الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في أحاديثِ الإمامِ عليِّ بنِ الحسين (عليه السلام) - قراءةٌ تأويليةٌ
حاكم حبيب الكريطي
شغلتْ قضيةُ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) الفكرَ الإسلاميَّ منذُ عصرِ النبّوةِ، بعد أنْ أخبر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بغيبتهِ وظهورهِ في أحاديثَ كثيرةٍ، وذهبَ المسلمونَ في فهمِها وإدراكِها مذاهبَ شتى، على الرّغمِ من أنّهم جميعاً مُجمعون على أصلِ الظهورِ. وقد تحدّثَ أهلُ البيت (عليهم السلام) في العصورِ اللاحقةِ كثيراً عن ذلك ليُزيلوا عن النفوسِ ما علِقَ بها من وهمٍ وانحرافٍ يمسُّ قضيةً تشكّلُ أُسّاً رئيساً من أسسِ (الإمامةِ). فتحدّثوا عن غيبةِ الإمامِ المهديّ (عليه السلام) وزمانها وعلاماتِ ظهورهِ بعد غيبتهِ، ليضعوا المسلمين في دائرةِ الانتظارِ والدعاءِ بتقريبِ الفرجِ، لأنّ ذلك يشدُّ المسلمَ إلى عقيدتهِ، ويجعلُهُ في ارتباطٍ متينٍ دائمٍ مع الله تعالى.
إنّ غيابَ الإمامِ (عليه السلام) يدعو إلى التمسّكِ بإمامتهِ، لأنَّ وجوبها وجوبٌ إلهيٌّ، والغائبُ الحيُّ يُنتظر ظهورُه إذْ إنّ غيابَه نظامٌ ربانيٌّ، أراده الله تعالى على هذا النحوِ ليبتليَ المسلمين ويختبرَهم، فالثباتُ في زمنِ الغيبةِ من المراتبِ التي ترفعُ من شأنِ صاحبهِ.
إنّ تصورَ الغيبةِ من كلامِ الأئمّةِ (عليهم السلام) وقراءةَ أحاديثِهم على وفقِ ما تقدّمُهُ اللغةُ من إمكاناتٍ تأويليةٍ، سيضيفُ بُعداً معرفياً للغيبةِ، تُعاضُده الرواياتُ الموثوقةُ التي وصلتْ إلينا عنهم، وسينهضُ هذا البحثُ بهذه المهمةِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى، بعد النظرِ في أحاديثِ الإمام عليِّ بنِ الحسين (عليهما السلام) في هذا الشأن.
بقيَ أنْ نشيرَ إلى أنّنا سنقرأ أحاديثَ الإمامِ عليِّ بنِ الحسين (عليهما السلام) قراءةً تأويليّةً، ونعني بالقراءةِ التأويليّةِ هنا: الالتفاتَ إلى المفرداتِ المركزيّةِ في النصوصِ، والوقوفَ على المعاني التي تنطوي عليها ويقبلُها السياقُ، ونأخذُ منها ما قد يكونُ فيصلاً في فهمِ المعنى من دونِ أنْ ندعَ المعاني الأخرى. واستناداً إلى هذا، فقد نقفُ على أكثرَ من توجيهٍ للمعنى في مواطنَ كثيرةٍ، وبهذا ينكشفُ الثراءُ الدلاليُّ لأحاديثِ الإمامِ عليِّ بن الحسين (عليهما السلام)، شأنُه في ذلك شأنُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) جميعاً، لأنّهم أربابُ الكلامِ.
يقول الإمامُ عليٌّ (عليه السلام) عن فصاحةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام): «وإنّا لأُمراءُ الكلامِ، وفينا تنشّبتْ عروقُهُ، وعلينا تهدّلتْ غصونُهُ»(١). ومن هنا فإنّ هذه القراءةَ التي نتبنّاها هنا تتساوقُ مع ما يُريده أهلُ البيت (عليهم السلام) ممّن يقرأُ أحاديثَهم من المسلمين، لأنّها تنصرفُ إلى وجوهٍ كثيرةٍ، فقد رُوي عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليهم السلام) أنّه قال: «... وإنّ الكلمةَ من كلامِنا لتنصرفُ على سبعين وجهاً، لنا من جميعهِ المخرجُ»(٢). والمخرجُ الذي يُشيُر اليه الإمامُ (عليهم السلام)، هو المعنى الذي يُفضي إليه القولُ الواحدُ من أقوالهم في كلِّ قراءةٍ جديدةٍ. وهذا من بعضِ أسرارِ تميّزِ خطابِ أهل البيتِ (عليهم السلام).
وعلى الرغمِ من هذا الذي قدّمناهُ، فإنّنا نستعيذُ باللهِ تعالى من الجورِ على النّصوصِ، أو تحميلِها ما لا تحتملُ، فهذا ما لا يُمكن أنْ يكونَ، لأنّنا أمامَ أحاديثِ إمامٍ من أئمّة الهدى (عليهم السلام)، ونحسبُ هنا أنّ هذهِ القراءةَ تتلاءمُ مع التوجيهِ الذي وصلَ إلينا من أهلِ البيت (عليهم السلام)، في طريقةِ النّظرِ في أحاديثهم.
الغيبةُ الأولى والغيبةُ الثانية:
أخبرَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهلُ البيتِ (عليهم السلام) إنَّ للإمامِ المهديِّ (عليه السلام) غيبتينِ(٣)، ومادام الإخبارُ عن ذلك جاءنا من المعصومين (عليهم السلام) فلا يبقى مُسوّغٌ للقولِ بخلافِ ذلك. وإنمّا من المعقولِ تماماً أنْ ننظرَ في الغيبتينِ وما يرافقُهما من أحداثٍ، لأنّهما واقعتانِ لا محالة، بعد هذا الإخبارِ النبويِّ وإخبارِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام). ومن هنا تأتي أهميةُ قراءةِ إشاراتِ الإمامِ عليِّ بنِ الحسينِ (عليهما السلام) عن ذلك.
يقولُ الإمامُ (عليه السلام) مبيّنا غيبة الإمامِ المهديِّ (عليه السلام): «إنّ للغائبِ منّا غيبتينِ، إحداهما أطولُ من الأخرى، أمّا الأولى فستةُ أيامٍ أو ستةُ أشهرٍ، أو ستُ سنواتٍ، وأمّا الأخرى فيطول أمدُها حتى يرجعَ عن هذا الأمرِ أكثرُ من يقولُ به، فلا يلبثُ عليه إلّا من قويَ يقينُه وصحّتْ معرفتُه، ولم يجد في نفسِه حرجاً ممّا قضينا، وسلّم لنا أهلَ البيتِ»(٤).
ابتداءً، يلوحُ لنا من قولِ الإمامِ (عليه السلام) هذا أنّ استعمالَهُ للفظةِ (الغائبِ)، بدلاً من -مثلاً- (من سيغيبُ منّا)، -والغيبةُ لم تقعْ بعدُ- يؤكِّدُ وقوعَ غيْبَتَي الإمامِ (عليه السلام) حقّاً. ويُنبئ بأنّ الإمامَ (عليه السلام) آثرَ هذا الاستعمالَ ليُبصِّرَ السامعَ أنّ الغيبةَ واقعةٌ لا محالة. وهذا الضربُ من التعبيرِ تُؤثرهُ اللغةُ لأنّهُ يمنحها بُعداً جمالياً ودلالياً، فاستعمالُ (إنَّ) أفادَ التوكيدَ الذي يُريدهُ الإمامُ (عليه السلام) لأمرٍ سيحصلُ في المستقبلِ، وهو من القضايا الكبرى التي يكون الغيبُ ركيزةً لها، فتوكيدُ الغيبِ على هذا النحوِ لا يقوى عليه إلّا أهلُ البيت (عليهم السلام) هذا فضلاً عن معرفةِ المتلقي بهذا الأمرِ من قبلُ، فالإمامُ (عليه السلام) يُخبر به، وهو معهودٌ عند السامعِ تماماً، ولكنّ تكرارَ ذكره في أحاديثِ الأئمةِ (عليهم السلام)، يقوّيهِ في نفوسِ المسلمينَ ويدعوهم إلى التمسّكِ بهذه العقيدةِ التي يُحاولُ البعضُ أنْ يقلّلَ من شأنها، ومن هنا تأتي تعبيراتُهم على النحوِ الذي يجعلُ وقوعَ الغيبةِ أمراً قائماً حقاً في وجدانِ كلِّ مسلمٍ.
ثم يتحدثُ الإمامُ (عليه السلام) عن الغيبتينِ، ويجعلُ مدةَ الغيبةِ الأولى ستةَ أيّامٍ أو ستةَ أشهرٍ أو ستَ سنين، من دونِ أنْ يرجّحَ أيَّ زمنٍ من هذه الأزمانِ الثلاثةِ. وهذا كلُّه لا يتوافقُ مع ما عُرفَ عن مدةِ الغيبةِ الأولى، وهي قرابة السبعين عاماً. إذْ انتهت بوفاة آخرِ السفراءِ الأربعةِ، علي بن محمد السّمري ت ٣٢٩هـ(٥).
والإمامُ (عليه السلام) يعلمُ هذا كلَّه، فكيفَ نتأولُ ما قاله؟ ولقد التفتَ علماؤنا إلى هذه الأزمانِ الثلاثةِ التي ذكرها الإمامُ (عليه السلام) وذهبوا في توجيهها مذاهبَ شتى، سنأتي على ذكرها موافقين أو معترضين. وهي على النحو الآتي:
أولاً: إنّ ذكرَ هذه التواريخ مفتوحٌ لينصرفَ إلى تواريخَ أخرى، لأنّهُ لم يأتِ على سبيلِ الحصرِ القاطعِ، وإنّما جاء على سبيلِ الإشارةِ العامِّةِ التي يمكنُ أن تنفتحَ على أزمنةٍ أخرى غير ما ذُكرَ، فتكون على سبيلِ التمثيلِ والتقريبِ لا الحصرِ والقطعِ. يقولُ ابنُ بابويه القمّيُّ: (لا يمتنعُ أن يجوزَ وقتُهُ من ستةِ أيّامٍ إلى ستةِ أشهرٍ ومن ستةِ أشهرٍ إلى ستِ سنين غير مُمتنعٍ أنْ يجوزَ إلى سنين)(٦).
ثانياً: أراد الإمامُ (عليه السلام) اخفاءَ زمنِ الغيبةِ وتعميتهِ، حتى لا تُعرفَ حقيقتُه، لأنّ توقيتَ الظهورِ منهيٌّ عنه في أحاديثَ كثيرة، منها ما رُويَ عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) وهو قولُه: «من وقّتَ لك من النّاسِ شيئاً فلا تهابنّ أنْ تُكذّبه، فلسنا نوقّتُ لأحدٍ وقتاً»(٧)، لكنّ هذا لا يمنعُ من الإشارةِ إلى الزمنِ وبيانهِ على هذا النحوِ الذي يحَتملُ وجوهاً كثيرةً. وخروجُهُ من الإمامِ (عليه السلام) بصيغةٍ واحدةٍ يُعدُّ توقيتاً ثابتاً، لأنّ الإمامَ (عليه السلام) حُجّةٌ فيما يقولُ، واستناداً إلى هذا، أخذ بيانُ الزّمنِ هذا الإطارَ الواسعَ غيرَ المقيّد. يقولُ ابنُ بابويه القمّيّ، مشيراً إلى إغماضِ الإمام (عليه السلام) للغيبةِ (... وإنْ أرادَ الاغماضَ منه، فغيُر عَجَبٍ أنْ يغمضَهُ بأشدّ ما يقدِرُ عليه، ويسترَ عنه بأجهدِ ما يُمكنهُ، لأنّ أمراً يّخبُر عنه من يُوثقُ بعلمه، بالشّكّ بين ستةِ أيّامٍ أو ستِ سنين، لا يُرادُ به غيرُ المغاضضةِ والسّترِ)(٨).
ثالثاً: ذهب بعضُ العلماءِ إلى القولِ: إنّ الغيبةَ تقترنُ بها حيرةٌ في شأنِ الإمامِ (عليه السلام) وشأنها عند البعض، فيكون ما ذكره الإمامُ من الوقتِ، هو زمن الحيرةِ والغيبةِ، ثم ترتفعُ الحيرةُ وتبقى الغيبةُ، وتفاوتُ الزّمنِ المشارِ إليه، يعني قد ترتفعُ حيرةُ إنسانٍ بعد ستةِ أيّامٍ، وترتفعُ حيرةُ آخرُ بعد ستةِ أشهرٍ أو ستِ سنين(٩).
وظنّي أنّ هذا الكلامَ لا يتوافقُ مع ما ورد في قولِ الإمامِ (عليه السلام) الذي خصّ به الغيبةَ الصغرى، لأنّ أخبارَ الإمامِ (عليه السلام) تصلُ إلى شيعتهِ بوساطةِ السُّفراءِ، ولا تنقطعُ عنهم، فلا مسوّغ لهذهِ الحيرةِ المشارِ إليها، هذا فضلاً عن أنّ المسلمين يعرفون زمنَ الغيبةِ قبل وقوعها، لأنها ستبدأ بعد وفاةِ الإمامِ الحادي عشر الحسنِ بنِ عليّ العسكريِّ (عليه السلام)، وانتقال الإمامةِ إلى الإمامِ المهديّ (عليه السلام).
رابعاً: ذهب الأمينُ الأستر آبادي إلى أنّ آحادَ مدةِ الغيبةِ هذا القدر، لأنّ هذا يتوافق مع الأحاديث المروية في هذا الشأن، يقولُ: (... فيكون ظهورهُ في السّابعِ ليوافقَ الأحاديثَ الدالةَ على أنّ ظهورَهُ في فردٍ من السنين، ولما تجاوز مدةَ الآحادِ، ومدةَ الآحادِ مع العشراتِ، بقيتْ مدةُ الآحادِ مع المئاتِ ومدةُ الآحادِ مع الألوفِ)(١٠).
ونعتقدُ هنا أنّ هذا التوجيهَ بعيدٌ تماماً عن المرادِ، لأنّ مُضيَّ هذه التواريخِ يُحتّمُ انتظارَ تواريخَ أخرى بعينِها، قد لا تنتهي مادامتْ الدنيا قائمةً، هذا بطرقِ الحسابِ، لأنّ مدةَ الآحادِ مع الأُلوفِ تطولُ أيضاً إلى أنْ ينتهي حسابُ الألوفِ. هذا فضلاً عن أنّ النظرَ إلى التواريخِ المذكورةِ فيه انتظارٌ لسنواتٍ بعينها وهذا يتلاءم مع التعيين المنهيِّ عنه.
وفوق هذا وذاك، إنّ العلماءَ يُجمعون -كما مرّ بنا قبلَ قليلٍ- على أنّ الغيبةَ الصغرى انتهت سنة (٣٢٩هـ)، فكيف يوّجهُ الأمين الأستر آبادي كلامَ الإمامِ (عليه السلام) على هذا النحو، وهو المتوفى سنة (١٠٨١هـ)(١١). ولكنّنا إذا اعتقدنا أنّه ظنّ أنّ الإمامَ (عليه السلام) يذكر الغيبةَ الكبرى وهذا معقولٌ، ويُقبلُ منه التباساً، لأنّ قولَ الإمام (عليه السلام) واضحُ في دلالته على الغيبةِ الصغرى.
خامساً: إنّ بعضَ أحاديثِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) تكون صعبةً مُستصعبةً، وغالباً ما تتناسبُ مع قدراتِ السّائلِ أو السّامعِ، وقابليتِهِ المعرفيةِ، فقد تكونُ صعبةً لا يُسبُر غورُها بسهولةٍ عند البعضِ، وتكونُ مدركةً معروفةً عند البعضِ الآخرِ. وهذا كلُّهُ يعتمدُ على القربِ منهم (عليهم السلام) ومدى السّيرِ على نهجهم. وهذا أيضاً يُفسر لنا اختصاصَ بعضِ أصحابهم بهم، لأنّهم يمتلكون القدرةَ على توجيهِ أحاديثِهم على وفقِ ما يريدون. يقولُ الإمام الرضا (عليه السلام): «إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابهِ القرآنِ ومحُكماً كمُحكمِ القرآنِ، فردّوا مُتشابهها إلى مُحكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون مُحكمها فتضلّوا»(١٢).
أمّا الغيبةُ الكبرى، فيشير الإمامُ (عليه السلام) إلى طولِ أمدِها، إذْ يقودُ هذا الطولُ إلى اضطرابِ النّاسِ وقلقِهم، ممّا يدفعُ بهم إلى الرجوعِ عن الاعتقادِ بها (بالغيبة)، ولا يبقى ثابتاً على اعتقاده إلّا من كان من أصحابِ اليقين والمعرفة الصحيحة، وهؤلاءِ هم من عرف مقامَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) معرفةً تُهيّئ له قوةَ اليقين المشارَ إليها، لأنّ الشّكَ والارتيابَ لا يجدُ إلى نفسِهِ سبيلاً. وطولُ أمدِ الغيبةِ، يزيدُ عقيدتَه رسوخاً، لأنّه يعيش في انتظارِ الفرجِ في كلِّ حينٍ، ويدركُ ما يعنيه الانتظارُ من تجسيدِ العقيدةِ الحقّةِ. أمّا انتظارُ من سبق فلهم أجرُهم فيه. ومن هنا لا تبدو المدةُ طويلة أو الأمدُ بعيداً، لأنّ الظهورَ محكومٌ بمشيئةِ اللهِ تعالى. يقولُ الإمامُ الصّادق (عليه السلام): «إنّ اللهَ لا يعجلُ لعجلةِ العبادِ، إنّ لهذا الأمرِ غايةً ينتهي إليها، فلو قد بلغوها لم يستقدموا ساعةً ولم يستأخروا»(١٣).
