آيته إخضاعية وليست إعلامية. لقد أخضع سليمان الجنَّ والشياطين بإذن الله تعالى بالقوَّة والسطوة: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ﴾ (سبأ: ١٢). حتَّى دعوته لبلقيس وقومها كانت بلهجة: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ﴾ (النمل: ٣٧). فاعتمد السلطة المطلقة في دعوته من أوَّل أمره إلى وفاته على خلاف الأنبياء الثلاثة أُولي العزم آنفي الذكر الذين اعتمدوا سبيل إيراد الحجج الاقتناعية وليس الإقناعية كسليمان (عليه السلام).
وهكذا تدرَّج الأنبياء في معاجزهم من الأقوى تأثيراً إلى الأضعف من ناحية الاقتناع العقلي الذي يتطلَّب الحوار مع الناس وسوق الأدلَّة العقلية التي تزعزع قناعات الناس المتوارثة عن الأسلاف وتصنع لنفسها انفراجة تدخل منها الحجَّة العقلية ليختارها الناس في فسحة الحرّية الممكنة.
لقد استخدم الإمام المهدي (عليه السلام) في مثاله للأنبياء قانون القلب في السلالم الحجاجية، فبدأ من الأقوى إلى الأضعف. بدءاً من إبراهيم (عليه السلام) الذي حاجَّ المَلِك، ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ (البقرة: ٢٥٨)، وحاجَّ أباه (عمَّه) آزر: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ (مريم: ٤٧)، ثمّ عبدة الأصنام من قومه بتفصيل وهو يرى النجم والقمر والشمس ويعرض عن عبادتها لأنَّها تأفل.
وحين اتَّهم كبير الأصنام بتكسير الأصنام أوصلهم إلى أنْ يُدرِكوا استحالة ذلك: ﴿قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ * قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ (الأنبياء: ٦٢ و٦٣)، حتَّى قرَّر المَلِك قتله حرقاً.
ومثلما كانت حجج النبيِّ إبراهيم (عليه السلام) لقومه اقتناعية كذلك كانت حجج الإمام المهدي (عليه السلام) قائمة على الحجَّة العقلية للوصول إلى الطريق الصحيح. ويظهر من اختيار الإمام الحجَّة (عليه السلام) لهذا الأُسلوب أنَّ جمهور المتلقِّين لتوقيعه كانوا على مستوى من العلم والثقافة بحيث يبقى هذا الحجاج على مرِّ الزمن لأنَّه قائم على الحجج العقلية، وهذه الطريقة ضرورية لتثبيت المذهب واستمراره وسط تعدُّد المذاهب وانتشار الفِرَق الضالَّة، وكلٌّ يدَّعي أنَّه الفرقة الناجية.
إنَّ الغاية من السفارة والتوقيعات هو أن يستمرَّ المذهب بعد الغياب الكامل للحجَّة بشخصه عن قواعده الشعبية، فأرسى (عليه السلام) قواعد عقلية ومنطقية للحِجاج من أجل معرفة الحقِّ من الباطل.
وختم تعالى أنبياءه بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرسله إلى الناس كافَّة، وجعل معجزته القرآن الذي هو كلام الله الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فُصِّلت: ٤٢)، وهي معجزة قائمة إلى قيام الساعة لكلِّ عصر وزمان.
بعد هذه المقدّمة في ذكر الأنبياء ومعاجزهم يعطف (عليه السلام) إلى ذكر الأوصياء: «ثمّ قبضه (صلى الله عليه وآله وسلم) حميداً فقيداً سعيداً، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمِّه ووصيِّه ووارثه عليِّ بن أبي طالب، ثمّ إلى الأوصياء من ولده واحداً بعد واحد، أحيى بهم دينه، وأتمَّ بهم نوره، وجعل بينهم وبين إخوتهم وبني عمِّهم والأدنين فالأدنين من ذوي أرحامهم فرقاً بيِّناً، تُعرَف به الحجَّة من المحجوج، والإمام من المأموم».
فذكر أربع خصال لهم فرَّقتهم عن باقي الناس بأنْ: «عصمهم من الذنوب، وبرَّأهم من العيوب، وطهَّرهم من الدنس، ونزَّههم من اللبس» (٣٣).
وذنوب جعفر وعيوبه وعدم طهارته من الدنس وعدم تنزُّهه من اللبس ممَّا هو ظاهر للأُمَّة نجده في قول أبي الأديان حين قالوا له: إنَّ جعفراً هو الإمام بعد أخيه: (إنْ يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة) (٣٤).
وأخيراً جعل الله تعالى هذا الأمر إلى الأوصياء من ولد الإمام عليٍّ (عليه السلام): «وجعلهم خزّان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سرِّه، وأيَّدهم بالدلائل، ولولا ذلك لكان الناس على سواء، ولادَّعى أمر الله (عزَّ وجلَّ) كلُّ أحد، ولما عُرِفَ الحقُّ من الباطل، ولا العلم من الجهل» (٣٥).
فهنا جعل الإمام بجعل الله من الأئمَّة الضابطة في معرفة الحقِّ من الباطل والعلم من الجهل لأنَّهم: «خزّان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سرِّه»، ليُميِّزهم عن باقي الناس، وحتَّى يحفظ الله هذا الأمر على أهله فلا يدَّعيه كلُّ أحد.
ويعجب الإمام من جرأة جعفر بدعواه على الله الكذب: «أم بآية؟ فليأتِ بها، أم بحجَّة؟ فليقمها، أم بدلالة؟ فليذكرها» (٣٦).
وقد طالبه الإمام المهدي (عليه السلام) بآية أو حجَّة أو دلالة، لأنَّ الله عادةً ما يُؤيِّد أنبياءه بها ليُميِّزهم عن من بُعثوا إليهم: «وما أتاهم الله من الدلائل الظاهرة، والبراهين الباهرة، والآيات الغالبة» (٣٧).
فللأنبياء (عليهم السلام) دلائل وبراهين وآيات مجتمعة بينما لم يتمكَّن جعفر من الإتيان بآية أو حجَّة أو دلالة، فطالبه بواحدة منها دونها جميعاً لعلمه بعجزه.
نرى الإمام قد أعاد آخر كلامه على أوَّله ليُحكِّم الحجَّة على جعفر ويُثبِت كذب دعواه ويُفسِد عليه أمر إضلال الناس.
١-٤ إثبات صحَّة الحجج المهدوية بآيات قرآنية:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إذا حدَّثتم عنّي بالحديث فانحلوني أهنأه وأسهله وأرشده، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإنْ لم يوافق كتاب الله فلم أقله» (٣٨).
وفي رسالة لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة: «وأعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردّوه» (٣٩).
فالمصدر الذي يُرجَع إليه في معرفة دعوى الحقِّ من دعوى الباطل هو القرآن لأنَّه ﴿لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فُصِّلت: ٤١ و٤٢). ولأنَّه لا يوجد اختلاف في ألفاظه، ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء: ٨٢).
فقد أثبت الإمام المهدي (عليه السلام) بطلان كتاب جعفر على قاعدة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، لذلك ناسب أن يورد (عليه السلام) الآيات (١ - ٦) من سورة الأحقاف كدليل آخر على بطلان دعوى جعفر. فذكرت الآيات أوَّلاً: أنَّ ﴿الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (الأحقاف: ٢)، وثانياً: ﴿ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ (الأحقاف: ٣)، لكن ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ (الأحقاف: ٣). ثمّ يطالبهم بالدليل وهو كتاب قبل هذا أو أثارة من علم: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ (الأحقاف: ٤). وإذ إنَّهم لن يتمكَّنوا من الإتيان بهما أو بأحدهما أثبت ضلال دعواهم: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ﴾ (الأحقاف: ٥). وأخيراً فإنَّ حساب هذه الدعوات الضالَّة وأصحابها يوم القيامة: ﴿وَإِذا حُشِـرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ﴾ (الأحقاف: ٦).
وقد أورد الإمام هذا في أوَّل توقيعه: «أبى الله (عزَّ وجلَّ) للحقِّ إلَّا إتماماً وللباطل إلَّا زهوقاً، وهو شاهد عليَّ بما أذكره ولي عليكم بما أقوله إذا اجتمعنا لليوم الذي لا ريب فيه، ويسألنا عمَّا نحن فيه مختلفون» (٤٠). فبيَّن (عليه السلام) أنَّ احتجاج الله على أصحاب الدعوات الضالَّة هو ذات حجاج الإمام (عليه السلام) فيذكر أوَّلاً خلقه وصنعه، والإمام ذكر ذلك في توقيعه: «إنَّ الله لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سُدى، بل خلقهم بقدرته، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً وألباباً» (٤١).