إنّ هذه الدلالاتِ التي استنبطناها من كلامِ الإمامِ (عليه السلام) تكشفُ عن الحيويةِ التي يختزنُها أهلُ البيتِ (عليهم السلام) في أحاديثهم، ليعبّدوا للمسلمين سُبَلَ التفكيرِ المعرفيِّ الصّحيحِ الذي ينبغي أنْ يتمثلَهُ من ينظرُ في كلامهم.
بقي في النّفسِ شيءٌ، أرجأنا الحديثَ عنه متعمّدين، وكان حقُّه أن يتقدمَ، وهو أنّ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عرّف غيبتي الإمام المهدي بـ (الأولى) و(الثانية)، ولم يقلْ: الغيبةُ الصغرى والكبرى على وفقِ ما شاع في مؤلفاتِ علمائنا في العصورِ اللاحقةِ لعصره، فما الذي يمكن أن نتأوّلَه هنا في هذا الأمر؟
أغلبُ الظنِّ، إنّ استعمالَ لفظتي (الصغرى) و(الكبرى)، يقتصرُ على البعدِ الزمني، الذي تستغرقُهُ كلُّ غيبةٍ، ولا يُفضي إلى دلالةٍ أخرى، إلّا بمقدارِ ما في ذهنِ السّامعِ أو القارئ من معرفةٍ بقضيةِ الغيبةِ والبُعدِ الزّمنيِّ. وهذا وجهٌ واحدٌ من وجوهِ غيبةِ الإمام المهديّ (عليه السلام)، وما بقي فيها من دلالاتٍ ربما يفوقُ هذا الوجهَ الذي يتقيدُ بالزّمنِ، فالغيبةُ الأولى على وفقِ وصفِ الإمام عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام)، كان الإمامُ فيها على صلةٍ بأتباعهِ ومواليهِ، ولم تنقطعْ عنهم أخبارُهُ، إذ كانتْ تصلُ إليهم من طريقِ السُّفراءِ الأربعةِ، الذين نهضوا بمهمةِ الإبقاءِ على تلك الصّلةِ، فهو (عليه السلام) غائبٌ وحاضرٌ في آنٍ معاً، غائبٌ عن الناسِ بمكانهِ الخفيّ، حاضرٌ معلومٌ عند السّفراءِ، وما كان يخرج منه من توقيعاتٍ وكتبٍ وأخبارٍ تجعلُ هذه السمةَ سمةً مميزةً لهذه الغيبةِ. وتجعلُها كبرى في حوادثِها وإنْ كانتْ صغرى في زمنها. هذا فضلاً عن أنّ ما واجه الإمامَ (عليه السلام) في ولادتهِ ثم وفاةِ أبيهِ، والصلاةِ عليه مُبعداً عمّه (جعفراً) عن ذلك، تجعلُ هذه الغيبةَ حقاً (كُبرى) وليستْ (صُغرى).
ولا أدلُّ على كِبَرِ حوادثِ هذه الغيبةِ من قولِ الإمامِ عليّ بنِ الحسينِ (عليه السلام) يصفُ بعضاً من حوادثها التي تتصلُ بما يفعلُه (جعفرُ الكذّابُ) المشارُ إليه قبلَ قليل، يقولُ (عليه السلام): «... فسمّوهُ جعفرَ الكذّابَ المفتري على اللهِ والمدّعي لما ليس له بأهلٍ، المخالف على أبيه والحاسد لأخيه...، كأنّي بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمرِّ وليِّ اللهِ، والمغيّبِ في حفظِ اللهِ، والتنكيلِ بحرمِ أبيه، جهداً منه بولادتهِ وحرصاً منه على قتلهِ إنْ ظفرَ به، طمعاً في ميراثِ أبيه حتى يأخذَه بغيرِ حقًّ»(١٤).
وهذه حقاً من الحوادث الكُبرى في هذه الغيبة، فولادةُ الإمامِ (عليه السلام) غيرُ معلومةٍ من أحد، إذ كانتْ خافيةً على عمّه جعفر الذي أراد أنْ يأخذَ ما ليس له بحقٍّ، وهي الإمامةُ. وما أشار إليه الإمامُ (عليه السلام) مما يفعلُه جعفر الكذاب مؤذٍ لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) ولكنّها سنةُ اللهِ تعالى في عبادهِ وفي هذه القضيةِ قضية الإمامة، إذ أنّها تبدأ وتنتهي بابتلاءات، يريدُ اللهُ تعالى أنْ يُمحّصَ عبادَه بها.
ومن هنا ندرك تماماً ما جاء في وسط الرواية من أنّ الإمامَ عليَّ بنَ الحسين (عليه السلام) بكى بكاءً شديداً، وهو يُخبر بما يفعله جعفرُ الكذّابُ(١٥).
أمّا الغيبةُ الثانيةُ، فهي كُبرى أيضاً، لأنّها ترتبطُ بانتظارِ الظهورِ، وهذا قد يأخذُ زمناً، وسيكونُ الزمنُ الذي يأتي بعد الظهورِ كبيراً في حوادثه، فهل سُميتْ هذه الغيبةُ كبيرةً بما تُفضي إليه من حوادثَ بعد الظهورِ؟ أظنّ ذلك، وأظنُّ معه أنّ استعمالَ (الأولى والثانية) للدلالةِ على الغيبتينِ هو الصحيحُ، ولم يبقَ بعد هذا مسوّغٌ لأنْ نذهبَ بعيداً عمّا قرّرهُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) بشأنِ بيانِ دلالةِ الغيبةِ الأولى والغيبةِ الثانيةِ.
فضلُ أهلِ زمانِ الغيبةِ:
يذكر الإمام (عليه السلام) أهلَ زمان غيبةِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) من المسلمين وينعتُهم بنعوتٍ تُظهرُ المنزلةَ الكبيرةَ التي يتبوّؤونها، لأنّهم آمنوا بإمامتهِ ولم يَرَوهُ، وإنّما اعتمدوا على الروايات التي وصلت إليهم، في قضية تُعدّ من القضايا الكبرى في الحياةِ الإسلاميةِ.
ومن هنا جاء حديثُ الإمامِ عليِّ بنِ الحسين (عليه السلام) عن أهلِ زمانِ الغيبةِ. ومن ذلك قولُه: «إنّ أهلَ زمانِ غيبتهِ القائلين بإمامتهِ والمنتظرين لظهورهِ أفضلُ أهلِ كلِّ زمانٍ، لأنّ اللهَ تعالى ذكرُه أعطاهم من العقولِ والأفهامِ والمعرفةِ ما صارتْ به الغيبةُ عندهم بمنزلةِ المشاهدةِ»(١٦). فالإمامُ (عليه السلام) لا يعنيه من أهلِ زمانِ غيبةِ الإمامِ المهدي (عليه السلام) إلا الذين يؤمنون بإمامتهِ وغيبتهِ وينتظرون ظهورَه، وهؤلاءِ أفضلُ من أهلِ الأزمانِ كلِّها، السابقةِ واللاحقةِ بهذين الشرطين، فالأفضليةُ إذن جاءتْ ابتداءً من الإيمانِ بإمامةِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) ومن ثم غيبتِهِ، ومن بعدِ ذلك انتظارُ ظهورهِ. ثم يذكرُ الإمامُ (عليه السلام) فضلَ اللهِ تعالى على أهلِ زمانِ الغيبةِ، بما أعطاهم من العقولِ التي تتدبّرُ ما جاء في رواياتِ أهلِ البيتِ عن الإمامِ المهديّ (عليه السلام)، وتتمثلّها بما يوفّر لها الإيمانَ المطلقَ بغيبتهِ (عليه السلام).
أمّا ما أعطاهم اللهُ تعالى من الأفهامِ، فالمرادُ به إيمانهُم بالغيبةِ من طريقِ الإحساسِ الوجدانيِّ، فالفهمُ في اللغةِ يعني: (معرفتُك الشيءَ بالقلبِ)(١٧)، وهنا يجتمعُ العقلُ مع القلبِ في الاعتقادِ بغيبةِ الإمامِ (عليه السلام)، عند أهلِ زمانِ الغيبةِ، وهذه منحةٌ من الله تعالى وهبها لهم.
ثم يُضيفُ الإمامُ (عليه السلام) ذكرَ ما أعطاهم اللهُ تعالى من المعرفةِ، وهذا يندرجُ في إطارِ المعرفةِ الحقّةِ التي تنتجُ مما تقدّم، أيْ من اجتماعِ العقلِ مع القلبِ في هذه القضيةِ التي تمثّلُ لبَّ العقيدةِ الإسلاميةِ.
إنّ هذه السماتِ التي منحها اللهُ تعالى لأهلِ زمانِ الغيبةِ تجعلهم قادرين على الإيمانِ بها وكأنّها وقعتْ أمامهم وشاهدوها بأعينهم، فصار الغيبُ مشاهدةً، وهذه مرتبة ٌمن مراتبِ الإيمانِ، يمكنُ أنْ تكونَ مصداقاً من مصاديقِ قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة: ٣)، فالإيمانُ بالغيبةِ بعد وقوعِها على النحوِ المشارِ إليه، من سماتِ المتّقينَ الممدوحينَ في هذهِ الآيةِ المباركةِ.
ويضيفُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليهما السلام) صفةً أخرى لأهلِ زمانِ الغيبةِ، مُتمّاً قوله السّابق: «وجعلهم في ذلك الزّمانِ بمنزلةِ المجاهدينَ بينَ يديْ رسولِ اللهِ بالسّيفِ، اُولئك المخلَصونَ حقّاً، وشيعتُنا صدقاً، والدعاةُ إلى دينِ اللهِ سِرّاً وجَهْراً»(١٨).
إنّ أوّلَ ما يمكنُ أنْ يُشارَ إليه هنا، هو مساواةُ الإمامِ عليِّ بنِ الحسين (عليه السلام) بين أهلِ زمانِ الغيبةِ والمجاهدين بين يديْ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حروبهِ، وهذه مرتبةٌ إيمانيّةٌ تُظهر اللطفَ الرّبانيَّ بهؤلاءِ، إذ يكونُ لهم من الثوابِ والرفعةِ وسموِّ المنزلةِ ما يكون لمن حارب في بدرٍ الكبرى وأُحُد والأحزاب... وغيرها من معاركِ تثبيتِ الدينِ وتركيزِ العقيدةِ في النفوسِ. مع ما يعنيه الجهادُ بالسيفِ من مواجهةِ الموتِ في كلِّ حين، ومن دون أيّ شكٍّ فإنّ المعنيَّ من أهلِ زمانِ الغيبةِ، ليس كلَّ من شهد هذا الزمانَ، وإنمّا المعنيّ من تمسك بسيرة أهل البيتِ (عليه السلام) وقاده هذا التمسّك إلى انتظارِ ظهورِ الإمامِ (عليه السلام)، وهنا يتجسّدُ معنى الجهادِ الذي يريدهُ الإمام (عليه السلام) بتوصيفهِ المشارِ إليه.
علامات الظهور:
يشيرُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام) إلى بعضِ دلائلِ ظهورِ الإمام المهدي (عليه السلام) وعلاماتهِ، وهو يجيبُ أحدَ أصحابهِ، فقد سأله (حذلم بن بشير)(١٩) قائلاً: صف لي خروجَ المهديّ وعرّفني دلائلَهُ وعلاماتِه. فقال له الإمامُ (عليه السلام): «يكونُ قبلَ خروجهِ خروجُ رجلٍ، يُقالُ له: عوفٌ السلمي بأرضِ الجزيرةِ، ويكونُ مأواهُ تكريتَ وقتلُهُ بمسجدِ دمشق»(٢٠).
إنّ ما يقولُه الإمامُ (عليه السلام) وما يُخبرُ به حقٌّ واقعٌ لا محالة، فخروجُ هذا الرجلِ المسمّى بـ (عوف السّلمي) من العلاماتِ التي ستقعُ قبل خروجِ الإمامِ المهديّ (عليه السلام). ولكنّنا لا نعرفُ عن هذه الشخصيةِ إلّا هذه الصفةَ التي ذكرها الإمامُ (عليه السلام). بيد أنّ الجهلَ بها لا يمنعُ أن نضعَ تصوراً يمكنُ أنْ نستمدَهُ من قولِ الإمامِ (عليه السلام) نفسهِ، فقد يكونُ هذا الاسمُ (عوف السّلمي) الاسمَ الحقيقيَّ لهذه الشخصيةِ، وقد يُسمّى الشخصُ الموصوفُ بهذا الاسمِ، وليس اسمه هو، ونحن هنا نرجّحُ هذا الوجه، لأنّ صاحبَهُ يُغطّي به شخصيتَهُ الحقيقيةَ، لإبعادِ الخطرِ عنه - مثلاً - في الحركةِ والتنقّلِ والاستعدادِ للخروجِ المشارِ إليه، وهذا أمرٌ مألوفٌ في القديمِ والحديثِ، إذْ يتسمّى بعضُ الناسِ بغيرِ اسمائهم الحقيقيةِ لغاياتٍ كثيرةٍ. يؤيدُ هذا التوجيهَ، استعمالُ الإمامُ (عليه السلام) لعبارة (يُقال له)، ولم يقلْ: (اسمه)، وفي هذا ما لا يخفى من الفرق بين العبارتين.
وثمةَ احتمالٌ آخرُ يمكن أنْ نضيفَه لبيانِ شخصيةِ (عوف السلمي)، وهو أنْ يكونَ الشخصُ المشارُ إليه من أحفادِ الصحابي (عوف السلمي)(٢١) لقربِ المخاطبِ (حذلم بن بشير) من زمانه ومعرفته به، وهذه المعرفة تكفيه، فلا يبحث بعدُ عن إضافة توصيف آخر، كما سنرى ذلك بعد قليل في ذكر السُّفياني ونسبِهِ.
بقي أنْ نشيرَ هنا إلى أنّ خروجَ هذا الشخصِ، غير مكشوفٍ لنا في قولِ الإمام (عليه السلام)، أهو خروجُ هدايةٍ أم ضلالٍ؟ ولكننا نخمّنُ تخميناً أنّه إلى الثانيةِ أقربُ، لأنّه لا يخرج ثائراً على ظلمٍ، وإنما خروجُهُ يدعو إلى نفسهِ، ولو كان غير هذا لما تركه الإمام (عليه السلام) غُفْلاً من التوصيفِ، لأنّ من يخرج منتصراً لحقّ، ويُخبر به الإمام (عليه السلام) سيذكرُ ذلك له، نمطاً من الجزاء الذي يستحقه(٢٢) ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ لخروجِ هذا الشخصِ شأناً وإلّا لما أخبرَ به الإمامُ (عليه السلام). وجعلَ خروجَه علامةً من علاماتِ خروجِ القائم (عليه السلام) ثم يذكرُ الإمامُ (عليه السلام) أَنّ مأوى (عوف السّملي) سيكون في تكريت(٢٣) من أرضِ الجزيرةِ، ووصفُ الإمامِ (عليه السلام) هنا للمكان، يتطابقُ تماماً مع ما تقوله المصادرُ الجغرافيةُ وكتبُ البلدانِ عن أرضِ الجزيرةِّ التي تمتدُّ بين العراقِ والشامِ وتشملُ ديارَ بكرٍ وتصلُ إلى الخابور(٢٤)، وتكريتُ تقعُ على أطرافِ الجزيرةِ. وتنتهي حياةُ هذا الرجلِ بالقتلِ في مسجدِ دمشق، ومسجدُ دمشق يُعرفُ اليوم بالجامعِ الأمويّ، ولكنّ الإمامَ (عليه السلام) أشار إليه باسمه الذي كان شائعاً عصرئذٍ، لأنّ المساجدِ تُنسبُ إلى المدنِ التي تقامُ فيها، وليس إلى الأشخاصِ أو الأُسرِ، كما يُقالُ مسجدُ الكوفةِ ومسجدُ البصرةِ.
ويضيفُ الإمامُ (عليه السلام) علامةً أخرى لظهورِ الإمامِ المهدي (عليه السلام)، بقولهِ: «... ثم ظهور شُعيب بن صالح بسمرقند»(٢٥). فمن شعيبٌ هذا؟.
تذكرُ المصادرُ الإسلاميةُ أخباراً عن شعيب بن صالح، فتقول: إنّه من أهلِ خراسان، ويأتي على رأسِ أربعةِ آلافِ مقاتلٍ، يُقاتلُ السُّفيانيَّ وينتصرُ عليه في الشامِ، ثم يأتي إلى الكوفةِ فإذا ظهر الإمامُ (عليه السلام) في مكة، بعث إليه ببيعته، ثم يكونُ على لوائه. أيْ قائدَه الأوّلَ كما يُعبّرُ عنه في العصرِ الحديثِ(٢٦)، واستناداً إلى هذه الأخبارِ، فاسمُ (شعيب بن صالح) معهودٌ عند السائلِ من قبلُ، لذا جاء ذكرُ الإمامِ (عليه السلام) له بهذه الصّفةِ، على خلافِ ذكرهِ لـ(عوف السّلمي) الذي مرّ بنا قبل قليل إذ وصفه (برجل يُقال له). كما ألمحنا من قبل.
وتأتي العلامةُ الثالثةُ من الإمامِ (عليه السلام) لسائله بقوله: «ثم يخرجُ السّفيانيُّ الملعونُ بالوادي اليابسِ، وهو من ولد عتبةَ بنِ أبي سفيان الملعون، فإذا ظهر السّفيانيُّ، اختفى المهدي، ثم يخرج بعد ذلك»(٢٧).
وشخصيةُ السّفيانُّي هنا، واضحةُ المعالم. إذْ ورثَ صاحبُها من أسلافهِ، بل من سلفه عتبة بن أبي سفيان ما يستحقُ عليه الّلعنَ، لذا أتبع الإمامُ ذكرَه بلفظةِ (الملعون)، ومعلوم أنّ وصفَ الإمامِ له، يبسطُ أمامنا صورتَهُ الحقيقيةَ، إذ سيأتي، حينما يظهرُ، بأفعالٍ تُنافي ما يريدهُ اللهُ تعالى، لذلك استحق هذا اللعن والدعاءَ من الإمامِ (عليه السلام) والإمامُ لا يلعنُ شخصاً - وحاشاه - بدوافعَ ذاتيةٍ، ولا يلعنه لأنّه من نسلِ ملعونٍ، ولكن ما سيقومُ به من فعلٍ يحتّم لعنَهُ. فهذا هو شأنُ السّفيانُّي، الذي سيكون خروجُهُ علامةً حتميةَ الوقوعِ من علاماتِ ظهورِ الإمامِ (عليه السلام)(٢٨).
وقد أعطتنا المصادرُ صورةً لخروجِ السّفيانِّي، وما يفعله بعد خروجه، فهو يخرجُ قبل ظهورِ المهديِّ (عليه السلام) ببضعةِ أشهرٍ، ورايتُه رايةُ ضلالٍ، ويستبيحُ مناطقَ كثيرةً من الشامِ والعراق وربما مصر، ليقاومَ بفعلهِ هذا المدّ الإسلاميَّ الممهّدَ لظهورِ الإمامِ (عليه السلام)(٢٩) ومن هنا نفهمُ الدلالاتِ العقديةَ التي تؤطِّرُ لفظةَ (الملعون) التي وصف بها الإمامُ (عليه السلام) السّفياني، لأنّ ما يقوم به يستحق اللعن عليه كما أشرنا.
بقي أنْ نذكرَ أنّ لعنةَ الإمامِ (عليه السلام) للسُّفيانيِّ تنطوي على تبصيرٍ للمسلمين للحذرِ من رايته. إذ إنّ خروجَه سيكون في زمانٍ، تختلطُ فيه أمورُ الناسِ وأصواتُهم إلى الحدّ الذي قد يصعبُ فيه التمييزُ بين الحقِّ والباطل(٣٠). ومن هنا تبقى إشارةُ الإمامِ (عليه السلام) مع ما ورد وما سيردُ عن الأئمةِ الآخرينَ (عليهم السلام) معطى معرفياً للسائرين على منهجِ أهلِ البيت (عليهم السلام) وولايتهم.
سُنَنُ الأنبياءِ السابقين في الإمام المهدي (عليه السلام):
يذكرُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) أَنّ اللهَ تعالى أعطى الإمامَ المهديّ (عليه السلام) بعضاً من سُننِ الأنبياءِ السابقين بقولهِ: «في القائم منّا سُننٌ من الأنبياء... سُنّةٌ من أبينا آدم وسُنّةٌ من نوح، وسُنّةٌ من إبراهيمَ وسُنّةٌ من موسى، وسُنّةٌ من عيسى، وسُنّةٌ من أيّوبَ وسُنّةٌ من محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٣١).
هنا ملاحظتانِ، نودُّ الإشارةَ إليهما قبلَ النظرِ في تفاصيلِ قولِ الإمامِ (عليه السلام):
الأولى: إنّ الإمام (عليه السلام)، أراد أنْ يُبعدَ الشكّ عن نفوسِ بعضِ المرتابين في زمانهِ والأزمانِ اللاحقةِ، مما سيكونُ للإمامِ المهديِّ (عليه السلام)، لأنّ ما سيكون له، متصل بسنن الأنبياء السابقين، ومشابه لما مرّ عليهم في بعض مراحل حياتهم، واستناداً إلى هذا يتحققُ أمرانِ من قولِ الإمامِ (عليه السلام) هذا: الأوّلُ: ما أشرنا إليه، والثاني، إنّ الإمامَ (عليه السلام) يبسطُ الظواهرَ الكُبرى التي تخصُّ حياةَ الإمامِ المهديَّ (عليه السلام) في التقاطهِ لها، وشدّها إلى ما عند الأنبياءِ السابقين.
الثانية: هي أنّ خمسةً من الأنبياءِ الذين ذكرهم الإمامُ (عليه السلام) هم أولو العزمِ من الرُّسلِ، مع اثنين من الأنبياءِ الآخرين، فكيف نتأوّلُ مرادَ الإمامِ (عليه السلام) من هذا الذكر؟
إنّ الرسولَ الواحدَ من أولي العزمِ يُبعثُ بكتابٍ وشريعةٍ، وكلُّ من يأتي بعده من الأنبياءِ يأخذُ بكتابهِ وشريعتهِ، حتى يجيء رسولٌ ثانٍ من أولي العزمِ، بكتابٍ جديدٍ وشريعة جديدةٍ، فيأخذ بها من يأتي بعده حتى يأتي الآخرُ حتى وصل الأمرُ إلى النبيّ الخاتمِ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي يبقى كتابُهُ القرآنُ وشريعتُهُ إلى يومِ القيامةِ، والإمامُ القائمُ قائمٌ بدينِ جدّهِ وشريعتهِ ومتمسّكٌ بها، وإذا ظهرَ أعادَ من شذّ عن ذلك إلى منهجِ الحقّ.
واستناداً إلى هذا يكونُ الإمامُ المهديُّ (عليه السلام) مستكملاً لرسالاتِ أولي العزمِ جميعاً التي توحّدت في الإسلام بشريعةِ جدّهِ، هذا فضلاً عن أنّه (عليه السلام) سيواجهُ ما واجههُ أولو العزمِ من الرسلِ من أذى الظالمين. وهو يسعى إلى تطبيق ما كُلّف بتطبيقهِ بأمرِ اللهِ تعالى.
إنّ هاتين الملاحظتين الّلتين أشرنا إليهما، تمثلان الإطارَ العامَّ لموازنةِ الإمامِ علي بن الحسين (عليه السلام) بين من ذكره من الأنبياءِ وبين الإمام المهدي (عليه السلام).
أمّا الإطارُ الخاصُّ، فيتمثلُ في انتقائه (عليه السلام) لبعضِ السُّننِ التي جعلها ركائزَ لموازنته. يقول متمّاً قوله السابق: «فأمّا من آدمَ ونوح فطولُ العمرِ، يُطيلُ اللهُ عمرَه في غيبته ثم يظهرُهُ في صورةِ شابٍّ دون أربعين سنة»(٣٢).
يتخذُ الإمامُ (عليه السلام) من عمرِ آدمَ ونوح، مثلاً لطولِ عمرِ المهديِّ (عليه السلام)، من دون تحديدٍ لزمنِ الغيبةِ، لأنّ البيانَ مُنصبٌّ هنا على طولِ العمرِ المطلقِ. فعمرُ آدمَ (عليه السلام) كان تسعمائة وثلاثين سنة(٣٣)، وعمرُ نوح الذي قضاه نبيّاً في قومه، هو تسعمائة وخمسون عاماً كما نطق بذلك القرآنُ الكريمُ في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: ١٤)، وقيل إنّه بُعث نبياً، بعد أن بلغ مائتين وخمسين سنة(٣٤). واستناداً إلى هذه السُّنةِ الإلهيةِ، لا يكونُ عمرُ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) أمراً غريباً، فهو أمرٌ شاء اللهُ تعالى أنْ يُعطيَهُ لبعضِ أوليائهِ، كي تكتملَ الأسبابُ للنهوضِ بما وُكّلَ إليهم. وإذا كان طولُ العمرِ يقودُ إلى الضعفِ والهرمِ والشيخوخةِ، كما بسط الله تعالى ذلك في قوله: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ (النحل: ٧٠)، فإنّ طولَ عمرِ الإمامِ (عليه السلام) لا يمنع من أنْ يُظهره شابّاً دون أربعين سنة، لأنّه سينهضُ بمهمتهِ الربّانيةِ التي تستدعي قوةً ونشاطاً، فضلاً عمّا تستدعيه مدةُ الغيبةِ من ذلك كذلك.
ثم يلتفتُ الإمامُ (عليه السلام) إلى ما أخذه المهديُّ (عليه السلام) من سنّةِ إبراهيم (عليه السلام) فقال: «وأمّا من إبراهيمَ فخفاءُ الولادةِ»(٣٥)، وهنا نقول: إنّ اللهَ تعالى أخفى ولادةَ إبراهيم (عليه السلام)، بعد أنْ أمرَ نمرودُ بقتلِ كلِّ ولدٍ يُولدُ في السّنةِ التي أُخبَر فيها أنّ ملكَهُ يذهبُ على يدِ غلامٍ يُولدُ فيها، «فلما دنتْ ولادةُ إبراهيم، خرجتْ أمُّهُ هاربةً، فذهبتْ به إلى غارٍ، ولفّتهُ في خِرقةٍ، ثم جعلتْ على بابِ الغارِ صخرةً، ثم انصرفتْ عنه»(٣٦)، وتكفّلَ اللهُ تعالى برعايتهِ حتى استقام أمرُهُ. والإمامُ المهديُّ (عليه السلام)، أُخفيَ أمرُ ولادتهِ - أيضاً -، فالخليفةُ العباسيُّ كان يتقصى أخبارَهُ، لأنّه يعرفُ أنّ زمانَ ولادتهِ قد حانَ، وكان يخشى على ملكهِ منه، فضلاً عن إنّ ولادتَهُ تعني تثبيتاً لخلافةِ الأئمةِ الاثني عشر (عليه السلام)، فأراد خصومُهُ قتلَهُ ليُصحّحوا منهجَهم ويُخطّؤوا منهجَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، ومن هنا فإنّ آثارَ الحملِ لم تظهرْ على أمِّ الإمامِ (عليه السلام) حتى ليلةِ ولادتهِ، ولا خفاءَ أبين من هذا(٣٧). ولا تشابهَ أوثق من هذا بين الولادتين، ولادةِ إبراهيم (عليه السلام) وولادةِ الإمام المهدي (عليه السلام).
ويضيفُ الإمام عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) ما أخذه الإمام المهديُّ (عليه السلام) من موسى (عليه السلام) فيقول: «... وأمّا من موسى فالخوفُ والغيبةُ»(٣٨)، فموسى (عليه السلام) بعد أنْ قتلَ القبطيَ وقعَ في خطرٍ عظيمٍ، وأصابه خوفٌ شديدٌ، لأنّ القبطَ وعلى رأسهم فرعونُ سينتقمون منه جزاءَ فعلته هذه(٣٩)، وإلى خوفِ موسى هذا أشارَ القرآنُ الكريمُ بقولهِ تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ (القصص: ١٨)، وقولِهِ تعالى: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص: ٢١)، ثم غابَ عن وطنهِ وهربَ من فرعونَ ورهطِهِ، ولم يظفرْ به أحدٌ، ولا عُرفَ بشخصهِ حتى بعثه اللهُ تعالى نبياً ودعا إليه فعرفه الجميع(٤٠)، والخوفُ هذا، والخشيةُ من الأعداءِ سنّةٌ في الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) أيضاً، فغيبتُهُ ترقّبٌ وانتظاٌر وخشيةٌ، وبعد ظهورهِ يلاحقُهُ السُّفيانيُّ، فيبعث بعثاً «إلى المدينةِ، فيفرّ المهديُّ منها إلى مكة، فيبلغ أمير جيشِ السُّفيانيُّ أنّ المهديَّ قد خرج من المدينةِ فيبعث جيشاً على إثره فلا يُدركه حتى يدخلَ مكة خائفاً يترقّبُ على سُنّة موسى بن عمران»(٤١)، وهذا كلّه يحصلُ قبل أنْ يخسفَ اللهُ تعالى البيداءَ بجيشِ السّفيانيِّ(٤٢). وهنا تظهرُ سنّةُ الله تعالى فيما يواجهُ عبديهِ موسى (عليه السلام) والإمامِ المهديِّ (عليه السلام) ليتحققَ بذلك ما قاله الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام).
أمّا سنّةُ عيسى التي يشتركُ الإمامُ المهديُّ (عليه السلام) معه فيها، فيقول الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام) عنها: «... وأمّا من عيسى فاختلافُ الناسِ فيه فمنهم من يقولُ ما وُلِدَ ومنهم من يقولُ مات ومنهم من يقول قُتلَ وصُلبَ»(٤٣).
إنّ الاختلافَ في عيسى نشأ من أنّهم توهّموا أو أرادوا أنْ يتوهّموا أنّه (عليه السلام) دعا بني اسرائيلَ إلى الإيمانِ باللهِ تعالى وبه رسولاً من عنده، وازدادوا طغياناً وكفراً، وطلبوهُ ليقتلوهُ. ولكنّ بغيَهم لم يُفلحْ، وبعد أن يئِسوا من العثورِ عليه أو الامساكِ به، أدّعوا أنّهم عذّبوهُ ودفنوهُ في الأرضِ حيّاً، وقال آخرون إنّهم قتلوهُ وصلبوهُ... ولكنّ حقيقةَ الأمرِ أنّ اللهَ تعالى رفعه إليه، بعد أن شبّه لهم ذلك. وقد جاء هذا في قوله تعالى في سورةِ النّساءِ: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: ١٥٧ - ١٥٨). وأشارَ الإمامُ الرضا (عليه السلام) أيضاً إلى هذا الذي وقعَ فيه الناسُ بشأنِ عيسى ودلالةِ الآيتين عليه بقوله: «إنّه ما شبه أمرُ أحدٍ من أنبياءِ اللهِ وحُججهِ على الناسِ إلّا أمرُ عيسى وحدَه، لأنّه رُفعَ من الأرضِ حيّاً، وقُبضَ روحُهُ بين السماءِ والأرضِ، ثم رُفعَ إلى السّماءِ ورُدَّ عليه روحُهُ وذلك قولُه (عزَّ وجلَّ): ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ﴾»(٤٤).
إنّ هذا الاضطرابَ الذي وقع فيه الناسُ بشأنِ عيسى، سيحصلُ للإمامِ المهدي (عليه السلام) إذ اختلفَ فيه الناسُ، وشكّكَ الجُهالُ في غيبتهِ. ويشيرُ الإمامُ الصّادقُ إلى هذا الاضطرابِ بقوله «... أما والله ليغيبّنَّ أمامكم سنيناً من دهركم ولتُمحّصنَّ حتى يُقال: ماتَ، قُتلَ، هلكَ، بأيّ وادٍ سلكَ، ولتدمعنّ عليه عيونُ المؤمنين...»(٤٥). ومن هنا ندركُ تأكيدَ أئمةِ الهُدى (عليه السلام) على أهميةِ الصّبرِ في زمنِ الغيبةِ، إذ جُعلَ وزاناً لمعرفةِ إيمانِ المؤمنين. وهذه دلالةُ التّمحيصِ التي وردتْ في قولِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السلام)، وإنّ الصبرَ ركيزةُ إيمان المؤمنين، وهم ينتظرون فرجَ الظهورِ. وقد جاء في الحديثِ النبويِّ «طوبى للصابرين في غيبتهِ، طوبى للمتقين على محجّتِهم، أولئك وصفَهم اللهُ في كتابه وقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾»(٤٦)، ولا شك إنّ الإيمانَ بغيبةِ الإمامِ (عليه السلام) وظهورهِ من مصاديقِ الإيمانِ بالغيبِ الذي أشارتْ إليه الآيةُ المباركةُ.
ثم يلتفتُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام)، إلى النبيِّ أيوب (عليه السلام)، ويخصُّ بلواه، بالذّكرِ، فيقول عمّا أخذهُ الإمامُ المهديُّ (عليه السلام) منه «وأمّا من أيوبَ فالفرجُ بعد البلوى»(٤٧).
وبلوى أيوبَ (عليه السلام) هي المرضُ الذي ابتلاه الله تعالى به مدةَ ثلاث أو سبع سنوات(٤٨)، فصبر على أمرِ اللهِ تعالى. قال (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص: ٤٤)، وهذا الاطراءُ الربّانُّي لصبرِ أيوب، يُظهر عمقَ ما كان يعانيهِ هذا العبدُ الصالحُ في محنتهِ، بعد أن تخلّى عنه الجميعُ، حتى زوجُهُ التي كادتْ تفارقهُ، لولا رحمةُ اللهِ تعالى، فصبرَ وجاءه الفرجُ. والإمامُ المهديُّ (عليه السلام) يشتركُ معه في سُنّةِ البلوى أيْ الاختبار، إذ يبقى غائباً متوارياً ينتظرُ الفرجَ الموعودَ به، ومن هنا حثّ أهلُ البيتِ (عليه السلام) على التّمسكِ بالدعاءِ بالفرج كما سيردُ بعد قليل.
ويختمُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) إشاراتهِ إلى ما أخذه للإمام المهديُّ (عليه السلام) من الأنبياءِ (عليهم السلام) بما أخذه من سُنّةِ جدّهِ النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: «وأمّا من محمّد فالخروجُ بالسيفِ»(٤٩).