ذكر بعدها أنَّ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ (الأحقاف: ٣) والإمام (عليه السلام) ذكر الأنبياء الذين أعرض المشـركون عن إنذارهم، ثمّ يطالبهم بالدليل خارجاً عنهم لأنَّهم ادَّعوا الشرك مع الله تعالى. ويذكر الإمام عليٌّ (عليه السلام) دليلاً على عدم وجود شريك لله تعالى من عدم وجود آثار له: «لو كان لربِّك شريك لأتتك رُسُله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله متأكّد وصفاته» (٤٢). والإمام يسأل أحمد بن إسحاق أنْ يطالب جعفراً بالدليل في نفسه لادِّعائه الإمامة. فطالبه بثلاث: فقه أو علم أو ورع. وجعفر عارٍ من الثلاثة جميعاً.
ثمّ يسأله أنْ يمتحنه بتفسير آية من كتاب الله تعالى أو حدود صلاة واحدة. والإمام يذكر أنَّه لن يتمكَّن من هذا أيضاً.
فنرى في الآية التي أوردها الإمام (عليه السلام) في حجاجه دليلاً قويّاً وحجَّةً بالغةً على كتاب جعفر من ناحيتين: الأُولى: أنَّ الاحتجاج بالنصِّ يكون دائماً حجَّة قاطعة على الخصم. والثانية: أنَّ التدرُّج في حجاج الإمام على من ينازعه الإمامة هو ذاته التدرُّج في احتجاج الله (عزَّ وجلَّ) على من ينازعه الخلق والأمر. وبهذا يُثبِت الإمام أنَّ كتابه على النقيض من كتاب جعفر لا اختلاف فيه وإنَّما يعضد بعضه بعضاً ويدعم آخره ما ورد في أوَّله.
إنَّ ديدن المعصومين (عليهم السلام) جميعاً ومن قبلهم جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو إعطاء أكثر من رأي وإدراج أكثر من حجَّة فلا يتركوا شاردة ولا واردة إلَّا وذكروها ليحيطوا بالأمر من جميع جوانبه.
فالحجَّة الضعيفة هي زاوية نظر مختلفة لأصحاب الفكر أو وجهة نظر مختلفة لأصحاب العناد الشديد.
١-٥ الروابط الحجاجية في توقيع الإمام (عليه السلام) في ردِّ إمامة عمِّه جعفر:
كانت اللغة طيِّعة في يد إمامها الحجَّة بن الحسن (عليه السلام) فرأينا في قوله: «ولعلَّ خبره قد تأتّى إليكم، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة وآثار عصيانه لله (عزَّ وجلَّ) مشهورة قائمة، أم بآية؟ فليأتِ بها، أم بحجَّة؟ فليلقمها، أم بدلالة؟ فليذكرها». مثالاً لتلاحق الروابط الحجاجية لتكون حججاً ساندة للحجج التي تراتبت سُلَّمياً، فالواو وأم والفاء قد تتابعت في حجج كان الإمام (عليه السلام) قد تعمَّد اصطفافها في جملها لتكون بمثابة دعوة من الإمام (عليه السلام) للمكلَّفين من شيعته ومواليه إلى إعمال العقل وتحكيم الجوارح في كشف زيف كلِّ مدَّعٍ، وكلُّها أدلَّة اختبار متتابعة وصلت بحروف العطف المذكورة لتؤكِّد أنَّ جعفراً لا فقه ولا علم ولا ورع عنده.
لقد أورد الإمام (عليه السلام) ثلاث حجج في ردِّ إمامة جعفر هي: «أم بآية؟ فليأتِ بها، أم بحجَّة؟ فليلقمها، أم بدلالة؟ فليذكرها». وهي مردودة على قوله (عليه السلام): «أبفقه، أم بعلم، أم بورع»، فقد استعمل الإمام (عليه السلام) (أم) المعادلة الاستفهامية، فصاحب الفقه يأتي بآية وصاحب العلم يقيم الحجَّة وصاحب الورع يذكر الدلالة، والحقُّ أنَّ الفقه والعلم والورع من علاقة العبد بالخالق، أمَّا الآية والحجَّة والدلالة فممَّا يعرضه العبد على الناس، وفي ذلك بيان أنَّ الإمام (عليه السلام) أخذ في حجاجه الجانب العبادي والجانب العملي ليُقوِّض دعوة إمامة جعفر من جميع أركانها، مستعملاً (أم) ليعادل طرفي الجملة الاستفهامية، فلا يُرجِّح جانباً على آخر.