إنّ الأنبياءَ السابقين الذين بعثهم اللهُ تعالى إلى أقوامِهم، ما خاضوا حروباً من أجلِ نشر ما يدعون إليه، وإنّما قاموا مع أقوامهم يدعون بالحجّةِ والبرهانِ، حتى يحينُ وقتُ رحيلهم إلى الله تعالى. أما النبيُّ محمدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسنَّ الله تعالى له مقاومةَ المناوئين لدينِ الله تعالى، ولم يكتفِ بالمحاججةِ والبرهانِ، وإنما قاوم أعداءَ الدّين بالقتالِ، حتى انتصر الإسلامُ، وبسط فيئَه على بقاع الأرض، والإمامُ المهديُّ (عليه السلام)، مكلّفٌ من الله تعالى بالسيرِ على نهج جدّه، بالخروجِ بالسيفِ وقتالِ أعداءِ اللهِ تعالى، الذين يقفون قُبالَ دعوةِ الحقّ التي يُنهضه الله تعالى للقيام بها، ولا يمكنُ إزالةُ الظلمِ والجورِ الذي يملأ الأرضَ، وبسطُ العدلِ والقسطِ إلّا بالجهادِ بالسّيفِ. وهذا هو الوصفُ المشتركُ بينه وبين جدّه النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذا الوجهِ الذي أراده الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام).
بقيَ أنْ نشيرَ هنا إلى إنّ السيفَ، لا يعني آلةَ الحربِ المعروفةِ فقط، وإنمّا يكون كنايةً عن أسبابِ القوّةِ كلّها التي ستسودُ في زمنِ الظهورِ، إذْ لا بدّ من مواجهةِ الأعداءِ بأسلحةٍ مناظرةٍ لأسلحتهم أو متفوقةٍ عليها، حتى يكون النصرُ عليهم على وفقِ الأسبابِ التي يُسخرها الله تعالى للإمامِ (عليه السلام) في زمنِ ظهورهِ.
أصحابُ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام):
يشيرُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام) في قولٍ آخرَ إلى عدّةِ أصحابِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام)، الذين يظهرون بظهورهِ، ويكونون ذوي شأنٍ عظيمٍ في دولته، إذْ ينهضون بمهمةِ قيادةِ الدولةِ الإلهيةِ التي يُقيمها، يقولُ عن عددهم: «المقعَدون عن فُرُشِهم ثلاثمائةُ وثلاثةَ عشرَ رجلاً عدةَ أهلِ بدرٍ»(٥٠).
إنّ ما ينبغي أنْ نشير إليه أولاً، إنّ الإمامَ (عليه السلام) استعمل عبارةَ «المقعَدون عن فُرُشهم» كنايةً عن استعدادهم من قبلُ للخروج حينما يحينُ الحينُ. حتى إذا جاء الوعدُ، قعدوا عن فُرُشهم. والمقعدُ في اللغةِ: اسمُ مفعولٍ للفعل (قَعَدَ)، وهو الذي يتكلفُ غيرُه بإقعاده، فهؤلاء إذاً لهم من يُقعدهم عن فُرُشهم.
وما داموا هم ينتظرون ظهورَ الإمام (عليه السلام) فأقعدهم إذن زمنُ الظهور، بل لحظتُه، وقليلٌ من التدبّرِ في قولِ الإمام (عليه السلام)، يكون علمُ هؤلاءِ بزمنٍ واحدٍ، لأنّهم سيجتمعون في مكة عند الصباح(٥١)، فيكون هذا العلمُ الربّانيُّ هو الذي يُقعدهم عن فُرُشهم فصاروا مقعدون.
أمّا التركيزُ على ذكر الفُرُش، فيومئ إلى إنّ هؤلاءِ الأصحابَ يودّعون حياةَ الدّعةِ والهدوء، ويستعدون لما سيُقبلون عليه من مهماتٍ ربّانيةٍ تستدعي جهاداً متصلاً، على الرغم من أنّ حياتهم من قبلُ هي حياةُ مكابدةٍ وعبادةٍ وجهادٍ، ولكنّ ما ينتظرهم وقتئذٍ يجعل ما كانوا فيه من قبلُ دِعة وهدوءً، فجاء ذكرُ (الفراش) ليوازنَ بين نمطين من الحياة لهذه الفئةِ المنتخبةِ من الله تعالى.
واستناداً إلى هذا، فإننا سنصرفُ النظرَ عن روايةِ النّصّ الأخرى «والُمقعدون في فرشهم»(٥٢)، لأنّ زمنَ الخشيةِ والترقّبِ والانتظارِ قد انتهى، وظهر الإمامُ (عليه السلام)، فلا مسوّغ إذن لأن تكون العبارةُ على هذا النحو، لمعرفتنا بنهجِ الإمام (عليه السلام) ودقتهِ في استعمالِ الألفاظِ على وفقِ ما بيّناه فيما سبق. لأنّ قِدمَ المصدرِ، قد لا يكون كافياً أحياناً للوقوف على النّصّ الموثوق. إذا رجّحتْ اللغةُ توجيهاً آخر هو الأقربُ إلى لغةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، فهم أربابُ الكلامِ.
ويذكرُ الإمامُ (عليه السلام) أن عدةَ هؤلاءِ القادةِ هي ثلاثمائة وثلاثة عشر، عدة أهلِ بدرٍ، ومقاربة كذلك معرفيةٌ لهذا الجزءِ من النصّ تقودُنا إلى القول: إنّ استحضارَ الإمامِ (عليه السلام) لعبارةِ أهلِ بدرٍ وهو يذكرُ العددَ، يُحيلنا إلى الاستنتاجات الآتية:
أولاً: إنّ إيمانَ أهلِ بدرٍ الراسخَ هو الذي قادهم إلى النصرِ العظيمِ الذي كان فتحاً ربانياً من فتوحاتِ الإسلام. فلم يُبالوا بعددِ المشركين وحقدِهم وعدّتِهم. وهذا عينُه ما سيكون عليه أصحابُ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام)، فهم سيضطلعون بمهمةٍ تُوازي ما قام به أهلُ بدر. لأنّهم سيرسخون قواعدَ دولةِ العدلِ الإلهيِّ التي يقودها الإمامُ المهديُّ (عليه السلام) من دون أن يُبالوا بخصومِهم وعددِهم وعدّتهم.
ثانياً: إنّ معركةَ بدرٍ كانتْ بدايةً لتطبيقِ شرائعِ الإسلامِ المكتملةِ، بعد أنْ كُسرتْ شوكةُ قريش، وظهورُ الإمامِ (عليه السلام) مع أصحابه يُومئ إلى تطبيقِ تلك الشرائعِ، بعد أنْ يعمَّ الظلمُ والجورُ الأرضَ، ومن هنا تلتقي موقعةُ بدر بظهورِ الإمامِ (عليه السلام)، وكان ذكرُ عددِ الأصحابِ مسوّغاً لهذه الموازنةِ المعرفيةِ، إذ لو كان الأمرُ يتصلُ بذكرِ العددِ فقطْ لاكتفى الإمامُ بذكره لوحدهِ، ولكنّ التصريحَ بذكرِ أهلِ بدرٍ هو ما يُغري أيَّ مُتدبّرٍ بالذهابِ إلى التقاطِ ما يمنحهُ هذا الذّكرُ من وجوهٍ تجعل المقارنةَ أسّاً معرفياً، يستمد مشروعيتَه من ذلك التصريحِ.
ثالثاً: إنّ الإسلامَ بدأ غريباً ثم يعود غريباً، والغرابةُ هنا تعني قلةَ الصالحين، فكما كانوا قلةً في بدايةِ الإسلامِ، إذْ انّ عددَ أهلِ بدرٍ هو عددُ المسلمين (عدا الصّبيان والنساء والمرضى) وهذا هو عددُ أصحابِ الإمامِ (عليه السلام) الذين سيكونون غرباءَ كغُربةِ أهلِ بدرٍ، وقد ورد حديثٌ نبويٌّ يحمل هذا المضمونَ الذي نقولُ به وفيه «بدأ الإسلام غريباً، ثم يعودُ غريباً فطوبى للغرباء، قيل يا رسولَ الله، ومن الغرباءُ، قال: الذي يصلحون إذا فسدَ الناسُ»(٥٣).
وإن قيل إنّ المرادَ بالغربةِ هنا قلةُ المسلمين، فهذا أيضاً يتوافق مع ما يُراد من الموازنةِ بين أهلِ بدرٍ وأصحابِ الإمامِ القائم (عليه السلام)(٥٤).
بيد أنّ دلالةً أخرى تُظهرُ نفسَها أمامنا، وهي أنّ المرتبةَ التي تكون لأصحابِ الإمامِ القائمِ (عليه السلام) تُوازي المرتبةَ التي خصّ اللهُ تعالى بها أهلَ بدرٍ، فهذان الصّنفان من المسلمين هما خيار هذه الأمة في البدايةِ والخاتمةِ بعد استثناء اصحاب الحسين (عليه السلام) للدليل الخاص.
من مشاهدِ ظهورِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام):
أخبر الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) - ببعضِ الحوادثِ والفتنِ التي تكون في آخرِ الزمانِ، قبل ظهور الإمام المهديِّ (عليه السلام)، وهي من الأمورِ الغيبيّةِ التي كان أئمّةُ أهل البيتِ يُخبرون المقرّبين من أصحابهم بها، ليشدّوهم إلى عقيدتهم، وليضعوهم في دائرةِ الانتظارِ والترقبِ لظهور الإمام (عليه السلام)، فقد ورد أنّ الإمامَ عليَّ بنَ الحسينِ (عليه السلام)، أخبر أبا خالدٍ الكابليِّ(٥٥) عن بعضِ تلك الحوادثِ بقوله: «يا أبا خالد لتأتيّنَ فتنٌ كقطعِ الليلِ المظلمِ لا ينجو إلّا من أخذَ اللهُ ميثاقَهُ أولئك مصابيحُ الهدى وينابيعُ العلم ينجّيهم اللهُ من كلّ فتنةٍ مظلمةٍ، كأني بصاحبكم قد علا فوق نجفِكم بظهرِ كوفان في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله وإسرافيل أمامه، معه رايةُ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد نشرها لا يهوي بها إلى قومٍ إلا أهلكهم اللهُ (عزَّ وجلَّ)»(٥٦).
يشبّهُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ الفتنَ التي تسبقُ ظهورَ الإمامِ المهديِّ بقطعِ الليلِ المظلمِ، الذي لا يُبصرُ الإنسانُ فيه طريقَهُ، فيبقى يتخبّطُ من دون هَدْيٍ أو رشادٍ، وليس بمقدورهِ النجاةُ مما هو فيه، ولكنّ الله تعالى يُنجّي من أخذ ميثاقه، من أمواجِ بحارِ الفتنِ، وهؤلاء هم مصابيحُ الهدى التي يهتدي المسلمون بنورها في دياجيرِ الظلامِ، وهم ينابيعُ العلمِ، فعلمهم يتدفقُ كما يتدفقُ الماء من الينابيعِ، وهذه الاستعارةُ المكنيّة أسبغتْ على قول الإمام (عليه السلام) حيويّةً، من خلال جعلِ الحياةِ مرتبطة بعلمهم كما يرتبطُ الماءُ بالينابيعِ، فصار علمُ هؤلاءِ عنواناً للحياةِ، واستناداً إلى هذا صارتْ نجاتُهم من كلِّ فتنةٍ مظلمةٍ وعداً من الله تعالى، وهؤلاء هم أصحابُ الإمامِ المهديِّ المعروفينَ بصفاتهِم وأوصافهِم، فهم من الأولياء الذين محّصهم الله تعالى لهذه المرتبةِ، فاختيارهُم اختيارٌ ربّانيٌّ، ونجاتُهم من الفتنِ مشيئةٌ ربانيّةٌ شاء أنْ يجعلَها تمهيداً لظهورِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام).
ثمّ يلتفتُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) إلى توصيفِ ظهورِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام)، ويختارُ جملةَ (كأنّي بصاحبِكم) في إشارتِهِ إليهِ، وهذهِ الإشارةُ تُجسّدُ العهدَ بانتظارِ هؤلاءِ الأصحابِ لصاحبهم المعهودِ المنتظرِ، فجاء الإخبارُ بهذه الصيغةِ ليؤكّدَ العهدَ الذي يعرفهُ السائلُ (أبو خالد الكابليُّ) ومن يصلُ إليه حديثُ الإمام (عليه السلام). وفي هذا بيانٌ جليٌّ لهاجسِ الانتظارِ الذي يُشكّلُ ركيزةً من ركائزِ العقيدةِ المهدويّةِ.
ويبيّن الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ الموقعَ الجغرافيَّ لظهورِ المهديِّ (عليه السلام)، حيثُ يعلو النجفَ الذي بظهرِ الكوفةِ، وهذا التوصيفُ واضحُ الدلالةِ على المكانِ المعلومِ، فالنجفُ «بظهر الكوفة، كالمسنّاةِ تمنعُ مسيلَ الماءِ أنْ يعلو الكوفةَ ومقابرَها، وبالقربِ من هذا الموضعِ قبرُ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب المشهور»(٥٧)، والملاحظُ أنَّ الإمامَ (عليه السلام) استعمل لفظة (نجفكم) ليدلَّ بذلك على انشدادِ المسلمين إلى هذه الأرضِ التي تحتضنُ جسدَ الإمامِ عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، والتي ستكونُ موطناً لإدارةِ دولةِ الإمام المهدي (عليه السلام).
وعلى الرغم من وضوحِ الدلالةِ على (النجف) المعلومة، فإنَّ الإمامَ (عليه السلام) أضاف إليها (بظهر كوفان) أيْ ظهر الكوفة، لتتسعَ الدلالةُ فتشملَ الظهرَ كلّه، وهنا تدخل كربلاءُ ضمناً بهذه الإضافة، استنادا إلى ما قاله الإمامُ عليٌّ (عليه السلام) عن مقتلِ الحسين (عليه السلام): «بأبي وأمي الحسينُ المقتولُ بظهرِ الكوفةِ»(٥٨). ومن هنا فإنّ مركزَ دولةِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) سيكون الكوفةُ بحدودها القديمةِ وظهرها مع كربلاء، ويمكنُ أنْ نضعَ حدوداً تقريبيّةً لهذا المركز استناداً إلى ما تقوله كتبُ البلدانِ عن هذه المواضعِ، فنقول من الشمالِ تكونُ الحدودُ شمالَ مدينةِ كربلاء الحاليةِ بـ(٢٥كم)، لأنّ كربلاء تعني قبر الحسينِ (عليه السلام)، وحدودُ القبرِ الشريفِ بيّنها الإمامُ محمّدُ الباقرُ بقوله: «حريمُ قبرِ الحسين (عليه السلام) خمسةُ فراسخ من أربعِ جوانبِ القبرِ»(٥٩)، ومسافةُ الفراسخِ الخمسةِ تساوي تقريباً مسافة ال(٢٥كم). ويكون الحدُّ من الجنوبِ جنوبَ مدينةِ النجفِ الأشرفِ الحاليّةِ بما يزيد قليلاً عن (٧٠كم)، حيث حدودُ الكوفةِ القديمةِ. أمّا الحدُّ الشرقيُّ فهو نهرُ الفراتِ، وهو ما يُعرفُ اليومَ بـ(نهر الحلة)، أمّا الحدُّ الغربيُّ فهو ما يعرفُ اليوم بـ(الطار) الذي يفصلُ أرض الجزيرةِ عن أرضِ العراقِ، وهو ما يُسمّى بالطفَّ، والطفُّ في اللغةِ تعني: «ما أشرفَ من أرضِ العربِ على ريفِ العراقِ... وطفُّ الفراتِ شطّهُ... سُمّي به، لأنّهُ طرف البرِّ مما يلي الفرات، وكانتْ تجري يومئذٍ قريباً منه»(٦٠).
إنّ هذا التحديدَ لمركز دولةِ الإمام المهديِّ (عليه السلام) الذي استنبطناهُ من حديثِ الإمامِ عليِّ بن الحسين (عليه السلام)، يتوافق تماماً مع ما ورد عن أهل البيتِ (عليهم السلام) أو قريبٍ منه، ومن ذلك ما جاء عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) بشأن الكوفةِ في دولةِ الإمام المهديِّ (عليه السلام)، حيث قال: «دارُ ملكهِ الكوفةُ... وليصيرنَ الكوفةَ أربعةً وخمسين ميلاً وليجاورنَّ قصورها كربلاء»(٦١).
ثم يذكرُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) عددَ أصحابِ الإمامِ المهديِّ -كما مرّ بنا من قبلُ- ولكنّه (عليه السلام) يضيفُ إليهم هنا رؤساء الملائكةَ المقرّبينَ(٦٢)، ويبيّنُ مسيرَهُم معَ جيشِ الإمامِ (عليه السلام) على وفقِ مكانتهم المعهودةِ عند المسلمين، جبرائيلُ فميكائيلُ فإسرافيلُ (عليهم السلام).
وهذا التحديدُ المكانيُّ لمسيرِ رؤساءِ الملائكةِ يُظهرُ العنايةَ الربانيّةَ التي تغمرُ الإمامَ المهديَّ وأصحابه. وقد يكونُ مرادُ الإمامِ (عليه السلام) التأييدَ الإلهيَّ المطلقَ الذي يتمثلُ بـ(الملائكة)، وهنا يُصبحُ تحديدُ مسيرِ رؤساءِ الملائكةِ في جيشِ الإمام ضرباً من التوكيدِ المعنويِّ لذلك التأييدِ الذي أراده الإمام في دعائه (وانصره بملائكتك) كما مرّ بنا في موضعٍ سابقٍ من البحث.
ثمَّ يُضيفُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ، أنَّ رايةَ الرسولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ستكونُ مع الإمامِ المهديِّ، وهذا وجهٌ من وجوهِ التطابقِ التامِ بين قتال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمشركين وبين قتالِ الإمامِ المهديِّ لأعداءِ الدينِ بعد ظهورهِ، إذْ أنَّ اللهَ تعالى يريدُ أنْ تُقامَ دولةُ العدلِ الإلهي في آخرِ الزمان، فتكون رايةُ النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رمزاً لها. لأنّ هذه الدولةَ هي المظهرُ الثاني لتلك الدولةِ، لما بين الدولتين من تطابقٍ تامٍّ.