واستعمل الإمام (عليه السلام) الأداة (أو) في طلبه لأحمد بن إسحاق أن يسأل جعفراً فقال له: «وامتحنه وسَلْه عن آية من كتاب الله يُفسِّـرها، أو صلاة فريضة يُبيِّن حدودها وما يجب فيها؛ لتعلم حاله ومقداره ويظهر لك عواره ونقصانه» (٤٣)، فاستعمل أداة الربط (أو) التي تفيد التخيير، فله أن يسأله عن كتاب الله تعالى بأن يُفسِّر آية فيه أو يُبيِّن حدود صلاة واحدة. وفي هذا الاختبار البسيط كفاية من الحجج التي تقنع المتلقّي بعدم صلاح جعفر للإمامة لعواره ونقصانه الظاهرين للعيان.
وقد استخدم الإمام المهدي (عليه السلام) أداة الربط الواو التي تفيد مطلق الجمع والمشاركة عندما تحدَّث عن فضل الأنبياء (عليهم السلام) على سائر الناس: «وما أتاهم الله من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة، والآيات الغالبة» (٤٤) ليُبيِّن صدق دعواهم بما اجتمع لديهم من فضل الله تعالى، لكنَّه استخدم أداة الربط (أم) التي تفيد التسوية عندما طالب جعفراً: «أم بآية؟ فليأتِ بها. أم بحجَّة؟ فليقمها. أم بدلالة؟ فليذكرها» (٤٥).
وذلك ليُبيِّن أنَّه يتساوى في صدق دعوته إنْ أتى بواحدة منها لعلمه بعدم قدرته على أيِّ واحدة منها، فهوَّن طلبه لهوان المطلوب منه.
٢-١ حجج الإمام الحجَّة (عليه السلام) في لعن الشلمغاني:
وجَّه الإمام الحجَّة (عليه السلام) حديثاً يوجب على الأُمَّة لعن الشلمغاني الذي كان من علماء الشيعة، يقول الشيخ المفيد في الشلمغاني: (كان متقدِّماً في أصحابنا ومستقيم الطريقة، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح (رحمه الله) على ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديَّة، فظهرت منه مقالات منكرة، وخرج في لعنه التوقيع من الناحية) (٤٦).
يقول الحجَّة (عليه السلام) في توقيعه: «إنَّ محمّد بن عليٍّ المعروف بالشلمغاني وهو ممَّن عجَّل الله له النقمة ولا أمهله قد ارتدَّ عن الإسلام وفارقه وألحد في دين الله، وادَّعى ما كفر معه بالخالق جلَّ وتعالى، وافترى كذباً وزوراً وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً وخسـروا خسراناً مبيناً.
وإنَّنا قد برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله وآله صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم بمنِّه، ولعنّاه عليه لعائن الله في الظاهر منّا والباطن، في السـرِّ والجهر، وفي كلِّ وقتٍ، وعلى كلِّ حالٍ، وعلى من شايعه وتابعه أو بلغه هذا القول منّا وأقام على تولّيه بعده» (٤٧).
بدأ (عليه السلام) التوقيع بذكر اسم الشخص الذي من أجله صدر التوقيع ولقبه المعروف به بين الناس، وذلك لكي يزيل أيَّ التباس عمَّا يمكن أن يشترك به مع غيره في الاسم واللقب.
وبعد أن ذكر الاسم واللقب قال (عليه السلام) مباشرة: «وهو ممَّن عجَّل الله له النقمة ولعنه...» (٤٨)، فهو إنسان حلَّت عليه نقمة الله تعالى وغير ممهل للتوبة أو غيرها.
والحقُّ أنَّ عدم الإمهال بسبب تعجيل النقمة، وذلك لشدَّة انحرافه، ومعرفة الإمام (عليه السلام) بتعريف من الله (عزَّ وجلَّ) بعدم توبته كي يقطع عليه طريق إضلال المزيد من الناس، هذا من جانب، ومن جانب آخر، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ (النساء: ١٧)، فتوبته ممكنة قبل أن يضلَّ الناس بدعوته وانحرافه لأنَّ هذا بمثابة سُنَّة سيِّئة يتحمَّل وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ويذكر بعد ذكر حجج تعجيل النقمة وعدم الإمهال بأنَّه «قد ارتدَّ عن الإسلام وفارقه»، والارتداد عن الإسلام ومفارقته يكون بدرجات كأن يكون برفض بعض تعاليمه وليس كلَّها، فقد يكون له بقيَّة من دين أو إيمان مع هذا الارتداد؛ لذا نجده (عليه السلام) يُتبِع هذه الحجَّة بأُخرى أقوى منها بقوله (عليه السلام): «وألحد في دين الله»، فأصل الإسلام هو التوحيد والشلمغاني قد ألحد أصل الدين هذا، ليس في أحد فروعه، وأتبع ذلك بقوله: «وادَّعى ما كفر معه بالخالق»، وتلك حجَّة هي فصل الخطاب في موجبات لعن الشلمغاني، بعدها فصَّل في ذكر خصوصية «ما كفر معه بالخالق» بأنَّه أوَّلاً افترى على الله تعالى الكذب، وثانياً زوَّر الحقائق، وأخيراً قال بهتاناً وإثماً عظيماً، وتلك أُمور تفصح عن كونه خرج عن إطار نفسه وصار معلناً لكفره وإلحاده بما أشاعه من أباطيل بين العامَّة ممَّا يجعل الحجَّة أقوى في وجوب صدِّه وردِّ أذاه.