ثمّ يذكرُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) أنّ المهديَّ (عليه السلام) لا يهوي برايةِ جدّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى قومٍ إلّا أهلكهم الله (عزَّ وجلَّ)، وهلاكُ من يهلكُ بالرايةِ يكونُ من وجهين، إمّا أنْ تكونَ المعجزةُ الربانيّةُ حاضرةً، فيكون هلاكُ الأعداءِ بالإشارةِ إليهم فقطْ، وإمّا أنْ تكون إشارةُ الإمام موجهةً لجيشهِ ليقاتلَ هؤلاء أو أولئك فيُهلكهم بوسائلِ القوّةِ التي يمتلكُها وليس بمقدورهم مواجهتها، مع حضورِ المددِ الربانِّي بالملائكةِ المقرّبين وبجندِ السماءِ، كما مرّ بنا في موضعٍ سابقٍ من البحثِ، وفي الحالتين يكونُ النصرُ لجندِ الرايةِ المباركةِ المشار إليها.
الدعاء للإمام المهدي (عليه السلام):
اهتمّ أهلُ البيتِ (عليهم السلام) بالدُّعاءِ بتعجيلِ فرجِ ظهورِ الحجّةِ بنِ الحسنِ (عليه السلام) في كلِّ حينٍ، وأمروا بذلك أتباعهم، بل إنّ الإمامَ المهديَّ (عليه السلام) أمر بهذا الدعاء في التوقيع الذي خرج منه، إذ يقول فيه: «... وأكثروا الدعاءَ بتعجيلِ الفرجِ، فإنّ ذلك فرجكم»(٦٣).
والدعاءُ للإمامِ (عليه السلام) هنا عبادةٌ من وجوهٍ:
الأول: إنّ الدعاءَ بعامةٍ هو وجهٌ من وجوهِ العبادةِ قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: ٦٠).
الثاني: إنّ الدعاءَ للإمام (عليه السلام) هنا يعني رسوخَ هذه العقيدةِ في النفسِ، وإنّ صاحبَها حيٌّ غيّبهُ اللهُ تعالى، والدعاءُ توسُّلٌ باللهِ من أجلِ إحقاقِ الحقِّ والتفريجِ بظهورهِ. وفي هذا ردّ على المرجفينَ الذين يقولون بغيرِ هذا في الماضي والحاضرِ والمستقبلِ.
الثالث: يبقى الإنسانُ المسلمُ مُرتبطاً في كلِّ حينٍ بهذه القضيّةِ العقديّةِ التي تشكّلُ ركيزةً من ركائزِ الدين، لأنّها جزءٌ من قضيّةِ (الإمامة) التي تشكّل أصلاً من أصولِ الدينِ، ومن هنا فإنّ الاستمرارَ بالدعاءِ لطلب الفرجِ، يعني بقاءَ المسلمِ في هذه الدائرةِ المرغّبِ فيها من الأئمةِ (عليه السلام).
ولا بأسَ من الإشارةِ هنا -وفي الإطارِ نفسهِ- إلى انّ أدعيةَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) لا تهتم بشؤونِ الدنيا إلّا بالقدرِ الذي يجعل الدنيا سبيلاً إلى الآخرةِ، ومقدمةً لها. ومن هنا يكون الدعاءُ للإمام المهديِّ (عليه السلام) والدعاءُ بتعجيلُ الفرجِ بظهورهِ من الوسائلِ المثمرةِ لقيامِ دولةِ العدلِ الإلهيِّ في المشوارِ الذي تنتهي فيه الدنيا ويؤولُ الأمرُ إلى آلِ محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وقد خصّ الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام) الحجةَ بنَ الحسن (عليه السلام) بضروبٍ من أدعيتهِ الربّانيةِ التي تسيرُ على وفقِ هذا التوصيفِ الذي أراده الله تعالى لوليّه، وستتكفلُ القراءة التأويليةُ فيها، ببيانِ بعضِ ما كان الإمامُ (عليه السلام) يريدهُ لحفيده الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) من جهة، ولشيعته من جهةٍ أخرى.
يقولُ الإمامُ (عليه السلام) في أحدِ أدعيته: «الّلهم فأوزعْ لوليّك شكرَ ما أنعمتَ به عليه وأوزعنا مثله فيه، وآته من لدنك سلطاناً نصيراً، وافتحْ له فتحاً يسيراً، وأعنه بركنك الأعزّ وأشدُدْ أزرَه»(٦٤).
يبدأُ الإمامُ (عليه السلام) دعاءه للإمامِ المهديِّ (عليه السلام) بالفعلِ(أوزع)، وهذا الفعلُ فيه من الدلالةِ، ما يكشفُ عن دقةِ استعمالِ الإمامِ (عليه السلام) لمفرداتِ لغتهِ، وتوخّيهِ كلِّ ما يُظهرُ عبوديتَهُ للهِ تعالى في أتمِّ معانيها، وهو في محرابِ التذلّلِ والخضوعِ والعبادةِ لربّ العالمين. فالجذر (وزع) يُعطينا الدلالاتِ الآتيةِ التي تتواءم مع السِّياقِ الذي ورد فيه الفعلُ(٦٥):
١- أوزعه الشيءَ: ألهمهُ إيّاهُ.
٢- أوزع بالشيء يوزعُ إذا اعتاده وأكثر منه وأُلهِمَهُ.
٣- ربِّ أوزعني أنْ أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ... وتأويلُهُ في اللغةِ كُفّني عن الأشياء إلّا عن شكرِ نعمتِكَ، وكُفّ عمّا يُباعدني عنك.
إنّ هذه الدلالاتِ تقودُنا إلى القولِ: إنّ دعاءَ الإمامِ عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام) للحجّةِ بنِ الحسن (عليه السلام) ولنفسهِ، أنْ يكونَ شكرُه إلهاماً من الله تعالى، وأنْ يكونَ هذا الشكرُ كافياً لهما عن الأشياءِ كلّها إلّا عن شكرِ ما أنعمَ به عليهما من نِعمٍ تتمثّلُ في الخلقِ كلّه. ومن هنا، سيكونُ الإمامُ (عليه السلام)، كما يريد، في هذا التوجيهِ في شكرٍ دائمٍ لله تعالى، لأنّ كلَّ ما يراهُ ويسمعُ به ويُحسُّهُ في المخلوقاتِ كلِّها هو من نِعَمِ اللهِ تعالى. والشكرُ الدائمُ يقودُ صاحبَهُ إلى التمسّكِ بمنهجِ اللهِ تعالى من دون فتورٍ أو توانٍ. فيُصبحُ الشكرُ هنا ضرباً من العبادةِ، لأنّ شكرَ المنعمِ واجبٌ عقلاً، وإذا كان الشكرُ إلهاماً من الله تعالى، صار ديدناً للإنسانِ في كلِّ حينٍ، ويكونُ عن بصيرةٍ ورويةٍ وادراكٍ، وهذا ما تمنّاه الإمامُ (عليه السلام) في دعائه.
ثم يأتي قوله (عليه السلام): «وآتهِ من لدنكَ سُلطاناً نصيراً».
وهنا يدعو الإمامُ (عليه السلام) لقائمِ آلِ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بأنْ يكون السّلطانُ الناصرُ له من لدنِ اللهِ تعالى، والسّلطان في اللغة يعني ما يأتي(٦٦):
١- السّلطان: الحجةُ والبرهانُ.
٢- السّلطان: قدرةُ اللهِ تعالى وقدرةُ من جعل ذلك له.
٣- السّلطان: سلطانُ كلِّ شيء قدرتُه وحجّتُه وبرهانُه.
فالإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) يدعو للإمامِ المنتظرِ (عليه السلام) بأنْ تكون قدرتُه مستمدّةً من قدرةِ اللهِ تعالى في القوّةِ الماديّةِ وقوّةِ الحجّةِ والبرهانِ الذي يأتي به رديفاً لمظاهرِ قوّتِه الأخرى، وهنا يتجسّدُ السّلطانُ المذكورُ في هذا الجزءِ من الدعاءِ. ومن هذا يمكنُ أنْ نخلصَ إلى أمرٍ آخر، وهو أنّ الإمامَ المهديَّ (عليه السلام) يقارعُ من يعترضَ دعوتَه بالحجّةِ والبرهانِ القاطعِ ليقنعَه بالاستجابةِ إلى دعوةِ الحقِّ الإلهيِّ التي ينهضُ بها، فإنْ لم يرضَ المواجهون له بما يقدّمهُ (عليه السلام) لهم من الحججِ الواضحةِ والبراهين الساطعةِ، يُواجههم بالقدرةِ الربانيّةِ التي وهبها اللهُ تعالى له. وهذا هو الحقُّ والإنصافُ الذي يتجسّدُ في سِيَرِ أهل البيتِ (عليهم السلام).
بقيَ أنْ نقولَ في هذه الجزئيّةِ من الدعاءِ: إنّ استعمالَ الإمامِ للفظةِ (لدن) تُعطي للدعاءِ خصوصيةً، لا يُوفّرها استعمالُ (عند)، التي لو استعملت لكان النصرُ بمعونة آخر يرسلُهُ اللهُ تعالى، ولكنّ (لدن) حصرت نصرَ الإمامِ (عليه السلام) باللهِ تعالى بشكلٍ مباشرٍ، مثل أنْ يكون النصرُ بمددٍ من الملائكةِ، يكلّفهم الله تعالى بتحقيقه على النحو الذي تحقّق في بدر والأحزاب وحُنين، إذ أعانت الملائكة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في انجاز النصر، كما مرّ في موضعٍ سابقٍ من البحثِ وسيأتي غيرُه إنْ شاء الله تعالى، وقراءةُ الرواياتِ الموثوقةِ عن ظهورِ الإمام المهدي (عليه السلام) واقامةِ دولته تُنبئ بوجاهةِ هذا التوجيهِ، إذ يكون المددُ الربانُّي المباشرُ حاضراً ومسانداً للإمام (عليه السلام) في خطواتهِ كلّها.
أمّا قوله (عليه السلام): «وافتح له فتحاً كبيراً»، فعودتُنا إلى الاستعمالِ الاجتماعيّ لأظهرِ ألفاظِ (الفتح) تُهيّءُ لنا سبلَ تأويله. جاء في لسان العرب تحت الجذر (فتح) ما يأتي(٦٧):
١- الفتحُ: الماءُ الجاري على وجهِ الأرضِ.
٢- الفتحُ: النهرُ.
٣- الفتحُ: النصرُ.
٤- الفتحُ: القيامةُ.
أمّا معاني اليُسر فهي على النحوِ الآتي(٦٨):
١- اليسرُ: اللينُ والانقيادُ.
٢- اليسرُ: سمحٌ، سهلٌ، قليلُ التّشديدِ.
يرتبطُ معنى الفتحِ في هذا المقطعِ من دعاءِ الإمامِ عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام) بالنصرِ الذي سيتحققُ للإمامِ المهديِّ (عليه السلام) بيُسرٍ وسهولةٍ ورفقٍ ولينٍ وأناةٍ. لأنّ منهجَ الإسلامِ الرحمةُ. وقد يتحققُ هذا بهدايةِ الخلقِ واتباعهم للإمامِ القائمِ (عليه السلام). أمّا من يأخذه العنتُ والطغيانُ، فيكون نصرُ الإمامِ (عليه السلام) بقوّتهِ، ولكنّها قوةُ أصحابِ الرحمة والرأفةِ، وليست قوةَ الطغاة كالسفياني مثلاً، إذ لا ينفعهُ ما فيه من جبروتٍ، ويتحققُ النصُر للإمام (عليه السلام) عليه بهذا اليُسرِ المشارِ إليه في الدعاءِ(٦٩).
أمّا ما بقيَ من معاني النصرِ، فهي تشكّلُ الوجهَ الباطنَ لدعاءِ الإمامِ (عليه السلام)، فالنهرُ أو الماءُ الجاري على وجهِ الأرضِ، هو عنوانُ الحياةِ لأنّ اللهَ تعالى جعلَ الحياةَ لكلِّ شيء من الماء ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء: ٣٠)، وهذه الحياةُ تتمثلُ في أنّ الأرضَ تُخرجُ كنوزها للقائم (عليه السلام)، فيعيش الخلقُ في بحبوحة ربانيّةٍ بعد أن يُظهرَ اللهُ تعالى دينَهُ على الدينِ كلّهِ. يقولُ الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) عن أيّام الإمام المهديِّ (عليه السلام): «يُحيي اللهُ به الأرضَ بعد موتها، ويُظهر به دينَ الحقّ على الدينِ كلّه»(٧٠)، وهذا القولُ يتناغم مع سياقِ الآيةِ المباركةِ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاء إلى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (السجدة: ٢٧ - ٢٨)، إذ ذهب بعضُ المفسرين إلى القولِ إنّها تنطبقُ على ظهور القائم من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيكون الفتحُ فيها محقِّقاً للأمرين معاً، ظهورِ الإمامِ (عليه السلام) وظهورِ خيراتِ الأرضِ في دولته.
وإذا اعترض مُعترِضٌ وقال: إنّ القسم الآخر من المفسرين، ذهب إلى توجيه دلالة الآية إلى فتح مكة(٧١)، فنُحيل إلى ما قاله السيد الطباطبائي حينما قطع بعدمِ استجابةِ الآيةِ لهذا التوجيهِ وإنمّا يكونُ مصداقُها الرئيسُ هو القائمَ من آلِ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(٧٢). وقد ورد عن الإمامِ عليٍّ (عليه السلام) إنّ الذين يثبتون على الدينِ في غيبةِ الإمامِ (عليه السلام) يُؤذَون «ويُقالُ لهم: متى هذا الوعدُ ان كنتم صادقين، ألا إنّ الصابرَ في غيبتهِ على الأذى والتكذيبِ، بمنزلةِ المجاهدِ بالسّيفِ بين يدي رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٧٣)، واستناداً إلى قولِ الإمامِ (عليه السلام) هذا فإنّ ظهورَ القائمِ (عليه السلام) يكون بحقٍّ فتحاً كبيراً بدلالاتِ الفتحِ كلّها، للصابرين على الدّينِ الحقِّ، فيتحققُ بذلك الوعدُ الإلهيُّ بنصرهِ، وتقعُ الاستجابةُ لدعاءِ الإمامِ عليِّ بن الحسينِ (عليه السلام) آنئذٍ.
ونتريثُ الآن قليلاً عند الجزءِ الأخيرِ من دعاءِ الإمامِ (وأعنه بركنِك الأعزّ وأشدُد أزره). لنقولَ: إنّ ركنَ اللهِ تعالى هو أشدُّ الأركانِ وأقواها وأعزّها، والعزيزُ الذي لا يغلبه شيءٌ، فيكون نصرُ اللهِ تعالى للإمامِ (عليه السلام) قائماً مستديماً، ليس نصراً في معركةٍ، يحصلُ فيها وقد لا يحصلُ في غيرها، إنّما هو النصرُ الدائمُ الموعود به الإمام (عليه السلام).
بيد أنّ ثمة إشارة هنا تُغرينا بذكرِها، وهي إنّ الإمامَ (عليه السلام) لم يشأ أنْ يجعل ركن الله تعالى الأشدَّ وإنّما جعله الأعزَّ، لديمومةِ العونِ له، مع عزٍّ دائمٍ لا يفارقهُ. لأنّ الرفعةَ والمنعةَ والامتناعَ والغلبةَ مقرونةٌ بركنِ اللهِ تعالى.
أمّا قولُه (عليه السلام): «وأُشدد أزرَه»، فالجذر (أزر) يُعطينا الدلالاتِ الآتيةِ بعد العودةِ إلى المعجم العربيّ(٧٤):
١- الأزرُ: القوةُ.
٢- الأزرُ: الضعفُ.
٣- الأزرُ: الظهرُ.
وهنا يمكننا أنْ نتأوّلَ هذا المقطعَ من كلامِ الإمامِ (عليه السلام) بالقوةِ المستمدةِ من الله تعالى، إذ يُهيّئ له أسبابَها في الظاهرِ وفي الباطنِ - كما سيأتي بعد قليل -، فتكون هذه القوةُ سلاحَهُ في تحقيقِ الغلبةِ على الأعداءِ، وهي التي تقوّي، ما قد يبدو ضعفاً بعيونِ الخصومِ الذين يُواجهونهُ بوسائلِ القوةِ كلِّها. فيكون هذا قوةً لظهرهِ، وبهذا تجتمعُ معاني (أزر) لتُعطينا هذه الدلالاتِ التي تتلاءم مع المناخِ الذي سيظهر به الإمامُ القائم (عليه السلام) على وفقِ الرواياتِ الصحيحةِ التي وصلتْ إلينا.
ولا يخفى على ذي نظرٍ أنّ الإمامَ (عليه السلام) تمثّلَ الآية القرآنية التي تتحدثُ عن دعاءِ موسى (عليه السلام) ليشدَّ الله تعالى أزره بأخيهِ هارونَ ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ (طه: ٣١)، وهنا تتظافرُ دلالةُ الآيةِ وألفاظُها في قولِ الإمامِ (عليه السلام)، ويُصبح كلامُ اللهِ تعالى مرتكزاً للنصِّ السّجّادي في هذا المقطع وفي غيره كما سنرى ذلك في مواضعَ لاحقةٍ من البحثِ.