ويختم الفقرة الافتتاحية لتوقيعه بمقطع من دعاء: «كذب العادلون بالله وخسـروا خسـراناً مبيناً»، قوله: «كذب العادلون» إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ (الأنعام: ١)، والمراد بهم الذين يجعلون له شركاء فيعبدونهم دونه، مأخوذ في اللغة من العدول وهو الميل وتغيير الجهة، فالعادلون هم المشـركون الذين يعدلون به (عزَّ وجلَّ) ما يتصوَّرونه آلهة من دونه، فقد ترك الشلمغاني عبادة الله تعالى وخرج عن التوحيد وتلك حجَّة الحجج في بيان أسباب لعنه.
وهكذا نجد أنَّ حجج الإمام الحجَّة (عليه السلام) ترتَّبت ترتُّباً تصاعدياً من الأضعف حتَّى الأقوى من أجل إفهام الأُمَّة وبناء وعيها الذاتي في تفحُّص الدعوات التي تخرج من البيت الشيعي متلبِّسة بالتشيُّع وهي خارجة عن المذهب مارقة عنه؛ لأنَّ داءها أكبر وأثرها أوسع.
فالإمام (عليه السلام) تسلسل في حججه من الأضعف للأقوى، فعندما يتسلَّل الشكُّ للإنسان يجعله يترك بعض الأوامر والنواهي، وذلك بسبب الارتداد القلبي عن الله تعالى، فيظهر في الجوارح والإلحاد يجعل الإنسان يكفر بخالقه، وهذا يُجرِّؤه على افتراء الكذب والزور والبهتان على الله (عزَّ وجلَّ)، وبعبارة أُخرى: إنَّ الارتداد عن الدين قد يبقيان لحقبة طويلة داخل الإنسان من دون أن يلتفت إليه أحد حتَّى إذا افترى على الله تعالى الكذب انكشف الستر وصار واضحاً للعيان، وهو ما حصل للشلمغاني. قبل أن يدَّعي حلول الله تعالى فيه، وفي هذا درس يُقدِّمه الإمام (عليه السلام) للمكلَّفين بأن يكونوا دائماً واعين لأتباعه قبل أعدائه، لأنَّ ضلال الأتباع الذين هم من وسط الشيعة والمؤيِّدين للإمام (عليه السلام) قد يكون التخلُّص منه أصعب، ممَّا يعود بنا إلى أصل تعليم الإمام عليٍّ (عليه السلام) للأُمَّة بقوله: «اعرف الحقَّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله، إنَّ الحقَّ لا يُعرَف بالرجال إنَّما يُعرَف الرجال بالحقِّ» (٤٩). إذ أوضح أمير المؤمنين (عليه السلام) معياراً لمعرفة الرجال بمعرفة الحقِّ أوَّلاً.
وبعد أن أوضح الحجَّة (عليه السلام) سوء طوية الشلمغاني وفساد مذهبه وتديُّنه، انتقل إلى لعنه والبراءة منه فقال: «وإنَّنا برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله وآله صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم بمنِّه، ولعنّاه عليه لعائن الله في الظاهر منّا والباطن في السـرِّ والجهر وفي كلِّ وقتٍ وعلى كلِّ حالٍ وعلى من شايعه وتابعه أو بلغه هذا القول منّا وأقام على تولّيه بعده» (٥٠).
لقد لعن الإمام (عليه السلام) الشلمغاني بعد أن تبرَّأ منه أمام الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والحجج على الأُمَّة (عليهم السلام) من بعده حتَّى إذا صار طريداً من رحمة الله تعالى وشفاعة أوليائه لعنه.
وختم (عليه السلام) فقرة اللعن بأنْ جعل اللعنة تشمل من شايعه وتابعه وأقام على تولّيه بعده، وذكر في نهاية التوقيع ما ذكر بالدعوات التي سبقت ما ليس لها بحقٍّ ممَّن ادَّعى السفارة «وأعلمهم أنَّنا في التوقّي والمحاذرة منه على ما كنّا عليه ممَّن تقدَّمه من نظرائه من الشـريعي والنميري والهلالي والبلالي وغيرهم» (٥١)، وسبب ذكره لهؤلاء في نهاية توقيعه يدلُّ على قوَّة ادِّعائه وكثرة أتباعه ممَّا قد يُسبِّب الكثير من الخلاف في لعنه والبراءة منه، لكن عندما يقرنه (عليه السلام) بمن لعنهم من قبله وأثبت مرور السنوات كذب دعواهم، وترسَّخ في ضمير الأُمَّة زورهم وبهتانهم، فقد ناسب ذكرهم في النهاية ليعود الناس إلى رشدهم ويترك لهم أمر مقارنة دعوى الشلمغاني بدعوى هؤلاء لأنَّه انتهى نهايتهم. وفي هذا تعليم للأُمَّة أن تقارن النظائر لتعرف المحقَّ من المبطل، فيكون العقل هو الدليل والفيصل في معرفة الحقِّ وليس الرجال ولا التوقيع، حتَّى إذا وقعت الغيبة الكبرى كان للناس دليل من عقولهم يلجؤون إليه عند هجوم الفتن كقطع الليل المظلم.
٢-٢ الروابط الحجاجية في توقيع الإمام (عليه السلام) في لعن الشلمغاني:
تفيد حروف العطف عموماً معنى الفصل والوصل، وإنَّ استخدامها في النصِّ يكسبه متانة ويشدُّه كالبنيان المرصوص، وقد استخدم الإمام المهدي (عليه السلام) تنويعاً في أدوات الربط في التوقيع الصادر بحقِّ عمِّه جعفر، فاستعمل (الواو) لتدلَّ على مطلق الجمع والمشاركة، و(ثمّ) التي تفيد التعقيب مع التراخي بالزمن، و(أمْ) التي تفيد المعادلة والتسوية في عطف ما قبلها على ما بعدها، و(الفاء) الرابطة والتي تفيد الاستئناف، واستخدم للتوكيد (اللّام) التي تفيد التعليل أيضاً، واستخدم للتوكيد حرف تحقيق (قد) والقسم بالواو وبلفظ الجلالة أو بهما معاً.
أمَّا في التوقيع الصادر بحقِّ الشلمغاني فقد اكتفى بحرف العطف الواو فقط في لعنه وإيراد الحجج عليه، كما استخدم حرف العطف (أو) مرَّة واحدة، واستخدام (قد) مرَّة واحدة أيضاً، فلا نجد هنا التنويع المستخدم في توقيعه لعمِّه جعفر، ولعلَّ الفكرة في ذلك بيان أنَّ خطر الشلمغاني على سعة انتشاره أقلّ من خطر جعفر، وذلك لأنَّه ادَّعى الأُلوهية وجعفر إنَّما ادَّعى الإمامة، كما أنَّ دعوته بعيدة من حيث الزمان عن وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، أمَّا جعفر فقد ادَّعى الإمامة مباشرةً بعد وفاة أخيه وخلوِّ الساحة على ما يبدو من الإمام المعصوم وعدم إثبات ولادة المهدي (عليه السلام) لكلِّ الناس وعلى نطاق واسع.
لقد سدَّ الإمام الطريق أمام دعوى الشلمغاني منذ الكلمات الأُولى لتوقيعه وحسم أمره: «إنَّ محمّد بن عليٍّ المعروف بالشلمغاني، وهو ممَّن عجَّل الله له النقمة ولا أمهله قد ارتدَّ عن الإسلام وفارقه وألحد في دين الله، وادَّعى ما كفر معه بالخالق جلَّ وتعالى، وافترى كذباً وزوراً وقال بهتاناً وإثماً عظيماً» (٥٢)، فأورد كلامه متتابعاً دون تراخي أو تردُّد، فهو «قد ارتدَّ... وفارقه... وألحد... وادَّعى... وافترى... وقال بهتاناً....». لقد أوقع اللعن عليه والأسباب الموجبة لهذا اللعن في تسلسل متلاحق كضربات متوالية لا تترك مجالاً للتردُّد أو الشكِّ في احتمال ولو ضئيل من كونه على شيء فسد بذلك الطريق على دعوته وأغلق باب الشكِّ في أمره لأنَّه ادَّعى الأُلوهية، وهذا باطل بيِّن للخاصَّة والعامَّة.