ونصلُ الآن إلى المقطعِ الأخيِر من نصِّ دعاءِ الإمام (عليه السلام) - لحفيده الامامِ القائمِ (عليه السلام) وهو قولُه «وقوِّ عضدَه، وراعهِ بعينك، واحمهِ بحفظك، وانصرهُ بملائكتك، وامددهُ بجندِكَ الأغلب، وأقمْ به كتابَك وحدودَك وشرائعَك وسننَ رسولِك صلواتُك الّلهم عليه وآله»(٧٥).
يُضيف الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) وجهاً آخرَ من وجوهِ أدعيتهِ هنا، فيطلب من اللهِ تعالى –فضلاً عمّا مرّ- أنْ يقوّي عضدَ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام)، فما دلالةُ العضد؟.
جاء في لسان العرب(٧٦):
١- العَضُدُ: السّاعدُ وهو ما بين المرفقِ إلى الكتفِ.
٢- العَضُد: عَضَدَهُ يعضِدُه... إذا أعنته وكنتَ له عَضُداً.
٣- العَضُد: القوةُ، لأنّ الانسانَ يقوّى بعضُدِه فسُمّيت القوةُ به... وكلُّ مُعينٍ عَضُدٌ، وعَضَد الرجلُ أنصارَه وأعوانَه.
٤- عَضُد الطريقِ: ناحيتُه، وكلُّ ناحيةٍ عَضُدٌ.
٥- عَضَد البناءُ: ما شُدّ من حواليه كالصفائحِ المنصوبةِ حولَ شفيرِ الحوضِ.
٦- عُضادتا البابِ: الخشبتان المنصوبتان عن يمينِ الداخلِ منه وشمالِه.
٧- المعضَد: كل ما عُضِدَ به الشّجرُ فهو مِعضد.
إنّ المقاربةَ المعرفيةَ الأولى بدلالاتِ الاستعمالِ الاجتماعي في (١ - ٢ - ٣)، تقودُنا إلى القولِ: إنّ الدعاءَ لقوّةِ عضُد الإمامِ (عليه السلام)، إنّما تكون في قوّةِ جيشهِ وأنصارهِ لأنّ الإنسانَ إنمّا يقوى بعضُده، فسُميتْ القوّةُ به وكلُّ مُعينٍ عَضُد، وعضُد الرجلِ أنصارُه وأعوانُه. وهذا الوجهُ الأظهرُ في هذا المقطعِ من الدعاءِ. بيد أنّ الدلالاتِ الأخرى قد تُنافس هذا الوجه في وجاهتِها، فالمعنى الرابع عضُد الطريقِ: ناحيتهُ، وناحيةُ الإمامِ: منهجهُ الذي هيأهُ اللهُ تعالى للنهوضِ به، وقوةُ هذا المنهجِ ووضوحُهُ وابانتُه وسلامتُه، تستقطبُ الناسَ إليه، بعد أن يكونَ مُحاطاً بقوّةٍ تحمي الداخلين إليه كما تحمي الصفائحُ شفيرَ الحوضِ، وكما تحمي العُضادتان البابَ، ليسهلَ الدخولُ من خلالِه. كما هو المعنى الخامس والسادس.
أمّا المعنى السابع، فهو الآلةُ التي يعضّد بها الشجرُ أيْ يُقطع، والذي يتسربُ إلى النفسِ تأويلياً من هذا المعنى ما يأتي:
إنّ الإمامَ (عليه السلام) يدعو بأنْ يُقوّي اللهُ سيفَ الإسلامِ وقوتِه التي يعضِدُ بها خصومُ الدولةِ الإلهيةِ التي يُقيمها، لأنّ من ملأ الأرضَ ظلماً وجوراً، قد لا يُجدي معه أيُّ شيءٍ أحياناً إلّا القوّة التي تقتلعه من جذورهِ، وتجتثُه من أُصوله، حتى يُقامَ العدلُ والقِسطُ الذي كلّفَ اللهُ تعالى الإمامَ المهديَّ (عليه السلام) بإقامته.
ويشيرُ الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام) إلى ضربٍ آخرَ من أضربِ أدعيتهِ، لحفيده الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) بقوله (وأنصره بملائكتك وأمدده بجندك)، ومن معاني (النصر) الذي نتأوله في هذا القول ما يأتي(٧٧):
١- النّصرُ: إعانةُ المظلومِ، نصرَه على عدوّهِ ينصُره نصراً.
٢- النُصرةُ: حُسنُ المعونةِ.
٣- النّصرُ: انتصر الرجلُ إذا امتنعَ من ظالمهِ.
٤- الانتصارُ: الانتقامُ، والاستنصارُ: استمدادُ النّصرِ.
٥- النّواصرُ: مجاري الماءِ إلى الأوديةِ، والنواصر من الشعاب ما جاء من مكان بعيد إلى الوادي، فنصر سيل الوادي.
٦- النّصرةُ: المطرةُ التّامةُ، ونُصِرتْ البلادُ إذا مُطرِتْ.
إنّ هذه البسطةَ المعرفيةَ التي أمدّنا بها لسانُ العربِ للجذر (نَصَرَ) تُسّوّغُ لنا تأويلَ مُرادِ الإمامِ (عليه السلام) في دعائهِ، من خلال عقدِ صِلةٍ معرفيةٍ بين لفظتي الدُّعاء (وانصره بملائكتك)، فالمعاني الأربعةُ الأولى يُجسّدها نصرُ الملائكةِ للإمامِ على عدوّهِ ودفعِ الظلمِ عنه وعن أصحابهِ، حتى ينتقمَ من أعدائهِ ويمتنعَ منهم، وهذا يعني فيما يعنيه - كما مرّ من قبل - إنّ الإمام (عليه السلام) سيُواجه أعداءً وخصوماً ومناوئين يكيدون له، ويحاربونه - كما هو شأنُ السفياني -، ويشتبكون مع جيوشه في معارك شديدة، يمدّه اللهُ تعالى بعدها بالنّصرِ المبين.
أمّا كيف يكون نصرُ الملائكةِ للإمام (عليه السلام) فذلك في علمِ اللهِ تعالى، ولكنّنا نستطيعُ أن نقدّرَ ذلك من خلالِ مساندةِ الملائكة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معركةِ بدرٍ والخندقِ وحُنين(٧٨) فقد قاتلتْ مع المسلمين يوم بدرٍ وكان عددُهم خمسةَ آلافٍ نزلوا على خيلٍ بُلق وعليهم عمائمُ صفر(٧٩). ولعلَّ نُصرة الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) تكون على هذا النحو، لأنّ ولادتَه وغيبتَه وظهورَه من المعاجزِ الكبرى، وقتالُ الملائكةِ معه سيكون معجزةً ربانيةً تنخرطُ في جملةِ ما يمدُّه الله تعالى به من معاجزَ. والذي يُرجّحُ هذا التوجيهَ ما ورد عن الإمامِ الباقرِ (عليه السلام): «إنّ الملائكة الذين نصروا محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم بدرٍ في الأرضِ ما صعدوا بعدُ ولا يصعدون حتى ينصروا صاحبَ هذا الأمرِ وهم خمسةُ آلافٍ»(٨٠). واستناداً إلى هذا صار النصرُ الذي يدعو به الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام) للإمام المهديّ (عليه السلام) هو نصرُ هؤلاءِ الملائكةِ الذين يعرفُ هو (عليه السلام) مهمتهم في الأرض من يوم نزولهم في يومِ بدرٍ إلى يومِ يشدون أزره وينصرونه مقاتلين.
وما قدمناه الآن ليس قطعياً، إذ قد يكون نصرُ الملائكةِ للإمام (عليه السلام) من دون قتالٍ وإنّما بالإمدادِ بالنصرِ، وبثِّ الطُمأنينةِ في القلبِ، وتمكينِ النفوسِ من الثّبات ومقارعةِ العدوِّ من دون خَوَرٍ أو ضعفٍ، وهذا كلُّه سيقودُ إلى النّصرِ الذي يدعو به الإمام السجّادُ (عليه السلام)، ومثلُ هذه المهمة، نَهَضَتْ بها الملائكةُ في معركةِ حُنين، إذ لم يشتركوا في القتالِ، وإنمّا تكفّلوا بإثارةِ الرُّعبِ في نفوسِ المشركين، وتقويةِ قلوبِ المسلمين الذين انهزموا أولاً ثم أنزل الله تعالى سكينتَه عليهم، وأنزلَ الملائكةَ لتجبينِ الأعداءِ ونصرِ المسلمين، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها﴾ (التوبة: ٢٦).
وإذا أخذنا بهذا التوجيهِ، فيكون المقطعُ الآخرُ من الدعاء (وامدده بجندك)، يدلُّ على أنَّ هؤلاء الجندَ هُمُ الذين يُقاتلون مع الإمام (عليه السلام)، ويكونُ الملائكةُ رُسُلَ الطُمأنينةِ والثّباتِ وشدِّ الأزرِ وتقويةِ القلوبِ.
بقيَ أنْ نُشيَر إلى أمرٍ نحسبهُ على قدرٍ من الأهمية هنا. وهو إنّ ملكاً واحداً يكفي لنصرةِ الإمام المهدي (عليه السلام)، والإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) يدعو بصيغةِ الجمعِ (والملائكة والجند). فكيف يُوجّهُ هذا؟
هنا نقول:
إنّ الإمامَ (عليه السلام) يعلم أنّ نصرَ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) مكفول من اللهِ تعالى من خلالِ عونِ الملائكةِ والجندِ على النحوِ الذي رأيناهُ، ولكنّه (عليه السلام) يعلمُ أنّ اللهَ تعالى يريدُ من الإنسان أنْ يأخذَ بالأسبابِ، فالإمامُ يقاتلُ بجندهِ حتى يكونَ نصرُ اللهِ تعالى على يدِ أصحابه، ليرفعَ بذلك منزلتَهم وقدرَهم بوصفِهم مجاهدين كالمجاهدين بين يدي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما مرّت الإشارة إليه سابقاً.
ولكنّ توجيهاً آخرَ، ليس بمقدورنا أنْ نشيحَ بوجهنا عنه، وهو أنّ المرادَ بالجندِ في دعاءِ الإمامِ هم أصحابُه الذين ينتظرون ظهورَه وهم القادةُ الثلاثمائة وثلاثة عشر، أو من يلحق بهم بعد من المناصرين، فيكونون جنداً لله تعالى على سبيل المجاز العقلي، كما في الحديثِ النبويِ «يا خيلَ اللهِ اركبي»(٨١) ففيه نُسبت الخيلُ إلى الله تعالى. واستناداً إلى هذا فلا مانعَ من توصيفِ أصحابِ الإمامِ القائمِ (عليه السلام) بجندِ الله تعالى، وهذا أكثرُ تأثيراً في النفوسِ، وترغيباً لكلِّ مسلم لأنْ يكون من هؤلاءِ ما دام زمنُ الظهورِ مجهولاً. وتقويةً لعقيدةِ الانتظارِ التي تشدُّ المسلمَ إلى دينه تماماً، لأنّه ينتظرُ ظهورَ إمامهِ، ومن هنا يكون دعاءُ الإمام (عليه السلام) وسيلةً لتقويمِ النّفسِ، وتمتينِ العقيدةِ، ومجابهةِ من يقولُ بغيرِ هذا بدعاء الإمام (عليه السلام).
أمّا قوله (عليه السلام): «وأقم به كتابَك وحدودَك وشرائعَك»، فينطوي على مضامينَ تأويليةٍ، تُعيننا معاني الجذر (قوم) على الوصولِ إليها. جاء في لسان العرب تحت الجذر (قوم) هذه المعاني(٨٢):
١- القيامُ: المحافظةُ والإصلاحُ.
٢- القيامُ: الوثوقُ والثباتُ.
٣- القيامُ: العزمُ.
٤- القيامُ: نقيضُ الجلوسِ.
٥- القيامُ: المتمسّكُ بالدين الثابتُ عليه، القائمُ به.
٦- القيامُ: المثولُ والنصبُ: ضد القُعودِ.
إنّ هذه الدلالاتِ المعرفيةِ تكشفُ لنا عن مضامين دعاءِ الإمام (عليه السلام) في هذا الجزء، إذْ يدعو اللهَ تعالى أنْ يجعلَ الإمامَ مُتمسّكاً بالقرآن ثابتاً عليه مصلحاً للدّين بعزمٍ وثباتٍ، مقيماً للحدودِ والشرائع، كما يريدُها اللهُ تعالى. وبهذا يكشفُ الإمام (عليه السلام) ما يمكنُ أنْ يكون عليه الناسُ، حينما يظهرُ الإمام المهديُّ (عليه السلام)، فالكتابُ والحدودُ والشرائعُ لم تكن كما يريدُها الله تعالى، وإنّما يشوبها التحريُف والتغييرُ والبعدُ عن الإسلام الحقيقي، وظهورُ الإمام قمينٌ بتحقيقِ العدلِ الإلهيّ.
إنّ دعوةَ الإمامِ (عليه السلام) على هذا النحوِ في يوم عرفة، تُثبت من دون ريبٍ، أنّ الكتابَ والحدودَ عُطّلتْ في زمانهِ، وستُعطّلُ بعد ذلك حتى يظهرَ المنتظرُ الموعودُ (عليه السلام) وهذا هو الظلمُ والجورُ الذي ستكونُ عليه الأرضُ، إذْ تُصبحُ بحاجةٍ إلى القسطِ والعدلِ حتى تستقيمَ، وهذا ما سيتكفلُ به الإمام المهدي (عليه السلام).
ثم يأتي المقطعُ الأخيرُ من دعاءِ الإمامِ (عليه السلام) في يومِ عرفة، إذْ يقولُ: «وأحيي به ما أماته الظالمون من معالمِ دينكَ، واجلُ به صدأ الجورِ عن طريقتِك وابنْ به الظلامَ عن سبيلِك، وأزلْ به الناكبين عن طريقِك، وامحقْ به بغاةَ قصدِك عوجاً، وألنْ جانبَه لأوليائِك، وابسطْ يدَه على أعدائِك وهبْ لنا رأفتهَ ورحمتهَ وتعطّفَه وتحنُّنه»(٨٣).
إنّ دعوةَ الإمامِ (عليه السلام) بأنْ يُحيي اللهُ تعالى بالقائمِ (عليه السلام) ما أماته الظالمون من معالمِ دينهِ، يعني أنّ هذا الأمرَ قد وقعَ حقّاً، وأماتَ الظالمون آثارَ الدّين (المعالم: الآثار) وكأنّهم يريدون اقتلاعَ جذورهِ، لأنّ من يُميت الآثارَ، لا يُبقي للناسِ ما يستدلون به على صحّةِ نهجهم، ولذلك كانتْ الدعوةُ لإحياءِ معالمِ الدينِ أولاً، حتى يتبيّنَ الناسُ السّبيلَ الذي يقودُهم إلى النجاةِ. وترتبطُ بهذه الدعوةِ الدعوةُ الأخرى التي تقتفي أثرَها، إذْ كان الظلمُ ومجاوزةُ حدودِ ما يُريدهُ الله تعالى والميلُ عن القصدِ الصحيحِ سبباً في تراكمِ الجورِ على طريقِ الله تعالى، ودعوةُ الإمامِ (عليه السلام) برفعِ ذلك كلِّه، حتى يرتفعَ الظلامُ المحيطُ بسبيلِ اللهِ تعالى بإزالةِ الخارجين عن صراطِ اللهِ المستقيمِ، الذين يستحقون محقَ اللهِ تعالى لهم، لأنّهم يريدون الاعوجاج لسبيلهِ المستقيمِ.
إنّ هذا الذي تمنّى الإمامُ (عليه السلام) زوالَهُ بدعوتهِ هذه، هو الظلمُ والجَورُ الذي تواترتْ الأحاديثُ النبويةُ وأحاديثُ أهلِ البيتِ بشأنها، لأنّ الإمامَ المهديَّ (عليه السلام) سيزيلُ الظلمَ والجورَ الذي يملأ الأرضَ، ويبسطُ العدلَ عليها(٨٤).
ثم يختمُ الإمامُ (عليه السلام) هذا المقطعَ من دعائه مُلتفتاً إلى شخصِ الإمامِ القائمِ (عليه السلام) بقوله: «وألنْ جانبَه لأوليائِكَ»(٨٥)، والّلينُ هنا يعني حسنَ التّدبير لمن يقودُهم من أصحابهِ وهم أولياءُ اللِه تعالى بشهادةِ هذه الدعوةِ.
وهذا التوصيفُ السجّادي لأصحابِ القائمِ يُنبئ عن المرتبةِ العليا التي يحظَون بها، لأنّ من يثبتُ على دينه في زمنِ الغيبةِ، يعني أنّه من القلّةِ الذين انتقاهم اللهُ تعالى لهذه المهمّةِ الربانيّةِ، يقولُ النبّيُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «... والذي بعثني بالحقّ بشيراً، إنّ الثابتين على القولِ به في زمانِ غيبتهِ لأعزُّ من الكبريتِ الأحمرِ»(٨٦)، ولينِ جانبِ الإمامِ (عليه السلام) هنا، هو رحمة من اللهِ تعالى بهؤلاء الأصحابِ، فيكون كجدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي وصفه القرآن الكريم: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: ١٥٩)، ويقابلُ هذا اللينَ الذي دعا به الإمام عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام)، بَسْطٌ ليدِ الإمام (عليه السلام) على أعداءِ اللهِ تعالى. فمنهاجُ الإمامِ القائمِ (عليه السلام) هو منهجُ اللهِ تعالى ومن يُعادي الإمام (عليه السلام) يكون عدواً لله تعالى.