أمَّا دعوى جعفر فلم تكن واضحة وقاطعة كدعوى الشلمغاني، ولعلَّ الكثيرين قد اغترّوا به وكأنَّما كان هناك من يُصدِّقه لأنَّ دعوته مشتبهة فهو لم يدَّعِ الأُلوهية ليتَّضح كذبه للخاصَّة والعامَّة، وإنَّما ادَّعى الإمامة فقط، وهذا الادِّعاء غير واضح البطلان للعامَّة كشأنه للخاصَّة. قال أبو الأديان خادم الإمام العسكري (عليه السلام) حين قالوا له: إنَّ الإمام من بعد الحسن العسكري (عليه السلام) هو جعفر: (إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة) (٥٣).
لقد تنوَّعت الشبهات التي صاحبت دعوى جعفر لأنَّها انطلقت مباشرةً بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، ولنسبه ولمساحة الحركة التي سمحت له السلطة الحاكمة آنذاك بالتحرُّك فيها في إطار الحرب غير المعلنة التي انتهجها الحاكمون، لذلك تنوَّعت الحجج وتعدَّدت ومعها أدوات الربط التي ثبتت الحجج وأعطت لأُسلوب التوقيع رصانة لا بدَّ منها لمواجهة الخطر المتمثِّل في هذا الادِّعاء الكاذب.
وفي المقابل اعتمد الإمام حرف العطف الواو فقط في توقيعه للشلمغاني لوضوح بطلان دعواه من وجه واحد.
المصادر والمراجع:
١- القرآن الكريم.
٢- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمّد حسن النجفي/حقَّقه وعلَّق عليه: الشيخ عبّاس القوجاني/دار إحياء التراث العربي/ بيروت لبنان/الطبعة: الرابعة.
٣- الحجاج مفهومه ومجالاته: إعداد وتقديم د. حافظ إسماعيل علوي/ ط ١/ عالم الكتب الحديث/ أربد الأُردن/ ١٤٣١ هـ -٢٠١٠م.
٤- استيراتيجيات الخطاب (مقاربة لغوية تداولية): عبد الهادي بن ظافر الشهري/دار الكتاب الجديد.
٥- أهمّ نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أُرسطو إلى اليوم: إشراف حمادي صمود/جامعة الآداب والعلوم الإنسانية/ تونس/كلّية الآداب منوبة.
٦- بلاغة الإقناع في المناظرة: عبد اللطيف عادل/منشورات ضفاف.
٧- تاريخ الغيبة الصغرى: السيِّد محمّد الصدر/دار التعارف للمطبوعات/ بيروت/لبنان /١٩٩٢م.
٨- الغيبة: أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم /تحقيق: فارس الحسّون /دار الجوادين /الطبعة الأُولى/ ٢٠١١م.
٩- الفصول العشرة في الغيبة: الشيخ المفيد /المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة الشيخ المفيد /الطبعة الأُولى/ تحقيق: فارس الحسّون.
١٠- في أُصول الحوار وتجديد علم الكلام: طه عبد الرحمن/ الطبعة الثانية/ المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/٢٠٠٠م.
١١- في بلاغة الخطاب الإقناعي (مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية في القرن الأوَّل نموذجاً): محمّد العمري/الطبعة الأُولى /دار الثقافة /الدار البيضاء.
١٢- الكافي: الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني/منشورات الفجر.
١٣- اللسان والميزان والتكوثر العقلي: طه عبد الرحمن/المركز الثقافي العربي/الدار البيضاء/١٩٩٨م.
١٤- اللغة والحجاج: أبوبكر العزّاوي/ الطبعة الأُولى /دار الأحمدية /الدار البيضاء /٢٠٠٦م.
١٥- مكاتيب الأئمَّة: عليّ الأحمدي الميانحي /تحقيق: مجتبى فرجي /قم/دار الحديث/١٣٨٧هـ.
١٦- المحاسن: الشيخ أحمد بن محمّد البرقي/دار الكتب الإسلاميَّة/إيران/طهران.
١٧- موسوعة توقيعات الإمام المهدي: محمّد تقي أكبر نجاد/منشورات مسجد جمكران/الطبعة الأُولى/ ١٤٢٧هـ.
١٨- موسوعة الكلمة (كلمة الإمام المهدي): السيِّد حسن الحسيني الشيرازي/دار العلوم للطباعة والنشر/الكويت /الطبعة الأُولى/ ١٤٢٧هـ.
١٩- شرح نهج البلاغة: محمّد عبده/دار المعرفة للطباعة والنشر/بيروت / لبنان.
الهوامش:
(١) يُنظَر: الحجاج أُطروحته ومنطلقاته، بحث ضمن أهمّ نظريات الحجاج: ٢٩٩.
(٢) يُنظَر: مفهوم الحجاج عند بيرلمان، بحث ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته ١: ٥٠٠.
(٣) مكاتيب الأئمَّة (مكاتيب الإمام أبي القاسم المهدي) ٧: ٢١٢ و٢١٣، موسوعة التوقيعات: ١٩.
(٤) يُنظَر: الغيبة: ٢٥٢ - ٢٥٤، تاريخ الغيبة الصغرى: ٥١٨.
(٥) الغيبة الصغرى: ٥٣٧.
(٦) يُنظَر: بلاغة الإقناع في المناظرة: ١٢.
(٧) يُنظَر: بلاغة الإقناع في المناظرة: ١٠٣.
(٨) يُنظَر: اللغة والحجاج: ٨٨.
(٩) يُنظَر: في أُصول الحوار وتجديد علم الكلام: ١٠٤ و١٠٥، استيراتيجيات الخطاب: ٥٠٠، بلاغة الإقناع في المناظرة: ١٠١ و١٠٢.
(١٠) في بلاغة الخطاب الإقناعي: ١٠٨.
(١١) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ١٩.
(١٢) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ١٩ و٢٠.
(١٣) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢٠.
(١٤) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢١.
(١٥) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١٢ و١٣، موسوعة التوقيعات: ٢١.
(١٦) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١٣، موسوعة التوقيعات: ٢١.
(١٧) نهج البلاغة/ محمّد عبده ١: ٢٠٠.
(١٨) يُنظَر: الغيبة الصغرى: ٢٩٧.
(١٩) المصدر نفسه.
(٢٠) الكافي ١: ٢٨٥.
(٢١) استيراتيجيات الخطاب: ٥٠٣.
(٢٢) اللسان والميزان والتكوثر العقلي: ٢٧٧.
(٢٣) اللسان والميزان والتكوثر العقلي: ٢٧٨.
(٢٤) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ١٩.
(٢٥) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢٠.
(٢٦) المصدر نفسه.
(٢٧) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢٠.
(٢٨) موسوعة الكلمة/كلمة المهدي: ٩٦.
(٢٩) موسوعة الكلمة/كلمة المهدي: ٢١٨.
(٣٠) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢٠، وانظر أيضاً: كلمة المهدي: ٢١٨.
(٣١) المصدر نفسه.
(٣٢) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢٠، وانظر أيضاً: كلمة المهدي: ٢١٩.
(٣٣) المصدر نفسه.
(٣٤) تاريخ الغيبة الصغرى ٣٠٠.
(٣٥) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢٠ و٢١، وانظر أيضاً: كلمة المهدي: ٢١٩.
(٣٦) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢١، وانظر أيضاً: كلمة المهدي: ٢٢٠.
(٣٧) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢١، وانظر أيضاً: كلمة المهدي: ٢١٨.
(٣٨) المحاسن للبرقي ١: ٢٢١، وانظر أيضاً: جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ١٣: ١١٠ و١١١.
(٣٩) تاريخ الأُمم والملوك للطبري ٤: ٤٧٩.
(٤٠) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢١، وانظر أيضاً: كلمة المهدي: ٢١/ ٢١٨.
(٤١) المصدر نفسه
(٤٢) نهج البلاغة/ محمّد عبده ٢: ٤٤.
(٤٣) مكاتيب الأئمَّة: ١٣.
(٤٤) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢١، وانظر أيضاً: كلمة المهدي: ٢١/٢١٨.
(٤٥) مكاتيب الأئمَّة ٧: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢١، وانظر أيضاً: كلمة المهدي: ٢١/٢٢٠.
(٤٦) الفصول العشرة: ١٦.
(٤٧) مكاتيب الأئمَّة ٧: ٢١٢ و٢١٣، موسوعة التوقيعات: ٢٥، تاريخ الغيبة الصغرى: ٥١٧.
(٤٨) مكاتيب الأئمَّة: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢٥.
(٤٩) نهج البلاغة/ محمّد عبده ١: ٢٠٠.
(٥٠) مكاتيب الأئمَّة: ١١، موسوعة التوقيعات: ٢٥، تاريخ الغيبة الصغرى: ٥١٨.
(٥١) مكاتيب الأئمَّة ٧: ٢١٣.
(٥٢) كلمة المهدي: ٢١/١٩٤.
(٥٣) تاريخ الغيبة الصغرى، ٣٠٠.