ثمّ يأتي المقطعُ الأخيُر من دعاءِ الإمامِ عليّ بنِ الحسين (عليه السلام) السابقِ، وهو قولُه: «واجعلنا له سامعين مطيعين، وفي رضاهُ ساعين، وإلى نصرتهِ والمدافعةِ عنه مُكنفين، وإليك وإلى رسولك - صلواتك الّلهم عليه وآله - مُتقرّبين»(٨٧).
إنَّ هذا المقطعَ من دعاءِ الإمام (عليه السلام) يستدعي أنْ نطيلَ النظرَ فيه بأناةٍ ورويّةٍ، لأنّه يُلامسُ قضيّةً على قدرٍ من الأهميّةِ - وكلُّ كلامِ الإمامِ (عليه السلام) مهمٌّ - جاءتْ في إطارِ الدعاءِ، فالإمامُ (عليه السلام) يدعو أنْ يجعلَهُ اللهُ تعالى ومن معه سامعين مطيعين لحفيده الإمام (عليه السلام)، فكيف نتأوّلُ هذا الكلامَ؟
إنّ الإمام (عليه السلام) يشيُر هنا إلى (الرّجعة) التي يعودُ فيها قومٌ من الأمواتِ إلى دار الدنيا ليقتصّ المظلومون من الظالمين، في دولةِ العدلِ الإلهيِّ التي يُقيمها، وهذا واضحٌ من ظاهر نصِّ الدعاءِ، ولكنّنا سنتأمل قول الإمام (عليه السلام) هذا بما يُعطينا التصوّر الذي سمح لنا بتوجيه القول إلى الرجعةِ(٨٨). وأئمةُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) هم أهلُ الرجعةِ، والإمام يدعو الله تعالى أن يرزقهم السمع والطاعة للإمام المهدي (عليه السلام)، ودعاء الإمام هذا يمكنُ أن يوجّه إلى جهتينِ، وهما:
الأُولى: إنّ مرادَ الإمامِ عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام) بالسّمعِ والطاعةِ للإمامِ المهديِّ (عليه السلام) هنا، يعني أنّ اللهَ تعالى شاءَ أنْ تكونَ نهايةُ الدنيا بدولتهِ الموعودةِ، والسّمعُ والطاعةُ امتثالٌ لهذه المشيئةِ، لأنّ منهجَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) واحدٌ في طاعتهم، فهم (عليهم السلام) يرَون بأعينهم فضلَ اللهِ تعالى على الخلقِ بتحقيقِ العدلِ في تلك الدولةِ، فيكون السمعُ والطاعةُ الرضا المطلقَ بما ينهضُ به الإمامُ المهديُّ (عليه السلام) في دولتهِ الموعودةِ -كما أشرنا-، هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى فإنّ الدعاءَ بهذهِ الكلماتِ، يعني الدعاءَ بتعجيلِ الفرجِ لتحقيقِ ما يُريدُه أهلُ البيتِ (عليهم السلام) من قيام قائمهم (عليه السلام).
الثانيّة: وفي هذه الجهةِ يكونُ مرادُ الإمامِ (عليه السلام)، تعليمَ المسلمينَ هذا النَّمطِ من الدعاءِ ليرسّخَ في نفوسِهم الإيمانَ المطلقَ بغيبةِ الإمامِ المهديّ (عليه السلام) وظهورِه، ووجوبِ الطاعةِ له في غيبتهِ وظهوره على السَّواءِ، وهذا - كما هو معلومٌ - منهجُ الإمامِ عليّ بنِ الحسينِ (عليه السلام) في أدعيتهِ، فهي عبادةٌ وبيانٌ للعقيدةِ الإسلاميّةِ الحقّةِ. ومن هنا سار الدعاءُ في أجزائه الأخيرةِ على هذا النحو، من حيثُ السّعيُ في رضا الإمام المهدي (عليه السلام)، والمدافعةُ عنه، وهذا كلّه من أجلِ رضا اللهِ تعالى ورضا رسولِه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما يُخبرُ به الإمامُ عليُّ بن الحسين (عليه السلام) من خلال دعائه. والميدانُ الذي يتحقَّقُ فيه الدعاءُ هو دار الدنيا فقط، لأنّها هي التي ستشهدُ قيام دولةَ الإمام المهدي (عليه السلام)، واستنادا إلى هذا، صار واضحاً أنّ الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) يخصّ (الرجعة) في هذا المقطعِ من دعائهِ، وهنا نُمسكُ بدليلٍ معرفٍّي مأخوذٍ من كلامِ الإمامِ (عليه السلام) لقضيّةٍ (الرجعة)، يضافُ إلى ما وصلَ إلينا من رواياتٍ متواترةٍ عنها.
وثمة إشارة لا بدّ من الوقوفِ عندها، وهي حرصُ الإمامِ عليّ بن الحسين (عليه السلام) على تبصيرِ المسلمينَ بشؤونِ عقيدتهم من خلالِ الدّعاءِ، حتى يبدو الأمرُ في ظاهرِه دعاءً، ويحملُ في الوقتِ نفسهِ ما يريدُ الإمام (عليه السلام) بيانه، من ثوابتِ العقيدةِ، وهذا الأسلوبُ يناسبُ الحقبةَ التي عاش فيها، إذْ كانتْ السلطةُ الأُمويّةُ تراقب ما يقولُ وما يفعلُ وهنا لا يشكّ شاكٌّ بما يسمعُ، لأنّ من حقِّ الإمامِ (عليه السلام) أن يدعو ويناجي ربّه بما يشاء.
كلماتٌ قصارٌ في الإمام المهدي (عليه السلام):
خصّ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام)، الإمامَ المهدي (عليه السلام) ببعضِ الكلماتِ القصيرةِ المكثّفةِ التي تحملُ فكرةً أو تعبّرُ عن موقفٍ يراهُ الإمامُ مناسباً لبسطِ فكرةٍ تتناول وجهاً من وجوهِ تبصيرِ المسلمين بعقيدةِ الإمام المهدي (عليه السلام)، والإيجازُ في الغالبِ يأتي لبيانِ أمرٍ حاسمٍ لا يحتاجُ إلى إطالةٍ، وسنقفُ فيما يأتي عند بعضِ تلك الكلماتِ:
١- قال (عليه السلام): «من ثبتَ على ولايتنا في غيبةِ قائمنا، أعطاه اللهُ أجَر ألفِ شهيدٍ مثل شهداءِ بدرِ وأُحُدٍ»(٨٩).
إنّ الثباتَ على الولايةِ الذي يُشير إليه الإمامُ (عليه السلام)، يعني عدم تسرّب الشكِّ إلى النفوسِ بغيبةِ الإمامِ (عليه السلام) لطولها، لأنّ هذا يقودُ إلى الشّكّ بأنّ اللهَ تعالى يُخلي الأرضَ من حجّةٍ، وهذا أمرٌ يُخالفُ ثوابتَ العقيدةِ الإسلاميّةِ الحقّةِ، فقد ورد عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) أنّه قال لكميل بنِ زيادٍ: «لا تخلو الأرضُ من قائمٍ للهِ بحجّةٍ. إما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطلُ حُججُ اللهِ وبيّناتُهُ»(٩٠) لذا صار الأجرُ الذي يُكتبُ للثابتِ على الولايةِ بهذا الحجمِ العظيم. ولعلّ اختيارَ الإمامِ (عليه السلام) لأجرِ شهداءِ بدرٍ وأُحُدٍ فيه تذكيرٌ للمسلمين بمنزلة أولئك الشّهداءِ، فضلاً عمّا فيه من بيانٍ واضحٍ لثباتِ شهداءِ المعركتينِ على عقيدتهم وهم يواجهون الموتَ في بداياتِ الإسلامِ(٩١).
٢- وقال (عليه السلام): «لا يخرج واحدٌ منّا قبلَ خروجِ القائمِ (عليه السلام) إلّا كان مثله مثل فرخٍ طارَ من وكرهِ، قبل أنْ يستوي جناحاهُ، فأخذه الصبيانُ فعبثوا به»(٩٢). وهذا القولُ يبسطُ أمامنا قضايا عقائديةً، نُجملُها فيما يأتي:
إنّ هذا القولَ رواهُ الإمامُ الباقرُ (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) وأخبَر به أخاه زيداً، فالخروجُ يكونُ بأمِر اللهِ تعالى، بعد أنْ تكتملَ له الأسبابُ، فمنْ يخرجُ قبل ذلك يكون حالُه كحالِ الطائرِ المشارِ إليهِ، من حيثُ فشلُ الخروجِ من جهةٍ، والنهايةُ الموجعةُ لمن يخرجُ من جهةٍ أخرى. والإمامُ بهذا الحديثِ يُجيبُ أخاه زيداً الشهيدَ (عليه السلام) بحديثِ أبيهِ (عليه السلام)، بعد أنْ أرادَ منه زيدٌ (عليه السلام) الخروجَ على الأمويينِ لكثرةِ الأنصارِ. وهذا التوجيهُ من الإمامِ (عليه السلام) ينطبقُ على الأئمةِ المعصومين من أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، ولا يشملُ غيرَهم من الأبناءِ والإخوانِ. واستناداً إلى هذا لم يخرجْ أيُّ إمامٍ من أئمةِ أهلِ البيتِ ثائراً بعد الحسين (عليه السلام)، على الرّغمِ من كثرةِ ما وقعَ عليهم من حيفٍ، لأنّ أمرَ الخروجِ بأمرِ اللهِ تعالى، ومن هنا شدّدوا (عليهم السلام) على الدّعاءِ بتعجيلِ الفرجِ(٩٣).
وثمةَ أمرٌ آخر ينطوي عليه قولُ الإمامِ عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام) هذا، وهو أنّ المسلمين في عصرهِ يعلمون بالغيبةِ وما يجري من حوادثَ متّصلة بها، ويعلمون أنّ زمانها بعيدٌ عنهم ولا يُدركونه، فصارَ كلامُ الإمامِ (عليه السلام) موجّهاً إليهم وإلى من يأتي بعدهم في الأزمانِ اللاحقةِ. حتى إذا جاء عصرُ الإمامِ القائمِ (عليه السلام)، وكّلَ أمرَ خروجهِ إلى اللهِ تعالى.
واستناداً إلى هذا الذي بينّاه، صارَ خروجُ أيٍّ من أبناءِ الأئمةِ وإخوانهم فيما بعد لا صلةَ له بحديثِ الإمامِ عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام). لأنّه خصّ به المعصومين (عليه السلام)، ليكون عدمُ الخروجِ وجهاً من وجوهِ الانتظارِ المأمورِ به كما مرّ بنا.
٣- وقال (عليه السلام): «إذا قام قائمُنا أذهبَ الله تعالى عن شيعتنا العاهةً، وجعلَ قلوبَهم كزُبَرِ الحديدِ، وجعلَ قوةَ الرِّجلِ منهم قوةَ أربعين رجلاً، ويكونون حكامَ الأرضِ وسنامَها»(٩٤).
إنّ أوّلَ ما ينبغي أنْ نقفَ عنده من قولِ الإمامِ (عليه السلام) جملةُ (قامَ قائمُنا) فهي الجملةُ المركزيةُ في النصِّ، وللوقوفِ على معنى القيامِ في الّلغةِ، الذي صار علماً للدلالةِ على الإمام المهديِّ (عليه السلام)، وهنا يُعطينا المعجمُ العربُّي المعانيَ الآتيةَ للجذرِ (قوم)(٩٥):
١- القيامُ: الوقوفُ والثّباتُ.
٢- القيامُ: المحافظةُ والإصلاحُ.
٣- القيام: العزمُ.
٤- القائمُ: الذي ثبتَ عنده الحقُ، أيْ ثبتَ ولم يبرحْ.
ومن ملاحظةِ هذه المعاني، يكونُ معنى القائمِ هو الواقفُ الثابتُ على الحقِّ والمحافظُ عليه، والعازمُ على الإصلاحِ، والإمامُ المهديُّ (عليه السلام)، المصداقُ الرئيسُ لهذه الدلالاتِ، فهو الواقفُ الثابتُ على أمرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، المحافظُ عليه. لأنّه وليُ الإمامةَ بعد أبيه (عليه السلام) ونهضَ بها، وهذه من معاني (القائمِ) على وفقِ ما يريدُه أهلُ البيتِ (عليهم السلام) فعنْ جابرِ بن يزيدَ الجُعفي، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) قال: سُئلَ عن القائمِ (عليه السلام) فضرب بيدهِ على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: هذا واللهِ قائمُ آلِ محمّدٍ، قال عنبسةُ: فلما قُبضَ أبو جعفر (عليه السلام) دخلتُ على أبي عبدالله (عليه السلام) فأخبرتُهُ بذلك، فقال صدق جابرٌ، ثم قال: لعلّكم تَرَوْنَ أنْ ليس كلُّ إمامٍ هو القائمُ بعد الإمامِ الذي كان قبله(٩٦)، واستناداً إلى هذه المعاني كلِّها فقيامُ القائمِ يعني النهوضَ لتحقيقِ الدلالاتِ المشارِ إليها، وهذا يسنده اللهُ تعالى لمنْ ينهضُ مع القائمِ (عليه السلام) وهذه الأمورُ ذكرها الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) في قوله السابقِ، وهي:
أوّلاً: ذهابُ العاهةِ عن شيعةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)
والعاهةُ في اللغةِ تعني الآفةَ التي تُصيبُ الإنسانَ فتجعلُهُ غيرَ قادرٍ على إنجازِ ما يُرادُ منه، والراجحُ هنا أنّ المرادَ بشيعةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، هم من يوفّقهم اللهُ تعالى لمعاصرةِ ظهورِ الإمامِ (عليه السلام)، ويكونُون من المنتظرينَ السائرينَ على نهجهِ، وهم أصحابُ الإمامِ (عليه السلام) الثلاثمائة وثلاثة عشر الذين أعطتهم الروايات صفاتٍ أخرى -أشرنا إلى بعضها فيما مرّ من صفحات البحث-، لأنّ أغلبَ الإشاراتِ التي وردتْ عن أصحابِ الإمامِ وردتْ بتوصيفهم بأنّهم (أصحابُ) الإمام (عليه السلام). أما الذين يُذهبُ اللهُ تعالى عنهم العاهةَ، فهم الشيعةُ الذين سيكون لهم شأنٌ في دولةِ العدلِ الإلهيّ التي يُقيمها الإمامُ (عليه السلام). وبهذا ميّز الإمامُ (عليه السلام) بين قادة الإمام المهدي (عليه السلام) وشيعته الذين يشهدون قيام دولته.
وقد يكون المرادُ بالعاهةِ الآفةَ التي تُصيبُ الزرعَ والثمارَ فتُفسدها(٩٧)، وهذا يعني أنّ البركة المشارَ إليها في حديثِ الإمامِ علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، تتحقّقُ في بعضِ وجوهِها على وفقِ هذه الإشارةِ. وقد يُقال هنا، أنّ قولَ الإمامِ (عليه السلام)، واضحُ الدلالةِ على ذهابِ العاهةِ عن الشيعةِ، فكيف تأوّلناه بذهابِ العاهةِ عن الزرعِ، فنقولُ: إنّ هذا واحدُ من الأساليبِ العاليةِ في اللغةِ العربيةِ وهو أسلوبُ المجازِ. والإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) من أربابِ الكلامِ الذين وصفَهم جدُّهُ الإمامُ عليُّ (عليه السلام) بقولهِ: «وإنّا لأُمراءُ الكلامِ، وفينا تنشّبتْ عروقُهُ، وعلينا تهدّلتْ غصُونهُ»(٩٩).
ثانياً: تكونُ قلوبُ الشيعةِ كزبر الحديد
إنَّ المهامَ التي تنتظرُ الشيعةَ وقتَ ظهورِ الإمامِ (عليه السلام)، تستدعي قوةً في النفوسِ لا تسمحُ للضعفِ والخورِ بالتسرّبِ إليها، وهذا المعنى دارَ كثيراً في أحاديثِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) التي وصلتْ إلينا من أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، فقد ورد عن الإمامِ الباقرِ (عليه السلام) قولُه: «... وجُعلتْ قلوبَكم كزُبَرِ الحديدِ، لو قذفتم بها الجبالَ فَلَقَتْها»(١٠٠)، وهذه الأحاديثُ تُظهرُ العنايةَ الربانيّةَ بالشيعةِ عند قيامِ القائمِ (عليه السلام)، وتشدُّ من عزيمتهم وهم يُواجهونَ أعداءَ الإمامِ (عليه السلام)، لأنّ اللهَ تعالى يريدُ أنْ يتحقّقَ قيامُ دولةِ العدلِ الإلهيِّ على وفقِ ما تقتضيهِ الأسبابِ الطبيعيّةِ، وفي مقدّمةِ تلك الأسبابِ ثباتُ قلوبِ أتباعِ الإمامِ (عليه السلام) وعدمِ الخوفِ ممّا يُواجهُهُم من الأعداءِ، لأنّ هذا كفيلٌ بتحقيقِ النصرِ الموعودِ به (عليه السلام).
ثالثاً: يجعل اللهُ تعالى قوةَ الّرجلِ منهم قوةَ أربعين رجلاً.
وهذا الوجهُ من وجوهِ القوةِ الماديةِ التي يهبُها اللهُ تعالى لأصحابِ الإمامِ (عليه السلام)، بعد الوجهِ النفسيِّ لقوّتهم في النقطةِ السّابقةِ، وهذه القوةُ لا تعني قوَةَ أربعينَ رجلاً بالعددِ المخصوصِ، وإنّمّا هذا ضربٌ من المبالغةِ المحمودةِ التي تجسّدُ القوةَ الكبيرةَ التي يمنحُها اللهُ تعالى لأصحابِ الإمامِ (عليه السلام). فهي قوةٌ مطلقةٌ، واختارَ الإمامُ (عليه السلام) العددَ رمزاً للإطلاقِ، كما فُسّر العددُ سبعين في قولهِ تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾ (التوبة: ٨٠)، رمزاً لنفيِّ الغفرانِ جملةً(١٠١).
رابعاً: يكونُ أصحابُ الإمامِ (عليه السلام) حكّامَ الأرضِ وسنامَها.
وهذا الجزءُ من قولِ الإمامِ (عليه السلام)، يبيّنُ ما يؤولُ إليهِ أمرُ أصحابِ الإمامِ (عليه السلام)، إذْ يكونُ لهم حكمُ الأرضِ قاطبةً، لبسطِ العدلِ فيها، وهذا تحقيقٌ لحديثِ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي يذكرُ فيه حفيدَه الإمامَ المنتظرَ (عليه السلام) فيه: «لن تنقضيَ، الأيّامَ واللياليَ حتى يبعثَ اللهُ تعالى رجلاً من أهلِ بيتي...، يملأُ الأرضَ قِسطاً وعدلاً كما مُلئِتْ ظلماً وجوراً»(١٠٢)، والأرضُ تُملأُ قِسطا وعدلاً في دولةِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام) التي يتولّى أصحابُه حكمَ الأرضِ فيها، فيكونون في المحلِّ الأشرفِ فيها الذي كنّى عنه الإمامُ عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام) بالسنام.
الخاتمة
بعد هذه الرحلةِ المعرفيّةِ في أحاديثِ الإمامِ عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام)، نخلصُ إلى جملةٍ من النتائج، فضلاً عمّا مرّ منها في صفحاتِ البحثِ، نُوجُزها فيما يأتي:
١- الأَولى استعمالُ مصطلحي (الغيبة الأولى) و(الغيبة الثانيّة) بدلاً من مصطلحي (الغيبة الصغرى) و(الغيبة الكبرى) لغيبتي الإمامِ القائمِ (عليه السلام).
٢- عدّ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) أهلَ زمانِ الغيبةِ أفضلَ من أهلِ كلّ زمان، لأنّهم آمنوا بغيبةِ الإمام المهدي (عليه السلام) وينتظرون ظهورَه، استناداً إلى ما وصلَ إليهم من أحاديثِ الأئمة (عليه السلام)، وصارتْ الغيبةُ مشاهدةً منهم.
٣- جاء ذكرُ الإمامِ عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام) لعلاماتِ الظهورِ عامّاً، بعيداً عن التفاصيلِ الدقيقةِ، وكان (عليه السلام) يكتفي بالإشاراتِ المكثّفةِ الموجزةِ، التي يمكنُ أن تُفهم على أكثرِ من وجهٍ.
٤- إنّ سُنَنَ بعضِ الأنبياءِ السابقين تتجسّدُ في حياةِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام)، في غيبتيهِ الأولى والثانيةِ، من حيثُ طولُ العمرِ، وخفاءُ الولادةِ، والخشيةُ من الأعداءِ، والصبرُ على مواجهة محَنِ الدينِ، والترقّب والانتظار، وإعداد العدّةِ لمواجهةِ الأعداءِ، تمسّكاً بسيرةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام).
٥- خلص البحثُ إلى تحديدِ مركزِ دولةِ الإمامِ المهديِّ (عليه السلام)، وهو ظهرُ الكوفةِ، وهذا الموضعُ يُغطّي الآن الكوفةَ بحدودها القديمةِ والنجفَ وكربلاءَ والحيرةَ.
٦- حينما يظهرُ الإمامُ المهديُّ (عليه السلام) يعتمدُ على الحججِ والبراهين ومظاهرِ التأييدِ الربّانيِّ التي يأتي بها لإقناعِ الأعداءِ، فإنْ لم يهتدوا، فالقوةُ سبيلُهُ إلى بسطِ دولةِ العدلِ الإلهي الموعود بها.
٧- جعلَ الإمامُ عليُّ بنُ الحسينِ (عليه السلام) الدعاءَ للإمامِ الحجةِ بنِ الحسن وسيلةً لبسطِ بعض القضايا التي تتصلُ بالعقيدةِ، ومنها (الرجعة)، إذْ جاء حديثُه عنها دعاءً وليس إخباراً، وهذا من السماتِ الفنيّةِ التي تتميّزُ بها أدعيته (عليه السلام).
٨- جعل الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) الدعاء للحجة بن الحسن (عليه السلام) من ثوابتِ أدعيتهِ، كي يفتحَ للمسلمين باباً من أبوابِ العبادةِ الحقّةِ، لأنّ الدعاءَ على النحوِ المشارِ إليه، يرسّخُ العقيدةَ المهدويّةَ في النفوسِ، ويجعلُ المسلمَ في حالةِ الانتظارِ المأمورِ بها.
وفي الختامِ لابدّ من الإشارةِ إلى أمرٍ مهمّ، وهو أنّ بعضَ الأحاديثِ التي مرّتْ في البحثِ، قد ترِدُ في مصادرَ أخرى منسوبةً للإمامِ الحسنِ أو للإمام الحسينِ (عليهما السلام)، وهذا آتٍ من أنّ المصدرَ الذي يغترفُ منه الأئمة (عليه السلام)، واحدٌ، فيأتي بعضُ التّشابهِ في أحاديثهم من هذه الجهةِ، إذا ما أرادوا الإخبارَ عن الإمامِ الحجةِ بنِ الحسنِ (عليه السلام).
الهوامش:
(١) نهج البلاغة: ٢/٢٢٦.
(٢) بحار الأنوار: ج٢، ص١٩٤، ح٥.
(٣) الإمامة والتبصرة ١ - ٣.
(٤) كمال الدين: ٣٢٤.
(٥) ينظر الإمامة والتبصرة: ١٧؛ الكافي: ١/٣٩؛ كمال الدين: ٤٣٢؛ الرسائل العشر: ١٦.
(٦) ينظر الإمامة والتبصرة: ١٢.
(٧) م. ن ٩٥.
(٨) الإمامة والتبصرة: ١٣.
(٩) شرح أصول الكافي: ٦/ ٢٥٨.
(١٠) م. ن.
(١١) ينظر: مقدمة شرح أصول الكافي: ١/٣.
(١٢) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ٢/٢٦١؛ الاحتجاج: ٢/١٩٢.
(١٣) الكافي: ١/٣٦٨.
(١٤) الاحتجاج: ٢/٤٩.
(١٥) ينظر عما كان من شأن جعفر الكذاب في: كمال الدين: ٥٥؛ الخرائج والجرائح: ٢/ ٩٣٩.
(١٦) كمال الدين: ٣٢٠؛ إلزام الناصب: ١/٢١٦؛ إعلام الورى ٤٠٧.
(١٧) ينظر: لسان العرب (فهم).
(١٨) الاحتجاج: ٢/٥٠.
(١٩) حذلم بن بشير: اختلف في اسمه، قيل بشير بن حذلم، وقيل حذيم بن شريك يُعد من أصحاب الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، وهو الذي نعى الحسين (عليه السلام) لأهل المدينة بعد نزول أهل البيت قرب المدينة، ينظر مثير الأحزان: ٩٠، بحار الأنوار: ٤٥/١٤٧؛ ينابيع المودّة: ٣/٩٣.
(٢٠) الغيبة: ٤٤٤؛ وينظر أيضاً الخرائج والجرائح: ٢/١١٥٥؛ بحار الأنوار: ٥٢/٢١٣.
(٢١) عوف السُّلمي، من قبيلة سُليم، صحابي، شهد فتح مكة مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وافتخر العباس بن مرداس السُّلمي، حامل راية بني سُليم في هذا اليوم بقوله:
خفافٌ وذكوانٌ وعوفٌ بمكةَ إذ جئنا كأنّ لواءَنا عقابٌ |
|
تخالهم مصاعبَ راقتْ في طروقتها كلفا أرادت بعد تحليقها خطفا |
ينظر عن ترجمته وأخباره: الإصابة: ٤/٦١٨.
(٢٢) ثمة توجيه ذهب إليه الشيخ علي الكوراني في عصر الظهور: ١٧١، قد لا نوافقه عليه.
(٢٣) تكريت: مدينة غربي دجلة، لها قلعة حصينة على الشطّ، وهي من المدن العتيقة، سكنتها أياد في الجاهلية، وذكرها الشعراء في أشعارهم، بينها وبين الموصل مراحل، ينظر معجم ما استعجم: ١/٧١؛ معجم البلدان: ٢/٣٨؛ الروض المعطار: ١/١٣٢.
(٢٤) ينظر صفة جزيرة العرب: ١/٤٧؛ المسالك والممالك: ٩٨.
(٢٥) الغيبة: ٤٤٤.
(٢٦) وصفه الشيخ علي الكوراني في عصر الظهور ٣٨ بـ القائد العام لقوات الإمام المهدي (عليه السلام).
(٢٧) الغيبة: ٤٤٤.
(٢٨) ينظر كمال الدين وتمام النعمة: ٦٥٢؛ الإرشاد: ٢/٢٧١.
(٢٩) ينظر عصر الظهور (صفحات كثيرة)، إذ جمع الشيخ علي الكوراني كل ما يتعلق بظهور الإمام وما يسبق ذلك الظهور وما يرافقه من حوادث كبرى، ومنها خروج السفياني وما يفعله في ذلك العصر.
(٣٠) ينظر المعجم الأوسط: ٦/٣٢٨؛ بحار الأنوار: ٣٦/٣٥٥.
(٣١) كمال الدين: ٣٢٢، وقد نسب القول في مصادر أخرى إلى غيره من الأئمة (عليهم السلام)، ينظر دلائل الإمامة: ٥٣٢.
(٣٢) كمال الدين: ٣٢٢.
(٣٣) ينظر علل الشرائع: ٢/٥٩٤؛ عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ٢/٢١٩؛ سعد السعود: ٣٧، وفيه أن عمره كان ألف سنة وثلاثين.
(٣٤) ينظر تفسير القرطبي: ١٣/٣٣٣.
(٣٥) كمال الدين: ٣٢٢.
(٣٦) مجمع البيان: ٤/٩٦.
(٣٧) ينظر بحار الأنوار: ٥١/٢٢.
(٣٨) كمال الدين: ٣٢٢.
(٣٩) تنظر تفاصيل ذلك في الميزان: ١٦/١٨.
(٤٠) ينظر الغيبة: ١١٠.
(٤١) تفسير نور الثقلين: ١/٤٨٦.
(٤٢) تفسير نور الثقلين: ١/٤٨٦.
(٤٣) كمال الدين: ٣٢٢.
(٤٤) الخصال ٥٢٩؛ عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ٢/١٩٢.
(٤٥) الكافي: ١/٣٣٦.
(٤٦) كفاية الأثر: ٦٠؛ وينظر ينابيع المودة: ٣/٢٨٥ مع زيادة في النص.
(٤٧) كمال الدين: ٣٢٢.
(٤٨) تنظر تفاصيل قصة النبي أيوب (عليه السلام) في مجمع البيان: ٨/٣٦٣.
(٤٩) ينظر علل الشرائع: ١/٧٦.
(٥٠) كمال الدين: ٣٢٢.
(٥١) الخرائج والجرائح: ٣/١١٥٦؛ بحار الأنوار: ٥٢/٢١٣.
(٥٢) ينظر الغيبة: ٣٣٧.
(٥٣) ترد هذه العبارة في مصادر أخرى هكذا (المقعدون من فرشهم) وتنسب للإمام علي (عليه السلام) مرة وللإمام علي بن الحسين (عليه السلام) مرة أخرى، ينظر: كمال الدين: ٦٥٤؛ الغيبة: ٣١٤؛ الملاحم والفتن: ٣٧٥.
(٥٤) مسند أحمد: ٤/٧٣؛ مجمع الزوائد: ٧/٢٧٨؛ وينظر عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ١/٢١٨ مع اختلاف في النص.
(٥٥) ذهب الشيخ المجلسي في بحار الأنوار: ٥٢/١٩١إلى القول بأن الغربة في الحديث النبوي تعني القلّة؛ وينظر أيضاً شرح أصول الكافي: ١٢/٣٧٨.
(٥٦) أبو خالد الكابلي: أُختلف في اسمه ولقبه وأخباره، فقيل اسمه (وردان) وقيل (كنكر)، من أصحاب الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، وقيل من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام)، ولكنّ القول الأول أوثق، كان منقطعاً إلى محمد بن الحنفية، ثم لجأ إلى الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في حادثة طريفة. ينظر عنه: جامع المقاصد: ١/١٦؛ جامع الرواة: ١/٢٧، ١٤٧؛ معجم رجال الحديث: ١٥/١٣٣.
(٥٧) أمالي المفيد: ١/٢٧.
(٥٨) مراصد الاطلاع: ٣/١٣٦٠.
(٥٩) بحار الأنوار: ٤٥/٢٠٥.
(٦٠) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص٧٣١.
(٦١) ينظر: لسان العرب (طفف).
(٦٢) بحار الأنوار: ٥٣/١١-١٢؛ وينظر ما كتبهُ الشيخُ علي الكوراني في كتابه عصر الظهور: ١٥٢، حيث بحث هذه القضيّة ولكنّه لم يضعْ حدودا لمركز دولة الإمام (عليه السلام) على النحو الذي تبنّيناه هنا.
(٦٣) بحار الأنوار: ج٥٣، ص١٨١.
(٦٤) الصحيفة السجادية: ١٩١.
(٦٥) ينظر لسان العرب (وزع).
(٦٦) ينظر لسان العرب (سلط).
(٦٧) لسان العرب (فتح).
(٦٨) م، ن (يسر).
(٦٩) أشرنا إلى السفياني هنا مثلاً، إذْ لم ترد إشارةٌ إليه في هذا الجزء من الدعاء.
(٧٠) إعلام الورى: ٢/١٩٤.
(٧١) ينظر مجمع البيان: ٨/١١٤.
(٧٢) ينظر الميزان: ١٦/٢٦٧.
(٧٣) كمال الدين: ٣١٧.
(٧٤) ينظر لسان العرب (أزر).
(٧٥) الصحيفة السجادية: ١٩١.
(٧٦) ينظر: لسان العرب (عَضَدَ).
(٧٧) ينظر لسان العرب (نصر).
(٧٨) ينظر التبيان: ٢/٥٧٩؛ مجمع البيان: ٢/٣٨٠.
(٧٩) ينظر التبيان: ٢/٥٨٠.
(٨٠) نور الثقلين: ١/٣٨٨.
(٨١) ينظر الفائق في غريب الحديث: ١/٣٨٠؛ شرح نهج البلاغة: ١٣/١٣٨؛ بحار الأنوار: ٦١/١٧٦. وينظر تفاصيل قصة الحديث في عون المعبود: ٧/١٦٤.
(٨٢) ينظر لسان العرب (قوم).
(٨٣) الصحيفة السجادية: ١٩١.
(٨٤) ينظر دلائل الإمامة: ٤٥٦ وفيه تفصيل عن هذا يغني عن ذكره هنا.
(٨٥) كمال الدين: ٢٨٨.
(٨٦) كمال الدين: ٣٢٣؛ إعلام الورى: ٤٢٨؛ بحار الأنوار: ٥٢/١٢٥.
(٨٧) كمال الدين: ٢٨٨.
(٨٨) تُعدُّ قضيةُ (الرجعة) من القضايا الكبرى عند الإماميّة، وقد قيل عنها الكثير، وأُلّفتْ فيها كتبٌ ورسائلُ كثيرةٌ، وتتلخّصُ فكرةُ (الرجعة) بأنّ الله تعالى يُعيد أقواماً إلى الدنيا وفي مقدّمتهم الأئمةُ (عليهم السلام) في دولة الإمام المهدي (عليه السلام) ليقتصّوا ممن ظلمهم، وهؤلاء أيضاً يُعيدهم الله تعالى إلى الدنيا في الرجعة، وقد ورد في بحار الأنوار: ٦/٢٥٤ عن الإمام الصادقِ (عليه السلام) قوله: «إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً، فأمّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب»، وتفاصيل (الرجعة) مذكورة في أغلبَ مصادرِنا. يُنظر مثالاً لا حصراً: الاعتقادات في دين الإمامية: ٣٩ - ٤٢؛ دلائل الإمامة: ٥٤٢؛ أوائل المقالات: ٤٦؛ وينظر أيضاً كتاب: (الرجعة) الصادر عن مركز الرسالة ففيه تفصيلٌ وافٍ عن الرجعة وعن ما ورد بشأنها في المصادر.
(٨٩) بحار الأنوار: ٥٢/١٢٥.
(٩٠) م. ن ٢٣/٤٩.
(٩١) م. ن ٥٢/٣٠٣.
(٩٢) كمال الدين: ٤٨٥.
(٩٣) بحار الأنوار: ٥٢/٣١٧.
(٩٤) ينظر: لسان العرب (قوم).
(٩٥) الكافي: ١/٣٠٧؛ وينظر أيضاً روضة الواعظين: ٢٠٧.
(٩٦) ينظر: لسان العرب (عوه).
(٩٧) ينظر: لسان العرب (عوه).
(٩٩) نهج البلاغة: ٢/٢٢٦
(١٠٠) بحار الأنوار: ٥٢/٣٣٥.
(١٠١) ينظر: التبيان في تفسير القرآن: ٥/٢٦٨؛ مجمع البيان: ٥/٩٧.
(١٠٢) بحار الأنوار: ٣٧/٢.